رحلة أبي طالب خان( ) سنة 1213هـ-1799 م من الهند إلى العراق وتركية وفرنسة وإنكلترة عن طريق البحر والبر
تأليف : مصطفى جواد
الولادة : 1904 هجرية الوفاة : 1969 هجرية
موضوع الكتاب : الرحلات
الجزء :
تحقيق : 'NA'
ترجمة : 'NA'
|
|
|
|
|
|
قصة الكتاب :
سيرة أبي طالب خان هو أبو طالب بن محمد خان، كما ذكر هو في سيرة نفسه في أول رحلته، وقد فصلنا ذلك عن رحلته، وسنذكره بنصه قبل سرد الرحلة، وذكر أنَّ أباه كان يلقّب بالحاجي وبالبيك فاسمه ولقبه هما \"حاجي محمد بيك خان\" وأصله تركي وولد بأصبهان، وقد اضطر جور الشاه نادر شاه أباه أبا أبي طالب منذ شبيبته أن يهاجر إلى البلاد الهندية والتجأ إلى أبي المنصور خان النواب فأحسن استقباله وتلقيه واصطنعه، ولما مات نويل راي والي كورة أوده خلفه في هذا المنصب الخطر تعييناً محمد قلي خان ابن أخي النواب المذكور آنفاً، وصار والده من أقرب المقربين إليه ثم مات النواب أبو المنصور خان سنة (1167هـ: 1753م) وخلفه ابنه شجاع الدولة، وقد حمله حسده لابن عمّه محمد شجاع أن أمر باعتقاله وقتله، وشاعت قسوته وعمَّت حتى أتباع القتيل، فأراد أن يعتقل والد أبي طالب حاجي محمد بيك مع أنه كان قد اعتزل قبل وقوع هذه المصيبة وسكن هو وعياله لكنو( ). ولما علم والده بما نواه النواب شجاع الدولة التجأ إلى البنغال مع أفراد من خدمه، وكان سفره سفر الخائف بحيث لم يحمل معه إلا ذهبه وجواهره، وبقيت أمواله الأخرى تحت سطوة مضطهده، فقضى عدة سنين في البنغال ثم مات في مقصود آباد سنة (1182هـ: 1768م) وكان قد استقدم أهله قبل ذلك. وكان أبو الحسن جدّه لأمّه رجلاً تقياً ديناً صيناً، وكان من بلد بهاء الملك سعدي خان جد ملك أوده الحالي وكان مخلصاً له كل الإخلاص حتى لقد اعتزل الأعمال كلّها بعد وفاة هذا الأمير وعزم على قضاء ما بقي من أيامه في الاعتزال. ولد أبو طالب في لكنو سنة (1167هـ: 1753م)، ومع الحقد الذي حقده على والده النواب شجاع الدولة لقيت والده من الحاقد المضطهد عوناً لذكرى العلاقات التي كانت بين الأسرتين، وأوصاها إيصاءاً صارحاً أن تحسن تعليمه وتهذيبه، وكان والده حين عزم على الإقامة في البنغال كتب إلى أمّه في أن تقدم عليه هي وأولادها جميعاً، فتركو لكنو وسافروا برّاً إلى باتناه ومن هناك أبحروا إلى مقصود آباد، وكانت هذه أول سفرة لأبي طالب وكان له أربع عشرة سنة من العمر. وبعد أن لبث في مقصود آباد نحواً من سنة ونصف سنة تُوفي والده في السنة المذكورة، وألقيت كل أعمال العامّة والخاصّة عليه وأسندت إليه، وكان أهله قبل هذا الحادث المشؤوم قد خطبوا عليه فتاة من ذوي قرباه للقريبة من أسرة مظفر ينك نواب البنغال وعقدوا عليها، فقضى عدّة سنين في خدمة ذلك الأمير، وبعد سنين خلف آصف الدولة مسعوداً الأودي ودعاه كبير وزرائه مختار الدولة أن يعود إلى لكنو فعاد وأسند إليه وظيفة أوميلدار في أيتايا وهي وظيفة استيفاء الضرائب وتعتمد على قوة عسكرية، وكذلك عدّة أصقاع واقعة بين نهر جمّاه ونهر الكانج، وبقي في هذه الوظيفة سنتين يطوف البلاد غالباً ليجمع واردات العرش، وبعد أن مات حاميه وولي حيدر بك خان فقد وظيفته وعاد إلى لكنو( ). وفي أثناء هذه الحروب والأحداث عين الكولونيل \"ألكسندر هاناي\" مستوفياً في كورك بور فاستأذن النواب في أن جعله معاوناً له، وكان أبو طالب يقيم تحت خيام باستمرار ثلاث سنوات يباشر فيها هذه الوظيفة، أو تحت أكواخ من البواري ومن الخيزران ثم نحّي الكولونيل عن هذه الوظيفة فرجع مرة أخرى إلى لكنو، وسرعان ما حدث خلاف بين حيدر بك خان ووكلاء شركة الهند، سبب اضطراباً في الشؤون المالية، فقد أخذت واردات المملكة تنقص يوماً بعد يوم مع أن جباة الخراج والضرائب كانوا يأخذون بالقسر والقهر من ملتزمي الأرضين مبالغ هي أعظم مما كانوا يأخذون منهم من قبل، فأفرطوا في جورهم حتى لقد ثار عدد كبير من الملتزمين، يرأسهم الراجا بولبو درسنك، وهذا الرئيس سليل ملوك الهند بخط مستقيم، وإذ كان في طاعته مائة ألف راجبوتي وكان يُعد مماثلاً للنواب الوزير الذي لا يود الراجا الاعتراف بسلطته، فأرسل عليه، لإخضاعه، جيشاً مؤلفاً من جنود النواب نفسه والسيبويين الريفيين، ولكن دسائس حيدر بك خان والجباة أحبطت هذا الهجوم، وتردت شؤون النواب تردياً حمل المستر هاستينكز( ) الحاكم العام على استقالة سلطته في الأمر، وأوعز إلى ميدلتن( ) أن يستشير أبا طالب فيما يتّخذ من التدابير والتشمير لإخضاع الراجا المذكور آنفاً وإعادة النظام التام إلى البلاد، وعلم أبو طالب أن حيدر بك خان لم يستطع أن يشارك في تحمل الاضطراب في أمور النواب، وأنه ما دام مقرباً معاضداً ستثيره أعماله وتخنقه، أو تؤدي إلى تلفه فأراد أن يبقى محايداً في الأمر ولكن الوكيل الإنكليزي ألحَّ وحلف لأبي طالب ليحمينَّه من أعدائه، فأجابه إلى رجائه وأخذ أبو طالب يتعقَّب الراجا بولبو درسنك مدَّة سنتين وهزمه في عدّة وقعات، ثم استولى على معسكره وقتل الراجا وهو يحاول الهرب، وأنقذ أبو طالب النواب من عدو كان يسعى منذ ستين سنة لإتلاف أسرته وأعاد السلام إلى البلاد، ومنذ هذا الحين بدأت الملمات تنزل على أبي طالب فإن ميدلتن غادر لكنو، وعاد هاستينكز إلى إنكلترة، وبقي أبو طالب في متناول أعدائه، وقد نال حيدر بك خان ببراعته ورئائه الحظوة عند الحاكم العام الجديد، وأظهر له عدّة سنوات أمارات الرعاية والعناية، واجتهد أن يقبل وظيفته في وزارته، فلمّا أخفق في اجتهاده قلب له ظهر المجن وتنمر له وقطع ستة آلاف الروبيات التي كان يقبضها معاشاً له فمن ثم عزم أبو طالب على الرجوع إلى البنغال وركب سفينته في نهر الكانج سنة (1202هـ: 1787م) وجاء إلى كلكتا ليرفع شكواه إلى اللورد كورنواليس( ) فتلقاه بأدب وافر ووعده أن يحميه ويجعله في حيزه، وإذ كان على عزم السفر إلى مدراس لمباشرة قيادة الجيش المرسل على السلطان تيبو صاحب بقي أمر أبي طالب معتلاً مختلاً زمناً متطاولاً أربع سنوات. وفي هذه الفترة من عمله استقدم عياله إلى كلكتا وهجره أصدقاؤه بالتدريج لما رأوا تخلي الحظوة والحظ عنه، على عادة الأصدقاء المنتفعين. وقد أفنت ماله النفقات التي أنفقها على نقل عياله في هذه المسافات الطويلة، إن صحَّ القول، وزادت همومه بموت ابنه في عمر أربع سنوات ضحية لوبالة المناخ وجهالة الأطباء في كلكتا. ولما رجع كورنواليس إلى البنغال تذكر الوعد الذي وعده أبا طالب وكان حيدر بك خان قد تُوفي منذ زمن غير بعيد فأرسل كورنواليس أبا طالب إلى لكنو سنة (1207هـ: 1792م) وزوده كتب توصية به إلى الوكيل الإنكليزي \"جيري\" وإلى النواب آصف الدولة. وقد أحسن أتباع آصف الدولة في الحقيقة استقباله، ولكنه بقي يوماً بعد يوم يأمل أن يبلغه خبر ترتيب له في بعض المناصب إلا أنه لسوء حظّه غادر كورنواليس بلاد الهند، ومنذ ذلك الحين حبطت آماله، وأقصى النواب آصف الدولة المستر جيري من لكنو، وأصدر في الوقت نفسه أمراً إلى أبي طالب بأن يترك المدينة، واعترض أبو طالب على هذا التحكم فكان اعتراضه غير مجد شيئاً، وصمتت الآذان عن شكواه فترك أفراداً من عياله في لكنو وأرسل بالباقين إلى الله آباد ورجع هو إلى كلكتا مرة ثالثة سنة (1210هـ: 1795م). وكان السير (جون شور) الذي عرف باللورد تيكن ماوث حاكماً عاماً فأحسن استقباله ولطف به، ووعده أن يسعى في إزالة شقائه وبلائه إلا أن آصف الدولة مات بعد زمن قليل، ولم تترك لجون شور الاضطرابات التي حدثت بوفاته وقتاً للتفكير في شأن أبي طالب قبل أن يسافر إلى أوروبة. إنَّ السنوات الثلاث التي سلخها أبو طالب في كلكتا قد تركه فيها جميع أصدقائه وأتباعه، وزاده غمّاً ترك خدام أبيه القدامى إياه، فرأى نفسه في حال تستحق التراثي وإذا ذاك زاره صديقه الاشتيام( ) (داود ريشاردسن) ولكونه يحسن الفارسية والهندية حادثه في أمور مختلفة وأعلمه أن قد نوى الرجوع إلى أوروبة، آملاً أن يعيد إليه صحته هواء بلاده الأصلية، فإنَّ صحَّته أخذت تتردى يوماً بعد يوم، وأنه سيعود إلى كلكتا بعد ثلاث سنوات، وقال لأبي طالب: (أنت في عطالة الآن فاصحبني في هذه الرحلة فتغيير المجال ورؤية العجائب والغرائب التي في أوروبة تنفي عنك هذه السوداء التي أرهقتك وسأحاول تعليمك اللغة الإنكليزية في أثناء السفرة البحرية هذه وأقضي جميع حاجاتك). وبعد أن فكر أبو طالب في هذا الأمر بعض الوقت رأى أن للرحلة الطويلة وخطرة جداً، ومع ذلك فقد اعتزم السفر فلعلّه يرى حادثاً ينهي حياته وآلامه معها، ولم يفرط في الوقت بل ذهب في غد ذلك اليوم واستأجر موضعاً للسفر في السفينة شارلوت إحدى سفن شركة الهند إلا أن سوء الحظ أدى إلى احتراق هذه السفينة بعد أيام قليلة، ومع ذلك فقد كان مصمّماً على السفر، فأبحر من غير تلبث على السفينة (كرستيانا) واشتيامها يسمى نيتلمان وكانت على عزم الإقلاع إلى الدانمارك. هذا ما ذكره أبو طالب من سيرة نفسه في أول كتاب رحلته بالتحرير والتحبير، وقد ظهر للقارئ أنه لم يذكر سنة ميلاده وإنما استنتجناها من كلامه، ولا ذكر المدرسة التي درس فيها، ولا المدرسين الذين درَّسوه، ولا العلوم والفنون التي درسها، بل إنَّ الإنسان إذا ذكر سيرة نفسه وكتبها بقلمه كانت عرضة للنقد والتحقيق أكثر منها لو كتبها غيره من غير المعروفين بمعاداته، وبان من هذا الجزء من سيرة حياته أنه كان عالماً بأمور الحساب والجباية، وقاد جيشاً لمحاربة راجا ثائر وأخضعه، وأنه كان يلتجئ للإنكليز غالباً في نيل منصبه، ولعلَّ ذلك كان من أسباب كراهة ناس من الحكام الهنود وغيرهم له وتحلئتهم له عن موارد العيش الهنيء، مضافاً إلى نباهته وذكائه. وقد دلَّت سيرته التي اتضحت من رحلته المحرّرة أنه درس الآداب الفارسية فضلاً عن اللغة الفارسية، وأنه كان شاعراً في هذه اللغة ينظم قصائد ومسمطات قد ترجمنا ما وجدنا منها في الرحلة، وألَّف كتاباً في المختارات الشعرية بالفارسية، وقد ادّعى عند وصوله إلى القسطنطينية أنه من سلالة النبي محمد (ص) أي علوي واشترى من سوقها عمامة خضراء كعمامة العلويين في أيامه وما قبلها بزهاء مئتي سنة وما بعدها، ولكنَّها كانت زرقاء لأن سوق القسطنطينية كان مظلماً فبيعت له الزرقاء مكان الخضراء، مع أنه لما كان في فرنسة صبغ عمامته بالحمرة، ونسي أنه قال في أوّل رحلته: (والدي كان يسمى حاجي بيك خان وكان تركي الأصل ولكنه ولد بأصبهان.. وجدي الأمير أبو الحسن بيك كان زاهداً تقياً ديناً صيناً). ولقبُ (البيك) لأبيه وجده لأمه يؤيد كونه من أسرة تركية فكيف يكون علوياً؟ هذا ما لا أستطيع الإجابة عنه ولا كتب هو ما يسوِّغ دعواه، ودلَّت أخباره في رحلته داخل البلاد الإسلامية أنه كان شيعياً حاد العقيدة جاد المذهب، في العصر الذي كان فيه الأتراك العثمانيون والقاجاريون ومتأخرو الصفويين قبلهم يوقدون نار التعصب الذميم البغيض بين أهل السنة والشيعة إيقاداً مستداماً محتدماً، وقد نال في أوروبة جاهاً فدعاه الملك جورج الثالث مرَّات ودعاه نابليون الأول إلى حفلته إلا أنه كان مريضاً. ترجمة أبي طالب في كتاب تراجم عالمية ودائرة المعارف البريطانية
وقد وجدنا لأبي طالب ترجمة في كتاب (تراجم عالمية) وهي بالفرنسية، وقد ذكر في الجزء الأول منها في نشرتها الجديدة بباريس سنة 1843م وتكاد عامّتها تكون مستخلصة من رحلته المحرّرة، قال كاتبها: \"أبو طالب مرزا سائح وأديب ولد سنة 1751م في لكنو.. وقد ترجم للسلطان سليم الثالث القاموس في مجلّدين (إلى الفارسية) ترجمة كاملة مصحّحة وخلع عليه السلطان إلا أنه رفض الهدية التي أهداها إليه عند عزمه على ترك القسطنطينية مكتفياً بالوعد الذي وعده السلطان به وهو طبع الكتاب في القسطنطينية.. وأخذ منه إجازة وفرامين لبواشية مختلفين في السلطنة التركية، وقد غادر عاصمة العثمانيين في اليوم الثاني عشر من كانون الأول في طريق اماسيه وسيواس وملطية وديار بكر وماردين ونصيبين وكردستان والموصل، ثم وصل إلى بغداد في اليوم الثامن والعشرين من كانون الثاني سنة 1803م. وفي أثناء إقامته بهذه المدينة زار المدن المقدّسة المشهورة كمدينة الإمام علي ومدينة الإمام الحسين وكان الوهابيون قد سلبوا ما فيها، وقد فصّل أمرهم تفصيلاً غريباً ووجد هنا إحدى عمّاته وكانت قد ألجأتها صروف الزمان إلى ترك الدنيا والانقطاع للتأمل والعبادة في المدينة المقدّسة، وكان الوهابيون قد سلبوا منها جميع ما عندها فأعانها أبو طالب بما استطاع. وترك أبو طالب بغداد في اليوم العاشر من آذار من السنة المذكورة قليل الرضا عن الوكيل الإنكليزي مضيفه، ذلك لأنه رفض من أجله مثوى في دار الباشا، وانحدر في دجلة إلى البصرة وسكن عند سفير إيراني، وقد امتعض من عجرفة القنصل الإنكليزي (مانستي) وطمعه، ثم أبحر من البصرة في اليوم العاشر من أيار في مركب لهذا الوكيل ونزل في اليوم الثالث من حزيران في بومباي..\" إن رحلة أبى طالب خان في آسية وأفريقية وأوروبة التي كتبها بنفسه بالفارسية ترجمت إلى اللغة الإنكليزية وربّما كانت ترجمتها طبق المخطوط، ومترجمها (ج ستيوارد) ونشرت سنة 1810م بلندن، ثم طبعت ثانية في كلكتا في السنة نفسها في مجلد واحد، وعن الترجمة الإنكليزية ترجمت إلى اللغة الفرنسية، ترجمها جي سي جانسن ونشرها مع نقض للآراء المعروفة في أوروبة في حرية النساء بآسية، كتبه المترجم بنفسه في باريس سنة 1811م بجزأين، وترجمت إلى اللغة الهولندية ترجمها لينردن سنة 1813م في مجلدين. والنص الفارسي لرحلة أبي طالب خان قد نشر عند موته، نشره ابنه مرزا حسين علي بكلكتا في مجلد كبير ضخم، وكنّا تحققنا من أي ترجمة استمدت الترجمة الفرنسية التي نشرها (ش. مالو) بباريس سنة 1819 وهي النشرة الثانية بالفرنسية.. وقد ألف أبو طالب لباب التواريخ وهو مختصر جغرافية أوروبا وتاريخها.. وقد وجد الأستاذ الأديب الفاضل فؤاد عباس ترجمة لأبي طالب في دائرة المعارف البريطانية وتفضل بترجمتها إلى العربية ونحن نذكرها بنص ترجمته، وهذا نصها: \"أبو طالب خان 1752 - 1806م: أبو طالب خان ابن حاجي محمد بك من أصل تركي، ولد في لكناو، وقد قضى سنيه الأولى في مرشد آباد في مظفر جنكك، وحين اعتلى آصف الدولة العرش سنة 1755 م رجع إلى أوده وعين عملدار منطقة أثاوة ومناطق أخرى غيرها، وخدم أيضاً موظفاً للواردات تحت إرادة الكولونيل هناي الذي مصر قطر سوار واستخدم من بعد ناثانائيل ميدلتون المقيم البريطاني فأشركه مع ريشارد جونسن في إدارة (الجاكير): ضرائب الأراضي المصادرة من بيكماث أوده، وبقي في أوده حتى سنة 1796. وفي شباط سنة 1799 أبحر من كلكتا قاصداً أوروبا فزار إنكلترة وفرنسا وتركيا وبلاداً أخرى، ثم رجع إلى الهند في آب من سنة 1803 وضمن رحلاته في كتابه (مسيري طالبي في بلادي افرنجي) المطبوع سنة 1812 وترجمه إلى الإنكليزية س. ستيوارت سنة 1814 وترجمه إلى الفرنسية ش. مالو سنة 1819 وألّف أيضاً (لب السير) و (وجهانما) و (خلاصة الأفكار). وكتابه تنبيه الغافلين الذي أرخ فيه مدينة أوده تحت حكم آصف الدولة يعد مرجعاً مهماً كما قام به حيدر بك وبعض المقيمين الإنكليز، وينطوي على دفاع حار عن سياسة هاناي في إدارة الواردات وترجمه إلى الإنكليزية (و. هوي) سنة 1888. وأبو طالب خان هو الذي نشر الطبعة الأولى لديوان حافظ في كلكتا سنة 1791 م\". وذكر المترجم الأديب الفاضل بعد ذلك مرجعين لهذه الترجمة الفرنسية في نقاط مهمّة من سيرة أبي طالب، وكانت وفاته سنة 1221هـ. أما ترجمتنا هذه فهي من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية ولم نستطع معرفة مترجمها الفرنسي لأن في هذه اللغة ترجمتين لأديبين فرنسيين قدّمنا ذكرهما، والنسخة التي امتلكناها في باريس أيام كوننا بها كانت قد سقطت منها الصفحة الأولى التي ذكر فيها اسم المترجم، الإ أنّها تدل على براعة في الترجمة وتفهم لاغراض الراحل، وعلو كعب المترجم في الكلم الفرنسي الغريب، ولم يحذف هذا المترجم منها الإ فقرات ذكرها الرحالة أبو طالب في التشريح عندما اطّلع في أكسفورد على التشريح الحديث وقد أشير إلى الحذف في موضعه من الرحلة. رحلة أبي طالب خان رحلة أبي طالب خان من نوادر الرحل في العالمين في موضوعها وأسلوبها وبراعة كاتبها وشمول ملاحظاته، فالمألوف في عصره وقبله وبعده أن الأوروبيين كانوا يسيحون في بلاد الشرق ويكتبون في وصفه رحلاً وفي آثاره كتباً، ولا نزال نتسقط أخبار الشرق المتأخرة من رحل الأوروبيين فيه وخصوصاً أخبار العراق، أمَّا أنَّ شرقياً يسيح في بلاد أوروبة ويصفها هذا الوصف المسهب فيه، المحتوي على كلِّ غريب وطريف، فضلاً عن التأريخ السياسي الذي عاصره الرحالة، فهذا من أندر النوادر في عصره ولذلك أسرع الإنكليز والفرنسيون والهولنديون إلى ترجمة الرحالة إلى لغاتهم، لوجدانهم فيها أوصافاً ومباحث وأموراً خاصة ببلادهم لم يجدوها عند كتَّابهم ورحاليهم، فإنَّ أبا طالب كان نافذ الملاحظة، منعم النظر، مثقفاً ثقافة شرقية عالية، قلَّماً يفوته ذكر شيء ممَّا وقع عليه بصره أو تناوله في أثناء السياحة فكره، وستبقى رحلته مثالاً لتأليف الرحلات والاستقصاء والشمول، ولقد أحسن تنظيمها وحبكها والظاهر لنا أنه كتبها مذكرات منفردة فلمَّا عاد إلى بلاده رتَّبها ونظَّمها وأحسن تأليفها، وأحال عند الحاجة إلى الربط بين أجزائها وأنبائها على ملاحظات متأخّرة قبل أن يلاحظها( ) كما أحال على ملاحظات متقدّمة لاحظها، ففي الأوليات دليل على أن التأليف وقع بعد الارتحال.
المرأة في رحلة أبي طالب
وممَّا لحظناه وتبيَّنَّاه في رحلة أبي طالب نصيب المرأة الوافي فيها، فقد ظهر لنا أنَّ أبا طالب كان زيرَ نساء مغرماً بهنَّ، وصَّافاً لجمالهن، كثير التملّق لهنَّ، وافر الغزل، ونحسب أنَّ من أسباب الإقبال عليه والالتفات إليه في أثناء إقامته بلندن غرامه بالنساء وإطراءه لهنَّ ونظمه أشعاراً في محاسنهنَّ، ومن الأدلة على تملّقه النساء تكراره عبارات استحسان الجمال، وهو فوق ذلك قلَّما مرَّ ببلدة أو مدينة أو قرية فلم يصف نساءها فضلاً عن الحفلات والمراقص والضيافات والمآدب التي حضرها، فلم يفته فيها ذكر بنت حواء، ويفهم من كلامه أنه عاشر إنكليزية في لندن معاشرة مخادنة، ورأى من حرية المرأة الإنكليزية إذ ذاك ما سهَّل له ذلك، وساعده على نيل القبول من النساء جمال له شرقي يلوح لنا من أثناء كلامه وبياض لون وسط مخالف لما عرف من ألوان الشرقيين( ) كما يفهم من بعض اقتصاصه، ولعلَّ ذلك ناشئ من كون أصله تركياً وأن أباه عاش في أصفهان وهي مدينة باردة المناخ وأهلها موصوفون ببياض البشرة وحمرة الوجنات وليس بعيداً أن والدته كانت فارسية من أصفهان، والغالب على الأبناء أن يرثوا في أجسادهم ملامح أمهاتهم وألوانهن، بَلْهَ لباقته وأناقته وبراعته في الحديث وأدبه وقريحته الفيَّاضة بشعر الغزل، وأمثلة ذلك قوله في وصف مدينة الكاب بأفريقية: (فهكذا كانت ظرافة الضابط كولنز وزوجته السيدة كولنز تلك الظرافة التي جعلتني أقضي ظهيرةً جدّ مستحسنة في حياتي) ثم قال: في وصف نسائها (فالنساء الهولنديات قد تعودن كثيراً أن يتخطين المهاوي حتى ليصحبن أزواجهن دائماً في هذا النوع من النزهات) ثم قال: (ولكن الشابات الهولنديات حسنات الأجسام كثيرات النشاط ولا يستطيع الإنسان أن يتهمهن بالقسوة والفظاظة( ) ومن سوء الحظ أنَّهنَّ يردن أن تُهدى إليهن هدايا جزيلة( ) والنساء الهولنديات المتزوجات سيئة سمعتهن والإنكليز الذين لهم بعض الغنى كلّ واحد منهم قد خادن سيّدة منهن يزورها اعتياداً من غير أن يرى ممانعة أو مدافعة أو إباءاً من زوجها، وقد جرت العادة بأن يعتزل الزوج زوجته حينما يصل خدنها الإنكليزي المدلل، وهذا يعني أن الإنكليز ينفقون جميع ما يحصلون عليه وما يربحون). ثم قال: (ويطيب لي أن أذكر بالثناء الحسن رجلاً اسمه المستر بومكارد، وهو هولاندي ظريف.. وامرأته كانت جد متحببة وكانت ذات علم غزير وتتقن سبع لغات مختلفات) وقال: (ولكنّي لا أستطيع أن لا أقول كلمات على الأمسيات الساحرة التي أمضيتها في دار الليدي بارنيت المعروفة عموماً باسم أميرة الكاب فكنت غالباً أكون في دارها مع شابة إيرلندية ذات جمال كامل). وقال بعد ذلك: ( وإذ كنت أجهل اللغة الهولندية كان من المحال أن أكلم النساء الشابات الهولنديات ومع ذلك فقد رقصن بحضوري رقصاً شهوانياً ونظرن إلي نظرات معبرات فأحمرُّ خجلاً وأضطرُّ أن أنزوي في ركن من أركان باحة الرقص، هذا وإنَّ عدّة أوانس تحرَّشن بي ذات يوم وأجملهن وكانت أجرأهن خطفت منديلي وقدمته إلى إحدى صواحبها فاستغرقن في الضحك كلّهن وإذ ظهر أن صاحبتها لا تريد قبوله، استرجعته منها قائلاً: أنا لا أهبه إلا لأجمل فتاة منكن، إشارة مني إلى عادة الأتراك في رميهم المنديل إلى المرأة التي يريدون أن يقضوا الليل معها، وتوجَّهت الدعابة بذلك على شيطانتي المحبوبة فانصرفت وقد ضرَّج الخجل خدَّيها بالاحمرار). قال كل هذا في ذكر نساء الكاب وحدها، ثم قال في وصف كورك وذكر رجلاً اسمه بيكر: (وعيال هذا الرجل الفاضل هما اثنا عشر شخصاً وفيهم ابنتا أخيه وإحداهما ألمعية محبوبة الخلق والأخرى جميلة متحفظة، وعند الغداء عنيت بي السيدات ألف عناية ولم أرَ من النساء جميلات مثل هذه المداراة وقد خجلت من لطفهن شاكراً، وهؤلاء الملائكة من النساء قدمنا إلينا بعد ذلك الشاي وسألتني إحداهن هل هو محلى على الكفاية؟ فأجبتها: لا يمكن أن لا يكون كذلك وقد أعدته يدان جميلتان جدّاً( )، فأخذت الجماعة تضحك جميعها وخجلت الفتاة كأنَّها وردة دمشق). ثم قال في وصف إيرلندة: (ولم أستطع كتمان إعجابي بالفتيات الشواب اللواتي يجرين بين هذه الجماعات إمَّا بسبب البرد وإمَّا لنشاطهنَّ الطبيعي وهنَّ لا يحسسن في جريهن إنساناً ويكاد الإنسان يحلف أنه يرى فيهنَّ فراشات ترفرف). وقال في ذكر إحدى المآدب التي أُدب إليها: (ولمَّا رفعوا غطاء المائدة اقترب الشرب لصحّة الملك والملكة، ثم صحّة عدّة نساء جميلات ممَّن أعرفهن ولا أستطيع أن آبى ذلك على واحدة منهن)، ثم قال: ( والإيرلنديات ليست لهنَّ أساليب جفاء وخشونة وإنَّما لهنَّ عيون رفيقة رقيقة وشعور جميلة كشعور الإنكليزيات، ولكنها ليست طويلة ولا جميلة كشعور الإيكوسيات وسحنتهن أجمل من سحنة الإيكوسيات، وفيهن نشاط ناري وقوة حيوية وحدّة أذهان). ثم قال في ذكر بعض الإيرلنديات: (والسيدة فيلمنك لمَّا علمت بأنّي عرفت زوجها في كلكتا رجت منّي أن أزورها في دارها في الحال وكان منها ألف لطف وسألتني ذات يوم هل زوجها مبتهج في كلكتا؟ فقلت لها: وكيف يمكن أن يكون سعيداً وهو بعيد عن صاحبة له لها هذا التحبب وهذه الظرافة( )؟! فخجلت السيدة فيلمنك وقالت لي: إنك ملاق. وابنتان من بناتها قد صحبتا أباهن إلى الهند، وله ثلاث بنات أخر وهن جميلات كحور الجنة العين). ثم قال لي في وصف ما جرياته في لندن: (ودعاني شارل كوكرل مرة في كل أسبوع إلى الطعام على مائدته التي كان لي ابتهاج في حضورها وأن أرى أجمل نساء إنكلترة). وقد وصف لندن والجمال النسوي الذي فيها نظماً مسمطاً بقوله، وقد ترجمت نظمه شعراً: لنعش مستقبلاً في لندنا نقف الأيام وقفا حسنا لجمال قد أثار الفتنا من نساء فتيات صدننا ولندع رؤية غرس وبنا أن طوبى وهي أحلى مشتهى وكذا السدرة ذات المنتهى ثم دوح الجنة الوافي البها لم تثر منك فؤاداً قد لها بين سرو الأرض مما حولنا فإذا ما لمتنا شيخ الحرم في هوانا لم يكن منا ندم قد حبانا الله دوماً بالنعم وحمدناه وشيخاً يحترم وله الشكر وإحسان الثنا املأ الكأس إلى اصبارها من عصير الكرم وارقب نارها لست أخشى أن تراني تائهاً تاركاً مثل غفول قدسها دين آبائي الألى عافوا اللدنا فربيع العمر وقف للجمال كان في الهند وقد ولى وزال وجمال الألبيون اليوم قال أنا تعويض فلا تخش المآل ولدى بسمته زال العنا يا بديعات الجمال الفاتنات قد سحرتن فؤادي يا بنات بظفيرات غريبات الشيات وبحسن قد عبدناه ولات وملأتن حياتي بالهنا إلى آخرها وهي مذكورة في هذه الرحلة بتمامها. وسيرى القارئ فيها كثيراً من أمثال ما ذكرناه. د. مصطفى جواد
|
|
|
|
أعد هذه الصفحة الباحث زهير ظاظا
.zaza@alwarraq.com
|
مرآة التواصل الاجتماعي – تعليقات الزوار
|