ما رأيت وما سمعت من دمشق إلى مكة
تأليف : مفيد نجم
الولادة : 1 هجرية الوفاة : 1 هجرية
موضوع الكتاب : الرحلات
الجزء :
تحقيق : 'NA'
ترجمة : 'NA'
|
|
|
|
|
| |
قصة الكتاب :
خير الدين الزركليالمقدمة
اكتسبت حياة الباحث والشاعر والسياسي والصحفي خير الدين الزركلي غناها وأهميتها، من خلال تعدد مصادر ثقافته واهتماماته، وتنوع الأعمال والمهام التي قام بها، سواء في حقل الأدب والتأليف الموسوعي، أو في مجال العمل السياسي والدفاع عن قضايا العرب القومية. وقد توجب على ذلك ملاحقته والحكم عليه بالإعدام من قبل سلطة الانتداب الفرنسي في سوريا، وإغلاق الصحف التي أنشأها في كل من سوريا ومصر وفلسطين بسبب مناهضتها للسياسات لاستعمارية، والمطالبة بحرية العرب واستقلالهم. ولد الزركلي في بيروت من أبويين دمشقيين، يعملان في التجارة وتلقى تعليمه الأول في مدارس دمشق الأهلية، حيث ظهر منذ صغره ولعه بقراءة الأدب وكتب الشعر. درس الأدب الفرنسي في الكلية العلمانية ببيروت، ثم عمل مدرسا للتاريخ والأدب العربي فيها. أصدر مجلة الأصمعي التي قامت الحكومة العثمانية بمصادرتها بسبب انتقادها للسياسة العثمانية تجاه العرب وجريدة لسان العرب التي جرى إقفالها أيضا لدفاعها عن قضايا العرب، فشارك مع أصدقاء له في إصدار جريدة المفيد. أنشأ في مصر المطبعة العربية، وخلال إقامته في القدس أنشأ جريدة الحياة، التي قامت سلطات الانتداب البريطاني بتعطيلها بسبب مواقفها المنددة بممارسات سلطة الانتداب، فقام بإنشاء جريدة جديدة في يافا. حكم الفرنسيون عليه عند دخولهم دمشق بالإعدام مع مجموعة كبيرة من الوطنيين السوريين وصودرت أملاكه، فهرب إلى فلسطين ومن هناك إلى مصر التي تلقى فيها دعوة من الملك حسين بن علي لزيارة الحجاز. اختير في عام 1930 عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق. وفي عام 1960 انتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي. انتدبه الملك حسين بن علي لمساعدة ابنه عبد الله في إنشاء حكومة شرق الأردن، كما اختاره الأمير فيصل بن عبد العزيز مندوبا للمملكة العربية السعودية في مداولات إنشاء الجامعة العربية التي كان أحد الموقعين على ميثاقها، ثم اختير ليكون وزيرا للخارجية في الحكومة السعودية، وسفيرا فوق العادة في المغرب. ألف موسوعة \"الأعلام\" التي تعدُّ من الأعمال الموسوعية المميزة. وقد اشتملت على تراجم لأشهر رجالات ونساء العرب والمستشرقين والمستعربين. كما ألف في أدب الرحلة كتاب (عامان في عمان)، دوَّن فيه مشاهداته والأحداث التي جرت أثناء إقامته هناك، وكتاب (ما رأيت وما سمعت) عن رحلته إلى بلاد الحجاز، وهو موضوع هذا الكتاب. * * * يلعب العنوان دورا مهما في تأويل النص، والتأسيس للعلاقة بين المؤلف والقارئ، وذلك من خلال بنيته التركيبية التي تجمع بين جملتين اسميتين بواسطة عنصر الربط (واو العطف). وتظهر تلك الوظيفة في سعي العنوان لمنح خطاب الرحلة في هذا الكتاب بعدا واقعيا، تؤسس له عبر الكشف عن مصادره، المتمثلة أولا في فعل الرؤية القائم على المشاهدة (ما رأيت)، ومن ثم على المسموع (ما سمعت). ويسعى المؤلف من خلال ذلك إلى تأسيس ميثاق واقعي للقراءة عبر استخدام ضمير المتكلم، بحيث يقدم السارد نفسه على أنه المرجعية لما يتم سرده في هذا الكتاب، ويجعل الذات الساردة تلعب دروا مركزيا في تنظيم وقائع الرحلة وتأطير أحداثها. وعلى غرار الأسلوب المتبع عادة في تأليف كتب الرحلة يفتتح المؤلف كتابه بأبيات من الشعر، باعتبار الشعر يمثل مرجعية لا غنى عنها للمؤلف وللقارئ أيضا، نظرا لأن الشعر يمثل الفضاء المشترك الذي يلتقي فيه القارئ والمؤلف. وتعبر تلك الأبيات المختارة لمناسبة الموضوع عن الحال التي كانت تعيشها بلاد العرب في تلك الفترة الخطيرة من حياتها، وهو بذلك يكشف عن السياق النفسي والسياسي الذي يندرج فيه خطاب الرحلة لكي يضع القارئ منذ البداية في الخلفية التاريخية والسياسية لزمن الرحلة من جهة، ويؤثر في عملية استقبال القارئ لهذا الخطاب. وتتجلى التقاليد المتبعة عادة في تأليف أدب الرحلة بوصفه أدبا عابرا للأجناس، يقوم على التوليف بين مستويات مختلفة يتداخل فيها النثر مع الشعر والسرد مع الخبر والوثيقة، في الكتابة التي تبدأ منذ لحظة الاستعداد والتهيؤ للرحلة، مرورا بالمحطات التي تتوقف فيها، والمشاهدات والوقائع التي تحدث في الطريق، حتى لحظة الوصول إلى المكان المنشود. في البداية لا يولي الرحَّالة اهتماما بوصف الأماكن والمدن التي يمر بها أو يقيم فيها لبعض الوقت، ويكتفي بسرد الوقائع والأحداث التي جرت معه وانطباعاته عن تلك المدن والمحطات كاشفا عن منهجه في التدوين من وجهة نظر صاحب الرحلة وعن بحثه عن كل ما هو مستطرف وغريب حتى وإن خالف في ذلك من سبقوه في مدح تلك المدن والتغني بسحرها وتاريخها ومكانتها، كما هو الحال عند ذكر انطباعه عن مدينة القاهرة عند زيارته لها جاعلا من تصوره لما يريده القارئ سببا في ابتعاده عن تخصيص مكان للحديث عنها في هذا الكتاب وهذا جانب هام من منهج الكتابة عنده (ليس في القاهرة ما يستطرفه القارئ فأفرد له جانبا من هذا الكتاب، وله أن يطلع إن شاء على ألوف المصنفات في لغة العرب وغيرها مما أشبع القول فيه بحثا وتحقيقا في تاربخ الاتصال بين مدينة الشرق والمغرب في عصرنا الحاضر ووصفها والتغني بجمالها والإشادة بذكرها. أما أنا فما يعنيني إلا أن أنقل عن (مفكرتي) بعض ما اشتملت عليه مما يلذ غيري ويفكهه وقد يفيده). لا شك أن رحالتنا الزركلي يكشف هنا عن إستراتيجية الكتابة عنده والتي تقوم على البحث عن المستطرف والغريب تحقيقا للمتعة عند القارئ كما يتخيله هو في حين لا يبدو أنه متيقن من تحقيق الفائدة من وراء هذا العمل. والحقيقة أن هذا الموقف الذي يصرح به مبررا عدم انشغاله بالحديث عن مدينة القاهرة ووصفها والإشادة بذكرها ينتفي عند بدء رحلته في جغرافية بلاد الحجاز، إذ يعنى بوصف طبيعتها وعمرانها وحياة الناس الاجتماعية فيها، متقصيا سبب تسميتها بتلك الأسماء ومستعيدا ما توفر له من مصادر تاريخها ماضيا وحاضرا، وأهم معالمها ومعالم حياة ساكنيها ونشاطهم الزراعي والحيواني، إضافة إلى أدبهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم وطقوسهم وأشكال سياسة شؤونهم وخلافاتهم إلى جانب عشرات التراجم التي يقدمها لأهم الشخصيات المعروفة فيها من رجال ونساء قبيلة ثقيف. * * * يكشف المؤلف-كما هي عادة كتَّاب الرحلة- عن سبب الرحلة والحوافز التي دفعته للقيام بها متحملا مشقات السفر ومخاطره لا سيما بالنسبة لرجل مثله هارب من حكم الإعدام الذي أصدره الفرنسيون بحقه منذ اليوم الأول لاحتلالهم مدينة دمشق. ففي البداية كانت القاهرة هدفه إلا أن زيارة معتمد حكومة الحجاز في القاهرة له وتبليغه بدعوة الملك حسين لضيافته في الحجاز جعلته يقرر اغتنام الفرصة لمشاهدة الأماكن المقدسة وزيارتها. ويظهر حضور السارد/المؤلف في هذه الرحلة من خلال الدور الذي يلعبه في توجيه السرد واختيار عناوين الرحلة وانتخاب مادتها وحكاياتها وأخبارها وترتيبها، كما يكشف عن ذلك ما يقوله عند الحديث عن مشاهداته وهو في طريقه من حيفا إلى القاهرة (وليس في خبر الرحلة من حيفا إلى القاهرة ما يجدر بي أن آتي عليه، إلا وقفة صغيرة في القنطرة). ولعل الجانب الهام الذي تبرزه هذه الرحلة هو مسألة الانتقال من بلاد حكومة والدخول في بلاد حكومة أخرى، بعد سيادة الاحتلال الأجنبي على أغلب البلاد العربية، وفرضها على مواطني تلك البلاد استخدام جواز السفر للسماح لهم بالانتقال بين هذه الأقطار فهو يواجه المشاكل الدائمة عند كل انتقال من بلد إلى آخر مما يضطره لاستخدام طرق مختلفة للتغلب على تلك المشاكل كان آخرها الحصول على جواز سفر حجازي لتسهيل انتقاله من مصر إلى الحجاز، لكن المسؤول عن ذلك يعلمه بمعرفته بشخصيته الحقيقية ورغم ذلك يسمح له بصعود الباخرة التي ستقله إلى الحجاز. * * * يشتمل خطاب الرحلة في هذا الكتاب على السرد والوصف والإخبار والوثيقة، ويتأسس على المرئي والمسموع والمقروء، وتكون حركة السرد فيه حركة في الزمان، قائمة على التعاقب والتوتر، وفقا لحركة السارد/ الرحَّالة في الزمان والمكان. وقد لعب العنوان الفرعي دورا مهما في تكريس هذا المنهج والإفصاح عنه من خلال ذكر أسماء الأماكن التي حملها، وتعاقب ظهورها وفق حركة المسار في جغرافية تلك البلاد. وقد تجلت علاقة الاتصال والإحالة بين هذه العناوين والعنوان الرئيس الذي حمل في بنيته النحوية صيغة المفرد المتكلم من خلال اتصال فعلي الرؤية والسماع بتاء الفاعل، التي تشير إلى مرجعية الخطاب، وعبر المنهج الذي اعتمده المؤلف في ترتيب مادة الكتاب وتوزيعها على أساس تعاقبي إذ اشتمل العنوان الرئيس الثاني الذي يشير إلى نقطة البداية ونقطة الوصول إلى المكان الذي هو هدف الرحلة (من دمشق إلى مكة). ولعل اختيار اسم مكة في هذا العنوان ينطوي على بعد ديني يريد من خلاله أن يظهر للقارئ بصورة غير مباشرة حافز الرحلة وغاياتها تحقيقا للتأثير فيه وتحفيزا لفعل القراءة عنده، نظرا لما تنطوي عليه هذه المدينة من قداسة خاصة عند المسلمين، فمكة ليست سوى مكان من أماكن كثيرة شملتها هذه الرحلة مما يجعلنا ندرك معرفة الرحّالة بأهمية العنوان ووظيفته الإقناعية من حيث تحريض القارئ والتأثير في عملية التلقي. ولم يكن لهذا العنوان الفرعي أن يظهر لولا إدراك المؤلف لتلك الوظيفة التي يقوم بها، وللرغبة في وضع الحدود والأبعاد لمادة الرحلة. كذلك تضمنت العناوين الداخلية أسماء المدن والأماكن المختلفة وزمن الرحلة وموضوعات الرحلة التي يشتمل عليها متن النص وفق التسلسل الذي اختاره لها صاحب الرحلة، كما يظهر ذلك في هذه العناوين التالية التي تبين الدور المحوري الذي بلعبه هذا العنوان على مستوى التعيين بوصفه واجهة إشارية ذات طبيعة إيحائية (من حيفا إلى القاهرة- في حيفا- في القاهرة- من القاهرة إلى مكة- بين مكة والطائف- الطائف- آثار الطائف-الرحلة الحجازية- إلى شداد- قبائل ثقيف- تحيتهم- خروج الأتراك..). وإذا كانت الحركة في المكان هي حركة في الزمان بحكم العلاقة الجدلية بينهما، فإن ترتيب مادة الكتاب على أساس حركة الرحَّالة في المكان، يمثل الناظم لزمن الرحلة، الذي يتمظهر في مستويين اثنين، مستوى زمن الرحلة الذي يظهر في حركة المؤلف وطوافه في جغرافية المكان، وزمن الماضي الذي يحيل عليه الخبر أو الحديث المتواتر أو الوثيقة المستمدة من المدونات المخطوطة أو الموضوعة. وقد نجد ثمة تفاوتا زمنيا على المستوى التاريخي في السرد المتعلق بتاريخ تلك الأماكن والمدن أو بتسميها كما هو الحال عند الحديث عن فتح الطائف من قبل المسلمين ثم الانتقال مباشرة لسرد وقائع ثورة الحجاز ضد الأتراك على ما بين التاريخ من فجوة زمنية كبيرة. إن هذا المسار الذي تتخذه مسرودات النص الرحلي على المستوى الزمني يرتبط بسببين أحدهما يتعلق بالمدونات الكتابية التي تتوافر له والمتعلقة بتاريخ الأماكن وسيرته، والثاني وهو متداخل مع السبب الأول يحدده مسار الرحلة وحركته في تلك الأماكن. ولا يختلف منهج المؤلف في هذا الكتاب عن المنهج الذي كان متبعا في تدوين كتب أدب الرحلة، حرصا من المؤلف على ما جرت عليه العادة، لغايات تخص منهج البحث في الكتاب من جهة وتتعلق بالغاية التي يروم تحقيقها من وراءه خدمة لتاريخ هذه البلاد وشهرتها (وقد جريت في هذا الكتاب على ما هو معروف في أيامنا، حذرا من التشويش في البحث واكتفاء بالغاية التي أرمي إليها من التعريف بهذه البقعة الأثرية القديمة وشهرتها، وإنما أوردت هذه الكلمة هنا لاعتقادي أنها فائدة في تاريخ هذا البلد لا ينبغي إغفالها). ولذلك نجد المؤلف يستهل الكتاب بأبيات من الشعر وبالشكوى من سوء حال الزمان التي وصلت إليها الأمة وبالدعاء إلى الله أن يصلح تلك الحال بعد أن صار هم حكامها الحفاظ على كراسيهم وتحقيق نزعاتهم ومكاسبهم على حساب أوطانهم. ومن أجل التأثير في المتلقي يستخدم المؤلف لغة السجع المحببة للقارئ في تلك الأيام وبسبب انتظام إيقاعها. كما نجده يكثر من ذكر أبيات من الشعر العربي في متن الرحلة باعتبار أن الشعر كما أسلفنا هو الفضاء المشترك بين المؤلف والقارئ وهو يمتلك تأثيره على القارئ ديوان العربي. * * * ولما كانت بلاد الحجاز هي هدف الرحلة وموضوعها، فإن المؤلف يكتفي في بداية الرحلة بالحديث عن المحطات التي توقفت فيها الرحلة وذكر الوقائع والحوادث التي جرت له، دون أن يعنى بوصف المدن والمواقع التي توقف فيها، أو ذكر انطباعاته عنها، على خلاف ما نجده بعد وصوله إلى أرض الحجاز، إذ نلاحظ أن الكاتب يسترسل في الوصف والسرد الوافيين لمعالم الأماكن الطبيعية التي يمر بها، ولأسمائها وآثارها والحياة الاجتماعية والطبيعية فيها، إلى جانب الحديث عن تاريخها وقبائلها وأدبها وزرعها وحيواناتها وألعابها، وكل ما يتعلق بحياتها وأرضها. وهنا نلاحظ أن الكاتب يعتمد على مصدرين اثنين في هذا التوثيق، المصدر الأول هو المشاهدة والمعاينة المباشرة، والثاني هو الكتب المنشورة أو المخطوطة التي اطلع عليها مشير إليها وإلى مؤلفها في كل مكان إلى ذلك، مبينا أسلوبه في الاعتماد على الموثق بهم في نقل الأخبار وعلى ما أطلع عليه من كتب التاريخ الحديثة وبعض القديمة. وفي هذا الإطار ينقل المؤلف عن جزء من مخطوطة كتاب سلمت من الضياع، كان وضعه العلامة المكي الشيخ عثمان الراضي ما ورد فيه من نقد وتصويب للعديد من المعلومات المتعلقة بكثير من الأماكن وتاريخها وردت في كتاب الرحلة الحجازية لمحمد لبيب البتنوني، حفاظا منه على ما تبقى من هذا المخطوط من الضياع، وحرصا على أن ينظر المؤلف فيه فيدرك ما وقع فيه من أخطاء فيعيد تصحيحها في ضوء المعلومات الموثقة التي يقدمها هذا المخطوط عن كثير من المواقع الجغرافية والعمرانية وتاريخها والأحداث الماضية التي شهدتها تلك المواقع وذلك خدمة للمعرفة والتاريخ والقارئ أيضا. ويدل عمل المؤلف على النزعة العلمية التي تميزه وتميزه عمله في هذا الكتاب وهو ما يمكن أن يتلمسه القارئ في أسلوبه السردي وفي تعليقه على المعلومات التاريخية التي تذكرها الكتب حول تاريخ بعض الأماكن وأسباب تسميتها بتلك الأسماء أو الوقائع التاريخية التي جرت فيها. يتتبع الرحَّالة مسار رحلته راويا أحداثها ووقائعها والانطباعات المتولدة عن مشاهداته في تلك المناطق وفي هذا المقام يستخدم السرد والوصف وفي بعض الأحيان مدونات من سبقه من الرحالة والباحثين ولذلك يتسم الموضوع بالغنى والتفصيل والعلمية حرصا منه على تقديم معرفة وافية بطبيعة المكان وتاريخه وأسمائه وساكنيه، بما في ذلك قصر الملك والتقاليد المتبعة عادة داخله في الطعام والجلوس في مجلسه والدخول على الملك من قبل الرعية وكيفية حل المنازعات بين الناس والحكم فيها. ولا تكتفي عين الرحَّالة اليقظة في عرض هذه المشاهد والطقوس بل نجده يحاول أن يرسم صورة لشخصية الملك ولأولاده مبينا أهم ما تتميز به كل شخصية من هذه الشخصيات من سمات جسدية وعقلية ونفسية عرفها من خلال قربه منهم ومعاشرته لهم سواء أثناء زمن الرحلة أو فيما بعد عندما عمل مساعدا للأمير عبد الله عند إنشاء إمارة شرق الأردن. إن ما يميز الرحَّالة عن غيره من الرحَّالة السابقين أنه لا يتوقف عن حدود الوصف والتوثيق والسرد، بل يتجاوز ذلك إلى التعليل والتفسير والمقارنة، من أجل تقديم قراءة وافية في المكان والتاريخ والعمران وأحداث زمانه، وفي مقدمتها أحداث الثورة العربية التي انطلقت من أرض الحجاز بقيادة الشريف حسين وأبنائه. وفي هذا الصدد لا يكتفي المؤلف بالتأريخ لتلك الثورة في انطلاقتها الأولى، بل يشير إلى قضية هامة تتعلق بالأسرار التي ما تزال مجهولة في العلاقة بين الشريف حسين والانكليز حتى الآن حول تلك الثورة، التي كشف الروس بعد الثورة الشيوعية عن وثائقها السرية التي تتنافى مع وعود الحلفاء للعرب بمنحهم الاستقلال والحرية (في الرسائل التي تبودلت بين الشريف حسين والسير هنري مكماهون قبل الثورة ما لا يزال مطويا إلى اليوم، لم ينشر أو نشر شيء من مواده وسكت عن الباقي. وقد وقعت على كتاب يصح أن يكون نموذجا لما كان يكتبه مكماهون للشريف حسين، وإنه النموذج، إن صح أن الترجمة فيه حرفية، وجب على كل من يقرأه أو يطلع عليه أن يتخذه درس عبرة يتعلم منه كيف يخاطب الساسة غيرهم حين يريدون أن يفاوضوه أو يخادعوه). * * * إن المؤلف بحكم ثقافته الأدبية وكونه شاعرا يفرد مساحة واسعة للحديث عن أدب الحضر والبادية مفصلا في ذكر أنواعه وما يتميز به ناظموه من عفوية وقدرة على ارتجاله وحفظه، إضافة إلى الاختلافات الموجودة بين شعر البدو و شعر الحضر، نظرا لغياب الضوابط والقواعد في كل لغة من تلك اللغات الخاصة. ويذهب في تلك المقارنة بعيدا عندما يقارن بين حاله وعلاقة سكان هذه البلاد به وحاله في بلاد الشام، التي تراجع فيها الاهتمام بالشعر ولم يعد الكثير من الناس يهتم بحفظه رغم توفر فرص نشره في الصحف، على خلاف ما هو شائع في بلاد الحجاز من إقبال على حفظ الشعر وارتجاله والتغني به في المناسبات التي يتخذ فيها أشكالا مختلفة وفق طبيعة المناسبة التي يقال فيها. ولهذا يكشف عن شعور الأسى والحزن حيال تلك المفارقة في المقارنة. ولا يتوقف المؤلف عن حدود المقارنة، بل يعمل بعين الباحث المدقق، والمؤلف الموسوعي على تقصي التمايزات والاختلافات الموجودة بين شعر الحضر وشعر البادية وأسبابها، وتقديم العديد من النصوص التي توضح ذلك مع شرح مفرداتها لتسهيل فهمها ومعرفة دلالاتها. ثم يذهب إلى عقد مقارنة بينها وبين الشعر الأوربي من حيث أوزانها الشعرية من جهة، وبينها وبين الشعر في بلاد الشام وبادية الحجاز واليمن والعراق، حيث يعيد تلك الفروق الموجودة بينها وبين مثيلاتها في البلاد الأخرى إلى وجود المسافات البعيدة بين تلك البلدان، وبذلك يكشف عن معرفة واطلاع واسعين بالشعر العربي قديمه وحديثه والشعر الأوربي وقواعده. لقد قادته رغبته في المعرفة والبحث إلى الكشف عن التباين في نظم الشعر حتى على مستوى سكان البادية أنفسهم، بسبب الاختلاف في اللهجات السائدة في تلك المناطق، لاسيما على صعيد الاختلاف بين بدو الحجاز وبدو اليمن من حيث الكناية والجناس والتورية. ثمة أهمية أخرى لهذه الرحلة التي كتبت بعد المدونات الكثيرة التي سبقتها تتجلى في سعيها إلى التوثيق للعديد من الآثار الدارسة أو التي تكاد والتي شاهدها الرحَّالة أثناء تجواله في تلك الأماكن الصعبة المسالك والطبيعة الوعرة إدراكا منه للأهمية الخاصة التي تمثلها على صعيد الكشف عن حقب معينة من تاريخ المكان والإنسان فيه، إذ تشكل تلك الكتابات المحفورة في الصخور والتي تعرض بعضها للاندثار والمحو بفعل عوامل الطبيعة والإهمال، حتى لم يعد يظهر منها إلا بقايا من كتابات وأشكال لم تزل شاهدة تروي ما أراد الإنسان أن يدونه من تاريخه وماضيه على هذه الأرض للأجيال التي ستأتي من بعده. إن الأهمية التي تنطوي عليها تلك الآثار لا يعبر عنها الرحالة من خلال تدوينها وحسب، وإنما يتحدث هو صراحة عن قيمتها في الكشف عن تاريخ البلاد القديم بحيث لا يكون ثمة تغييب لتلك الحقب من التاريخ السابق. واستطردا لنزعته الموسوعية في التأليف وتسجيل كل ما يخص حياة البشر من عادات ومعتقدات وطقوس ونواظم وأعراف وأدب يعمل على تقديم صورة واسعة عن تقاليد العرب القديمة عند سكان البادية باعتبارها تمثل الجانب الأكثر أصالة واتصالا مع الماضي. مفيد نجم أبو ظبي- أكتوبر/ تشرين الأول 2006.
|
|
|
|
|
أعد هذه الصفحة الباحث زهير ظاظا
.zaza@alwarraq.com
|
مرآة التواصل الاجتماعي – تعليقات الزوار
|