السفر مـع تشي غيفارا صناعة ثائر
تأليف : نعمان الحموي
الولادة : 1 هجرية الوفاة : 1 هجرية
موضوع الكتاب : الرحلات
الجزء :
تحقيق : 'NA'
ترجمة : 'NA'
|
|
|
|
|
|
قصة الكتاب :
لألبرتو غراندو\r\nTravelling with Che Guevara Alberto Granado سلسلة رحلات عالميةمقـدمــة المترجـم
عندما بدأت قراءة هذا الكتاب، استعداداً لترجمته، لم أكن أتوقع أن أرى سرداً ليوميات وأحداث بهذا القدر من الجمال الذي كتبها به صاحبها. فـ \"ألبرتوجرانادو\" ليس مؤلفاً أو روائياً، لكنه، ودون أدنى شك، وصّـاف بارع. فقد نقل صورة كل مغامرة عاشها ورفيقَ دربه \"أرنستو تشي جيفارا\" بأسلوب بالغ الجمال، وبشكل يجعلك تشعر كأنك تعيشها معه، أو كأنك تراها في شريط سينمائي مصوّر. لقد رسم جرانادو بالكلمات ما يمكن له، وبكل بساطة، أن يكون لوحة فنان عاشق للطبيعة، وبكل ما تفرزه هذه الطبيعة من صور على اختلاف أنواعها، وتلوّن فصولها. وقد جاءت يومياته التي نقل بها إلينا قصة رحلته وكأنها صنيعُ روائيٍّ متمكن؛ فالمشاهد، على اختلاف ملامحها، كانت مترابطة بشكل جعلني أمضي في القراءة عدّة صفحات قبل أن أعود لأتذكر أنني لست قارئاً وحسب، وإنما شخص يتعيّن عليه نقل ما قرأه، وبالأمانة المطلوبة، إلى كل القرّاء. يتمتع جرانادو بأسلوب تعبيري ذي مستوى أدبي رفيع حتى لَيَخالُ لك أن الكتاب، وحيثما فتحت في مواضع كثيرة منه، إنما هو رواية أدبية، لا يوميات يدونها رحالة، وكان حرياً بالترجمة أن تضاهي بأسلوبها في العربية ذلك المستوى الأدبي الجميل في الكتاب حتى لا تُفقده هذه الميزة التي تعتبر من أبرز المميزات الهامة التي تنسحب على طول الكتاب من صفحته الأولى حتى آخر نقطة فيه.
فمنذ البداية يطالعك الكاتب بجمل وتراكيب لغوية تنم عن براعة وتمكن من اللغة يضاف إليه حسٌّ أدبي عال. ولعل هذا التمكن يظهر في انتقاء الأسماء التي كان يناوب إطلاقها على رفيقه آرنستو؛ فتارة يسميه \" فيوزر \"، وأخرى \" بيلاو\"، ثم يعود ويطلق عليه اسمه الأصلي، \"آرنستو\" . المهم في الأمر أن تناوب الأسماء لم يأت بشكل اعتباطي وإنما بما يتناسب مع الموقف الذي يتناوله الكاتب في سرده، فإذا ما كان موقف غضب أو استياء من شيء ما، تراه يسميه \"فيوزر\" (الغاضب)، وإذا كان الموقف حالة من الخطر يسميه بيلاو (ذو البأس)، وأما \" آرنستو \" فهو الاسم الذي يطلقه جرانادو عليه حينما لا يستدعي الأمر استخدام أي اسم آخر.
وإضافة إلى وصفه المميّز، فقد كان جرانادو ينقل لنا ردّة فعل صديقه على المغامرات التي كانا يعيشانها، مبيّنا لنا ما كان ذلك أشبه بصورة مخفيّة للرجل الذي أصبح البطل الثوري الأول في أمريكا اللاتينية، والذي قال عن نفسه لاحقاً : \" ولدت في الأرجنتين وناضلت في كوبا وغدوت ثائراً في جواتيمالا.\" ولابد لي من الإشارة هنا إلى أن جرانادو كشف لنا، في الصورة المخفية لصديقه، أن \"جيفارا\" كان رجلاً يغمره حسّ الدعابة، ويستطيع اختلاق الحيل في المواقف الحرجة أو عند الضرورة، كما أنه يحب الحفلات و الشراب و النســاء.
وبالطبع لن يخفى على القارىء أن يكتشف من خلال هذه اليوميات الوعي المبكر والشمولي لدى جيفارا وصديقه لمشكلات وطنهما والقارة، ومايجري في العالم. وميزة هذا الوعي هي تَجذّرُه ورسوخه ورصانته وبعده عن الطفولية والمراهقة السياسية؛ لأنه صادر عن رؤيا إنسانية عميقة وصادقة وجميلة إلى الحياة والبشر.
والرحلة تمثل صورة تاريخية وثائقية هامة عن حال مجتمعات قارة أمريكا الجنوبية في تلك الفترة. صورة كأنما هي شريط حيٌّ أبدعتها ريشة جرانادو، وبرعت في نقلها إلينا. وعلى هذا فإن المتصفّح أو القارىء للرحلة إذا ما فتح الكتاب على أي صفحة، ووجد وصفاً لمدينة أو بلدة أو معبر نهرٍ لجبلٍ أو وادٍ، أو دواخل غابة أو قبيلة بدائية، فإن الصورة تتشكل في ذهنه بوضوحٍ و تلقائيةٍ، وكأنه يراها رؤية العين. وهذه القدرةعلى التصوير، إضافة لتصوير الشخصيات والمواقف النفسية والدرامية، هي ملَكة لا تتوفر إلا للمبدعين من الروائيين وكتاب القصة. أضف إلى كل هذا ذلك الدفق الانساني الجميل الذي يرشح دائماً من التعابير التي تصف الناس والمواقف والمشاعر والتعليقات على المشاهد والحالات البشرية، ما يجعلك تحسّ بتعاطفٍ وتأييدٍ شديدين ودائمين للرحالة، وتجد نفسك كقارىء وقد تكونت بينك وبينهما رابطة مودةٍ و حبٍ كبيرين . وهنا يتبدّى لنا الفارق المهم بين الرحالة متواضع الثقافة والرحالة المثقف. فالأكيد أنه إذا ارتاد الاثنان مكاناً أو مدينة ما، فليس بمقدور الأول أن ينقل لنا ما ينقله الثاني. يتجلى ذلك واضحاً عندما يصف جرانادو الأعراق المختلفة مبيناً السمات السوسيولوجية العامة لها وكذلك المميزة أيضاً، وعندما يشاهد الآثار والقلاع والمباني من منازل وقصور وكنائس ومعابد، فإنه كذلك يبين لنا خصائصها الفنية وطرازها وسماتها التاريخية والهندسية، وعندما يشاهد المنحوتات والفخاريات والمعدنيات أو اللوحات الفنية، يعلّق عليها مبيناً الجوانب الجمالية فيها وإلى أية مدرسة فنية تنتمي وما الملامح المحدثة التي أضافها الفنان . كل هذا يجعل من رحلته كتاباً زاخراً بالمعارف الأنثروبولوجية والتاريخية والفنية والأدبية، دون إحساس من القارىء بأي ثقلٍ لأنها جاءت في سياقها الذي يتطلبه، وبعيدة كل البعد عن الاصطناع والاستعراض المعرفي أو الثقافي أوالشخصي، إنما بتلك التلقائية الرائعة التي تجعل منها، إلى جانب فائدتها المعرفية، متعةً تتطلبها النفس وتتحصل لها من خلال القراءة وخاصة إذا كانت مكتوبة بأسلوب رفيع كأسلوب جرانادو الساحر. يتجلّى ذلك عندما يتحدث عن مهارات شعوب الإنكا التي ورثوها من حضارتهم القديمة كمهارة شعب الباراكاس في النسيج، وبراعة التشانكا في فن الرسم الزيتي وكذلك فن الخزف الجميل لدى شعبيّ الموتشيك والتشيمو و نحت الحجر لدى التشيفان الذين آلفوا بين الشهوة الجنسية المتّقدة وجمال الشكل الطبيعي. وفي هذا السياق نجده حريصا على جمع المعلومات ذات الفائدة من تلك الأمكنة، فنراه يتزود من صاحب دكانٍ خبير متمرّسٍ من (إيكويتو) في البيرو بمعلومات عن الأشجار والنباتات؛ فيميز لنا خواص الأشجار الغريبة مثل شجرة \"الرودا\" التي يصنع منها العطر، والـ \"هوكاري\" العصية على الحشرات والمثالية لبناء المنازل، وشجر الـ \"ريموكاسبي \"ذي الخشب الصلب ومثله الـ \"لاجارتوكاسبي\" المستخدم لصنع القوارب والأعمدة و أشجار الـ \"بونابالمرز\" التي يستخدمها هنود الـ \"تشــاما\" لصنع أقواسهم النشّـابة. ومثلها النباتات التي تصلح للشؤون الطبية والتي حصل على معلومات عنها من صاحب الدكان الخبير، مثل الخبّيز واللانسيتيلا لعلاج القلق، والـ \"فيربانا\" للحمى، والـ \"نونيو بيكانيلا\" كمسهلٍ قوي، ووردة السيسا لالتهاب القصبات، والتشوتشواسا للربو (وسيأخذ منها لأجل صديقه جيفارا) وعصارة الـ\" كوتاهو\" لوقف نزيف الدم، والـ \" تشيريسانجو\" لرأب الفتوق ونحوها، ونبات الـ\"كابرفيلا\" المتسلّق الذي يستخدم لمعالجة لسع الحشرات.
وليس أكثر تأثيراً في الوجدان من ذلك البعد الإنساني العميق الذي يتبدّى لدى جرانادو، من خلال مدوّناته عن البشر والفقراء والعمال، والهنود المستبعدين والمرضى، ومواقفه منهم ومن الملاّك والمستغلين والشرطة، إلى آخر ماهنالك، كما يتجلّى إيضاً الجانب الخلقي المهذب لديه حتى في الحديث عن حالات تقتضي الأمانة أن يذكرها، فيلمح إلى ذلك تلميحاً، كقوله للحسناء التي كانت على المركب معهم في نهر الأمازون، والتي قدم لها وصديقه \"فيوزر\" الإرشادات عن الرحلة وطرقها، لأنها ترغب في أن تجرّب ذلك بنفسها.. إلى أن يعبّر عما حصلا عليه لقاء تلك الإرشادات، بهذه التلميحة الذكية والمهذبة : \" لهذا أنا و\"فيوزر\"، ودون أن يضايق أحد منا الآخر، قمنا بإرشادها، أما الرسوم فيجب دفعها سلفاً، بضاعة مقابل بضاعة.\"
وفي الخلاصة، فقد قدّم جرانادو إلينا رحلة جمعت مابين الطرافة، فيما كان يحدث معه ومع رفيقه فيها، والبعد الجغرافي والتضريسي للمناطق والأقاليم التي تجوّلا فيها، إضافة إلى التنوع السكاني الذي ماانفك الكاتب يشير إليه بين الحين والآخر. فبلدان أمريكا اللاتينية ذات المناخ المتنوع، والغنى الجغرافي والحضاري والبشري، لم تكن عسيرة على لغة الكاتب الثرّة بالمفردات والمجازات والصور، وخصوصا حينما يتناولها بالوصف الذي يتبدّى ميزةً فنية من أجمل الميزات التي حفلت بها هذه اليوميات. لقد برع جرانادو وأجاد كثيراً في وصفه للناس، ورصده للمواقف النفسية والشعورية، سواء للناس الذين كان يلتقي بهم، أو لتلك الحالات التي عاشها، والمواقف التي واجهتهما، هو ورفيقه آرنستو في رحلتهما التاريخية هذه. كما تجلت براعته في غوصه إلى أعماق النفس الإنسانية ليرسمها لنا من الداخل ببيانه الرائع ونظرته البديعةِ عمقاً وغنىً، إضافة إلى وصفه الساحر لمشاهد الطبيعة وفتنتها الخلابة. ولقد بذلت قصارى جهدي متوخّيا الدقـّة والأمانة في نقل هذه الصور والمشاهد إلى القارىء كيما يعيشها أو يتمثّلها خياله في أقرب صورة ممكنة من الحقيقة. ومتوخّياً بالقدر نفسه نقل المستوى الأدبي الرفيع الذي تجلّى في أسلوب \"جرانادو\". كما حرصت أن أحافظ على كل التقسيمات والفصول والحواشي التي وضعها \"جرانادو\" في الكتاب، وقد عمدت إلى إضافة حواشٍ جديدة لأعلام وأسماء وأماكن وتواريخ رأيت من الأهمية أن يتعريف القارىء بها، حيثما وجدت لذلك ضرورة. وذيّلتها بكلمة \"المترجم\".
في النهاية، لا بد من القول بأن القارىء سيرى انعكاساً جميلاً لصورة المغامرة الشهيرة التي عاشها جرانادو وصديقه جيفارا، الثائر الإنســـان.
نعمان صادق الحموي أبو ظبي 20 / 9 /2005
|
|
|
|
أعد هذه الصفحة الباحث زهير ظاظا
.zaza@alwarraq.com
|
مرآة التواصل الاجتماعي – تعليقات الزوار
|