| |
قصة الكتاب :
د. نواف عبد العزيز الجحمة الـمـقدمـة اهتم المغاربة في العصر الوسيط بالمشرق بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وتبدى ذلك من خلال ما دونه رحالتهم عن مشاهداتهم في الرحلات التي قاموا بها إلى هذا المشرق، على الرغم من أن هذه الرحلات اتسمت بصفة المحدودية في ذلك العصر. ويبدو أن الكثير من المشارقة لا يعرفون عن هذه المدونات المغربية التي صوّرت المشرق العربي إلا القليل، وهذه المدونات مازالت بحاجة إلى بذل جهود كثيرة من الدارسين لجذبها إلى دائرة الضوء، ولم يتحقق في هذا المجال حتى الآن سوى دراسات محدودة لبعض المغاربة المحدثين ، وثلة من أبناء المشرق الذين اهتموا بهذه الرحلات قبل وقت قصير. ونحن بحاجة ملحة اليوم إلى مثل هذه الدراسات، لأن البحث التاريخي في هذا العصر يتجه إلى معرفة صورة \"الآخر\" من خلال وحداته الحضارية. ولن يتيسر لنا معرفة صورة المشرق من خلال المدونات المغربية إلا بعد بذل جهد مضنٍ يتناول مظاهرها المختلفة، ويستجلي تناقضاتها وغموضها، لذلك كانت دراسة موضوع \"صورة المشرق العربي في مدونات رحالة الغرب الإسلامي من القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري (12 إلى 14م)\" من القضايا التي استرعت انتباهي أثناء قراءتي لرحلات المغاربة والأندلسيين الذين نقلوا صور المشرق الحضارية، على الرغم من ندرة تسجيل المغاربة لمشاهداتهم في رحلاتهم خاصة في العصر المقصود بالدرس، فهذا التدوين في نظرهم غير نافع، حتى اعتبر علم الجغرافية وما له علاقة بوصف البلدان والتعريف بالقبائل وعادات الناس علماً لا نفع فيه، وذلك ما عبر عنه بصراحة محمد بن عبدالمنعم الحميري في مقدمة كتابه \"الروض المعطار\" : \"ومع هذا فقد لمت نفسي عن التشاغل بهذا الوضع الشاذ عن الاشتغال بما لا يغني عن أمر الآخرة، والمهم من العلم المزلف عند الله تعالى وقلت هذا من شأن البطاليين وشغل من لا يهمه وقته… بل أقول أعوذ بالله من علم لا ينفع\" . لكن هذا لم يثن المغاربة عن العناية بأدب الرحلات وعلم الجغرافية ، فقد كان الحج إلى بيت الله سبباً في تأصل فن الرحلات عند الأندلسيين والمغاربة ، ولذلك اهتموا بتدوين الرحلات ، وفرعوها إلى رحلات جغرافية وأدبية ـ اجتماعية. فمن النوع الأول ما كتبه الوراق والبكري وأبو حامد الغرناطي والإدريسي. ومن النوع الثاني ما كتبه ابن جبير وابن رشيد والعبدري وابن بطوطة والبلوي وغيرهم . ومن الملاحظ أن المغاربة والأندلسيين كانوا مولعين بالسياحة والتجوال في مشارق الأرض ومغاربها وكانوا يشعرون بدافع شديد ينـزع بهم إلى كتابة ذكرياتهم وتسجيل ما كان يختلج في أنفسهم عند توجههم شطر المشرق بقصد طلب العلم وأداء فريضة الحج أو بدوافع أخرى. ولاشك أن الرحلات الأهم التي قام بها المغاربة هي التي كانت متجهة صوب الحجاز، ومرد ذلك الحنين إلى مهبط الوحي، والرغبة في الارتواء من معين المفاهيم الإسلامية، والأخذ عن علماء الإسلام المشهورين . وقد تميزت هذه الرحلات بأسلوب خاص، إذ غالبا ما تستهل بالاستخارة، وتبدأ الرحلة يوم الخميس، ويهتم الرحالة بتسجيل تاريخ الدخول إلى كل مدينة والخروج منها. مع تقديم معلومات واضحة عن المدن والقرى التي زاروها وعن العلماء الذين اتصلوا بهم، كما وصفوا مساجد المدن ومنابر علمائها والحياة الاجتماعية والتجارة، وعندما يصلون إلى الحجاز يتحدثون عن مناسك الحج ، وبعد أدائهم للفريضة يتوجهون إلى أهم عواصم الإسلام. ولا شك أن هذه الرحلات استطاعت أن ترسم صورة حية للمجتمع الإسلامي وأحواله السياسية والاقتصادية وكذلك الدينية والفكرية والعلمية. وهذه الصورة تعطينا فكرة واضحة عن تطور العالم الإسلامي وتقدمه أو تأخره وانحطاطه في تلك الحقبة وأسباب ذلك . إن مدونات الرحلات المغربية والأندلسية تتجاوز محتواها كمجرد مذكرات، إلى اعتبارها مصدراً من مصادر التاريخ للمشرق العربي بكل مظاهر ثقافاته وأنشطته الحضارية، بحيث إن الرحلات المغربية تعتبر ـ من هذه الناحية ـ تأريخاً لما أهمله التاريخ. ولما كانت هذه الرحلات من إنتاج مغاربة، وأحداثها جرت في مسرح بيئات أخرى مشرقية كالحجاز ومصر والشام والعراق وما بينها، فإن اهتمام مؤلفيها قد انصب على معالم ومظاهر ونظم وأشخاص من صميم البلدان التي حلوا بها، وسواء كان الأمر يتعلق بهذا أو ذاك فإن هذه المعلومات الثمينة تفيد في توثيق الصلات بين مختلف أطراف العالم العربي الإسلامي، وتوسع آفاق معرفة أبنائه ببعضهم من خلال تبادل الرأي والمحاورة والمناظرة، فيقع التعامل والتفاعل، ويحصل التفاهم والتشاور مما يوحد صفوف هذا العالم. ومن هنا تبدو دراسة هذا الموضوع أساسية للاطلاع على معالم التاريخ الإسلامي الوسيط ، وخصوصاً إذا تذكرنا قلة المختصين والباحثين فيه ، فالأعمال التي تناولت مجالات الحياة بالمشرق العربي من خلال الرحلات المغربية والأندلسية هي أعمال محدودة جداً إذ لم نعثر منها إلا على دراسة واحدة لصلاح الدين المنجد، وعنوانها \"المشرق في نظر المغاربة والأندلسيين في القرون الوسطى\"، وهي دراسة وصفية تناولت بالبحث مدن (دمشق، القاهرة، بغداد)، وكيف نظر إليها من زارها من الجغرافيين والرحالة المغاربة والأندلسين. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة لم تتناول الرحلات في هذه الفترة بالتعريف أو التحليل أو استخلاص النتائج، ولم يتم توظيف الكثير من نصوص الرحلات التي ارتكزت عليها هذه الدراسة، كما أن بعضها الآخر اتصف بالتعميم بحيث لم يكلف الباحث نفسه مشقة تحليل ما جاء فيها من معلومات بشكل معمق، وذلك بالبحث عن الأسباب الحقيقية المفسرة لذلك. ثم إن تصوير الواقع المشرقي بالاعتماد على مصدر ذي نظرة أحادية ومغربي الأصل، يبقى غير كاف لإعطاء صورة حقيقية وواضحة لذلك الواقع، ومن ثم وجب الاستناد إلى مصادر ذات أصول ومشارب متنوعة. أما الدراسات الحديثة التي تناولت موضوع دراستنا بشكل جزئي فمنها على سبيل المثال لا الحصر: 1- عبدالحميد، سعد زغلول، \"ملاحظات عن مصر كما رآها ووصفها الجغرافيون والرحالة المغاربة في القرنين السادس والسابع للهجرة\"، مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية ، م8 ، 1954م . 2- الأنصاري، عبدالقدوس، \"الجزيرة العربية في رحلتي ابن جبير والعبدري ، دراسات في تاريخ الجزيرة العربية\"، الرياض ، 1979م . 3- العبادي، أحمد مختار، \"دور المغاربة في الحروب الصليبية في المشرق العربي ، بحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية\" ، الإسكندرية ، 1983م . 4- زنيبر، محمد ، \"الشرق العربي كما يتراءى من رحلة ابن بطوطة\"، تطوان، جامعة عبد الملك السعدي ، 1993م . 5- الحمدي، العربي، \"أوضاع بلاد مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية من خلال رحلة ابن بطوطة\" ، تطوان ، جامعة عبدالملك السعدي، 1993م. 6- نواب، عواطف محمد، \"الرحلات المغربية والأندلسية مصدر من مصادر تاريخ الحجاز في القرنين السابع والثامن الهجريين\"، مكتبة الملك فهد للنشر، الرياض 1996م . 7- التازي، عبدالهادي، القدس والخليل في الرحلات المغربية : \"رحلة ابن عثمان نموذجاً\" ، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم ـ إيسيسكو،1997م . 8- الضعيفي، عبد العزيز، \"مجتمع القاهرة من خلال رحلة العبدري\" ، بني ملال، جامعة القاضي عياض، ندوة العلاقات بين المشرق والمغرب ، 1997م . 9- بهيني عبدالمجيد، \"أوضاع المسلمين تحت الإدارة الصليبية من خلال رحلة ابن جبير\"، الرباط ، مجلة التاريخ العربي ، العدد 11 ، 1999م . من خلال ما ذكرناه من نماذج عن الدراسات السابقة يتضح لنا أن صورة المشرق العربي (مصر، الشام، الحجاز، العراق) لم يفرد لها دراسة مستقلة ومعمقة وشاملة تتناول كل نواحي الحياة الحضارية في الفترة منذ القرن السادس الهجري إلى القرن الثامن الهجري(12-14م)، مع ملاحظة ملامح الاستمرارية والتغير في هذه الصورة . أما المنهج المتبع في هذه الدراسة : فهو المنهج التحليلي النقدي مع الارتكاز إلى إبراز المنهج الوصفي، واللجوء إلى المقارنة بين نصوص الرحلات المختلفة، للوقوف على رؤى كتابها وخلفياتهم الثقافية والفكرية ونظرتهم إلى المشرق ، هذا إلى جانب إلقاء الضوء على منهجية هؤلاء الرحالة من خلال كتاباتهم وأسلوب معالجتهم للقضايا التي طرحوها. أما أهم الصعوبات التي واجهتني فتتمثل في ندرة المعلومات والمتعلقة بالتأثيرات الاقتصادية، وكذلك التأثيرات السياسية والإدارية ، حيث إن مصادرنا جد شحيحة في هذه المجالات. وإذا كانت المعلومات المتعلقة بالتأثيرات الدينية والفكرية والعلمية متوفرة مما دفع عدداً من الباحثين إلى التركيز عليها، فإن الأمر يختلف بالنسبة للتأثيرات الاقتصادية والسياسية. وأمام ندرة هذه المعلومات لجأت إلى استغلال كل الإشارات الواردة بهذا الخصوص في مختلف المصادر التاريخية والأدبية قدر الإمكان، وعلى الخصوص كتب التراجم والطبقات وبعض كتب الرحلة. كما قمت بمقارنة ما جاء في كتب الرحلات ببعض المصادر المشرقية الأخرى سواء كانت في الحقب السابقة أو في الفترات اللاحقة القريبة من الإطار الزمني والمكاني الذي رسمته، وذلك رغبة في التوصل إلى بعض الحقائق عن طريق القياس والاستنتاج . وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وفصل تمهيدي وخمسة فصول وخاتمة. أما الفصول فقسمتها على الشكل التالي: الفصل التمهيدي: خصص لبيان صورة المشرق في الرحلات المغربية. واشتمل على محورين: الأول نشأة الرحلة وأهدافها ، وتندرج تحته محاور فرعية تحدثت فيها عن فن الرحلة في الغرب الإسلامي ، وأنواع الرحلات المدونة، والرحلة ودوافعها المختلفة، ثم رصدت صورة الآخر في رحلة ابن بطوطة التي تتضمن ما هو روحي، وما هو واقعي, وخرافي. والثاني سلطت الضوء فيه على الرحالة التسعة الذين اعتمدت الدراسة عليهم وهم: \"أبو حامد الغرناطي، بنيامين التطيلي ابن جبير، ابن سعيد، ابن رشيد، العبدري، ابن بطوطة، البلوي وأخيراً ابن خلدون\". وقد تناولت فيه مقتطفات من سيرتهم ومكانتهم العلمية ومؤلفاتهم ثم مميزات رحلاتهم. الفصل الأول: أفرد للبحث عن أهم الأحداث السياسية والعلاقات الدولية في دول المشرق العربي (مصر، الشام، الحجاز، العراق)، حسب ما في مدونات الرحلات المغربية مع مقارنة ذلك كله بما ورد في بعض المصادر التاريخية سواء منها المعاصر أو اللاحق. الفصل الثاني: تناولت فيه الناحية الاقتصادية وتشمل: الموارد المالية، والصناعات الرائجة، والمحاصيل الزراعية، والتجارة الداخلية والخارجية، والكوارث الطبيعية. كما عقدت مقارنات بين ما ورد في الرحلات عن هذا الجانب وبين ما ورد في بعض المصادر التاريخية، وإن كان هذا الفصل أقل حجماً من غيره بسبب إغفال الرحالة لهذا الجانب على وجه الخصوص . الفصل الثالث: خصصته لدراسة الحياة الاجتماعية وإلقاء الضوء على المجتمع المشرقي بكل فئاته، في العادات والتقاليد والأخلاق، والمؤسسات الاجتماعية في الحواضر والمدن المشهورة، وصورة المرأة المشرقية، والألبسة، والأطعمة, والأشربة في ذلك العصر. الفصل الرابع : تناولت فيه الحياة الدينية ، مستعرضاً المذاهب والفرق الدينية السائدة في تلك الفترة المتمثلة في: المذاهب السنية ، فرق الشيعة، الخوارج، كما تحدثت فيه عن التصوف. وعن حج بيت الله الحرام، وسبل وأساليب حركة الحج، والصعوبات التي تواجه الحجاج ، وتنظيم ركب المحمل ، ومناسك الحج . وفي الأخير قمت بدراسة لأشهر المشاهد والمزارات والأضرحة في المدن المقدسة والحواضر العلمية (مكة، المدينة، القدس، الخليل ، دمشق ، بغداد ، القاهرة) . الفصل الخامس والأخير خصصته للنظر في الحياة الفكرية والعلمية وتتضمن حلقات التدريس والقراءة في الجوامع والمساجد المعروفة، والمدارس الدينية، والتقاليد العلمية السائدة في تلك الفترة ، والعلم والعلماء (المؤلفات والإجازات وأبرز العلماء)، إضافة إلى مجالس الوعظ والتذكير (العراق نموذجاً)، ثم أتبعته بإلقاء الضوء على مصاحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه من خلال كتب الرحالة المغاربة والأندلسيين . وإذا كان هناك تفاوت في أحجام فصول هذا البحث، فإن ذلك عائد إلى طبيعة موضوعات كل فصل ،كما وردت في كتب الرحلات المغربية ، وربط ذلك بما ذكر في مصادر أخرى. أما الخاتمة فتتضمن ملخصاً لأهم النتائج التي توصل إليها البحث . وقد ألحقت بالبحث ملاحق ورسومات وذلك لتقريب المعلومات الوارد ذكرها إلى ذهن القارئ. أعقبها ثبت بالمصادر والمراجع التي اعتمدت عليها . ومما هو جدير بالذكر التنويه والاعتراف والإقرار بفضل الأستاذين المشرفين الفاضلين اللذين كان لهما فضل السبق في مساعدتي علمياً ومعنوياً طيلة فترة كتابة الأطروحة: الأستاذ الدكتور محمد حمام، والدكتور محمد المغراوي، فعلى كتاباتهم ومشافهاتهم تتلمذت واستمددت العزم والرغبة في كتابة هذا الموضوع . وأخيراً، أرجو أن أكون وفقت في دراستي هذه من أجل الإسهام في توضيح صورة المشرق العربي في حقبة تاريخية مهمة من خلال مدونات الرحلات المغربية والأندلسية الوسيطة . وقد بذلت ما في وسعي مكرسًا ما يتناسب مع قيمة هذا العمل وأهميته من جهد ووقت، ولا أدعي أنني وصلت إلى الكمال في هذا البحث ، ولكنني بذلت كل ما في وسعي ليكون هذا العمل إضافة جديدة في ميدان البحث العلمي ، والله حسبي. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين فهو نعم المولى ونعم المعين. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المؤلف في 24 شوال 1423هـ الموافق 28 ديسمبر/أيلول 2002
|
|