يقدم النص الفلسفي الوحيد الذي وصل إلينا لابن طفيل، نص "حي بقن يقظان" إمكانية كبرى لتأمل إشكاليتين على الأقل: إشكالية مجتمعية مرتبطة بالظروف الإجتماعية - الثقافية التي عا ش فيها ابن طفيل والتي شهدت ميلاد خطابه الفلسفي والتي كانت حبلى بجملة من العوائق المناهضة لهذا الضرب من الخطاب النظري والتي لم يكن من السهل تجاهلها أو تخطيها. وإشكالية نظرية مرتبطة بطبيعة هذا الخطاب الفلسفي الذي يفصح عن تجربة ابن طفيل المتميزة والغنية في بعدها الفلسفي والإشراقي.
و إنه ليغلب على الظن أن تأمل هاتين الاشكاليتين -في ضوء قراءة التجربة الفلسفية لابن طفيل- قد يتيح للمرء فرصة ثمينة لتناول رسالةابن طفيل العجيبة تناولا يمكن أن يلقي مزيدا من الضوء على هذا الأثر الفلسفي والأدبي الخالد.
إننا عندما نتحدث عن التجربة الفلسفية لابن طفيل، فإننا على وعي بأن لهذه التجربة أساسا اجتماعيا-ثقافيا، يجد ركائزه في التجربة السياسية لابن طفيل في المجتمع الموحدي الجديد الذي أسس تقليدا في المعرفة جديد، وانفتح على أبعاد في الثقافة الإسلامية همشت لزمن طويل، فهيأت المناخ لابن طفيل ومن على شاكلته من الذين غلبت عليهم الدراية أكثر من الرواية، وغلب عليهم الإحتفاء بالمعقول أكثر، ليمارسوا فعل التفلسف، وينظروا له. كما أن لهذه التجربة أساسا فلسفيا-علميا يجد ركائزه في البيئة الثقافية العلمية التي عرفها الغرب الإسلامي في العهد الموحدي. فقد اطلع ابن طفيل على ثقافة عصره العلمية-الفلسفية، وتأثر بها تأثرا بالغا، وإن كان ابن طفيل قد صرح بتأثير ابن سينا والغزالي عليه أكثر، فإننا نلاحظ انطلاقا من نص ابن طفيل حي بن يقظان، أن هذا التأثير -رغم وجاهته- يخفي تأثيرا آخر أعمق هو تأثير ابن باجة، الذي نرى عنده الأساس الفلسفي الذي سيبني عليه ابن طفيل نسقه الفلسفي، لقد ذكر ابن طفيل ابن باجة ست مرات في مقدمة الرسالة، كما أشاد به إشادة بالغة، وليس ذلك إلا لدلالة كبرى . كما يخفي ذلك التأثير، التأثير العلمي الذي مورس عليه من الطب، والذي يبدو أنه لايمكن فهم النص دونه، والذي يضفي على النص طابعا امبريقيا واضحا، فالتجربة في دلالتها التي يعطيها بادئ الرأي لهذه الكلمة، وهو معنى الإنجاز الملموس لأمر ما،ومحاولة التأكد منه، أو كما يعرفها ابن باجة بأنها " تعمد الإنسان الإحساس بجزئيات أمر ما يحصل له عن ذلك علم ما ". هو معنى يخترق جزءا كبيرا من النص، ويمكن دون تمحل قراءة جزء هام من نص ابن طفيل على أنه تجربة بهذا المعنى. و لا يجب أن يخفى علينا هاهنا أن لابن طفيل أرجوزة كبرى في الطب تتجاوز عدد أبياتها السبعة آلاف، نسختها الوحيدة مخفوظة في خزانة القرويين بفاس.
لقد تمرست تجربة ابن طفيل العلمية بالطب، كما تمرست بالرصد، وأنتجت في علم الفلك إنتاجات لازلنا إلى اليوم نجهل عنها الكثير، لكن معطيات فلكية في الرسالة تسمح بتقدير هذا الجانب، وتؤسس لهذه التجربة الفلسفية عند ابن طفيل. هذه التجربة الفلسفية في بحثها عن الحقيقة، والتي هي في جزء كبير منها، تجربة توطئ لتجربة التوحد بالمعنى الأنطولوجي لهذه الكلمة.
إن التجربة العلمية الأولى تبحث عن الأمور الذاتية في الظواهر الملاحظة، أما التجربة الفلسفية الثانية فتسعى-بتوطئاتها- لاكتشاف "السر" الكامن وراء الأشياء، وهما تجربتان تتقاطعان أحيانا في النص. لكننا -مع وعينا بهذا الأمر- فإننا نعتقد أن التجربة التي يمكنها أن تساعدنا أكثر على إضاءة النص وفهمه هي تجربة الكتابة لديه. وأهمية هذه التجربة تكمن في أنها شكلت هاجسا من الهواجس التي أرقت ابن طفيل، كما يلاحظ في نقده لأسلوب الكتابة عند ابن باجة من جهة، وفي إلحاحه على ابن رشد لرفع قلق العبارة الفلسفية الأرسطية، وفي حرصه من جهة ثالثة على تقريب الكتابة الفلسفية من المخاطب بها. كما تمثل هذه الكتابة أيضا الجسر الذي ينقل التجارب الأخرى الثقافية -الإجتماعية، والفلسفية والعلمية، لتصبح ثابتة قابلة للتداول، وقابلة للتأمل عبر الأجيال، فضلا عن التأثير الكبير اللذي يتبادلانه؛ التأثير الذي تمارسه تجربة القلم، على تجربة الفكر والوجدان، والتأثير الذي تمارسه تجربة العقل والذوق، على تجربة القلم. وهكذا فإننا عندما نتأمل تجربة الكتابة عند ابن طفيل في نصه الفلسفي فإننا نجدها تبدو تجربة مضطربة بين الحرص على البيان والوضوح، وبين النزوع إلى الغموض والإلتباس. وهو اضطراب فرضته خاصة، طبيعة التجربة الفلسفية نفسها، وطبيعة أشكال الخطاب المختلفة الحاضرة في النص، ومن هنا فإننا لايمكن أن نفصل فعل الكتابة لدى ابن طفيل عن أساسها الفلسفي والعلمي، فضلا عن أساسها السوسيو-ثقافي والذي يعتبر المحضن الطبيعي لهذه التجربة جميعها.
وسنخصص لهذه التجربة بابين: أحدهما نقف فيه عند التجربة السياسية عند ابن طفيل، لنلمس عن كثب الظروف التي اضطرته إلى أسلوب في الكتابة مبتكر، والمناسبة بينها وبين هذا الإنتاج الفلسفي الذي قد يبدو في بادئ الرأي منفصلا عن فضائه السوسيو-ثقافي. فنقسم هذا الباب إلى فصلين؛ فصل نخصصه للسيرة الفلسفية لابن طفيل، والفصل الثاني نقفه على سيرته السياسية. أما الباب الثاني فنقارب فيه التجربة الفلسفية لابن طفيل، من خلال فصلين كذلك، فصل نخصصه للأساس الفلسفي-العلمي لهذه التجربة الفلسفية. أما الفصل الأخير-الذي يمكن أن يعتبر غاية عذه الدراسة- فنقفه على بيان معالم الكتابة الفلسفية عند ابن طفيل. ثم قبل ذلك كله نخصص مدخلا للمقاربة النقدية للقراءات التي تناولت رسالة ابن طفيل بالدرس لنبين حدود بعضها في القراءة، وأهمية بعضها الآخر، لعلنا نجد لمقاربتنا مكانتها ضمن هذه المقاربات.
إبراهيم عبد الله