ابن خلدون يحكي سبب تاليفه للكتاب
وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها. وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض وطويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل. والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل. هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا. والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير، المتميزين عن الجماهير، وإن كان فى كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات، ومشهور بين الحفظة الثقات، إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون. أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار. ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك، لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك، وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك. ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم، والأمر العمم، كالمسعودي ومن نحا منحاه. وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد، ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد، فقيد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على أحاديث دولته ومصره. كما فعل أبوحيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، وابن الرقيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان. ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال. فيجلبون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأول، صوراً قد تجردت عن موادها، وصفاحاً انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها، إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها، يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها، اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها. ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً، محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً لا يتعرضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد أحوال مبادىء الدول ومراتبها، مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثاً عن المقنع في تباينها أوتناسبها، حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب. ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار، وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار، مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل. وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد. ولما طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم، وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس، أحسن السوم. فأنشأت في التاريخ كتاباً، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجاباً، وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار، وملؤوا أكناف النواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سلف من الملوك والأنصار، وهم العرب والبربر، إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما، وطال فيه على الأحقاب مثواهما، حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما، ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما. فهذبت مناحيه تهذيباً، وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً، واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً. وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل اهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال ما بعدك. ورتبتة على مقدمة وثلاثة كتب: المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين. الكتاب الأول: في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب. الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد، وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة. الكتاب الثالث: في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول. ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره، وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره، والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره، فأفدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار، ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار، وأتبعت بها ما كتبته فى تلك الأسطار، وأدرجتها في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النواحي، وملوك الأمصار والضواحي، سالكاً سبيل الاختصار والتلخيص، مفتدياً بالمرام السهل من العويص، داخلاً من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص. فاستوعب أخبار الخليقة استيعاباً، وذلك من الحكم النافرة صعاباً، وأعطى لحوادث الدول عللاً وأسباباً، ؤأصبح للحكمة صواناً وللتاريخ جراباً. ولما كان مشتملاً على أخبار العرب والبربر، من أهل المدن والوبر، والإلماع بمن عاصرهم من الدول الكبر، وأفصح بالذكرى والعبر، في مبتدإ الأحوال وما بعدها من الخبر، سميته: كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. ولم أترك شيئاً في أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التصرف والحول، في القرون الخالية والملل، وما يعرض في العمران من دولة وملة، ومدينة وحلة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله. فجاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة، والحكم المحجوبة القريبة. وأنا من بعدها موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء، في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء. فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وهو حسبي ونعم الوكيل. وبعد أن استوفيت علاجه، وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه، وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه، وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه، وأدرت سياجه، أتحفت بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلي منذ خلع التمائم ولوث العمائم، بحلى القانت الزاهد، المتوشح من زكاء المناقب والمحامد، وكرم الشمائل والشواهد، بأجمل من القلائد، في نحور الولائد، المتناول بالعزم القوي الساعد والجد المؤاتي المساعد، والمجد الطارف والتالد، ذوائب ملكهم الراسي القواعد، الكريم المعالي والمصاعد، جامع أشتات العلوم والفوائد، وناظم شمل المعارف الشوارد، ومظهر الآيات الربانية، في فضل المدارك الإنسانية، بفكره الثاقب الناقد، ورأيه الصحيح المعاقد، النير المذاهب والعقائد، نور الله الواضح المراشد، ونعمته العذبة الموارد، ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد، ورحمته الكريمة المقالد، التي وسعت صلاح الزمان الفاسد، واستقامة المائد من الأحوال والعوائد، وذهبت بالخطوب الأوابد، وخلعت على الزمان رونق الشباب العائد، وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند، أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان الكبير المجاهد المقدس أمير المؤمنين، أبي الحسن ابن السادة الأعلام من بني مرين. الذين جددوا الدين، ونهجوا السبيل للمهتدين، ومحوا آثار البغاة المفسدين. أفاء الله على الأمة ظلاله، وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله. وبعثته إلى خزانتهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس حاضرة ملكهم، وكرسي سلطانهم، حيث مقر الهدى، ورياض المعارف خضلة الندى، وفضاء الأسرار الربانية فسيح المدى، والإمامة الكريمة الفارسية العزيزة إن شاء الله بنظرها الشريف، وفضلها الغني عن التعريف، تبسط له من العناية مهاداً، وتفسح له في جانب القبول آماداً، فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهاداً. ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب، وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب، ومن مدد بصائرها منيرة نتائج القرائح والألباب. والله يوزعنا شكر نعمتها، ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها، ويعيننا على حقوق خدمتها، ويجعلنا من السابقين في ميدانها، المجلين في حومتها، ويضفي على أهل إيالتها، وما أوى من الإسلام إلى حرم عمالتها، لبوس حمايتها وحرمتها وهو سبحانه المسؤول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها، بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
|