من مقدمة : فضل علم السلف على الخلف / بتحقيقي
لقد ألف ابن رجب هذه الرسالة ، وذكر فيها ما يقضي بتفضيل علماء سلف هذه الأمة على علماء خلفها ، وأنهم الأحقاء بوسم العلماء ، وذكر علماء عصره ، ونوّه بما كانوا عليه من الورع والتواضع والتقوى والأمانة في نقل العلم عن سلفهم الصالح ، وتيقظهم لترك التوهمات والشكوك الفلسفية التي لاتنتج ، ولا تفيد الطالب إلا ضياع الوقت في جواب وسؤال ، وقيل وقال .. . ( من مقدمة : فضل علم السلف على الخلف / بتحقيقي ، ص 9 ) . والحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى يعنى بعلم السلف وبأقوال السلف, ويُنَكِّب جانبًا عن أقوال المتأخرين واصطلاحاتهم, فمن يطالع هذا الكتاب وطالع أيضًا شرح الأربعين له عرف قدر هذا الرجل, والكتاب رسالة نفيسة لا يستغني عنها طالب العلم, رسالة في غاية الجودة. ويبدأ الكتاب بتحديد العلم النافع وغير النافع الذي تلحق به صفة : (علم لا ينفع وجهالة لا تضر). والمقياس هو القرب من الدين وخدمته, فما بعد عن ذلك ابتعد بقدر بعده, إلى أن يتدنّى إلى رتبة العلم الضار, وهو الذي يرتبط بمحدثات الأمور ومحدثات الأفكار, وينطلق منها, فالعلم الأعلى هو ما كان عليه السلف الصالح, والعلم الأدنى المذموم ما يشمل (علوم أهل البدع) التي أُحْدِثت بعد الصحابة, وتوسَّع فيها أهلها, وسمّوها علومًا, وظنوا أن من لم يكن عالمًا بها فهو جاهل أو ضال, فكلها بدعة : (وهي من محدثات الأمور المنهي عنها). وما انتهى إليه المتكلمون والفلاسفة وغيرهم من العقلانيين والتجريبيين داخل في مذمة : (المنهي عنه) ؛ أي ما لم يعرفه السلف الصالح الذين : (لا يوجد من كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين, فضلاً عن كلام الفلاسفة). ولكي يثبت ابن رجب مقالته, على طريقته, يؤكد أن في كلام السلف والأئمة مدارك الأحكام بكلام وجيز, مختصر, يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب, كما أن في كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة, بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم. وربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه, فما سكت من سكت عن كثرة الخصام والجدل من سلف الأمة جهلاً ولا عجزًا, ولكن سكتوا عن علم وخشية الله. وما تكلم من تكلم, وتوسع من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم, ولكن حبا للكلام وقلة ورع, فالسابقون عن علم وقفوا, وببصر نافذ قد كفوا, وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا. ولا يفوت ابن رجب أن يغمز طوائف العقلانيين الذين يخالفونه الرأي فيقول : (وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من أنه أعلم ممن تقدم, فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة جداله ومقاله. ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين). ويرى ابن رجب أن هذا الكلام انتقاص عظيم من قدر السلف الصالح, وإساءة ظن بهم, ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم, فالمؤكد - عنده - أن من جاء بعد الصحابة والتابعين : (أقل علمًا وأكثر تكلفًا) !!! وما كان مخالفًا كلامهم فأكثره باطل ؛ أو لا منفعة فيه, فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة. ويصل ابن رجب إلى النتيجة الأخيرة التي يريد الوصول إليها, وهي أن على معاصريه كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي عبيد, كما أن عليهم أن يحذروا مما حدث بعد هؤلاء الأئمة, فإنه حدثت بعدهم حوادث كثيرة, أشد مخالفة لشذوذها عن كلام الأئمة : (أما الدخول... في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض, وقلّ من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم). يتبع ـ بمشيئة الله ـ
|