سلسلة العسجد في صفة الصخرة والمسجد (المؤلف : تاج الدين أبو الفضائل) كتاب ضائع وصلتنا قطعة منه عن طريق مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري تبدأ من الجزء الأول ص188 حتى ص 219 من نشرة صديقنا الأستاذ عبد الله السريحي، ألفه ناظر الدولة الصاحب تاج الدين أبو الفضائل أحمد ابن الصاحب أمين الدين عبد الله.
وكان أبوه الصاحب أمين الدين أول من دخل الإسلام من هذه الأسرة. ولي رئاسة النظار في دمشق وكتب له الصفدي مرسوم تقلده هذا المنصب، وهو ابن اخت السديد الأعز.
وكانت رحلة المرحوم أحمد زكي إلى فلسطين في يونيو من سنة 1923 لتحقيق ما ورد في هذا الكتاب من وصف مفصل لقبة الصخرة كما أفاد في نشرته لهذا الجزء من مسالك الأبصار. وتضمنت هذه القطعة وصفا مفصلا لقبة الصخرة وأعمدتها وحرمها وأبوابها وما على سورها من مساجد والمدرسة المعظمية في الحرم من بناء الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل ابن أيوب قال: (ورتب بها خمسة وعشرين نفرا من طلبة النحو وشيخا لهم وشرط أن يكونوا حنفية من جملة طلبة مدرسته ووقف على ذلك قرية تسمى بيت لقيا، وعلى سقفها مكتوب إنه اهتم بعمارة ذلك سنة ثمان وستمائة...) وفيه قوله: (ولقد مضى علي في مجاورة هذا الحرم الشريف الفصول الأربع، فرأيت له في كل فصل محاسن في غيره لم تجمع، وهو انه مبدأ فصل الربيع تبدو فيه من الأزاهر المختلفة الألوان ما يستوقف بحسنه بل الذكي الأروع، وكل أحد ممن له معرفة بالأعشاب يأتي إليه وياخذ من تلك الأزاهر ما علم منفعته ومضرته) قال: (واما ما شاهدته بالعيان اني جلست وقتا في بقعة منه تكللت بأزاهر من الشقائق والبهار والأقحوان، وإلى جانبي فقير عليه أطمار رثة يبدي تبسما وتارة يعلن صوته بالتسبيح والتكبير ترنما ويقول: سبحان من جمع فيك المحاسن وكساك هذه الحلل الفاخرة، وجعلك تحتوي على كنوز الدنيا والآخرة. فقلت له: يا سيدي أما فضله وبركته، فقد صدَّق العيان فيها الخبر، وقام بها الدليل والبرهان وتواتر بها الأثر، لكن ما كنوز الدنيا؟ فقال: ما من زهرة تراها إلا ولها في النفع والضرّ خواصّ، يعرفها أهل الاختصاص. فقلتُ: لعلّ تُظهر للعيان شيئا مما عرفت يزداد به اليقين تبصرة، وتكون هذه الجلسة معك على صبح النجاح مسفرة. فأخذ بيدي ومشى خطوات إلى جهة من جهات الحرم. ومدّ يده فأخذ قبضة من ذلك الكلأ وقال: هل معك خاتم أو درهم؟ فقلت نعم. فأخرجت درهما مما معي. فعركه بذلك الكلأ فعاد كالدينار في صفرته. ثم أخذ حشيشة أخرى، وعركه بها. فعاد أبيض، أنقى مما كان أوّلا. وقال: هذه رموزا احتوت على تلك الكنوز. ولم يترك نبيّ الله سليمان شيئا من المواهب التي منحه الله إياها، والمنافع التي وصلت إليه من الإنس والجنّ على اختلاف صورها ومعناها، إلا وأودعه في هذا الحرم. فأين من يفهم تلك المعاني، أو من كان لها يُعاني؟ ثم أخذ منهجا غير ما كنت أسلكه. فسألته التثبت والتلبث. فقال: الدنيء من صرف نظره إلى العَرَض الأدنى، والسريُّ من صرف زمانه بالتهجد في هذا المعنى. أوصيك أن تغتنم الفرصة في ركعات تقدّمها بين يديك، فما سواها فان، ولا تلتفت إلا إلى ما يقرِّبك من الرحمن. فقلت: يا سيدي، ومثلك من يفتح لي أبواب الصواب. فقال: ما بعد السنَّة والكتاب من باب. ثم فارقني مهرولا، معلنا بصوته ومرتلا. يقول: سبحانك يا دائم، سبحانك يا قُدُّوس، سبحانك يا رحمن، سبحانك يا مُحيي النفوس، فجعلتُ هذا الذكر لي ديدنا، وكلما اشتاقت له مني عين أطربت بذكره أُذنا). وأنبه هنا إلى أن ابن فضل الله العمري يستطرد أحيانا فيضيف إلى ما ينقله عن الصاحب تاج الدين ومثال ذلك قوله أثناء وصف الرواق المطل على باب شرف الأنبياء في السور الشمالي: (بأوله شباكان أحدهما مفتوح يتوصل منه إلى زاوية الصاحب أمين الدين المعروف بأمين الملك) وهذا بلا شك كلام ابن فضل الله العمري، لأن الصاحب هذا هو والد مؤلف الكتاب
وقد وصف الصفدي الكتاب وذكر أن مؤلفه أجازه بروايته قال:
فلما كان في سنة تسع وثلاثين (739هـ) وتولى نظر الدولة، وولي أخوه كريم الدين استيفاء الصحبة، فلم يزل فيه إلى أن أمسك هو ووالده الصاحب أمين الدين والقاضي شرف الدين النشّو، وعوقبوا. ومات والده تحت العقوبة والنشو، وصودر تاج الدين وأقام إلى أن أفرج عنه، فحضر إلى القدس وأقام فيه مجاوراً مدة، وعمل مجلداً في مساحته، أعني المسجد الأقصى والحرم وما فيه من المعابد والقباب والأبواب، وتعب عليه، وأجازني روايته عنه في سنة خمس وأربعين وسبع مائة.
وطلب من القدس وتولى نظر البيوت بالقاهرة، فاتفق له مع أرغون شاه لما كان يعمل الأستاذ داريّة ما أوجب أنه طلب الإعفاء، وأظنه بعد ذلك دخل إلى ديوان الإنشاء.
ثم إنه تولى نظر النظار بالشام، فحضر في أيام الأمير سيف الدين طقزتمر، وثّمر وعّمر وأرضى الناس، ووصلت إليهم حقوقهم، وكان لا يحابي أحداً ولا يحاسنه، لكنه طلب الإقالة، فأُعفي من نظر الشام، وتوجه إلى مصر وأقام مدة، ودخل ديوان الإنشاء، وأقام به إلى أن أمسك الوزير علم الدين بن زنبور، فتولى نظر الجيش بالديار المصرية فحقّق ودقّق وما أرعى أحداً. ولما عُزل القاضي بدر الدين من نظر الخاص وقال: معلوم نظر الجيش يكفيني، وباشر ذلك وهو على قِدم العدالة فيه والأمانة وعدم الخيانة إلى أن تولى السلطان الناصر حسن ثانياً، فغيّروا خواطره عليه فأمسكه، وصودر وعوقب، وتنوّعوا في عقابه، ومن ذلك أنهم حلقوا رأسه وجرحوه بالموسى، ثم جعلوا في قُبعِه نبات وردان وألبسوه فوجد لذلك ألماً مُبرّحاً، نسأل الله العفو والعافية. وكان ذلك من حقد الأمراء والخاصكيّة عليه، لأنه ما راعاهم بل راعَهَم، ولم يحفظ جانبهم وأضاعهم.
وقال في مقدمة ترجمته له:
كان قيماً بصنعة الحساب، إليه الانتماء والانتساب، يخدم جريدته بنفسه، ويتميز بذلك على أبناء جنسه، فلا يحتاج إلى كشف عامل، ولا يريد مع نفسه مشقة سيف ولا هِزّة عامل، يكاد يعمل محاسبة كلِّ أحد من ذهنه، ولا يحتاج إلى مساعد في ذلك، ذكاءً من فطنته وإتقاناً لفنّه، هذا إلى عفّة زانته، وأمانةٍ لا يعلم أحد أنها حابته ولا خانته. تنقّل في المباشرات العالية، وانفصل عنها وثناؤه فيها يرفض نفحات الغالية، إلا أن الأقدار لم تُصافه، ولم تعامله بما يحبُّ من إنصافه، وآخر ما مات تحت العقاب، ورأى الذل الزائد بعدما خضعت له الرقاب. وتوفي رحمه الله تعالى في ذي القعدة سنة خمس وخمسين وسبع مائة أو في أواخر شوّال.
|