العواصم من القواصم (المؤلف : القاضي أبو بكر ابن العربي) كتاب خطير، أودع فيه مؤلفه القاضي أبو بكر ابن العربي (468- 543هـ) خلاصة وقائع رحلته إلى مصر وبلاد الشام والعراق، وكان في العشرين من عمره، وبسط ذلك في كتابه الضخم (ترتيب الرحلة) ونراه في الموقف الرابع (ص 44) يتحدث عن فاطمية القاهرة، قال (ص 45: فلبثت فيهم ثمانية أشهر، لم يبق باطل إلا سمعته، ولا كفر إلا شوفهت به .... ثم خرجت عنهم إلى الشام فوردت بيت المقدس فألفيت فيه ثماني وعشرين حلقة ومدرستين، إحداهما للشافعية بباب الأسباط والأخرى للحنفية بإزاء قمامة ...ثم نزلت الساحل لأغراض نصصتها في "ترتيب الرحلة" وكان الساحل مملوءا من هذه النحل الملحدية، والمذاهب الباطنية... فطوفت في مدن الساحل نحوا من خمسة أشهر، ونزلت عكا منها (وفيهم لعمر الله وإن كانوا على مذهب باطل انصياع وإنصاف، وإقرار للرجل بفضله...) (ص56: وخرجت عن عكا إلى طبرية على حوران والبثينة، وعدلت عن بصرى إلى دمشق، فمن هنالك أشرق الحق بنوره واتصل المسير إلى دار السلام) وهكذا يكشف ابن العربي عما كان يعج به القرن الخامس من تيارات الإلحاد ومشاريع الكيد للإسلام، والتي كانت كما يقول امتدادا للحركات الأثيمة التي صنعتها البرامكة عبر حفنة من حثالة الكتاب والمؤرخين المرتزقة (ص 62) قال: (فانتقوا كل ضيق العطن، مخلوع الرسن... وعقدوا مجلسا للضلال باسم الهدى ونصبوا على الإسلام لذلك موعدا، يحضر فيه من ينتحل علم الكلام من أصحابهم المنتدبين للطعن على أهل الإسلام) (ص 81 فجعلت تغتال الدين بمعان ترهب بها على العامة، وتأخذها من ظواهر الألفاظ، وتدس مذاهبها في عقائدها، كأنها تعضد الإسلام) (وولج في الدين لصوص من غير بابه، وتعلقوا بإهابه، ومشوا له الضراء، وأسروا حسوا في ارتغاء، وخاطبك كل واحد منهم بلسان القرابة وهو من البعداء، وعاملك بالخلة وهو من الأعداء، واتاك بالداء في صفة الدواء) وسمى منهم أربعة عشر رجلا من مؤسسي المذاهب والفرق (63) وأضاف إلى قائمتهم: الجاحظ وابن المقفع (ص 81) وأنكر فيه مقتل الحسين، (ص 337 سطر 12) ونافح عن يزيد بن معاوية (ص 338) وحذر من اعتماد روايات المؤرخين الكذبة المتهوكين، من أمثال المسعودي وابن قتيبة الدينوري والمبرد (ص350) وإخوان الصفاء وهم قضاة أربعة (ص 109) (وحثالة المعتزلة وكلهم حثالة : ص 29) (وأما المتالجة فهم اعظم الطوائف ص 90 وهم الذين قالوا: إن الله اسم لا مسمى له) ونسب إلى الصاحب ابن عباد (ص 71) قيامه بتدبير إحراق مكتبة دار الخلافة لطمس معالم الإسلام. قال(ص 249): (فلما عدتُ وجدت القول بالظاهر قد ملأ المغرب بسخيف كان من بادية أشبيلية يعرف بابن حزم ... وقد كان جاءني بعض الأصحاب بجزء لابن حزم سماه"نكت الإسلام" فيه دواهي فجردت عليه نواهي، وجاءني برسالة "الدرة" في الاعتقاد فنقضتها برسالة "الغرة" ... أما قولهم: لا قول إلا ما قال الله فحق، ولكن أرني ما قال الله، وأما قولهم: لا حكم إلا لله، فغير مسلّم على الإطلاق، بل من حكم الله أن جعل الحكم لغيره ...إلخ) قال (ص 110): (وما استأثر الله برسوله إلا والدليل قد اتسق، والدين بالعلم قد استوسق، والحرس مبثوث على جوانب الملة، لا يستطيع أحد خرقها، لا في السماء بسلم، ولا في الأرض بنفق، وإن اشتجر الخلق اشتجار أطباق الرأس عقائد وأعمالا، وتفرقوا تعصبا واختلالا) (ص 77: وانتدب للرد عليهم بلغتهم ومكافحتهم بسلاحهم والنقض عليهم بأدلتهم أبو حامد الغزالي ... فذبحهم بمداهم، وأفرد عليهم كتابا سماه (تهافت الفلاسفة) وأبدع في استخراج الأدلة من القرآن ... في كتاب سماه (القسططاس) وأخذ في (معيار العلم) عليهم طريق المنطق فرتبه بالأمثلة الفقهية والكلامية، حتى محا فيه رسم الفلاسفة ولم يترك لهم مثالا، وقد كان تعرض سخيف من باديتنا يعرف بابن حزم حين طالع شيئا من كلام الكندي إلى أن يصنف في المنطق فجاء بما يشبه عقله ويشاكل قدره، وقد كان أبو حامد الغزالي تاجا في هامة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف فخرج على الحقيقة، وحاد في أكثر أحواله عن الطريقة وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتساق، فكان علماء بغداد يقولون: (لقد أصابت الإسلام فيه عين) وذكرالمؤلف التقاءه أبا حامد الغزالي في غير موضع من كتابه، بل قد افتتح كتابه بالنيل منه (ص 12و 19) وفي (ص 24) يروى ما دار بينهما في بغداد في جمادى الاولى من عام (490) قال( وقد كان راض نفسه بالطريقة الصوفية منذ سنة 486 إلى ذلك الوقت نحوا من خمسة أعوام ... فقرأت عليه جملة من كتبه، وسمعت كتابه الذي سماه بالإحياء لعلوم الدين، فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته المستكشف عن طريقته ... فقال لي من لفظه وكتب لي بخطه: إلخ) ثم عاد (ص 36 سطر 17: فنقض كلام الغزالي فقال: (وأعطف على شيخنا بالكلام دون غيره من الأنام، لما بيني وبينه من مجلس ومقام فأقول له ....أين ما قيدت بعد أن انفردت في "الاقتصاد" و"المستصفى" وما رويت عن إمام الحرمين في "مدارك العقول"... إلخ) إلى أن قال (ص 38) (وبعد النظر الطويل الذي هذه إشارته خرجت من هذه الغمرة التي اوجبها استرسال مثله في هذه الألفاظ القلقة، التي لا يصح أن يكون فيها إذن لأحد ليذكرها، فضلا عن أن يحققها ويسطرها، وهي اخلاط غالبة على الفؤاد ومعان حائدة عن سنن السداد) !!
ويستوقفنا في الكتاب العاصمة التي تحدث فيها عن اختلاف القراء، حيث رجح (ص 362) كتابي الطبري وأبي عبيد على كتاب ابن مجاهد قال (ص363: والذي اختاره لنفسي إذا قرأت أكثر الحروف المنسوبة إلى قالون، إلا الهمز فإني أتركه أصلا، إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه بغيره، أو يسقط المعنى بإسقاطه، ولا أكسر باء "بيوت" ولا عين "عيون" فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه، ولا أكسر ميم "مت" وما كنت لأمد مد حمزة، ولا أقف على الساكن وقفته، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو، ولو رواه في تسعين ألف قراءة، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف، ولا أمد ميم ابن كثير، ولا أضم هاء "عليهم" و"إليهم" وذلك أخف، وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات لا قراءات، لأنها لم يثبت منها عن النبي (ص) شيء، وإذا تأملتها رأيتها اختيارت مبنية على معان ولغات، وأقوى القراءات سندا قراءة عاصم عن ابن عبد الرحمن عن علي، وعبد الله بن عامرن فما اجتمع رواة هؤلاء عليه فهو ثابت، وقراءة أبي جعفر ثابتة صحيحة، لا كلام فيها، وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهورا، ورأيت أمرها على اللغات، وخط المصحف مبينا، والله أعلم)
طبع الكتاب لأول مرة في قسنطينة عام (1347هـ) في جزأين بعناية العلامة عبد الحميد بن باديس ، ثم جرد محب الدين الخطيب قطعة منه تتعلق بالصحابة ونشرها في القاهرة عام 1375، واخيرا أعاد نشر الكتاب كاملا د. عمار الطالبي (القاهرة: دار التراث، 1417هـ 1997م) معتمدا أربع نسخ من مخطوطات الكتاب، فصل القول فيها في جزء مستقل عن الكتاب تضمن دراسة آراء القاضي ابن العربي.
|