إلجام العوام عن علم الكلام (المؤلف : أبو حامد الغزالي) من أمتع رسائل الغزالي وأحفلها بالطرائف، تميزت كما يقول في خاتمتها (بالجدل المر والبرهان الحلو) وأودع فيها نظرية متكاملة حول خطورة انتزاع النصوص من سياقها، وتجريدها عن قرائنها، والأسباب التي أدت إلى ذلك، وكيف نعالج ما خلفته من عوامل الفرقة والخلاف، ونفهم أن الخطأ في تمييز أكابر السلف كان من أبرز أسباب الضلال، وأن كل لغات العالم قاصرة عن تصوير حقائق الديانة التي تتصدى العوام للبحث في أسرارها. وهي نظرية فريدة من نوعها، جديرة بالمراجعة والتحليل. وختم الرسالة بالآية (فادع على سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن...) وعلق عليها بقوله: (فالمدعو بالحكمة إلى الحق قوم، وبالموعظة الحسنة قوم آخرون، وبالمجادلة الحسنة قوم آخرون، على ما فصلناه في كتاب القسطاس المستقيم، فلا يطوّل بإعادته) وعلى هذه الكلمة نفسها بنى ابن رشد كتابه (فصل المقال) ?
وربما يفهم من خاتمة بعض النسخ أن هذه الرسالة هي آخر رسالة صنفها الغزالي، فقد ورد في ختام نسخة مكتبة شهيد علي، =في قم بإيران= وهي أقدم مخطوطات الكتاب أنه فرغ من تأليفها في أوائل جمادى الآخرة سنة (505هـ) وتاريخ نسخها سنة (507هـ) وتقع في (32) ورقة. كما أوضح د. سميح دغيم الذي اعتمدها في نشرته للكتاب (دار الفكر اللبناني: 1993م) وهي نفسها النسخة التي اعتمدت في أول طبعات الكتاب عام (1278هـ) وفي كل طبعاته. وقد اعتمدنا في أرقام الإحالات التي تجدها في هذه البطاقة نشرة دار الحكمة (دمشق: 1989م) ويبدأ متن الكتاب فيها من الصفحة (42).
وأورد د بدوي في كتابه (مؤلفات الغزالي) مقدمة الرسالة على النحو الآتي =وهو ما لا نجده في كل طبعات الكتاب= قال:
وأولها بعد الحمد والصلاة: (فإنك سألتني أن أبين لك مذهب السلف (ر) في صفات الله تعالى الناطق بها كتاب العزيز والواردة بها سنة النبي)
قال: (وبناه على بابين، باب في بيان حقيقة مذهب السلف في الآي والأخبار، وباب في البرهان على أن الحق في مذهب السلف وأن من خالفهم فهو مبتدع)
قلت: بل الكتاب مبني على ثلاثة أبواب، وقد جعل الثالث تحت عنوان: (فصول متفرقة وأبواب نافعة في هذا الفن).
أما عنوان الرسالة فقد ذكر بروكلمان أن لها عنوانا آخر هو (رسالة في مذهب السلف) وورد اسمها في ملحق المخطوطات العربية في المتحف البريطاني: (كتاب الوظائف) لأنه افتتح الباب الأول بقوله: (ويحتوي على سبع وظائف) وورد اسمه بعنوان (الوظائف في بيان العلوم واللطائف) في مخطوطة المكتبة الحميدية باستنبول، وذكرها السبكي بعنوان (إلجام العوام عن علم الكلام) وذكرها المرتضى بذات العنوان، وكذا ابن قاضي شهبة. والذهبي في ترجمة الغزالي وفي ترجمة الرضي الجاواني الإربلي محمد بن علي، قال: (قدم بغداد في الصبى، وتفقه بها على أبي حامد الغزالي.... وحدث ببغداد قديماً بكتاب: إلجام العوام... وبقي إلى قريب الستين =أي 560هـ= وعاش اثنتين وتسعين سنة). وقد وصلتنا مخطوطات كثيرة منه، بمختلف هذه العنوانين، انظرها في كتاب (مؤلفات الغزالي) د بدوي (رقم 71) في قائمة الكتب المقطوع بصحة نسبتها إلى الغزالي. وطبعت لأول مرة في استانبول سنة (1278هـ) وترجمها إلى الأسبانيا آسين بلاثيوس، مع طائفة من مؤلفات الغزالي. وقد أحال الغزالي في هذه الرسالة إلى بعض مؤلفاته، فمن ذلك قوله (ص85): ( وأمثال ذلك وهي قريبة من خمسمائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن)
و(ص 94): (وقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد الأسنى في معاني أسماء الله الحسنى...) و(ص108) (وقد ذكرنا وجه ذمها في كتاب قواعد العقائد من كتب الإحياء) و(ص140): (على ما فصلناه في كتاب القسطاس المستقيم، فلا يطول بإعادته).
وأختم هذه البطاقة بطائفة من كلمات الغزالي في هذا الكتاب لينظر فيها من لا يجد فرصة لقراءته:
فمن ذلك قوله في فاتحة الباب الأول (ص 45): (حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: التقديس، والتصديق، والاعتراف بالعجز، والسكوت، والإمساك، والكف، والتسليم لأهل المعرفة) ثم فصل ذلك في زهاء خمسين صفحة. فمن ذلك قوله (ص57): (وأوائل حقائق هذه المعاني بالإضافة إلى عوام الخلق كأواخرها بالإضافة إلى خواص الخلق، فكيف لا يجب عليهم الاعتراف بالعجز ... والجاهل بهذه الحقائق إذا سأل عارفا عجز العارف عن تفهيمه ... ومن أطعم الرضيع اللحم فقد أهلكه، وكذلك العوام إذا طلبوا بالسؤال لهذه المعاني يجب زجرهم ومنعهم وضربهم بالدرة، كما كان يفعله عمر (ر) بكل من سأل عن الآيات المتشابهات، ولهذا أقول: يحرم على الوعاظ على رؤوس المنابر الجواب عن هذه الأسئلة...) إلى أن قال (ص 60) في تفسيره للإمساك: (ويجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار من ستة أوجه: التفسير، والتأويل، والتصريف، والتفريع والجمع والتفريق) ثم شرح هذه الوجوه. فقال: (وأعني بالتفسير تبديل اللفظ بلغة أخرى غير العربية ... لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها... خذ مثلا لفظ الاستواء... إذ فارسيته أن يقال: (راستا باستان) وهذان لفظان، الأول (راستا) ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أن ينحني ويعوج، والثاني (باستان): ينبئ عن سكون وثبات فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب، وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليها، فإذا تفاوت في الدلالة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول، وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له، الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه، لا بما يباينه أو يخالفه ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه)... فإن قيل: هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع الألفاظ فهو غير صحيح، إذ لا فرق بين قولك: خبز، و(نان) وبين قولك: لحم و(كوشت) ... إلخ)
قال (ص64) يحدد مراده بالعوام: (وفي معنى العوام: الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والمتكلم، بل كل عالم سوى المتجرد لتعلم السباحة في بحار المعرفة) ثم راح يذكر صفات هؤلاء المتجردين (المستحقرين للدنيا بل وللآخرة في جنب محبة الله، وهم مع ذلك كله على خطر عظيم، يهلك من العشرة تسعة، إلى أن يسعد واحد بالدر المكنون والسر المخزون) وقال في ذم الجمع (ص 78): (ولقد بعد عن التوفيق كل من صنف كتابا في جمع هذه الأخبار خاصة، ورسم في كل عضو بابا، فقال: باب في إثبات الرأس... وباب في اليد... إلى غير ذلك، وسماه كتاب الصفات.. فإن هذه كلمات متفرقة، صدرت عن رسول الله (ص) في أوقات متباعدة، اعتمادا على قرائن مختلفة، تُفهم السامعين معاني صحيحة، فإذا ذُكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه)
وقال في ذم التفريق (ص79): (وكما لا يجمع بين متفرقه، فلا يفرّق بين مجتمعه، فإن كل كلمة سابقة على كلمة، أو لاحقة لها، مؤثرةٌ في تفهيم معناها مطلقا، ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه، فإذا فُرّقت وفصلت سقطت دلالتها، ومثاله قوله تعالى: "وهو القاهر فوق عباده" فانتزاع الفوقية منها إخلال بالمعنى) (فهذه أمور يغفل عنها العلماء فضلا عن العوام، فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير) (ص80): (ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف كما ورد، على الوجه الذي ورد، باللفظ الذي ورد، والحق ما قالوه، والصواب ما رأوه)
وقال في تفسير الكف (ص 80): (وأعني بالكف: كف الباطن عن التفكر في هذه الأمور، فذلك واجب عليه =أي: العامي= كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف) ثم نصح الغزالي باللعب واللهو لمن تجول في عقله هذه المسائل (ص 82) فقال: (بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله سبحانه، فإن ذلك غايته الفسق، وهذا عاقبته الشرك، وإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ...
وقال (ص 91) أثناء حديثه عن الصحابة (الجواب الثاني: أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد (ص) وإلى إثبات البعث مع منكريه، ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن الكريم، فمن أقنعه ذلك قبلوه، ومن لم يقنع قتلوه، وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إفشاء أدلة القرآن، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحرير طرق المجادلة وتذليل طرقها ومنهاجها، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار للفتن ومنبع التشويش)
قال (ص 95): (وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة، وانسرحوا في الميدان، ولهم فيه جولات على حدود مختلفة في القرب والبعد، وتفاوت ما بينهم كثير، وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة... وأما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن تطأها أقدام العارفين، وأرفع من أن تمتد إليها أبصار الناظرين، بل لا يلمح ذلك الجناب الرفيع صغير ولا كبير إلا غض من الدهشة والحيرة طرفه)..
قال (ص113): (وكان من الناقلين من ينقل اللفظ كما سمعه، ولا ينقل القرينة، أو كان بحيث لا يمكن نقلها، أو ظن أنه لا حاجة إلى نقلها، وأن من يسمع يفهمه كما فهمه هو لما سمعه، فربما لا يشعر أن فهمه إنما كان بسبب القرينة... بمثل هذه الأسباب بقيت الألفاظ مجرة عن قرائنها فقصرت عن التفهيم) إلى أن قال (ص116): (وليس في لغة العرب ألفاظ ناصة على تلك المعاني، =أي صفات الذات= فكيف يكون في اللغة لها نصوص، وواضع اللغة لم يفهم تلك المعاني، بل هي معان أُدركت بنور النبوة خاصة، أو بنور العقل بعد طول البحث، وذلك أيضا في بعض تلك الأمور، لا في كلها، فلما لم يكن لها عبارات موضوعة كان استعارة الألفاظ من موضوعات اللغة ضرورة كل ناطق بتلك اللغة ... وسائر اللغات أشد قصورا من لغة العرب) .
قال (ص126): (ولا أعني بأكابر السلف من حيث الجاه والاشتهار، ولكن من حيث الغوص على المعاني والاطلاع على الأسرار، وربما انقلب الأمر في حق العوام واعتقدوا في الأشهر أنه الأكبر، وذلك سبب آخر من أسباب الضلال)
|