أحمد دمشقية شاعر الوحدة الوطنية كانت كل سيدة من سيدات مجتمع بيروت تعين يوماً محدداً من كل شهر سمي يوم الاستقبال تستقبل فيه صويحباتها، حيث يدخن النرجيلة ويتبادلن النوادر والأخبار الاجتماعية· وكنت صغيراً أسمع بعضهن يذكرن يوم استقبال بيت <مشقية>· وكنت مقتنعاً بأن المقصود <دمشقية> وأنهن يسقطن الدال تخفيفاً، كما فعلن قديماً بدال <حندس> لتصبح <حنتس>· وبقيت لديّ هذه القناعة إلى أن اطلعت على وثائق بيروت الشرعية الموجودة منذ سنة 1843 م ووجدت فيها ذكر السادة حسين أبو علي مشقية وسعد الدين عبد الرزاق مشقية، والشيخ سليمان مشقية· وعدت إلى ديوان مفتي بيروت القاضي الشيخ أحمد الأغر فوجدته قد نظم قصائد أرخ فيها لولادة عبد الرحيم سليمان <مشقية> ولعذار أحمد عبد الرزاق مشقية، ولولادة محمد أحمد مشقية، وذلك في السنتين 1819 م و 1820 م· وبما ان الكتاب في المحكمة الشرعية لم يكونوا أمييّن، ولم يكن القاضي المفتي أحمد الأغر كذلك، مما يعني أن الأسرة التي تحمل شهرة <مشقية> قديمة في بيروت· وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت تظهر الشهرة <دمشقية> مع تولي أرسلان دمشقية لمنصب مستنطق لواء بيروت وتكليفه بالتحقيق في النزاع الذي حصل في محلة المزرعة سنة 1881م وعرف أيامها <بطوشة المزرعة> والتي قتل فيها وجرح فيها عدة أشخاص من آل قليلات وجريديني· وأثناء المحاكمة اتهم المحامي سليم قشوع وكيل أحد المتهمين المحقق أرسلان دمشقية بأنه لم يتبع في تحقيقاته أصول المحاكمات الجزائية، وأظهر المحامي مظهراً أسفه على وفاة مفتش العدلية· ورد المستنطق دمشقية معترضاً على أقوال المحامي المذكور، ناسباً إليه العمل بالمثل المشهور إذا أردت أن تحكي بغير الواقع فأبعد شهودك ولا شيء أبعد من الموت·· الخ· وقد تكون الأسرتان: مشقية ودمشقية من أرومة واحدة· وأرسلان دمشقية هو والد بدر دمشقية عضو لجنة المعارف وجمعية المقاصد ورئيس المجلس البلدي لبيروت ورئيس جمعية تجار بيروت، وهو والد السفير الراحل نديم دمشقية الذي عرفته عن قرب كعضو في جمعية عمر الداعوق للثقافة والعلوم التي تولي رئاستها حتى وفاته· يذكر أن بدر دمشقية ألقى سنة 1913 م خطاباً هاماً في حفلة وداع عبد الغني العريسي عند سفر هذا الأخير الى فرنسا للتخصص· فقال في خطابه <لقد كثر بيننا التجار والمحامون والأطباء والصيادلة ولكن لم نزل في حاجة كبرى إلى قوم يقفون على العلوم السياسية والاجتماعية··· ونود أن يقتدي بالمحتفى به كثير من شباننا المتنورين ليسعوا في طلب العلوم العالية ويعودوا إلينا حاملين من بلاد الأغيار ما يلائم طبائعنا ولا ينافي عاداتنا يجمعوا بين علوم الأجانب وما عندنا من الأخلاق الدينية الصحيحة والمبادئ القويمة لا أن يعودوا إلينا متبرئين من عاداتنا وأخلاقنا·· الخ>· وقد عرفت من آل دمشقية الشيخ الراحل حسن دمشقية آخر شيخ للقراء في بيروت· وعندما اطلعت على بعض قصائد لأحمد دمشقية هاجت بي الذكرى الى سنة 1957 م عندما قرأت في جريدة السياسة قصة بعنوان <على الدرب> لعفيف دمشقية· فأخذتني فورة الشباب يومها وأدليت بدلوي بين الدلاء ونشرت نقداً لتلك القصة زعمت أن فيها أخطاء في المعنى والمبنى· ورد الاستاذ عفيف على نقدي ورددت عليه· وتوقفت تلك المعركة الدونكيشوتية· وكان المرحوم عفيف قد ختم رده بقوله <أرجو أن يعلم صديقي بأنني لست مرجعاً في فقه اللغة ونحوها>· وقد أثبتت الأيام أن عفيف أحمد دمشقيه هو أستاذ في اللغة ونحوها، بل ومرجع ورائد من روادها، تقرأ ليون الافريقي وسمرقند والحروب الصليبية فيختلط عليك الأمر: أهي من تأليف عفيف دمشقية ترجمها أمين معلوف للفرنسية، أم هي من تأليف أمين معلوف عربها عفيف دمشقية الى العربية· وإذا عرفنا أن عفيف دمشقية هو إبن الشاعر أحمد دمشقية أدركنا كيف أرضع الأب إبنه حب العربية والتأنق في اختيار ألفاظها وزرع فيه الوطنية الحقيقية المعرضة عن التعصب والأثرة، والساعية إلى الاعتدال الوسطي البعيد عن الإفراط وعن التفريط· مارس أحمد دمشقية الصحافة فأصدر جريدة وفاء العرب وكانت له فيها مقالات ركز فيها على روح الوطنية الصادقة والعروبة الأصيلة التي لا تعرف التعصب والتفرقة والبعيدة عن الفتنة، وداعياً إلى تأكيد العيش المشترك وترسيخه· ولأحمد دمشقية قصائد في عدة فنون شعرية لم يتبين لنا أنها ضمت في ديوان· من غزلياته قصيدة بعنوان <إذا رآك الغصن···> قال فيها: والشمس والبدر وحسن تمّ لك لم نفِك الوصف إذا قلنا: ملك الخالق المبدع ما أعظمه في أيّ تقويم بديع عدلك إذا رآك الغصن تزهو ماس لك وودّ لو كان بقدٍ ماثلك يا سيدي بالسيد الآمر بالــ حب وبالرحمة صل من وصلك شغلتني عما سواك بالهوى وحسنك الفتان عني شغلك ألبستني ثوب السقام فأنا أشبه في فرط نحولي حللك أهديك درّاًَ تارة من أدمعي وتارة شعري، وأهدي ملك تسألني ماذا تلاقي في الهوى؟ بالله هل تسمح لي أن أسألك الثغر والخد مدام فلما تحرمنا ما قد أباح الله لك؟ تختال كبراً أن هذا حق من على العروش الخافقات قد ملك ولأحمد دمشقية قصيدة بعنوان <الشهرة الكاذبة> انتقد فيها المتأدبين الذين كانوا يدعون الأدب والشعر وأرادوا صيتاً ذائعاً بأنهم ورثة المنفلوطي وطه حسين وجبران وشوقي· ويلوم الشاعر أصحاب الصحف والأقلام طالباً منهم عدم كتابة إلا المفيد للشعب فقال: ذوي الصحف والأقلام أنتم ملاذنا وان عليكم نجحنا يتوقف أليس بعار أن تقوم سخافة نقول إذا راجت سيظهر أسخف أليس عجباً - والجرائد للهدى - تتكبها نهج الهدى وهو أشرف وهل زهد القراء إلا خلوها وان كثرت فيها سطور وأحرف فلا تكتبوا إلا المفيد لشعبكم ولا تذروا إلا الذي ليس يؤلف وللأدباء الأوفياء فشجعوا والأدعياء الأغبياء فعنفوا فإن تفعلوا أنقذتم الأدب الذي غدا وعليه أدمع الناس تذرف وعرفتم كلا بمقدار فضله وللعدل في كل المواطن يشرف وتأتي إلى وجه آخر من شخصية أحمد دمشقية، أعني بها شخصية الأديب الملتزم بالأخلاق الحميدة والإيمان الحق· فقد نظم سباعيات الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في سبعة مقاطع· السباعية الأولى: الرسول الطفل - اليتيم· السباعية الثانية: الرسول الشاب - الأمين· السباعية الثالثة:الرسول الملهم - الوحي - السباعية الرابعة: الرسول الصابر - الهجرة· السباعية الخامسة: الرسول القائد - بدر· السباعية السادسة: الرسول الحكيم - يثرب· السباعية السابعة: الرسول المنتصر - مكة· وقد لحن الأساتذة فليفل السباعية وأنشدت للمرة الأولى في 11 ربيع الأول سنة 1360 هــ/ 8 نيسان 1941في حفلة المولد النبوي الشريف· قال في السباعية السابعة: نصر من الله، وفتح قريب لتدخلن المسجد الحرام قد صحت الرؤيا وفاز الحبيب وانقرضت عبادة الأصنام جيش المهاجرين والأنصار يخترق الصحراء في الحديد فيا له من فيلق جرار خياله تكسو رمل البيد تصدعت أفئدة الكفار ومالت النفوس للتوحيد فتحت مكة سلماً وعنا لرسول الله كل الزعماء لم يقابل بانتقام بل عفا آسراً بالحلم بأس الأقوياء وسرى الإسلام فياض الهدى في أقاصي الأرض منثور اللواء وأتم الله ما قد وعدا خاتم الرسل، أمام الأنبياء شهد أحمد دمشقية نهاية الحكم العثماني وخبر عهد الانتداب الفرنسي· فآمن بما في اتحاد المسلم والمسيحي من قوة وعزة للوطن منطلقاً من دعوى محمد وعيسى اتباعهما الى نهج السلام· فنظم سنة 1924 م بمناسبة عيد ميلاد السيد المسيح قصيدة قال في ختامها: دعانا الى نهج السلام محمد وعيسى إلى نهج السلام دعاكم فهيا نطع أمر الرسولين ولنسر إلى حيث يدعونا النهوض المحتم فما أحوجنا في هذه الأيام إلى تأييد هذه الدعوة الكريمة لاحياء العيش المشترك الذي عرفناه في بيروت وعشنا أحلى أيامه· المصدر : اللواء اللبنانية |