مجال البحث
المكتبة التراثية المكتبة المحققة أسماء الكتب المؤلفون القرآن الكريم المجالس
البحث المتقدم ثقافة, أدب, شعر, تراث عربي, مكتبة , علوم, تاريخ, لغة, كتب, كتاب ,تراث عربي, لغة, أمهات الكتب, تاريخ, فلسفة, فقه, شعر, القرآن, نصوص, بحث البحث في لسان العرب ثقافة, أدب, شعر, تراث عربي, مكتبة , علوم, تاريخ, لغة, كتب, كتاب ,تراث عربي, لغة, أمهات الكتب, تاريخ, فلسفة, فقه, شعر, القرآن, نصوص, بحث إرشادات البحث

من يذكر قفقاسيا الأخرى؟! على هامش رواية (ذاكرة الرحيل)

لا تزال قضية دور الواقع والخيال، ومدى إسهام كل منهما في الأدب والفنون عموماً، محل جدل ونقاش. وقد شهد التاريخ الأدبي والفني منذ زمن بعيد ظهور مدارس ومذاهب كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية..

عالجت تلك القضايا من دون أن تتمكن أي منها من فرض طرحها، حتى لتبدو طروحات كل منها أحياناً مجرد خيارات أدبية لا أكثر. وما يسترعي الانتباه، أن الهجرة موضوع يسكن الخيال العربي والشرقي عموماً، كما هي ظاهرة ترسم ملامح الواقع المرير. ‏

في رواية الراحل «أديب بدر خان» الوحيدة «ذاكرة الرحيل» نطالع عساكر ومدفعية جيش السلطان، تُحكم حصارها على القرية الأناضولية الوادعة. يقبل الأهالي مذعورين، وبينهم (ليلى)، على (آغوب) شيخ القرية، فيصرخ بهم أن لا حيلة له. يتجادلون والذعر من المجزرة الوشيكة أخذ منهم كل مأخذ. يرتفع صوت (ليلى): «إليهم! هيا لنخرج إليهم أطفالاً ونساءً وشيوخاً.. لنفتح لهم صدورنا ولنرى ماذا سيفعلون». يتقدم الأهالي فتنتاب الدهشةُ العسكرَ السلطاني. يأمر آغا العسكر الجندَ بالتراجع ويتقدم. يقف أمام (ليلى) التي توقف خلفها الأهالي البائسون. تسأله عما يريده جيش السلطان. يجيبها بأنهم يريدون الخونة وكل أهالي هذه القرية وأمثالها هم خونة.. تصرخ: اسمع! أنا وعائلتي المسلمون الوحيدون في هذه القرية.. سكنا فيها منذ ثلاثين سنة. لم نشاهد رجلاً روسياً واحداً، ولم نعرف فيها خائناً ولا مارقاً واحداً.. لا في ليل ولا في نهار.. كنتُ طفلة في القفقاس وجيوش القيصر تحرق الأخضر واليابس.. كنتُ أصرخ كما اليوم: لماذا؟ الأرض تتسع للجميع..! امض يا آغا إلى رؤسائك واسألهم فقط لماذا؟. يقترب منها وقد تصدّع تجهم وجهه. يحدّق في وجهها، فينكمش الزمان على حب فتيّ، ربطهما في طفولة منسية، حطّمها التهجير من وطن يحترق، فكانت المنافي وكان الضياع! أما هي فلم يعِ وجدانها شيئاً غير الأمل ألا تكون القرية حكاية قفقاسية أخرى..! ‏

انكفاء الوعي

بهذا المشهد المؤثر، الذي لخصناه، أنهى «بدر خان» روايته الصادرة عن دار الكلمة في دمشق، ليترك القارئ يكابد انكفاء الوعي إلى الوعي، ممتثلاً حرائق الزمان. يختار «بدر خان» الفترة ما بين العقد الثامن من القرن التاسع عشر ومنتصف العقد الثاني من القرن العشرين، السنة الثانية لاندلاع الحرب الكونية الأولى، زمناً موضوعياً، وأعالي القفقاس مكاناً يتوسع مع حركة السرد ليشمل الأناضول وأعالي الجزيرة السورية وداخل بلاد الشام. ينتقي شخصياته من المجتمع الداغستاني في شكل عشيرة صغيرة هجّرها المحتل الروسي.. لكن السرد يتجاوز حدود الزمن المحدد. فيوغل في الماضي بقصدية غير معلنة، تهدف إلى إضاءة البيئة، وربط مكونات الفضاء الروائي، ووصل الأمكنة المتباعدة جغرافياً بعدما جمعها الحدث. ‏

تأريخ وتوثيق ‏

على كل الأحوال، يمضي القارئ مع السرد في «ذاكرة الرحيل»، من دون أن يملك القدرة رغم انتباهه على عزل التأريخي التوثيقي عن الجمالي الفني. إنها الحكاية، وحين يكون مخاضها واقعاً مريراً لا خيالاً خالصاً، يصبح التاريخ نفسه متكأً سردياً، وتغدو الجغرافيا مكاناً روائياً مفتوحاً، تعيد الحكاية تسمية تضاريسه ومعالمه. البحر الصديق ضاع اسمه القديم، وسُمّي بالأسود لكثرة ما ابتلع من الأجساد. سهول الكوبان أصبحت مقبرة (الوبخ)، الشعب الذي تقاسمته حتى الانقراض مع المالح الأسود. ‏

أفلا نستطيع إذاً أن نعتبر التاريخ في «ذاكرة الرحيل» بديلاً عن الخيال؟ بل إذا فرغنا من قراءتها، ولا يمكن لمن يقرأ سطورها الأولى أن يتركها قبل أن يأتي على آخر كلمة فيها، هل نستطيع اعتبار أن التاريخ قد يكون أحياناً أكثر بلاغة وخصباً من الخيال؟ ‏

مهما تكن الأجوبة فإن القارئ لرواية «ذاكرة الرحيل» قد تنتابه الرغبة الجارفة في إعادة قراءة ابن خلدون، إذ يشعر بشهوة الضحك من ادعاء امتلاك الهوية، ضحكاً حتى حدود البكاء.. لكن ومن دون كل الأسئلة التي يمكن أن تثيرها أية رواية أو عمل أدبي آخر، سيلحّ على وجدانه السؤال المرير: من يذكر قفقاسيا الأخرى؟!. ‏

المصدر : تشرين السورية