جواري الخدمة المصنوعة من الخشب في القرن الرابع الهجري
عن طريق شروح ديوان المتنبي عرفنا بوجود مثل هذه الجواري التي كانت تصنع من الخشب، وتتحرك بنفسها عن طريق لولب مزروع في رجلها. قال أبو العلاء في كتابه (معجز أحمد): وقال -أي المتنبي- يصف لعبةً، وكان لبدرٍ - بدر بن عمار بن إسماعيل، ممدوح المتنبي- جليسٌ أعورٌ يعرف بابن كروس، يحسد أبا الطيب، لما كان يشاهده من سرعة خاطره؛ لأنه لم يكن يجري في المجلس شيءٌ إلا ارتجل فيه شعراً، فقال لبدر: أظنه يعمل هذا قبل حضوره ويعده معه، ومثل هذا لا يجوز أن يكون، وأنا أمتحنه بشيءٍ أحضره للوقت، فلما كمل المجلس ودارت الكئوس استخرج لعبةً قد استعدها، لها شعرٌ في طولها، تدور على لولب، إحدى رجليها مرفوعةٌ، وفي يدها طاقةٌ ريحانٍ، تدار، فإذا وقفت حذاء إنسانٍ شرب ووضعها من يده، ونقرها فدارت فقال المتنبي:
وجاريةٍ شعرها شطرها
مـحـكمةٍ نافدٍ iiأمرها
قوله: محكمة: أي جعل الحكم لها. وشطر الشيء: نصفه. يقول: إن شعرها على مقدار نصفها، وهي مقبولة الحكم، وأمرها نافذ؛ لأنها كانت إذا وقفت عند إنسان شرب قدحاً، فكأنها حكمت عليه بأن يشرب.
تدور وفي يدها iiطاقةٌ
تضمنها مكرهاً شبرها
أراد بالشبر: اليد. يعني أن في يدها ريحان، وأن يدها تضمنته مكرهة؛ لأنها لا اختيار لها.
فإن أسكرتنا ففي جهلها
بـما فعلته بنا iiعذرها
تقديره: ففي جهلها عذرُها بما فعلته بنا. يقول: إن كانت حكمت علينا بالشرب حتى سكرنا، فإن جهلها بما فعلته بنا، عذرُها لنا. وأديرت فوقفت حذاء أبي الطيب فارتجل يصف اللعبة نفسها:
جاريةٌ ما لجسمها iiروح
بالقلب من حبها تباريح
التباريح: جمع التبريح، وهو شدة الشوق. وجارية: رفع؛ لأنها خبر ابتداء محذوف. أي هذه جارية. يقول: إنها وإن كانت غير ذات روح، فإن حبها قد برح بقلبي.
فـي يـدها طاقةٌ تشير بها لـكل طيبٍ من طيبها ريح سأشرب الكأس من إشارتها ودمع عيني في الخد مسفوح الواو في قوله: ودمع عيني واو الحال. يقول: إن رائحة كل طيب مكتسبٌ من هذه الطاقة التي في يدها، ثم قال: أشرب الخمر بإشارتها، ودمع عيني في تلك الحال مصبوب؛ لأن كل من شرب الخمر تذكر حبيبه فيهيج له من ذلك الذكر الحزن، فيؤدي إلى البكاء. وأدارها فوقفت حذاء بدرٍ فقال:
يا ذا المعالي ومعدن iiالأدب
سـيـدنا وابن سيد iiالعرب
أنـت عـلـيمٌ بكل iiمعجزةٍ
ولـو سـألنا سواك لم يجب
أهـذه قـابـلـتك iiراقصةً
أم رفعت رجلها من التعب?!
قوله: سيدنا أراد يا سيدنا، فحذف حرف النداء. وراقصة: نصب على الحال. يقول: أنت تعلم بكل شيء خفي يعجز الناس عن إدراكه، ولو سألنا غيرك لم يجب، فأخبرنا عن هذه الجارية، هل قابلتك وهي ترقص، أو تعبت فرفعت رجلها من التعب? لأنها كانت قائمة على رجل واحدة.
وأديرت فسقطت فقال في الحال:
مـا نقلت في مشيئةٍ قدما
ولا اشتكت من دوارها ألما
روى: مشيئة ومشيةٍ بالتصغير.
على الأول: ما نقلت قدماً بإرادة منها ولا اشتكت من دوارها، حين سقطت من الألم؛ لأنها ليست مما يحس.
وعلى الأخرى: ما نقلت قدماً في مشيةٍ، لأنها وإن كانت ماشية، فلم تنقل قدماً.
لم أر شخصاً من قبل رؤيتها
يـفـعـل أفعالها وما iiعزما
يقول: لم أر شخصاً سواها يفعل مثل أفعالها، من غير عزم وقصد.
فـلا تلمها على iiتواقعها
أطربها أن رأتك مبتسما
تواقعها: أي رقصها. يقول: لا تلمها على رقصها، لأنها تداخلها الطرب، فرقصت سروراً لما رأتك مبتسماً. وقيل: تواقعها: سقوطها. يعني. لا تلمها على سقوطها؛ لأنها لما رأتك ضاحكاً طربت فسقطت.
وقال أيضاً فيها أي اللعبة نفسها:
إن الأمـيـر أدام الله دولته لفاخرٌ كسيت فخراً به مضر مضر: اسم قبيلة، فلهذا أنثه، وتقديره: كسيت مضر به فخراً، يعني ذو فخرٍ متناهٍ، حتى أن مضراً اكتست من فخره. وقيل تقديره: لفاخرٌ مضر به كسيت فخراً، يعني: أن مضر تفتخر به بما كساها من الفخر والشرف الزائد.
في الشرب جاريةٌ من تحتها خشبٌ
مـا كـان والـدها جنٌّ ولا iiبشر
الشرب: جمع شارب، يعني: فيما بين الشرب، جارية هذه صفتها.
قامت على فرد رجلٍ من مهابته
ولـيـس تعقل ما تأتي وما تذ
يقول: إنها قامت على فرد رجل؛ هيبةً من الأمير وخدمةً، مع أنها لا تعقل ما تفعل وما تترك....
ووصفها بشعر كثير وهجاها بمثله، لكنه لم يحفظ، فخجل ابن كروس وأمر بدرٌ برفعها فرفعت فقال:
وذات غـدائرٍ لا عيب فيها
سوى أن ليس تصلح iiللعناق
إذا هجرت فعن غير اجتنابٍ
وإن زارت فعن غير iiاشتياق
العناق: المعانقة والاجتناب: المباعدة. يقول: إنه لا عيب فيها، إلا أنها من خشب لا تصلح للمعانقة، وقربها وبعدها عن غير قصد منها.
أمرت بأن تشال ففارقتنا
وما ألمت لحادثة iiالفراق
يقول: إنك لما أمرت برفعها، فارقتنا ولم تتألم لفراقنا، كما يتألم المحب لفراق حبيبه. ثم قال لبدر ما حملك على ما فعلت? فقال له بدرٌ: أردت نفي الظنة عن أدبك، فقال المتنبي معتزاً بأدبه: