رأي الجاحظ في أن البيان كالطب لا يحسن إلا ببلوغ أعلى المبالغ
عقد الجاحظ بابا مطولا في كتابه (البيان والتبيين) تناول فيه مكانة البيان عند العرب، واستشهد على ذلك بنصوص كثيرة، منها: بيت الحطيئة في مدح قبيلة (أنف الناقة): وكان الرجل من بني أنف النَّاقة إذا قيل له: ممن الرجل قال: من بني قُرَيعٍ، فما هو إلاّ أن قال الحُطَيئة: (قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم *ومَن يُساوِي بأَنفِ النَّاقةِ الذَّنبا) وصار الرّجل منهم إذا قيل له: ممن أنت? قال: من بني أنْف الناقة. وعلق الجاحظ على ما أورده من تلك النصوص بقوله: (ولذلك يقال: إنّ أصلحَ الأمور لمن تكلّفَ علم الطبّ ألاّ يحسن منه شيئاً، أو يكونَ من حُذّاق المتطبِّبين؛ فإنه إن أحسنَ منه شيئاً ولم يبلغ فيه المبالغَ هلكَ وأهلَكَ أهله، وكذلك العِلمُ بصناعة الكلام، وليس كذلك سائرُ الصناعات؛ فليس يضرّ مَن أحسَنَ بابَ الفاعل والمفعول به، وبابَ الإضافة،، وبابَ المعرفة والنكرة، أن يكونَ جاهلاً بسائر أبواب النَّحو، وكذلك مَن نظر في عِلم الفرائض، فليس يضرُّ مَن أحكم باب الصُّلب أن يجهل باب الجَدّ، وكذلك الحِساب، وهذا كثير). ومن النصوص التي استشهد بها الجاحظ على سحر البيان قصيدة ليلى بنت النضر بن الحارث.قال: ((ومن قدر الشِّعر وموقعِه في النّفع والضَّرِّ، أنّ ليلَى بنتَ النضْرِ بن الحارث ابنِ كلَدَة لمّا عَرَضت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يطوفُ بالبيت واستوقفتْه وجذبَت رِداءَه حتى انكشف مَنْكِبه، وأنشدَتْه شِعرَها بعد مقتل أبيها، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لو كنتُ سمعتُ شعرها هذا ما قتلته) انظر قصيدة ليلى هذه في كتب الأدب، وهي مشروحة في (شرح ديوان الحماسة) للمرزوقي. وفيها قولها:((ظلَّت سيوفُ بني أبيهِ تُنوشُـه * للَّهِ أرحام هُناكَ تَـشـقَّـقُ) (ما كانَ ضرّكَ لوْ منَنْتَ ورُبَّما * مَنَّ الفتَى وهْوَ المَغيظُ المُحْنَقُ). وكان النبي (ص) قد أمر بقتل النضر صبرا فيما يقال، وذلك بعد أسره يوم بدر. ومعنى القتل صبرا: أن يقيد المحكوم عليه وتضرب عنقه، وكان النضر أول من ضربت عنقه في الإسلام كما حكى البصري في (الحماسة البصرية) وأورد الوطواط قصته تحت عنوان (من ظفر فعاقب بأشد العقوبة) واختلف في اسم ابنته، فقيل: ليلى، وقيل: (قُتيلة) وهو الأشهر. وفي (زهر الآداب) للحصري: قال الزبير بن بكار: (وسمعت بعضَ أهلِ العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث ويقول: إنَّهامصنوعة). قلت أنا زهير: وهو الصواب إن شاء الله.