أما خطبة أكثم بين يدي كسرى فهي من أبرز الشواهد على الشعوبية، انظرها كاملة في خبر طويل في (العقد الفريد) وكان قد بعثه النعمان بن المنذر على رأس وفد للتعريف بفضائل العرب، والرد على مقالة كسرى التي حشدها بمثالبهم، وتألف الوفد من أشهر ملوك العرب وأمرائها في عصر النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة. وأنا ألخص هنا كل الخطب التي تضمنها الخبر لندرتها، ولعمق صلتها بالشعوبية. فمن خطبة حاجب بن زرارة قوله يخاطب كسرى: (ورى زندُك، وعلت يدُك، وهيب سلطانك: إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها، ومنعت درتها؛ وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها؛ وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة؛ نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة، وإن نؤب لك حامدين خيراً فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نختص بالذم دونها) ومن خطبة الحارث بن عباد البكري قوله: (دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها، وعلو سنائها: هذا مقام سيوجف بما ينطق فيه الركب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب؛ ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون، خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة؛ إن استنجدتنا فغير ربض، وإن استطرقتنا فغير جهض، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر؛ رمحنا طوال، وأعمارنا قصار) ومن خطبة عمرو بن الشريد السلمي قوله: (أيها الملك، نعم بالك، ودام في السرور حالك: هذا موطن له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل. لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك؛ إن في أموالنا مرتقداً، وعلى عزنا معتمداً؛ إن أورينا ناراً أثقبنا، وإن أود دهر بنا اعتدلنا؛ إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون؛ حتى يحمد الصدر، ويستطاب الخبر) ومن خطبة خالد بن جعفر الكلابي قوله: (أحضر الله الملك إسعاداً، وأرشده إرشاداً: إن لكل منطق فرصة، ولكل إجابة غصة.... وغصة المنطق بما لا نهوي غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحب إلي من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني؛ وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان أنفسنا بالطاقة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة). ومن خطبة علقمة بن علانة العامري قوله: (أُنهِجَت لك سبلُ الرشاد، وخَضعت لك رقابُ العباد: إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج؛ وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه؛ إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك... أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي عزاً، والبحور طمياً، والنجوم الزواهر شرفاً، والحصى عدداً؛ فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك). ومن خطبة قيس بن مسعود الشيباني قوله: (أطاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب: ما أحقنا إذا أتيناك بإسماعك، ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقداً في قلبك. لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين، وفي البأس غير مقصرين، إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين).
قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين = وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد = قال قيس: (أيها الملك، ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر أخفر بذم) قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة....إلخ. ومن خطبة عامر بن الطفيل العامري قوله: ما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحري، إن أدالت الأيام وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أموراً لها أعلام). فقال كسرى: وما تلك الأعلام? قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر. قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر? قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر. قال كسرى: متى تكاهنت يا ابن الطفيل? قال: لست بكاهن، ولكني الرمح طاعن..إلخ. ومن خطبة عمرو بن معد يكرب الزبيدي قوله: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه؛ ....فاجتبذ طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا، فإنا أناس لم يوقس صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضماً، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضماً... ومن خطبة الحارث بن ظالم المري قوله: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، وانقيادنا لك عن تصاف؛ فما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق ... والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل). قال كسرى: من أنت? قال: الحارث بن ظالم؛ قال: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر. .. خطبة كسرى: ثم قام كسرى فقال: (قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف فيه أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم، لم أجز لكم كثيراً مما تكلمتم به؛ وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أخنق صدورهم، والذي أحب هو إصلاح مداركم، وتألف شواذكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان في منطقهم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا موازرته، والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامة)