البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 2  3  4  5  6 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
قضايا في الدين والفكر..    كن أول من يقيّم
 
 
في قضايا الفكر والدين... محمد عابد الجابري. حوار مع مجلة مقدمات المغربية. أجرى الحوار: محمد الصغير جنجار. مقدمات:
بنيتم مشروعكم الفكري من خلال نقد الخطابات ...
 
*abdelhafid
9 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : النقد كمشروع فلسفي لا يكتمل (8)    كن أول من يقيّم
 
 
" أعلن كنت أن العقل في جانبه النظري البرهاني عاجز عن إثبات جوهرية النفس ثم بساطة هذا الجوهر وخلوده ؛ عاجز عن تحديد موقفه من الأسئلة التي يطرحها العقل الخالص فيما يتعلق بأصل الكون ونشأته وحدوده ؛ عاجز عن إثبات وجود الله . ثم أعلن أن الميتافيزيقا النظرية مستحيلة ؛ إنها وهم وخداع ؛ إنها ميتافيزيقات كاذبة ، وبل ومتناقضة . لم ؟ لأن الميتافيزيقا علم قبلي ، وكل ما هو قبلي يتضمن الضرورة المطلقة ومن ثم ينبغي أن تكون القضايا الميتافيزيقية يقينية . ومن جهة أخرى لم يسع الميتافيزيقيون إلى الإتيان بقضايا قبلية لا تثبت وجوداً ، وإنما مسعاهم الأساسي أن تثبت هذه القضايا وجوداً خارجاً على معاني هذه القضايا ، ومن ثم فالقضايا الميتافيزيقية تركيبية قبلية وليست قبلية خالصة . لكن تبين لكنت ومن خلال رحلته الشاقة الطويلة في نقد العقل الخالص أن العقل البرهاني لا يستطيع أن يثبت وجود كائنات كالنفس والله أو وجود معان كالخلود والحرية والعلة الأولى المطلقة ، لا يستطيع أن يثبت هذه أو تلك من مجرد فكرة إلى إثبات وجود واقعي يطابق هذه الفكرة انتقال غير مشروع . ينتهي كنت من ذلك إلى إعلانه بأنه يجب أن نضع حداً لكل الميتافيزيقات النظرية السابقة " السوفسطائية " " التوكيدية " و" المدرسية " وذلك بفضل " منهجه النقدي " . " ( كنط وفلسفته النقدية ، د. محمود زيدان ، دار المعارف الطبعة الثالثة 1979 : ص 348 ) .
 
يتلخص مشروع كنت النقدي بتفكيكه أدوات المعرفة وإيمانه بقدرة العقل على نقد ذاته ، وتدور مجمل فلسفته على معرفة كيف تتم عملية المعرفة في الذهن البشري وما هي شروطها القبلية أي أنها معرفة بالمعرفة . هذا يعني بأن فلسفته قد وضعت العقل بمواجهة نفسه ، فهو يساءل أدواته ويحاكمها وينقدها ، وهذه المعرفة بالمعرفة وأدواتها لا تتكشف لنا إلا عن طريق التجربة ، أي أنها عملية مستمرة تكشف عنها في كل مرة تجارب جديدة . وأما موضوعات الميتافيزيقا أو الحقائق المتعالية فهي إتجاه وتوجه لكن المعرفة بها لا يمكن أن تتحقق بالتجربة التي هي في حدود إمكانات العقل الإنساني . من هنا حصر موضوعات الميتافيزيقا بموضوعي : الطبيعة والحرية .
 
" ومذ عرفت النقد وأنا لا يمكن أن أكف عن التساؤل في كل مرة أطالع فيها كتاباً يثير إعجابي في الميتافيزيقا بدقة تصوراته وتنوعها وحسن ترتيبها وسهولة عرضها ، كما اتثقف بالمعلومات التي يقدمها إلي ، فأسأل نفسي : هل ساعد هذا المؤلف حقاً على تقدم الميتافيزيقا خطوة واحدة ؟ .......
 
لا أظن في عصر يسود فيه النظر والتأمل مثل عصرنا هذا ألا يستفيد ذوو الفضل ، وهم كثيرون ، من كل فرصة طيبة تتاح لهم لكي يساهموا ويعاونوا في تحقيق المصلحة المشتركة بالعمل على تقدم العقل تقدماً مستمراً نحو النور ، بشرط أن يكون هناك أمل في الوصول بهذه الطريقة إلى الهدف المشود . إن العلم الرياضي والعلم الطبيعي والقوانين والفنون والأخلاق نفسها وهلم جراً ، كلها لا تشبع النفس الإنسانية تماماً إذا يبقى فيها دائماً مكان مخطط للعقل النظري وحده ؛ وهذا الفراغ الذي يسود في النفس هو الذي يدفعنا إلى البحث عن شيء يشغلنا أو عن شخص نتسامر معه عن الخرافات والأباطيل والأحلام الصوفية ، ولكن ليس هذا إلا مجرد مظهر من جانبنا ، إذ أننا لا نبحث في الواقع إلا عن شيء نتلهى به لنسكت نداء العقل الذي يؤرقنا ، هذا العقل المخلص لغايته والذي يطالب بشيء يرضي ذاتهمن غير أن يدفعه ذلك إلى خدمة وجهات نظر أخرى ، أو خدمة ميولنا . ومن أجل هذا فإن الاعتبارات النقدية التي لا تتعلق إلا بنطاق العقل من حيث هو في ذاته ، ومن حيث إن كل المعارف والغايات الأخرى يحب أن تلتقي فيه وأن تتحد فيه بجملتها على أساس ، لها تأثير يجذب بشدة إليها أولئك الذين قد حاولوا أن يتوسعوا فقط في استخدام تصوراتهم ، وفي إمكاني أن أقول أيضاً أن جاذبيتها تفوق بشدة جاذبية أي علم نظري لا نقبل لسهولة أن نستبدله به . وأنا أقدم الآن هذه " المقدمة " كخطة وكخيط موصل في البحث ......
فالنقد يعطي لأحكامنا مقياساً يسمح لها بالتمييز الصحيح بين العلم والتظاهر بالعلم ، وعندما نمارس النقد في الميتافيزيقا بلا قيد أو شرط ، فإننا نكتسب بفضله تفكيراً منهجياً يكون له أثر طيب على استعمال العقل في المجالات الأخرى ، وبذلك فالنقد يلهمنا لأول مرة بالروح الفلسفية الحقيقية .....
( المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً : ما يمكن أن نعمله من أجل تقويم الميتافيزيقا كعلم / إيمانويل كنت ، ترجمة : د . نازلي إسماعيل حسين / دار الكتاب العربي 1968 )
 
 
*ضياء
12 - فبراير - 2008
مفهوم الأخلاق عند كنت (9)     كن أول من يقيّم
 
1ــ الأخلاق استعداد طبيعي :
 
تجد فلسفة كنت الأخلاقية جذورها في تربيته البروتاستنتيه وإعجابه الشديد بمفكري الثورة الفرنسية ولا سيما روسو : تكفي عبارة كهذه للتدليل على مدى تأثره بالنظريات التربوية والأخلاقية التي تشكل منها مناخ الثورة الفرنسية وعصر الإصلاح :
 
On ne trouve pas les principes qui conduisent au mal dans les dispositions naturelles de l'homme. L'unique cause du mal, c'est que la nature n'est pas soumise à des règles. Il n'y a dans l'homme de germe que pour le bien."
Emmanuel KANT, Réflexions sur l'éducation, pp. 80, édition Vrin
 
لا يوجد لدى الإنسان الإستعداد الطبيعي الذي يؤدي إلى عمل الشر ، إن السبب الوحيد للشر هو أن الطبيعة لا تخضع للقوانين . لا يوجد لدى الإنسان بذور إلا للخير .
 
هذه النزعة " القبلية " إلى الخير ، الموجودة كاستعداد طبيعي لدى الجنس البشري ، هي غاية البحث الميتافيزيقي لدى كنت ، وهذه " الطبيعة التي لا تخضع للقوانين " هي جوهر " قانون الأخلاق الذاتية " الذي سوف ينادي به .
 
" أما أن يعدل العقل الإنساني تماماً عن البحوث الميتافيزيقية فهذا ما لا يجب أن ننتظره ، كما أننا لن نفضل الامتناع تماماً عن التنفس على الاستمرار في استنشاق هواء فاسد . وسنجد إذن في كل وقت في هذا العالم ، وفضلاً عن ذلك عند كل إنسان ، وبخاصة عند كل إنسان مفكر ، ميتافيزيقا يفصلها كل واحد لنفسه على مقياسه نظراً لعدم وجود مقياس واحد للجميع .... (ص 212 )
 
واللاهوت الطبيعي تصور من هذا الجنس نجده في نهاية حدود العقل الإنساني الذي يرى نفسه ملتزماً بأن يرفع أنظاره إلى أعلى أي إلى فكرة الكائن الأسمى ( وعلمياً إلى العالم المعقول ) لا من أجل أن يعين أي شيء بالنسبة إلى هذا الكائن المعقول الخالص وإذن أي شيء خارج العالم المحسوس ، بل من أجل أن يوجه استعماله الخاص داخل هذا العالم بحسب المبادىء التي تعمل على تحقيق أكبر وحدة ممكنة له ( نظرية وكذلك عملية ) ؛ ومن أجل أن يستخدم في تحقيق هذه الغاية علاقة هذا العالم بالعقل المتقوم بنفسه كعلة لكل هذه الروابط ، ومن غير أن يبتدع لنفسه كائناً متخيلاً .... ( ص 201 )
 
وعندما أفحص كل الأفكار المتعالية التي يؤلف مجموعها المشكلة الخاصة بالعقل المجرد الطبيعي ، وهي المشكلة التي تلزم العقل بأن يهمل الملاحظة البسيطة للطبيعة وأن يتعالى على كل تجربة ممكنة لكي يحقق بهذه الجهد هذا الشيء ( علماً كان أو سفسطة ) الذي نطلق عليه اسم الميتافيزيقا ، فإني أرى على ما أعتقد أن الغاية من هذا الاستعداد الطبيعي للعقل هي تخليص الفكر من قيود التجربة ومن حدود الملاحظة البسيطة للطبيعة بحيث يرى أمامه مجالاً لا يحتوي إلا على موضوعات الذهن المجرد التي لا يمكن أن تصل إليها القوى الحاسة . وذلك حقاً لا لكي يصبح هذا المجال موضوعاً للنظر العقلي ( فنحن لا نجد فيه الأرضية الصلبة التي يمكن أن نقف عليها ) ، بل لأن المبادىء العملية لا يمكن أن تتصف بالكلية التي لا يستطيع العقل أن يتخلى عنها على الإطلاق من أجل غايته الأخلاقية، إلا إذا وجدت أمامها مثل هذا المجال الذي يحقق لها الأمل والرجاء الضروريين لها .
 
ولقد وجدت عندئذ أن الفكرة السيكولوجية مع القليل الذي نفهمه منها عن الطبيعة الخالصة للنفس الإنسانية التي تسمو على كل التصورات التجريبية تبين لنا بطريقة واضحة على الأقل ، عدم كفاية هذه التصورات ، وتبعدنا هكذا عن المادية على اعتبار أنها وجهة نظر سيكولوجية لا قيمة لها في تفسير الطبيعة الإنسانية ، وتجعل العقل منحصراً في غايته العملية . وهكذا فإن التصورات الكونية " الكوزمولوجية " التي تبين لنا أن المعرفة الممكنة للطبيعة لا تكفي لإرضاء العقل في بحوثه المشروعة ، وتفيد في إبعادنا عن المذهب الطبيعي الذي يجعل الطبيعة مكتفية بذاتها . وأخيراً فلما كانت الضرورة الطبيعية في عالم الحواس هي ضرورة مشروطة دائماً بما أنها تفترض دائماً تتبع أشياء أخرى ، فإن الضرورة اللامشروطة لا توجد إلا في وحدة العلة المتميزة عن العالم المحسوس ، وبناء على ذلك فإذا كانت علية هذه العلة هي بدروها طبيعية فلا يمكن أن تجعل وجود الممكن مفهوماً كنتيجة لها ؛ ولذلك فإن العقل يتحرر بفضل الفكرة اللاهوتية من مذهب القضاء والقدر الذي يفرض ضرورة غاشمة في الطبيعة أي في ارتباطها نفسها من غير مبدأ أول وبحسب علية هذا المبدأ نفسه ، وهكذا تقودنا هذه الفكرة إلى تصور العلة بالحرية بحسب العقل السامي . إن الأفكار المتعالية وإن كانت لا تفيد إذن في تعليمنا بطريقة إيجابية ؛ إلا أنها على الأقل تفيد في استبعاد الأحكام الجزئية التي نجدها في المذهب المادي والطبيعي ومذهب القضاء والقدر ، وهي المذاهب التي تضيق مجال العقل وتجعل مكان الأفكار الأخلاقية خارجاً عن مجال النظر العقلي ، ويبدو في نظري أن ذلك سيفسر لنا بقدر ما هذا الاستعداد الطبيعي . ( ص 205 ) ( المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً )
 
*ضياء
9 - مارس - 2008
دون كيشوت في الفكر الفلسفي المعاصر ..    كن أول من يقيّم
 
 .. محاولة فهم طبيعة الوجود الإنساني المعاصر
عبد العزيز بومسهولي
- دون كيشوت كشخصية مفهومية.
لعل السؤال الذي تتمحور على أساسه هذه المقاربة، هو كالتالي: كيف أصبح سيرفانتيس ملهما للفكر الفلسفي المعاصر، من خلال روايته الإشكالية « دون كيشوت تتمة
                         http://www.alittihad.press.ma/affdetail.asp?codelangue=6&info=73291
*abdelhafid
18 - مايو - 2008
أرسطو ووحدة العقل    كن أول من يقيّم
 
 مع أرسطو "اكتمل" مشهد الخطاب الفلسفي اليوناني حول وحدة العقل؛ وهو "اكتمال" يحدده زمنان اثنان، الماضي والمستقبل: لقد وظف أرسطو آراء سابقيه كي تمتد قرونا طويلة فيما بعد.
ـ  فمن حيث توظيفه لإرث سابقيه، يبدو أن الثقة القوية بالعقل التي سادت قبله شكلت الأساس التاريخي الذي انبنى عليه المنطق الأرسطي، باعتباره مجموعة من القواعد، الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع والعلية، من شأن مراعاتها عصمة الذهن من الخطأ. وستصبح هذه القواعد هي نفسها مبادئ العقل، وسيصبح العقل مطابقا للمنطق، أو هو المنطق نفسه. ونعني بكونها مبادئ أنها تشكل ـ حسب أرسطو ـ نقط بدايات مطلقة لكل تفكير سليم، واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى برهان. وبالتالي فمعيار العصمة هنا هو البرهان كاستدلال قائم على وضوح التعريفات ويقين المقدمات، ومنتج للمعرفة الحقة. وكلما اقترب العقل من البرهان واعتمده، أي كلما تخلص من "شوائب" الجدل والسفسطة والخطابة والشعر، كلما  كان تفكيره قويما وسليما. وإذا كان حقل البرهان ـ حسب أرسطو ـ هو الفلسفة والطبيعيات والرياضيات باعتبارها علوما نظرية، فإن الحقل الملائم للجدل، باعتباره رياضة عقلية، هو الخطابة. والخطابة عند أرسطو بحث في الوسائل المناسبة للإقناع، من حيث ارتباطها بالسلطة المعنوية للخطيب (إيجاد الحجج والقدرة على التأثير في المتلقي) وبنفسية المتلقي. ويحدد أرسطو هذه الوسائل في الاستقراء باستعمال المثل من أجل التأثير النفسي، والاستنباط بتوظيف القياس المضمر بهدف الحجاج العقلي في مجال المحاكم والتجمع الشعبي ومجلس ممثلي الشعب، حيث يسود الرأي والحوار كمجال وسط بين العلم والعنف. وهذا ما يجعل من خطابة أرسطو خطابة حجة واستدلال، .
 هكذا رسم أرسطو خريطة العقل الإنساني بتوظيف وتجاوز  أعمال سابقيه، خريطة تميز بين الاستدلالات البرهانية الموظفة في العلوم النظرية المجردة والمؤدية إلى العلم الخالص أو العلم من أجل العلم، والاستدلالات الجدلية الموظفة في الخطابة والمؤدية إلى الإقناع بالرأي (وليس بالعلم) في المجالات السياسية والاجتماعية والقضائية، هذا علاوة على الآليات الأخرى التي توجد دون البرهان والجدل. إن هذا التمييز الأرسطي ينطوي على مفاضلة بين ذكاء منطقي رياضي مجرد يحتل قمة الهرم، وذكاء اجتماعي يرتبط باليومي السياسي أدنى رتبة في سلم التفكير.  
ـ  ذلك ما قام به أرسطو وهو يوظف أفكار سابقيه وخطابات معاصريه. أما من حيث تأثيره في المستقبل، إذا كان التاريخ قد أعاد نفسه مع أفلاطون، من خلال إحياء مبدأ الحتمية البيولوجية، فإن هذا التاريخ لم يتنكر لتلميذه أرسطو :«لقد ظل لواء السيادة منعقدا لمنطق أرسطو حتى القرن التاسع عشر. وأصبح المنطق، شأنه شأن الكثير مما أنتجه أرسطو، يعلم بطريقة متحجرة على أيدي أناس انبهروا بسلطة أرسطو إلى حد لم يعودوا معه يجرأون على مناقشة أية فكرة من أفكاره»--(برتراند راسل). وبموزاة هذه الهيمنة "الامبراطورية" التي عرفها المنطق الأرسطي  كعلم طوال قرون، كانت هناك "دكتاتورية" الخطابة التي سادت قرونا كفن ورياضة وممارسة وأخلاق وتعليم، أكثر مما سادت كعلم، إلى درجة أنها اعتبرت فوق التاريخ، ولكن في مكانة "ماقبل العلم". وستترسخ هذه الهيمنة أكثر بعد تقويض البلاغة الأرسطية حين سيتم الدمج بين الخطابة والشعر(حدث ذلك في عهد الامبراطور الروماني Octavianus Auguste الذي عاش بين 63 و 14 قيل الميلاد.) . الشيء الذي ترتب عنه إفراغ الخطابة من بعدها الجدلي الاستدلالي الذي تم إلحاقه بالمنطق، واختزالها في محسنات وأشكال لغوية مزخرفة، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس ما يسمى بـ "الأدب" حاليا. لكن ما معنى هيمنة المنطق كعلم ودمج الخطابة في الشعر؟ معناه أن التاريخ كرس هيمنة العقل المنطقي الصوري، ولو بشكل مدرسي متحجر، وأقصى البعد العقلي الاجتماعي المتمثل في مهارات التأثير في الآخر؛ كما رسخ أبعادا أخرى للعقل اللغوي باختزال الخطابة إلى مجرد كلام مُحَسّن أو محسنات بديعية. وهكذا إذا كان أرسطو اقتصر على تفضيل العقل المنطقي على العقل الاجتماعي، فالذي حدث فيما بعد «أنه لم يتم الإقرار والاعتراف إلا بالذكاء الأول ... وتم بالمقابل التخلي عن الذكاء الثاني بشكل كلي، فوقع الجدل والخطابة ضحية تمارين مدرسية عقيمة سيلقي بها ديكارت جانبا» (Pierre Oléron، L’intelligence de l’homme).
مع ديكارت سنفتح صفحة أخرى في بناء معمار العقل الفلسفي...
*وحيد
4 - سبتمبر - 2008
أرسطو وحتمية المنطق    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
  كان الرسام الإيطالي Raphaël (1483 ـ 1520) دقيقا في لوحته الشهيرة "مدرسة أثينا" حين شخص التباين بين أفلاطون وأرسطو بوضع الأول رافعا سبابته نحو الأعلى في إشارة إلى عالم المثل, وجاعلا الثاني يشير بكفه اليمنى نحو الأسفل كعلامة على اتجاهه الواقعي المادي.
 يتجلى الطابع المادي لدى أرسطو في عبارته الشهيرة (الإنسان حيوان عاقل). ويبرز هذا البعد الحيوي العقلي في التصنيف الأرسطي للأفعال النفسية إلى: نفس نباتية، ونفس حيوانية، ثم نفس ناطقة/ عاقلة تختص بالتفكير والمعرفة. وإذا كان أرسطو يميز في القوة العاقلة بين عقل منفعل وعقل فعال: الأول قوة مستعدة, أو صفحة تنطبع فيها صور العقل الفعال, والثاني قوة  تجرد وتستخلص المعقولات والمعاني الكلية وتتيح للعقل المنفعل الاتحاد بها, ومن خلاله تصبح المعرفة ممكنة. فإن هذا التمييز يدل على أن كل إنسان يتوفر على عقل بالقوة هو عبارة عن استعداد طبيعي للمعرفة, قابل لأن يتحول إلى عقل بالفعـل, أي إلى تفكير ومعرفة, من خلال القدرة على تجريد الكليات من أعيان المحسوسات.
لذلك يعتبر التجريد الفعل الذهني المميز للعقل. وإذا كان التجريد هو استخلاص المعاني الكلية من المحسوسات الجزئية, فهو يتأسس إذن على الإدراك الحسي, سواء تعلق الأمر بالإدراك الحسي الظاهر بالحواس الخمس, أو بالإحساس كالتمييز بين المحسوسات وإدراك المشترك بينها, وإدراك الإدراك, والذاكرة والخيال. فانطلاقا من هذه الإدراكات الحسية يتمكن العقل من القيام بوظيفته الأساسية وهي التجريد كأرقى سيرورة للعقل.
وهكذا, إذا  كان أفلاطون يضع هوة فاصلة بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي, فإن أرسطو يعتبر الأول مؤسسا للثاني؛ جاعلا بذلك من فعل التجريد الخاصية المميزة للتفكير الإنساني.
رغم تباينهما إبيستمولوجيا, فإن أرسطو يقترب كثيرا من أستاذه من حيث البعد التراتبي لتصوره للعقل, وهذا مبرر تماما بحكم انتمائهما إلى فضاء عقلي واحد.
إن التصنيف التراتبي الأرسطي لقوى النفس معناه أن التفاوت لا يقوم فقط بين الإنسان والحيوان, بل بين البشر أنفسهم من حيث نسب التوازن بين العقل الذي ينفرد به الإنسان, والأحاسيس التي يشاركه فيها الحيوان . ويجعل أرسطو من هذا التمايز قانونا عاما يحكم كل مظاهر الحياة, أي الطبيعة والنفس والمجتمع, ويؤسسه على التقابل بين الأعلى (الأكثر ذكاء) والأدنى (الأقل ذكاء): ففي مقابل الطرف الأعلى الذي يمثله الإنسان والسيد والذكر والنفس والعقل والشعب اليوناني, هناك طرف أدنى يمثله الحيوان والعبد والمرأة والجسد والنزوع والشعوب الأخرى؛ ومثلما أن النفس تسيطر على الجسد, فكذلك ينبغي أن يسيطر الإنسان على الحيوان, والسيد على العبد, والذكر على الأنثى...إلخ. ويفسر أرسطو كل أشكال الفوارق بين الناس على أساس تفاوت فطري ـ وراثي.
ذلك ما يؤسس تصور أرسطو للمنطق. إذا كان المنطق يعتبر "أورغانون" العلوم, وآلة تمكن من التمييز بين الصحة والفساد في التصورات والأحكام, وتعصم الذهن من الخطأ في الاستدلال, فليس الناس سواسية في استعمال تلك الآلة, ذلك أن «البعض لا يقبل إلا لغة رياضية، والبعض لا يريد إلا أمثلة، والبعض يريد الاستشهاد بالشعر، والبعض يحتم في كل بحث برهانا محكما، بينما غيره يعتبر هذا الإحكام إسرافا…». وحين يميز أرسطو بين الأقيسة أو الآليات الاستدلالية, البرهان والجدل والسفسطة ثم الخطابة والشعر, يعتبر القياس البرهاني أرقى الأقيسة, لأنه قياس ينتج علما أي معرفة ثابتة, ضرورية يقينية ومجردة عن أي منفعة. أما الأقيسة الأخرى فتنطوي على أبعاد خارج دائرة المعرفة الخالصة؛ إنها آليات توجه الذات المتكلمة نحو التأثير في الآخر أو إفحامه أو توجيهه أو الاستهزاء به وترذيل أقواله. وبالتالي فإن تراتب وتفاضل الأقيسة يعكس ـ من الناحية النفسية والاجتماعية   والتربوية ـ فوارق فردية في طرق الإدراك والتبليغ على حد سواء, أي في مستويات التفكير. بمعنى أن اختلاف طرق المعرفة, أو قل, تباين أنواع الاستدلالات إنما يتأسس على تمايز تراتبي بين الناس في قدراتهم العقلية.
 
*وحيد
3 - سبتمبر - 2008
فاصل " خاص"    كن أول من يقيّم
 
تحـية عطرة أستاذنا والصديق العزيـز وحيد .
سرتني كثيرا عودتك أيها التطواني النبيل ، وألف شكر على هذه السلسلة من الدروس الفلسفية
التي تتفضل بها علينا..
وصلتني تحيتك مع الصديق محمد أشباب الناشط الجمعوي المعروف ، شكرا جزيلا على هذه
الثقة أستاذي ، وجعلنا الله عند حسن الظن ، أتمنى لك كل الخيروالتوفيق ...
 
وإليك هذه المقطوعة
من الطرب الأندلسي من أداء
جوق العربي التمسماني رحمه الله .
 
يرجى النقر على الصورة
 
submitted by marocsit on Sat Aug 23 2008 at 02:28am
جادك الغيث طرب اندلسي

محمد العربي التمسماني
*abdelhafid
6 - سبتمبر - 2008
فاصل جميل    كن أول من يقيّم
 
      تحية خاصة وخالصة لك عزيزي عبدالحفيظ...مع ألف شكر على هديتك الموسيقية الرائعة...وسلامي للعزيز أشباب الذي التقيته صدفة وبعجالة فأثرنا اسمك وتميزك في حديثنا الخاطف.
      أتمنى أن تكون مداخلاتي حول تشكل وتطور نمط التفكير الفسلفي موضع فائدة ومناسبة لفتح حوار لاحق حول موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين، الموضوع الذي فتحته الأستاذة ضياء...ومازال يتطلب مزيدا من القول غير الفصل...
      بدوري أتمنى لك مزيدا من العطاء والتألق...وفقنا الله جميعا...
*وحيد
9 - سبتمبر - 2008
ديكارت وديموقراطية العقل...    كن أول من يقيّم
 
تنبيه: كان بودي تركيزالمقالات السابقة في خلاصات دقيقة تعكس أهم خصائص التفكير الفلسفي كما انعكست على صفحات الفلسفة اليونانية. لكني ارتأيت أن أؤجل ذلك إلى حين الانتهاء من الجانب الفلسفي وقبل الانتقال إلى الجانب الديني... 
----------------------
ينطوي الفاصل الزمني بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة على سيادة خطاب ديني وثوقي كرسته الكنيسة. وتميزت الفلسفة الحديثة ـ في مختلف لحظاتها ـ بسعيها نحو "التحرر"  من القيود الدينية، بدرجات متفاوتة، من خلال إعلائها من قيمة العقل الإنساني؛ واعتباره قوة إنسانية متحررة من كل سلطة ميتافيزيقية أو وصاية دينية؛ لذلك انصب الاهتمام تارة على دراسة مصدر المعرفة الإنسانية، وتارة على طرق تلك المعرفة . وهما إشكالان نعتبرهما محور اهتمام رواد الفلسفة الحديثة الذين مازال تأثيرهم قويا حتى اليوم.
رغم الرأي الذي يعتبر ديكارت Descartes أب الفلسفة الحديثة، فإن تصوره للعقل يندرج في نفس المنظومة الفكرية الغربية التي تشكلت أصولها مع الفلسفة اليونانية. فهذا التصور يقوم على ثنائية الجسم والنفس: إذا كان الجسم يتميز بخصائص الانقسام والامتداد والحركة والآلية، فإن النفس جوهر روحي بسيط خاصيته التفكير؛ وهذا معناه أن في إمكان العقل ـ أساس التفكير ـ الاستغناء عن الجسم الذي هو بمثابة آلة، فنحن «نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده»(ديكارت). إن العقل قوة نفسية محضة تميز الإنسان عن الحيوان؛ بل هو «أعدل الأشياء توزعا بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه أوتي منه الكفاية». ويدل ذلك على «أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو النطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس». وينطوي هذا التصريح على تصور "ديموقراطي" للعقل؛ باعتباره خاصية إنسانية عامة، لا وجود لها عند الحيوانات التي يعتبرها ديكارت مجرد كائنات آلية لا تفكر، لأنها لا تتكلم ولا تتصرف بوعي يمكنها من التكيف مع كل الظروف، هذا في حين «ليس في الناس، ولا أستثني البلهاء منهم، من هم من الغباوة  والبلادة بحيث يعجزون عن ترتيب الألفاظ المختلفة بعضها مع بعض، وعن تأليف كلام منها يعبرون به عن أفكارهم»؛ كما أن الإنسان قادر بعقله الفطري على التكيف المرن، لأن «العقل آلة كلية يمكن استخدامها في جميع الظروف». إن العقل عند ديكارت ميزة إنسانية تتحدد كقدرة على الحكم السليم والتمييز القويم، وتتجسد في القدرة على الكلام المفهوم والتكيف المرن، وهما مؤشران يبدوان لدى جميع الناس بمن في ذلك الصم والبكم بحكم قدرتهم على فهم وتصور معاني الإشارات، الشيء الذي لا يستطيعه الحيوان الذي يستجيب للإشارة دون "فهم" معناها.         
وعلى المستوى الإبيستمولوجي، إذا كان العقل كقوة سيكولوجية هو القدرة على الحكم الصائب والتمييز السليم، فإن بلوغ ذلك يقتضي فعلين عقليين أساسين: الحدس والاستدلال؛ وهما الفعلان اللذان أسسهما ديكارت نظريا من خلال ممارسته الفلسفية؛ فبالحدس توصل إلى حقيقة الكوجيطو، وبالاستدلال استنبط حقائق أخرى مؤسسة على الحقيقة الأولى. وبحكم أن هذين الفعلين يتعلقان بتصور المعاني العقلية المحضة، فذلك ما يجعلهما أرقى الأفعال العقلية. ودونهما يوجد الإحساس والتخيل اللذان يعتبرهما ديكارت مصدرين للخطأ والوهم.
 هاهنا يبدو أن ديكارت لا يعترف إلا بنمط واحد من العقل، هو العقل التصوري النظري في شكليه، الحدسي والاستدلالي، وهما الشكلان اللذان ميز بينهما علم النفس فيما بعد . وأما العقل الحدسي فهو الذي يقوم على إدراك واضح ومتميز، ويتأسس على عمليات سيكولوجية هي نفسها قواعد المنهج: كتجنب السرعة والتهور، والتعود على الصبر والتحرر من الحس والخيال والأحكام المسبقة، والتركيز والانتباه والولع بالبسائط. وأما العقل الاستدلالي فهو الذي يقوم على استنباط  قضايا من قضايا أخرى تم حدسها. فالاستدلال إذن تابع للحدس ومعتمد عليه؛ وكلما تم تحويل الاستدلال إلى حدس كانت النتيجة أكثر يقينا.
ويبدو، هنا، الطموح الديكارتي قويا في تحويل التفكير الاستدلالي إلى تفكير حدسي، وهذا ممكن من خلال قواعد التحليل والتركيب والمراجعة كعمليات عقلية تتم من خلال ترويض العقل على تعلم النظام في حل المسائل الرياضية البسيطة؛ ومن شأن هذه الرياضة العقلية تمكين العقل من تجنب الخطأ في الحكم والخلط بين الحق والباطل. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار تلك العمليات الناظمة للتفكير الحدسي والاستدلالي "حركات رياضية عقلية" تضبط وتقنن النشاط العقلي أكثر مما تحرره وتفتحه أمام الممكن المعرفي، والتي كانت تعكس نوع التربية الدينية التي خضع لها ديكارت. ( يمكن أن نقابل هذا الموقف مع تصور أرسطو للجدل باعتباره "رياضة عقلية" تمكن العالم والجاهل من كشف الادعاءات وفحص الأخطاء والتناقضات, وإن كانت الأسباب تختلف, ذلك أن تلك التمارين العقلية القائمة على الضبط والنظام تعكس نوع التربية الدينية اليسوعية التي خضع لها الفيلسوف, وهو تلميذ في مدرسة لافليش, والتي كانت تقوم على تدعيم الإرادة والمسؤولية الإنسانية وتنزيه الله وتجنيب العقل مناقشة أسرار الدين, بحيث لم يستطع ديكارت بمنهجه الشكي ومشروعه الفلسفي التخلص من تأثيرها ما دام أنه استثنى من شكه عقائد الكنيسة والكتاب المقدس.)
ذلك يعني أن تفكير ديكارت،  أب الفلسفة الحديثة لم يتحرر كليا من وصاية الدين، ولم يدخل بعد "عصر التنوير"، وهذا ما يدفع إلى القول بأن ديكارت «يمثل نهاية مرحلة أكثر منه تمثيلا لبداية مرحلة، وأنه فيلسوف الإيمان أكثر من فيلسوف العقل»(حسن حنفي). لكن ذلك مجرد وجه تاريخي لفلسفة ديكارت، فهناك أيضا وجه سيكولوجي يفسر ميله ـ المضمر ـ إلى الإيمان أكثر من ميله إلى العقل، وإيثاره ـ الصريح ـ قاعدة سلامة اليقين على استثناء مغامرة الشك الحقيقي؛ ذلك أن ديكارت كان ذكيا حين استبق حكم التاريخ في رفضه لكل استثناء أو خروج عن تلك القاعدة، وهو الاستثناء الذي كان ضحيته اسبينوزا. 
*وحيد
12 - سبتمبر - 2008
ديكارت..الرياضيات والسيادة على الطبيعة    كن أول من يقيّم
 
يصرح ديكارت أن الاختلافات والفوارق المكتسبة بين الناس، ترجع إلى كيفيات وطرق التفكير المطبقة، ولا تنشأ «عن كون بعضنا أعقل من بعض». ولذلك يمكن تقليصها وتجاوزها إذا تم اتباع المنهج السليم؛ والمنهج السليم هو المستمد من الرياضيات التي تعتبر أول العلوم وتقدم أكمل المناهج: «كنت معجبا بالرياضيات خاصة لما في حججها من يقين وبداهة، ولكني لم أكن مدركا بعد فائدتها الحقيقية». وسوف يدرك ديكارت القيمة الحقيقية للرياضيات عندما سيكتشف إمكانية تطبيقها في دراسة الظواهر الطبيعية، وسيعتبرها، فيما بعد، حاملة للعلم الشامل الذي يمكن استخدامه في كل الظواهر بما فيها الظواهر الميتافيزيقية.
وبوضعه الرياضيات في أعلى مراتب العلوم يجعل ديكارت "العقل الرياضي" "سيد العقول"، لأنه وحده القادر على اكتشاف الحقيقة؛ أما العقول الأخرى، الفطرية غير الرياضية، التي يتساوى فيها الجميع فتقتصر فقط على التمييز بين ما هو موجود من معارف. ولذلك سيكون التفاوت بين الناس ناشئا عن مدى القرب أو البعد من المنهج الرياضي ذي القدرة وحده على الإمساك بالحقيقة، يقول ديكارت «إن العقول لا تتساوى جميعا في استعدادها لاكتشاف الأشياء من تلقاء ذاتها وبمحض قدراتها...» والسبب في هذا التفاوت هو ارتباط العقل بالذاكرة والمخيلة كخاصيتين تهيمنان على سلوك العامة، وكعائقين أمام الإبداع والاكتشاف.
بعد أن خاب أمله في كل المعارف السابقة وجد ديكارت ضالته في علم وحيد هو الرياضيات. لماذا هذا الإعجاب بالرياضيات الذي يصل حد التقديس؟ شكلت الرياضيات بالنسبة لديكارت العلم الوحيد الذي استجاب لرغبته في وضع علم قابل للتطبيق على ظواهر الطبيعة، لأن الطبيعة نفسها تنطوي على مبادئ المنطق والرياضيات وقوانين الحركة، والتي على الحدس الإنساني الذكي والصافي أن يخضع لها، وعلى ضوئها يمكنه فهم ميكانيكية الطبيعة وتفسيرها  تفسيرا بسيطا وشاملا. وبهذا المعنى فالرياضيات تحمل اللغة الكونية، لغة الوضوح والدقة واليقين، والتي نقرأ بها كل الظواهر. وبهذا المنهج الرياضي الشامل »يمكننا الوصول إلى معارف عظيمة النفع في الحياة ... وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها». وبالتالي فمن شأن عقلنا الرياضي أن يؤدي إلى معارف ليست فقط يقينية، بل ذات فعالية ومردودية، وهذا ما يجعل منه عقلا معياريا.
بتمجيده للعقل الرياضي وقصره على الخاصة، سيتأنف ديكارت طريق من سبقه من الفلاسفة في اعتبارهم الرياضيات النموذج العقلي الوحيد الذي يجسد أرقى ما يمكن أن يصله تفكير الإنسان: فالفيثاغوريين اعتبروا نظام الأشياء محاكيا لنظام الأعداد، وأفلاطون جعل من التفكير الرياضي طريقا نحو الحقيقة وشرطا لولوج الأكاديمية، وأرسطو اعتبر الرياضيات الأصل الذي يستفاد منه البرهان، وهاهو ديكارت يعتبرها الإمكانية المنهجية الوحيدة للإمساك بالمعرفة الشاملة. لذلك ففيلسوفنا تجاوز "النزعة الرياضوية اليونانية" بسعيه إلى إبراز قدرة المنهج الرياضي على التعبير عن وحدة العقل الإنساني، أي بتحقيق مطابقة بين وحدة المنهج و"وحدة الفطرة" التي لم يستطع الإمساك بها؛ إذ بالرغم من كونية العقل الفطري لدى الإنسان والمؤسسة على القدرة على الحكم السليم، فإن الدور السلبي للمكتسب التربوي والاجتماعي يحول دون تحقيق "عصمة الذهن من الخطأ"، ولا يضمن هذا الشرط سوى المنهج الرياضي. هاهنا يصبح العقل الرياضي مقننا وموجها للعقل الفطري.
*وحيد
13 - سبتمبر - 2008
 2  3  4  5  6