البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 1  2  3  4  5 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
1ـ بين العلم والفلسفة : كنت والمنهج العلمي    كن أول من يقيّم
 
 
إن الغالب على فكر كنت هو نزعته العقلية وتفكيره العلمي المنهجي لأنه بدأ حياته عالماً . سوف نرى ، فيما بعد ، كيف حاول كنت تطبيق المنهج العلمي في البحث الفلسفي . بل أن تجربة كنت بمجملها يمكن تلخيصها بقولنا : أنه أراد وضع قانون " علمي " يصلح للبحث النظري ويطبق على الفلسفة والماورائيات وتكون نتائجه يقينية تماماً كما في العلوم الفيزيائية والرياضية .
 
كان كنت في بداية حياته مولعاً بالعلوم والرياضيات ، وكان شديد الإعجاب بنظريات نيوتن العلمية والفلسفية وحاول السير على منواله في تطبيق المنهج الرياضي في علم الطبيعة ، وكان يستبعد فكرة " الشيء في ذاته "( النومينا ) في مجال المعرفة . نشر كنت بحثاً هاماً في العام  1755 عنوانه : " تاريخ الطبيعة العام ونظرية السماء "  حاول فيه تفسير النظام الفلكي على أساس القوانين الميكانيكية وبحسب مبادىء نيوتن : افترض وجود مادة أولاً ، ومن المادة صنع العالم . وهذه المادة برأيه تخضع لقوانين : قوة الجاذبية ، وقوة الدفع . ووجد أن العناصر تختلف من حيث كثافتها وقوة جاذبيتها التي هي علة الحركة في المادة ولو كانت الكثافة واحدة في الأشياء لساد العالم سكون رهيب .
 
افترض كنت أيضاً بأنه يوجد في الفضاء نقطة ترتكز فيها الجاذبية ، وأن جزئيات الفضاء الواسع تتجه إلى هذه النقطة بفعل الجاذبية . هكذا تكون أول جسم في الفضاء .
 
هذا الجسم المتحرك هو السديم الأول ، الأصل ، الذي يزداد نموه بسرعة كبيرة ، وتزداد كثافته بقدر ما تزداد حركته وسرعتها .
 
والحركة في نظرية كنت هي حركة الدوامات التي تمنع اصطدام الجزئيات بعضها ببعض . وبهذا أضاف كنت إلى نظرية نيوتن ( التي تفسر الحركة بالجاذبية أيضاً بينما فسرها ديكارت تفسيراً رياضياً ) حقيقة الجزئيات التي تملأ الفضاء وتوصل بفضل ذلك إلى نتائج فلكية صحيحة قريبة من النتائج التي توصل إليها لابلاس الفرنسي بطريقة أخرى ، حتى أن نظريته عرفت باسم " كنت - لابلاس " ، ورغم أنه ( أي كنت ) لم يعتمد على تجارب فلكية بل وضعها على طريقة الاستنباط معززاً بذلك إيمانه بالتأثير المتبادل بين العلم والفلسفة .
 
 انطلاقاً من إيمانه بيقين المنهج العلمي وحاجته للنظر العقلي ، حاول كنت وضع أسس فلسفة نقدية قوامها إعادة النظر بادعاءات الحقيقة الماورائية التقليدية وترك المجال للعلوم العقلية والعلوم التجريبية للنظر الفلسفي في محاولة لإرساء علوم ماورائية يقينية ، واضعة نصب عينيها القيمة المطلقة للبحث الفلسفي والنظري وهي : القانون الأخلاقي .
 
كان كنت في توجهه هذا يريد الخروج من زوبعة الشك التي أثارها هيوم ( David Hume 1711 -1776 ) والذي كان قد أسس للفلسفة النقدية ، لأن نقده لفكرة السببية قد ترك بالغ الأثر في الحياة الفكرية والاجتماعية لعصره .  يقول كنت :
 
" أعترف صراحة بأن تنبيه ديفد هيوم أيقظني أولاً من سباتي الدوجماطيقي من سنين مضت ووجه بحوثي في الفلسفة النظرية وجهة جديدة تماماً " . ( المقدمة لكل ميتافيزيقا يمكن أن تصير علماً ) .
 
ومعنى هذا أنه وجد في شك هيوم تنبيهاً يدعو المفكرين والفلاسفة إلى الكشف عن حقيقة التصورات العقلية ومصدرها . فلقد اهتم هيوم في فلسفته بتحليل مفهوم العلية ( السببية ) واكتشف أن هذا المبدأ يمثل علاقة بين شيئين اعتدنا مشاهدتهما معاً في التجربة . هذا معناه بأن تصورات العقل ليست صادرة عن طبيعة العقل وحده ، بل هي تصورات يستخلصها بالتجربة . فكان هيوم يشك إذن بأن تكون هذه التصورات صادرة عن العقل وحده . هذا التأمل دعا كنت للتفكير بضرورة تقويض شك هيوم لو أردنا إرساء قاعدة لفلسفة نقدية جديدة تقوم على أسس متينة فحاول أن يثبت أن العقل وحده هو مصدر تصوراته العقلية بدليل أنه يفسر هذا الترابط على هذا النحو وبأن لدية استعدادات قبلية لهذه التصورات لكي تكون عملية التحليل والتركيب ممكنة على هذه الصورة وهو يقول : " إذا كانت تصورات العقل مصدرها العقل ، فهذا يعني بأنها سابقة على التجربة ، وبأنها تصورات " قبلية " ( أي معطى أول بديهي ، فطري سابق على التجربة ) " لكن المهمة الشاقة التي سيحددها لنفسه هي عملية استنباط هذه التصورات من المبدأ الواحد الذي هو العقل نفسه وهو يقول في ذلك : " إن عملية استنباط التصورات كانت أشق مهمة قمت بها من أجل دعم الميتافيزيقا " .
 
هذا النقد لمبدأ العلية ( السببية ) هو الذي حدا به لوضع كتاب " نقد العقل المجرد " في محاولة منه لتحديد الصور القبلية الموجودة في العقل والتي تتعين بها التجربة . فكيف تكون المعرفة بالعقل المجرد ممكنة ؟
 
 
*ضياء
26 - يناير - 2008
2 - بين الحكمة والفلسفة : ما هي أوراق اعتماد الفيلسوف بحسب كنت ؟    كن أول من يقيّم
 
 النص مأخوذ من كتاب : " مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً " لإيمانويل كنت ترجمة : الدكتورة نازلي اسماعيل حسين ، دار الكتاب العربي بالقاهرة 1968  ، والفصل بعنوان : كيف تكون المعرفة بالعقل المجرد ممكنة ؟ (ص 70 )
 
" النتيجة أننا نعفي جميع الميتافيزيقيين من أعمالهم بصورة رسمية طبقاً للقانون ، حتى يجدوا لنا حلاً مرضياً لهذا السؤال : كيف تكون المعارف التركيبية القبلية ممكنة . وباسم هذا الحل يقدمون اوراق اعتمادهم إذا كان عندهم شيء يقدم باسم العقل المجرد ، وإلا فليتوقعوا أن يقيلهم أناس عقلاء كثيراً ما وقعوا فريسة لخداعهم دون النظر إلى ما يقدمونه من أعمال .
 
وإذا كانوا على العكس يريدون أن يواصلوا أعمالهم لا بوصف الميتافيزيقا علماً بل فناً يقنع الناس بما هو نافع لهم ويناسب فطرتهم ، فلا نجد قانوناً يمنعهم من مزاولة المهنة . وعندئذ سيتكلمون بلسان متواضع وهو لسان الإيمان العاقل ، وسيعترفون بأنه ليس من حقهم أن يتجاوزوا حدود كل تجربة ممكنة ، ولا حتى على سبيل الفرض والتخمين ، أو أن يدعوا العلم بأي شيء ، إنما من حقهم فقط أن يسلموا  بكل ما يمكن وكل ما يلزم لهداية العقل والإرادة في الحياة ( لا من جهة الاستعمال النظري لهما الذي لا يحق لهم ممارسته ، بل من جهة الاستعمال العملي فقط ) . وبذلك فقط يمكن وصفهم بانهم حكماء يسدون للإنسانية نفعاً . ويصدق هذا الوصف عليهم إذا عدلوا عن تسميتهم بالميتافيزيقيين . إن الفلاسفة الميتافيزيقيين هم أهل النظر ولا يمكن أن نسمح لهم بأن يتلاعبوا بالفروض ، إذ لما كانت الميتافيزيقا تعنى بالأحكام القبلية فلا يمكن أن يرضى الميتافيزيقيون بأحكام سطحية مشبهة بالحقيقة ( لأن ما ندعي معرفته بصورة قبلية هو ما تأكد لنا أنه يتصف بالضرورة ) وبذلك فإما أن يقدم لنا الميتافيزيقيون علماً ، أو لا شيء عندهم .  "
 
*ضياء
27 - يناير - 2008
3 - موقف كنت من الدين    كن أول من يقيّم
 
ليس من الممكن عزل فكر كنت عن الأجواء السياسية والفكرية التي نشأ فيها وعايشها وتأثر بها رغم أنه في طريقه الطويل نحو معرفة خالصة مجردة ، حاول تحرير عقله من هذه التأثيرات ، كما أنه حاول بناء فلسفة نقدية تجعل من البحث الفلسفي الذي حدوده الماورائيات ، علماً يقينياً ذا منهج تجريبي . ويصف كنت عصر التنوير على أنه " مرحلة استقلال العقل وتحمل الإنسان مسؤولية تفكيره " وبأن هذه المسؤولية لن تحصل ، وهذا الإستقلال لن يتم ، إذا لم يتم فصل الدين عن الأخلاق والسياسة .
 
يجب أن لا ننسى أبداً بأن موقف كنت هو موقف البروتستانتي المعارض لسلطة الكنيسة والكهنوت ، وهذا ما تلقاه في تربيته البيتية ، وكان مؤمناً بأن الإرادة الإنسانية ليست لأية سلطة خارجة عنها . وكتابه " الدين في حدود العقل الخالص " الذي أصدره في العام 1793 هو في الحقيقة نقد للدين . ويؤكد كنت في هذا الكتاب بأن الدين لا يجب أن يرتبط بالعواطف بل بالعقل . وأنه من الخطأ أن نعتقد بأن الدين هو الضابط للآخلاق في حين أن الأخلاق وحدها هي التي يمكن ان توصلنا إلى الدين فالقانون الأخلاقي العقلي يتفق مع إرادة الله عز وجل ، والأخلاق التي التي ينص عليها الدين تختلف عن الشعائر والعبادات الخارجية التي نتمسك بها . 
 
لقد أراد كنت أن يؤسس لمعرفية " قبلية " قائمة على النقد للمعطيات البديهية التقليدية التي ورثتها الفلسفة عن المنطق الأرسطي وهادمة لفكرة إمكان " إدراك الشيء في ذاته " أي المعرفة المطلقة المؤسسة على اليقين الديني أو المعرفة بالجوهر والمطلق كما حددها أفلاطون . وأراد جعل الماورائيات علماً كالرياضيات والفيزياء والطبيعيات ، فلم يعد هدف الفلسفة هو البحث عن حقيقة مطلقة خارج الذات ينبغي الوصول إلى معرفة متطابقة معها ، بل أصبح مجالها البحث في الإمكانيات المتاحة للعقل من أجل التوصل إلى المعرفة ، أي البحث في حدود هذه المعرفة وقوانينها وآليتها .
 
ويكون كنت بنقله مجال المعرفة إلى حدود العقل الإنساني ، ونقل مهمة التفلسف من مجال الكشف عن حقيقة مطلقة تتولد عن تطابق التصور و" الكائن "( الوجود أو الشيء بذاته ) ، إلى البحث عن معايير الحقيقة في الأشكال والمفاهيم القبلية التي تنظم التجربة لكونها صلة الإنسان بالعالم . وهو يكون بهذا قد هدم سلطة المطلق اللاهوتي وأقصاه عن مجال العلم والمعرفة وأعطى للإنسان سلطة مستقلة ، مؤسسة على التجربة ، وعلى معرفة يقينية ذات منهج علمي خاضع لقوانين بحث صارمة . وبهذا أصبح الإنسان سيد نفسه بعد أن استغنى عن المعرفة المطلقة ليؤسس لمعرفة " يقينية " في حدود سلطة العقل ومعارفه " القبلية " المرتبطة بالزمان والمكان .
 
*ضياء
3 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : الزمان والمكان (3 )    كن أول من يقيّم
 
يعتقد كنت بأن العقل الإنساني غير مؤهل لمعرفة " الأشياء بذاتها " كما أسلفنا ، وأن كل معرفة بالأشياء هي معرفة تجريبية مرتبطة بالحواس . غير أنه يوجد في العقل الإنساني ما يعرف ب " القبليات " التي تمكننا من الوصول إلى معرفة يقينية ، وأن هذه القبليات هي معطى بديهي سابق على التجربة ، إلا أن إدراكنا لهذه القبليات لا يتم إلا بعد التجربة :
 
" وهكذا نحن لا ندرك الموضوعات قبلياً إلا بصورة العيان الحسي . ومن هنا فلا يمكن معرفتها إلا كما تبدو لحواسنا ، لا كما يمكن أن تكون في ذاتها ، وهذا الزعم ضروري على الإطلاق إذا كنا نريد أن نسلم بأن القضايا التركيبية القبلية ممكنة ، أو إمكانها في حالة وجودها يجب أن يكون مفهوماً ومتعيناً من قبل .
 
أما المكان والزمان فهما العيانان اللذان تبنى عليهما في الرياضة البحتة كل المعارف وجميع الأحكام التي تكون ضرورية لازمة في نفس الوقت . لأنه يجب أولاً في علم الرياضة أن نتمثل كل تصوراته في العيان ، وفي علم الرياضة البحتة يجب تمثلها في العيان المجرد أي يجب علينا بناء هذه التصورات . وبدون ذلك فإن الرياضة التي لا تتبع غير المنهج التحليلي الذي يحلل التصورات لا المنهج التركيبي ، لا يمكن ان تتقدم خطوة إلى الأمام طالما تفتقر إلى العيان المجرد الذي يحتوي على مادة الأحكام التركيبية القبلية . إن علم الهندسة يجعل العيان المجرد للمكان أساساً . وعلم الحساب يشكل بنفسه تصوراته عن العدد عن طريق الإضافات المتتالية للوحدات في الزمان ، وعلم الميكانيكا بوجه خاص لا يستطيع أن يشكل تصوراته عن الحركة إلا بواسطة تمثل الزمان . وهذان التمثلان ليسا غير عيانين ، لأننا إذا جردنا العيانات التجريبية للأجسام ولتغيراتها من كل عنصر تجريبي فيها ، أي إذا جردناها من كل ما ينتمي إلى الإحساس فسيتبقى لنا الزمان والمكان وهما بالتالي عيانان مجردان ، وهما الأساس القبلي الذي تقوم عليه جميع العيانات الأخرى وبذلك لا يمكن أبداً فصلها عنه ؛ وعلى وجه التدقيق لما كان هذان المعنيان عبارة عن عيانين مجردين قبليين فذلك يؤكد أنهما صورتان بسيطتان للقوى الحاسة ينبغي أن تكونا سابقتين على كل عيان تجريبي ؛ أي على إدراك الموضوعات الواقعية قبلياً ، لكن في الحق كما تبدو لنا فقط . "( " مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً " لإيمانويل كنت ترجمة : الدكتورة نازلي اسماعيل حسين ، دار الكتاب العربي بالقاهرة 1968  ، فصل : في المسألة المتعالية الرئيسية كيف تكون الرياضة البحتة ممكنة ؟ ص 78 - 79 )
 
المعرفة عند كنت هي " تركيب " بين معرفة تجريبية ترفدنا بها الحواس ، ومعرفة قبلية مجردة : تتم هذه العملية في الذهن البشري . يعني بمعنى آخر بان هذه المعرفة هي نتيجة لتركيب ما تراه وتلمسه وتختبره الحواس وما يضيفه إليها الفكر ضمن شروط معارفه القبلية .
 
المعطيات الحسية هي إمدادات تردنا من العالم الواقعي ( لا مجال إذن للشك فيها ) وهي تمثل موضوعات المعرفة ، لكنها تتحول في ذهننا إلى معارف بفضل ما نضفي عليها من مكونات العقل الإنساني ، وهذا هو موضوع البحث الفلسفي ، أن نحدد هذه المعارف القبلية من صور أولية سابقة على التجربة ولا تتكشف لنا إلا بالتجربة . المكان والزمان هما صورتان أوليتان تضفيهما المعرفة على كل الموضوعات المتأتية لها من الخارج ، ودون أن يكون لهما أدنى وجود خارجي على الذات . فالزمان والمكان هما الشرط الذي يجعل " العلم " بالشيء ممكناً والمعرفة بهما هي إذن معرفة قبلية . إن كل ما نتمثله من صفات وخصائص للمكان مثلاً في عالم الهندسة ينطبق على عالمنا المحسوس ، فالزمان والمكان هما إذن صورتان قبليتان للحس الباطن وكل ما لدينا من معرفة بالأشياء تنتظم وفقاً لهاتين الصورتين القبليتين .
 
*ضياء
3 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : الثورة الكوبرنيكية وتعيين حدود العقل المجرد(7)    كن أول من يقيّم
 
 
سنعود لتحديد مفهوم المعرفة : المعرفة هي عملية التركيب التي تحدث في الذهن بين معطيات الحس والتجربة والصورة التي تتولد عنها في الذهن البشري .
 
المادة هي موضوع المعطى الحسي .
 
الصورة هي مادة الفكر التي ولدت في الذهن نتيجة عملية التركيب بين المعطى الحسي وما أضافه الذهن بواسطة التصورات القبلية .( هذا يشبه تصور أرسطو للكون الذي هو مكون من هيولى وصورة ) .
 
يلخص كنت نظريته هذه في كتابه " نقد العقل الخالص " بمقولة شهيرة هي : " أن كل مفهوم بلا معطيات حسية هو مفهوم فارغ ، وأن كل معطى حسي بلا مفهوم فهو أعمى "
 
فالمعطيات الحسية هي إمدادات حقيقية تأتينا من العالم الخارجي ، العالم الواقعي المحسوس ، وهي ليست مجرد أوهام أو خيالات من نسج العقل . لكن مهمة نقد المعرفة هو الفصل بين ما يرد إلينا من الخارج ، وما نضفيه على المعطيات الحسية بواسطة ما لدينا من صور قبلية سابقة على التجربة . والمكان والزمان هما صورتان قبليتان تضيفهما القوة الحاسة على كل المعطيات الواردة إليها من الخارج ودون أن يكون لديهما أدنى وجود واقعي في الخارج . نحن ندرك إذن الأشياء الخاضعة لهذين الشرطين الأوليين السابقين لكل تجربة ولا ندرك كل ما يقع خارجهما . ومن هذا المنطلق ذاته يستبعد كنت كل معرفة للشيء بذاته ، أي للجوهر ، فالعقل الإنساني بشروط إدراكاته لا يمكنه معرفة المطلق واللامتناهي .
 
العقل الإنساني معد لمعرفة ومواجهة العالم الخارجي فقط . عند قيامه بهذه المهمة ، يكون العقل الإنساني مسلحاً بالمقولات الإثنتي عشرة التي تنظم معطيات الإدراك الحسي . هذا التلازم بين الحسي وتصورات العقل القبلية هو من طبيعة العقل البشري . هذا المفهوم خطير جداً لأنه يقلب مفهوم الذاتية رأساً على عقب : مقولات العقل البشري الأولية هي كلية وموضوعية ( هي واحدة إذن لدى جميع البشر ) المتغير هو : موضوع التجربة والإدراكات الحسية الواردة من العالم الخارجي .
 
هذه هي الثورة الكوبرنيكية التي جاء بها كنت والتي غيرت مفهوم الصراع الوجودي فكنت لا يهتم بالتاريخ ولا بالتقاليد أو الانتماء التي هي كما يقول : " ذات مسار عبثي لا حكمة فيه " بل هو يراهن على العالمية ضد الهوية ، وعلى المدنية ضد القوميات ، وعلى العقل البشري مرجعاً لقيم الإنسان الأخلاقية ضد اللاهوت والميتافيزيقا .
 
*ضياء
11 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : الأحكام الكلية والموضوعية للتجربة (4)    كن أول من يقيّم
 
إن أحكام الإدراك الحسي لا قيمة لها لأنها ذاتية إلا أنها تصبح بفضل تصور الذهن لها أحكاماً للتجربة . فلة قلنا مثلاً بأن الحجرة دافئة فهو حكم ذاتي . وينبغي أن نحلل التجربة عموماً لنعرف ما تتضمنه من أثر للحواس وللذهن ، ولنعرف كيف يكون حكم التجربة نفسه ممكناً .
 
" سنضرب المثل الأتي : إذا سقطت أشعة الشمس على الحجر ، سخن الحجر . وهذا مجرد حكم للإدراك الحسي ليست فيه أية ضرورة مهما كان عدد المرات التي أدركنا أنا وغيري من الناس فيها هذه الظاهرة : إننا قد اعتدنا على وجود هذا الترابط بين الإدراكات الحسية ، أما إذا قلت بأن الحجر يسخن بأشعة الشمس ، فأنا أضيف هنا التصور العقلي للعلة إلى الإدراك الحسي وبذلك أربط بالضرورة تصور الحرارة بتصور ضوء الشمس ، وهكذا يصبح الحكم التركيبي حكماً صحيحاً كلية وبالضرورة حكماً موضوعياً كما يصبح حكم الإدراك الحسي حكماً للتجربة . " ( هامش الصفحة 107 من الكتاب المذكور سابقاً : مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً ... )
 
" وجملة القول أن العيان من اختصاص الحواس ، والتفكير من اختصاص الذهن ، لكن عملية التفكير هي العملية التي تتحد بها التمثلات في الشعور ويحصل هذا الاتحاد بين التمثلات إما بالنسبة إلى الذات فيكون عارضاً وذاتياً ، أو على جهة الإطلاق فيكون ضرورياً وموضوعياً . والحكم هو اتحاد هذه التمثلات في الشعور ، والتفكير إذن هو الحكم أو هو عملية رد التمثلات إلى الأحكام عموماً .......... ص111 "
 
" إن تصورات الذهن المجردة لا تكون لها أية دلالة على الإطلاق إذا كانت لا تنطبق على موضوعات التجربة وإذا طبقناها على الأشياء في ذاتها ( النومينا ) فهي لا تساعد إلا على تهجي الظاهر حتى يمكن أن نقرأها من حيث هي تجربة ؛ والمبادىء التي تتعلق بعالم الحس لا يستخدمها الذهن إلا في التجربة ....... إن الحل الكامل للمسألة التي طرحها هيوم هو على الرغم من تعارضه مع كل ما نتبأ به ، الحل الذي يحافظ على المصدر والأصل القبلي لتصورات الذهن المجردة ، ويحافظ أيضاً على صحة قوانين الطبيعة العامو بوصفها قوانين الذهن إنما هو يجعل استعمالها مقصوراً على التجربة لأن إمكانها يقوم أساساً على صلة الذهن بالتجربة ، لا على اعتبار أن هذه القوانين مشتقة من التجربة ، بل على اعتبار أن هذه التجربة مشتقة منها ؛ ولم يفطن هيوم أبداً لعذه الصلة التي هي على هذا النحو العكسي .
 
وهذه النتيجة التي نستخلصها الآن من كل هذه البحوث : كل المبادىء التركيبية القبلية ليست غير مبادىء التجربة الممكنة  ، ولا يمكن أبداً أن تنطبق على الأشياء في ذاتها ، بل فقط على الظواهر بوصفها موضوعات للتجربة . ولهذا السبب أيضاً فإن علم الرياضة البحتة وعلم الطبيعة المجرد لا يمكن ان يتجاوزا حدود الظواهر البسيطة ولا يمثلان شيئاً غير ما يجعل التجربة ممكنة ، أو إن ما يشتق من هذه المبادىء يجب أن يكون من الممكن تمثله بالضرورة وفي كل وقت وفي أية تجربة ممكنة . " ( ص : 123 - 124 - 125 )
 
 
*ضياء
4 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : الفكرة النفسية السيكولوجية (5 )    كن أول من يقيّم
 
ينفي كنت ، بناء على ما تقدم ، نفياً قاطعاً إمكانية إدراك العقل الإنساني لجوهر الأشياء أو الأشياء في ذاتها ( النومينا ) كما يسميها . وما إدراكنا ل " الأنا " التي هي الذات المفكرة سوى إشارة إلى موضوع الحس الباطن الذي هو موضوع للتجربة وهو في الوقت عينه مركزاً للقبليات السابقة على التجربة ، أي أن معرفتنا به هي قبلية وبعدية ، والتي لا يمكن أن تكون جوهراً بحسب معرفتنا بها ( في هذا نقد لنظرية ديكارت أو الكوجيتو الديكارتي : أنا أفكر إذن أنا موجود ) وأن مسألة خلود النفس هي من المسائل الخارجة على إدراكات العقل ولا تخضع لقوانين التجربة العقلية .
 
 " نحن نسمي إذن جوهر هذا الأنا المفكر ( النفس ) بوصفه الذات التي ينتهي إليها تفكيرنا والتي لا يمكن أبداً أن نتمثلها كمحمول على شيء آخر ، مع ذلك سوف يبقى تصور هذا الجوهر فارغاً تماماً ولا نتيجة منه ، إذا لم يكن في إمكاننا إثبات دوامه .....
 
وإذا كنا نريد إذن أن نستدل من تصور النفس بوصفها جوهراً على دوامها ، فإن نتيجة هذا الإستدلال لا تنطبق على النفس إلا بالنظر إلى التجربة الممكنة ، ولا تنطبق عليها من حيث هي شيء في ذاته خارج عن كل تجربة ممكنة . إن الشرط الذاتي لكل تجاربنا الممكنة هو الحياة ؛ وبالتالي فلا يمكن أن نستنتج إلا دوام النفس في الحياة لأن موت الإنسان هو نهاية كل تجربة بالنسبة إلى النفس موضوع التجربة ، إن لم يثبت لنا العكس وهو بالضبط موضع سؤالنا ........ " ( مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً ص : 158 -159 )
 
*ضياء
4 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : العقل المجرد (6)    كن أول من يقيّم
 
 
يعتقد كنت بأن نزعة العقل الإنساني إلى التفكير بالماورائيات لا يمكن الحد منها أو إيقافها ، غير إن هذا العقل في اندفاعه نحو التفكير الميتافيزيقي يقع في المغالطات ، لذلك ، فإننا لو تمكنا من معرفة كيفية حدوث المعرفة في الذهن الإنساني ، وانطلقنا من حقيقة المنهج العلمي الذي اثبتت نتائجه على أنها صحيحة ، فسيكون بإمكاننا تحديد نهج مماثل للمعرفة المجردة إنطلاقاً من القبليات ( التي أفنى عمره في البحث عنها ) الموجودة في الذهن والتي يمكن مقارنتها بالمسلمات الرياضية . فالذهن في انطلاقته نحو المعرفة : " قد يندفع خارجاً عن دائرته ، إما لكي يتمثل موضوعات التجربة في سلسلة يبلغ امتدادها حداً لا يمكن إدراكه بأية تجربة ، أو حتى لكي يبحث في الخارج عن النومينا التي يمكن أن يربطها العقل بهذه السلسلة والتي يمكن بواسطتها أن تكتمل وظيفة العقل تماماً وقد تحرر أخيراً في هذه المرة من شروط التجربة " ( مقدمة لكل ميتافيزيقا يمكن أن تصير علماً ص : 155 ) .
 
لهذه الغاية وضع كنت ما أسماه بالمنطق الترانسندنتالي وقصد به أن يكون علماً مجرداً وركناً أساسياً من ركن فلسفته النقدية : " يجب أن يكون لدينا منطقاً لا نستبعد منه كل مضمون المعرفة . يجب أن يستبعد هذا المنطق ما له مضمون تجريبي ، ويجب أن يحوي فقط قواعد الفكر الخالص في شيء ما " ( كنط وفلسفته النظرية : د . محمود زيدان ، دار المعارف بمصر 1979 )
 
يتناول المنطق الترانسندنتالي بحثاً في مصدر هذه القواعد والتصورات والمبادىء وحدودها . رأى كنت أنه يوجد لدينا إثنتي عشرة مقولة صنفها في أربعة قوائم هي :
 
1ـ مقولات الكم وتحوي : الوحدة ، الكثرة ، الجملة
2 ـ مقولات الكيف وتحوي : الإثبات ، النفي ، التحديد
3 ـ مقولات العلاقة وتحوي : الجوهر ، العلة ، المعلول
4 ـ مقولات الجهة وتحوي : الإمكان والاستحالة ، الوجود واللاوجود ، الضرورة والحدوث .
 
ويعتقد كنت بأن أرسطو قد أخطأ في اعتبار الزمان والمكان من المقولات وذلك لأنهما لا يصدران عن العقل الفعال وإنما عن القدرات الحسية .
 
ليست التصورات القبلية شرطاً ضرورياً لاستقبالنا الحدس الحسي ، لكنها شرط ضروري للإدراك ، هي شرط للمعرفة وهي شروط قبلية لكننا لا نتمكن من معرفتها إلا بعد التجربة .
 
فالفكر الواعي بحسب كنت ليس نفساً أو روحاً وليس وجوداً على الإطلاق ، إنما هو مجموعة تلك الشروط الضرورية التي تتيح لنا إمكانية الإدراك الحسي وإمكانية المعرفة . وهذه ثورة في عالم المعرفة بل هي " ثورة كوبرنيكية " كما أسماها .
 
 
*ضياء
7 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : النقد كمشروع فلسفي لا يكتمل (8)    كن أول من يقيّم
 
 
" أعلن كنت أن العقل في جانبه النظري البرهاني عاجز عن إثبات جوهرية النفس ثم بساطة هذا الجوهر وخلوده ؛ عاجز عن تحديد موقفه من الأسئلة التي يطرحها العقل الخالص فيما يتعلق بأصل الكون ونشأته وحدوده ؛ عاجز عن إثبات وجود الله . ثم أعلن أن الميتافيزيقا النظرية مستحيلة ؛ إنها وهم وخداع ؛ إنها ميتافيزيقات كاذبة ، وبل ومتناقضة . لم ؟ لأن الميتافيزيقا علم قبلي ، وكل ما هو قبلي يتضمن الضرورة المطلقة ومن ثم ينبغي أن تكون القضايا الميتافيزيقية يقينية . ومن جهة أخرى لم يسع الميتافيزيقيون إلى الإتيان بقضايا قبلية لا تثبت وجوداً ، وإنما مسعاهم الأساسي أن تثبت هذه القضايا وجوداً خارجاً على معاني هذه القضايا ، ومن ثم فالقضايا الميتافيزيقية تركيبية قبلية وليست قبلية خالصة . لكن تبين لكنت ومن خلال رحلته الشاقة الطويلة في نقد العقل الخالص أن العقل البرهاني لا يستطيع أن يثبت وجود كائنات كالنفس والله أو وجود معان كالخلود والحرية والعلة الأولى المطلقة ، لا يستطيع أن يثبت هذه أو تلك من مجرد فكرة إلى إثبات وجود واقعي يطابق هذه الفكرة انتقال غير مشروع . ينتهي كنت من ذلك إلى إعلانه بأنه يجب أن نضع حداً لكل الميتافيزيقات النظرية السابقة " السوفسطائية " " التوكيدية " و" المدرسية " وذلك بفضل " منهجه النقدي " . " ( كنط وفلسفته النقدية ، د. محمود زيدان ، دار المعارف الطبعة الثالثة 1979 : ص 348 ) .
 
يتلخص مشروع كنت النقدي بتفكيكه أدوات المعرفة وإيمانه بقدرة العقل على نقد ذاته ، وتدور مجمل فلسفته على معرفة كيف تتم عملية المعرفة في الذهن البشري وما هي شروطها القبلية أي أنها معرفة بالمعرفة . هذا يعني بأن فلسفته قد وضعت العقل بمواجهة نفسه ، فهو يساءل أدواته ويحاكمها وينقدها ، وهذه المعرفة بالمعرفة وأدواتها لا تتكشف لنا إلا عن طريق التجربة ، أي أنها عملية مستمرة تكشف عنها في كل مرة تجارب جديدة . وأما موضوعات الميتافيزيقا أو الحقائق المتعالية فهي إتجاه وتوجه لكن المعرفة بها لا يمكن أن تتحقق بالتجربة التي هي في حدود إمكانات العقل الإنساني . من هنا حصر موضوعات الميتافيزيقا بموضوعي : الطبيعة والحرية .
 
" ومذ عرفت النقد وأنا لا يمكن أن أكف عن التساؤل في كل مرة أطالع فيها كتاباً يثير إعجابي في الميتافيزيقا بدقة تصوراته وتنوعها وحسن ترتيبها وسهولة عرضها ، كما اتثقف بالمعلومات التي يقدمها إلي ، فأسأل نفسي : هل ساعد هذا المؤلف حقاً على تقدم الميتافيزيقا خطوة واحدة ؟ .......
 
لا أظن في عصر يسود فيه النظر والتأمل مثل عصرنا هذا ألا يستفيد ذوو الفضل ، وهم كثيرون ، من كل فرصة طيبة تتاح لهم لكي يساهموا ويعاونوا في تحقيق المصلحة المشتركة بالعمل على تقدم العقل تقدماً مستمراً نحو النور ، بشرط أن يكون هناك أمل في الوصول بهذه الطريقة إلى الهدف المشود . إن العلم الرياضي والعلم الطبيعي والقوانين والفنون والأخلاق نفسها وهلم جراً ، كلها لا تشبع النفس الإنسانية تماماً إذا يبقى فيها دائماً مكان مخطط للعقل النظري وحده ؛ وهذا الفراغ الذي يسود في النفس هو الذي يدفعنا إلى البحث عن شيء يشغلنا أو عن شخص نتسامر معه عن الخرافات والأباطيل والأحلام الصوفية ، ولكن ليس هذا إلا مجرد مظهر من جانبنا ، إذ أننا لا نبحث في الواقع إلا عن شيء نتلهى به لنسكت نداء العقل الذي يؤرقنا ، هذا العقل المخلص لغايته والذي يطالب بشيء يرضي ذاتهمن غير أن يدفعه ذلك إلى خدمة وجهات نظر أخرى ، أو خدمة ميولنا . ومن أجل هذا فإن الاعتبارات النقدية التي لا تتعلق إلا بنطاق العقل من حيث هو في ذاته ، ومن حيث إن كل المعارف والغايات الأخرى يحب أن تلتقي فيه وأن تتحد فيه بجملتها على أساس ، لها تأثير يجذب بشدة إليها أولئك الذين قد حاولوا أن يتوسعوا فقط في استخدام تصوراتهم ، وفي إمكاني أن أقول أيضاً أن جاذبيتها تفوق بشدة جاذبية أي علم نظري لا نقبل لسهولة أن نستبدله به . وأنا أقدم الآن هذه " المقدمة " كخطة وكخيط موصل في البحث ......
فالنقد يعطي لأحكامنا مقياساً يسمح لها بالتمييز الصحيح بين العلم والتظاهر بالعلم ، وعندما نمارس النقد في الميتافيزيقا بلا قيد أو شرط ، فإننا نكتسب بفضله تفكيراً منهجياً يكون له أثر طيب على استعمال العقل في المجالات الأخرى ، وبذلك فالنقد يلهمنا لأول مرة بالروح الفلسفية الحقيقية .....
( المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً : ما يمكن أن نعمله من أجل تقويم الميتافيزيقا كعلم / إيمانويل كنت ، ترجمة : د . نازلي إسماعيل حسين / دار الكتاب العربي 1968 )
 
 
*ضياء
12 - فبراير - 2008
مفهوم الأخلاق عند كنت (9)     كن أول من يقيّم
 
1ــ الأخلاق استعداد طبيعي :
 
تجد فلسفة كنت الأخلاقية جذورها في تربيته البروتاستنتيه وإعجابه الشديد بمفكري الثورة الفرنسية ولا سيما روسو : تكفي عبارة كهذه للتدليل على مدى تأثره بالنظريات التربوية والأخلاقية التي تشكل منها مناخ الثورة الفرنسية وعصر الإصلاح :
 
On ne trouve pas les principes qui conduisent au mal dans les dispositions naturelles de l'homme. L'unique cause du mal, c'est que la nature n'est pas soumise à des règles. Il n'y a dans l'homme de germe que pour le bien."
Emmanuel KANT, Réflexions sur l'éducation, pp. 80, édition Vrin
 
لا يوجد لدى الإنسان الإستعداد الطبيعي الذي يؤدي إلى عمل الشر ، إن السبب الوحيد للشر هو أن الطبيعة لا تخضع للقوانين . لا يوجد لدى الإنسان بذور إلا للخير .
 
هذه النزعة " القبلية " إلى الخير ، الموجودة كاستعداد طبيعي لدى الجنس البشري ، هي غاية البحث الميتافيزيقي لدى كنت ، وهذه " الطبيعة التي لا تخضع للقوانين " هي جوهر " قانون الأخلاق الذاتية " الذي سوف ينادي به .
 
" أما أن يعدل العقل الإنساني تماماً عن البحوث الميتافيزيقية فهذا ما لا يجب أن ننتظره ، كما أننا لن نفضل الامتناع تماماً عن التنفس على الاستمرار في استنشاق هواء فاسد . وسنجد إذن في كل وقت في هذا العالم ، وفضلاً عن ذلك عند كل إنسان ، وبخاصة عند كل إنسان مفكر ، ميتافيزيقا يفصلها كل واحد لنفسه على مقياسه نظراً لعدم وجود مقياس واحد للجميع .... (ص 212 )
 
واللاهوت الطبيعي تصور من هذا الجنس نجده في نهاية حدود العقل الإنساني الذي يرى نفسه ملتزماً بأن يرفع أنظاره إلى أعلى أي إلى فكرة الكائن الأسمى ( وعلمياً إلى العالم المعقول ) لا من أجل أن يعين أي شيء بالنسبة إلى هذا الكائن المعقول الخالص وإذن أي شيء خارج العالم المحسوس ، بل من أجل أن يوجه استعماله الخاص داخل هذا العالم بحسب المبادىء التي تعمل على تحقيق أكبر وحدة ممكنة له ( نظرية وكذلك عملية ) ؛ ومن أجل أن يستخدم في تحقيق هذه الغاية علاقة هذا العالم بالعقل المتقوم بنفسه كعلة لكل هذه الروابط ، ومن غير أن يبتدع لنفسه كائناً متخيلاً .... ( ص 201 )
 
وعندما أفحص كل الأفكار المتعالية التي يؤلف مجموعها المشكلة الخاصة بالعقل المجرد الطبيعي ، وهي المشكلة التي تلزم العقل بأن يهمل الملاحظة البسيطة للطبيعة وأن يتعالى على كل تجربة ممكنة لكي يحقق بهذه الجهد هذا الشيء ( علماً كان أو سفسطة ) الذي نطلق عليه اسم الميتافيزيقا ، فإني أرى على ما أعتقد أن الغاية من هذا الاستعداد الطبيعي للعقل هي تخليص الفكر من قيود التجربة ومن حدود الملاحظة البسيطة للطبيعة بحيث يرى أمامه مجالاً لا يحتوي إلا على موضوعات الذهن المجرد التي لا يمكن أن تصل إليها القوى الحاسة . وذلك حقاً لا لكي يصبح هذا المجال موضوعاً للنظر العقلي ( فنحن لا نجد فيه الأرضية الصلبة التي يمكن أن نقف عليها ) ، بل لأن المبادىء العملية لا يمكن أن تتصف بالكلية التي لا يستطيع العقل أن يتخلى عنها على الإطلاق من أجل غايته الأخلاقية، إلا إذا وجدت أمامها مثل هذا المجال الذي يحقق لها الأمل والرجاء الضروريين لها .
 
ولقد وجدت عندئذ أن الفكرة السيكولوجية مع القليل الذي نفهمه منها عن الطبيعة الخالصة للنفس الإنسانية التي تسمو على كل التصورات التجريبية تبين لنا بطريقة واضحة على الأقل ، عدم كفاية هذه التصورات ، وتبعدنا هكذا عن المادية على اعتبار أنها وجهة نظر سيكولوجية لا قيمة لها في تفسير الطبيعة الإنسانية ، وتجعل العقل منحصراً في غايته العملية . وهكذا فإن التصورات الكونية " الكوزمولوجية " التي تبين لنا أن المعرفة الممكنة للطبيعة لا تكفي لإرضاء العقل في بحوثه المشروعة ، وتفيد في إبعادنا عن المذهب الطبيعي الذي يجعل الطبيعة مكتفية بذاتها . وأخيراً فلما كانت الضرورة الطبيعية في عالم الحواس هي ضرورة مشروطة دائماً بما أنها تفترض دائماً تتبع أشياء أخرى ، فإن الضرورة اللامشروطة لا توجد إلا في وحدة العلة المتميزة عن العالم المحسوس ، وبناء على ذلك فإذا كانت علية هذه العلة هي بدروها طبيعية فلا يمكن أن تجعل وجود الممكن مفهوماً كنتيجة لها ؛ ولذلك فإن العقل يتحرر بفضل الفكرة اللاهوتية من مذهب القضاء والقدر الذي يفرض ضرورة غاشمة في الطبيعة أي في ارتباطها نفسها من غير مبدأ أول وبحسب علية هذا المبدأ نفسه ، وهكذا تقودنا هذه الفكرة إلى تصور العلة بالحرية بحسب العقل السامي . إن الأفكار المتعالية وإن كانت لا تفيد إذن في تعليمنا بطريقة إيجابية ؛ إلا أنها على الأقل تفيد في استبعاد الأحكام الجزئية التي نجدها في المذهب المادي والطبيعي ومذهب القضاء والقدر ، وهي المذاهب التي تضيق مجال العقل وتجعل مكان الأفكار الأخلاقية خارجاً عن مجال النظر العقلي ، ويبدو في نظري أن ذلك سيفسر لنا بقدر ما هذا الاستعداد الطبيعي . ( ص 205 ) ( المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً )
 
*ضياء
9 - مارس - 2008
 1  2  3  4  5