البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 1  2  3  4 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
ديكارت...وانتصار المثالية    كن أول من يقيّم
 
إذا كانت إشكالية ديكارت، إشكالية المذهب العقلي، هي الغلو في الإرادة والإفراط في التفاؤل، أي إذا كان«العقليون قد افترضوا ضمنا أن المعرفة الكاملة يمكن بلوغها في نهاية المطاف، فإن نظرة لوك الجديدة كانت أقل تفاؤلا في هذا الصدد» (راسل). ولكن رغم هذا التواضع من طرف النزعة التجريبية التي رفضت "فطرة العقل" ورفعت شعار "الصفحة البيضاء"، فإن تأثيرها لم يكن بعمق وقوة التأثير الذي مارسته الفلسفات المثالية في الغرب. إن الفلسفة الحقيقية ـ كما يقول شوبنهاور ـ يجب أن تكون مثالية. والواقع أن لوك، كمؤسس للنزعة التجريبية، لم يكن «منهجيا في معالجته لموضوعاته. وكثيرا ما يترك الموضوع حين تنشأ صعوبات. وقد أدى به تكوينه الذهني العملي إلى معالجة المشكلات الفلسفية بطريقة تجزيئية دون أن يواجه مشكلة الوصول إلى موقف متسق مع ذاته. لقد كان بالفعل، كما قال، عاملا تابعا»(لوك). وكانت نتيجة هذه التجزيئية وغياب النسقية أن «التجريبية التقليدية حين انحدرت إلى القرن التاسع عشر، استنفذت الكثير من إمكانياتها النظرية، حتى كادت تُخفى الأصالة والإبداع من آثار أهلها »(توفيق الطويل).  
بين ديكارت وجون لوك مسافة كنفس المسافة التي افترضها كل واحد منهما بين الفطري والمكتسب. وفي نقطة بين هاتين النزعتين سيطرح كانط مشروعا نقديا، ليس من أجل التوفيق بينهما بل من أجل تجاوزهما...
 
*وحيد
16 - سبتمبر - 2008
كانط...الفيلسوف هو المشرع للعقل الإنساني    كن أول من يقيّم
 
إذا كان ديكارت حلقة في مسار ترسيخ وحدة وشمولية العقل الرياضي المجرد، مستئنفا الإعجاب اليوناني بالرياضيات، جاء كانط بعد منهج ديكارت وجاذبية جاليلي وفيزياء نيوتن، أي بعد النجاح الباهر الذي حققه العقل الرياضي، مع انبهار قوي بمنطق أرسطو الذي اعتبره كاملا يستحيل تعديله أو تحسينه، ومع الوفاء للتمييز الأفلاطونيبين الظاهرة والشيء في ذاته، وإن خالفه في جعل الظاهرة الإمكانية الوحيدة المتاحة للمعرفة من طرف العقل الإنساني.
ومن أجل تجاوز الفيلسوفين قال كانط بأن المعرفة ليست مجرد تجريد للعيان، وليست إدراكا للمتعالي عن العيان، بل هي وضع العيان (الأشياء) في الأذهان (مقولات الفهم)، ومن هنا كانت مثاليته صورية.
 وتجلى الطابع المثالي الصوري القائم على قبلية المقولات المنطقية في نمط حياة كانط قبل طريقة تفكيره: لقد تميزت الحياة اليومية لكانط بانتظام آلي دقيق ومحدد أشبه بانتظام ساعة مضبوطة، وكان يخضع سلوكه اليومي لإرادته كما كان حريصا ألا يعلن أية فكرة قبل أوان نضجها واكتمالها.
كانت هذه الصرامة العقلية خاصية تميز طبعه وكذا فلسفته بدون شك. كما تجلت تلك الصورية في حرص كانط على إضفاء الطابع النسقي الصارم على أفكاره، وهو الطابع الذي ميز تصوره للعقل باعتباره بناء معماريا يخضع لوحدة متماسكة: فهناك أولا الوحدة التأليفية القبلية والضرورية الشاملة للفهم، والتي من خلالها أسس علمية المعرفة النظرية القائمة على التجربة على علمية الرياضيات والفيزياء. وهناك ثانيا الوحدة النسقية المخططة الإجمالية التي ينتظم فيها الفهم بمقولاته والعقل الخالص بمبادئه العامة، العالم والنفس والله، كأفكار ترانسندنتالية أو أشياء في ذاتها (Noumènes ) والتي تشكل السقف الذي ينتهي عنده العقل الإنساني.
 وبحكم أن الوحدة الأولى، وحدة الفهم، تتعلق بما هو كائن فستبصبح المعرفة ممكنة وسيكون الفهم هو المشرع لقوانين الطبيعة مستخدما أدوات الرياضيات والمنطق والفيزياء. وبحكم أن الوحدة الثانية تتعلق بما ينبغي أن يكون فسيكون العقل الخالص مشرعا للقانون الأخلاقي مستخدما مفهوم الحرية. وفي الحالتين يبقى «الفيلسوف هو وحده المشرع للعقل البشري؛ في حين أن الرياضي والفيزيائي والمنطقي ليسوا سوى صناع لدى سيد هو المثال الأعلى الذي يجمعهم جميعا ويستخدمهم كأدوات لصالح غايات العقل البشري الأساسية»(موسى وهبة). وبذلك يمكن اعتبار الرياضيات والمنطق القديمين، والفيزياء الحديثة النشأة مع جاليلي وتوريشيلي Toricelli ثم نيوتن، علوما دخلت  تاريخيا  في الطريق "السليم" المؤدي إلى معرفة يقينية وضرورية.
لكن إذا كان المنطق المستمد من أرسطو يقدم معارف عقلية محضة ويقتصر على جعل الفهم يهتم فقط بذاته وبصورته بصرف النظر عن كل مضمون، فإن الرياضيات والفيزياء، بالعكس من ذلك، تنطوي على معارف عقلية وموضوعية في نفس الوقت: فالرياضيات  تؤسس أحكامها الكلية والضرورية على المكان والزمان كصورتين قبليتين تعملان على تنظيم انطباعات الحساسية، أما الفيزياء فتعتبر كلية ضرورية ـ حسب كانط ـ لأن أحكام التجربة لن تكون لها قيمة موضوعية إلا إذا قامت من جهة على الحدس الحسي وعلى المقولات الخالصة في الفهم. ولذلك تعتبر الرياضيات والفيزياء العلمين الوحيدين اللذين يقدمان أدوات كل معرفة يقينية ممكنة والتي يعتمدها الفيلسوف في تشريعه للعقل. وبإدراجه الفيزياء ضمن منظومة تلك العلوم يكون كانط قد وضع السقف الذي يغطي بناء العقل الإنساني النظري، ووجهه نحو نمط واحد محدد من الفعالية الذهنية الإنسانية، هي فعالية العقل المنطقي الرياضي.
يكتسي التصور الكانطي أهمية خاصة في تاريخ الفلسفة لثلاثة اعتبارات أساسية: أولها يتعلق بما قبل كانط؛ فقد مر على البشرية ثلاثون قرنا دون أن يخطر على بال أحد الفلاسفة أن يجعل قدرة العقل على المعرفة موضوعا للتحليل والنقد، قبل استخدامه كأداة للوصول إلى الحقيقة؛  وهو العمل الذي أنجزه كانط بعمله ودعوته إلى فحص "العقل البشري" ، قبل توظيفه كوسيلة للمعرفة والبرهنة على حقائق لاهوتية ميتافيزيقية(زكريا ابراهيم).
والاعتبار الثاني يتعلق باللحظة التاريخية لكانط؛ فإذا كان ديكارت يعتبر أب الفلسفة الحديثة، فإن كانط يشطر هذه الفلسفة شطرين: أخذ عمن سبقوه وسار  في تيارهم، ولكنه اتجه منحى جديدا سيسيطر لمدة طويلة.
 أما الاعتبار الثالث فيتعلق بما بعد كانط، ونرى هنا أن تأثير كانط امتد طوال القرن العشرين، و لم ينحصر فقط في الفلسفة بل امتد إلى حقول علمية عديدة منها علم النفس، وبشكل أخص إلى أهم نظرية سيكولوجية حول النمو المعرفي؛ أي نظرية بياجيه. لقد تأثر بياجيه بكانط وقرأه بعمق، واهتم مثله بتحديد مصادر القدرة العقلية الإنسانية على المعرفة، في إطار نظريته الإبيستمولوجية، كما اعتبر مثله أن التعلمات والتمثلات الإنسانية تتطلب معرفة سابقة ببعض المفاهيم الأساسية المتعلقة بالزمان والمكان، وأن مفاهيم المدة أو الفترة الزمنية سابقة على التعلم، وبالرغم من تأكيد بياجيه على ضرورة وأهمية هذه المفاهيم توصل إلى أن الطفل يقوم ببنائها تدريجيا من خلال عملية الموازنة. فالمسافة المعرفية التي تفصل بين كانط وبياجيه ضئيلة إلى حد كبير، على الأقل من حيث الجهاز المفاهيمي الذي يوظفانه في المجال المعرفي الخاص بكل منهما.
*وحيد
19 - سبتمبر - 2008
العقل الفلسفي...الرؤية والحدود (خلاصات)    كن أول من يقيّم
 
بداية أتوجه بشكري مجددا للأستاذة الفاضلة ضياء على اقتراحها لهذا الموضوع وعلى تشجيعها للمشاركة فيه وعلى نفسها الطويل والنبيل.
سنحاول في هذه المداخلة تكثيف خلاصات المداخلات السابقة في أفق إبراز رؤيتها العامة للنموذج النظري الذي يجب أن يؤطر التفكير العقلي الإنساني. وسوف نعتمد تركيبا مقارنا لإبراز المختلف والمشترك بين الفلاسفة. أما الوجه الآخر للمقارنة، أي الدين، فسوف يتطلب منا بعضا من الوقت نستجمع فيه بعض الأفكار لتقديمها على شكل تصور نطمح أن يكون متماسكا بدرجة معينة...
---------------------
 تبين من خلال المداخلات السابقة انه إذا كانت الفسلفة اليونانية قد انشغلت بتحرير الخطاب من الأسطوري والغيبي، فإن انشغال الفلسفة الحديثة انصب على الدفاع عن قيمة العقل الإنساني وتحريره ـ نظريا وعمليا ـ من وصاية الدين والكنيسة.
لقد جعل أفلاطون الرياضيات الشرط الوحيد الذي يفصل بين المحسوس المتغير والظني اليومي من جهة ، والمعقول الثابت واليقيني المفارق من جهة أخرى، كما جعل أرسطو من المبادئ الأولية للمنطق الآلة التي تعصم الذهن من الخطأ، واعتبر ديكارت الرياضيات حاملة المنهج الشامل المؤسس للعلم العجيب الذي يمكن من السيطرة على الطبيعة، أما كانط فقد أضاف إلى المنطق والرياضيات علم الفيزياء ليجعل منها جميعا الأدوات التي تمكن الفيلسوف من تحديد ما يمكن وما لا يمكن معرفته.
هكذا تأسس التصور الفلسفي للعقل الإنساني من طرف المؤسسين الكبار للفلسفة في بدايتها وحداثتها. والملاحظ هنا، أنه باستثناء معين لأرسطو، فكل الفلاسفة الآخرين ينتمون إلى خانة ما يسمى بالمثالية؛ فإلى هذا الاتجاه ينتمي المنظرون الكبار للعقل الإنساني الذين تصوروا هذا العقل "أسطورة" كبرى قادرة على تفسير كل شيء بالمنطق والحساب، بالاستدلال والرياضيات، في إقصاء تام لكل ما يتعلق بالذاتية والوجدان والصدفة والوجود والفردي والفرح والاحتفال والحب والألم والفكاهة، والشعر والفن...، وكل إقصاء معناه أن تلك العقلانية تصورت العقل مطلقا مغلقا ومكتفيا بذاته، يحمل قبليا مبادئ بسيطة تجعله ينفر من التعقد والتناقض والتعارض المطلق في تصوره للأشياء(إدغار موران).
 وانطلاقا من هذا النقد للعقلانية الكلاسيكية والحديثة يمكن القول بأن تاريخ الفلسفة لم يقدم إلا تصورا مغلقا لعقل واحد يقوم على استخدام التصورات المنطقية والمفاهيم الرياضية والمقولات المجردة والرموز اللغوية، أي باختصار هو العقل القائم على اللوغوس، على الكلام والحساب.
إن "تفكير" الفلاسفة المؤسسين للعقلانية القديمة والحديثة لم يمكِّنهم ـ في نهاية تحليلهم الفلسفي ـ من الوفاء لانتظارات قدرات العقل الإنساني، ولم يسعفهم ذلك التحليل في إبراز "الطاقات" التي يزخر بها ذلك العقل.
*وحيد
19 - سبتمبر - 2008
العقل في المنظومة الدينية - 1    كن أول من يقيّم
 
مساء الخير...وكل عيد وأنتم بألف خير...
يبدو أن ملف الفلسفة والدين سيجعلنا نتحرك على في فضاء غير محدود...وقد اغتنى كثيرا باقتباسات الأخت ضياء والأخ عبدالحفيظ...فالشكر موصول لكما ..في انتظار المزيد. سأطل عليكم بهذه المقالة كاستئناف للمقالات السابقة...
 
لقد تمكنت المنظومة الفلسفية ـ تاريخيا ـ من أن تؤسس لنفسها إطارها المرجعي الخاص والذي يحدد نمط تفكيرها ورؤيتها للوجود وتصورها للعقل والمعرفة. وهي العناصر التي تناولناها في المقالات السابقة. وبقي علينا ـ في الجزء الثاني من مقالاتنا ـ أن نتحدث عن ما يميز المنظومة الدينية حتى يتسنى لنا ـ موضوعيا ـ وضع نوع من المقارنة بين الفلسفة والدين، من حيث الرؤية والمنهج والغاية...
وسوف نستعيد هنا بعض ما كتبناه في هذا المجلس ـ خاصة في الموضوع الذي اقترحه الأخ النويهي ـ والذي نرى أنه يستجيب لما نهدف إليه هاهنا.
تتحدد المنظومة الدينية بمجموع النصوص والمعارف والعلوم التي تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية بوجه خاص، باعتبارها ثقافة تقوم أساسا على مركزية النص الديني (حول اعتبار الحضارة العربية الإسلامية حضارة نص، انظر: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، 1990، ص.9- 10. وكذلك: حسن حنفي، التراث و التجديد، المركز العربي للبحث  و النشر، القاهرة، 1980، ص.177 – 178)، وباعتبارها تشكل كذلك الإطار الحضاري الذي شكل بنية العقل العربي الإسلامي المنتج لتلك الثقافة.
إذ رغم التأثيرات الخارجية التي خضع لها مفكرو الإسلام، والمتمثلة في الفلسفة اليونانية والموروث الفارسي والهيلينستي، ورغم الاختلاف المذهبي الموجود بين هؤلاء، بين السنة والشيعة، المعتزلة والأشاعرة، الفلاسفة والمتصوفة ...إلخ، يمكن القول بأن قراءة مفكري الإسلام للنص الديني صدرت عن عقل واحد، هو العقل العربي الإسلامي الذي يخترق كل تلك "العقول" بحكم وجود عناصر وخصائص مشتركة بينها: فهي عقول لا تمارس فعاليتها إلا في إطار المعرفة التي يفرضها الوحي القرآني باعتباره نصا متعاليا، كما أنها عقول تعتبر المجتهدين من السلف سلطة عليا مهابة ومرجعا للاتباع، ثم إنها عقول تفكر بآليات ذهنية تنتمي إلى الفضاء العقلي القروسطي( محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن، 1990،  ص.236-237..) وانطلاقا من وحدة العقل هذه وتبعيتها لسلطة النص والسلف نفترض أن بين العقل القارئ والنص المقروء ثوابت إبيستمولوجية واضحة.
من أهم هذه الثوابت التصور الديني للعقل كمصدر للمعرفة (وهي مناسبة جزئية للمقارنة بين ما كتبناه سابقا وما نكتبه اللحظة)
إن الحقل التداولي العربي يحدد معاني العقل في القيد والربط والحبس والإمساك والتمييز. وهي معاني يمكن حصرها في ثلاثة أفعال عقلية: الكف والضبط والربط (طه عبدالرحمن ، العمل الديني وتجديد العقل، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1989، ص. 33- 34.) والتي نعتبرها الأنشطة العقلية الأساسية الدالة على الممارسة الذهنية في مرجعيتنا الدينية.
يحيل فعل الكف، أي المنع، على بعد أخلاقي لوظيفة القلب باعتباره وازعا أخلاقيا يعقل ويحبس ويكف صاحبه عن التورط في المهالك، فيكون «العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها ... والعقل : التثبت في الأمور ... وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه» (لسان العرب). وهو معنى يعطي للعقل بعدا معياريا قيميا يخص الممارسة العملية الأخلاقية. مما يسمح بالقول بأن الكف فعل عقلي يشير إلى مهارات الضبط النفسي والتدبير الأخلاقي، وهي مهارات تتعلق بالجانب العاطفي الوجداني في القلب.
 أما فعل الضبط، أي إمساك الشيء حتى لا ينفلت، فيحيل على بعد معرفي لوظيفة القلب باعتباره ملكة حفظ، وقوة تذكر واستظهار( وبهذا المعنى وردت الآية:) يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( (البقرة:75))، وفي الاصطلاح «الضبط هو إسماع الكلام كما يحق سماعه، ثم فهم معناه الذي أريد به، ثم حفظه ببذل مجهوده والثبات عليه بمذاكرته إلى حين أدائه إلى غيره» (الجرجاني،كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ص.137.). وواضح أن الضبط  هنا يشير إلى نشاط عقلي يتمثل في مهارات إسماع الخطاب وفهمه وحفظه واستظهاره.
أما فعل الربط، أي إدراك العلاقة بين قضيتين، فيحيل أيضا على بعد معرفي لوظيفة القلب باعتباره قوة إدراك وتأمل وفهم ونظر وتدبر في الكون () أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها... ( (الحج: 46)). وفي التاريخ وماضي الأمم ()وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد( (ق:  36 ـ37)) وفي النص الديني ()أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها( (محمد: 24)). ومن الواضح أن فعل الربط هنا نشاط ذهني يتمثل في مهارات الاستدلال والقياس.
 ويبدو أن العلاقة بين هذه الأفعال العقلية الثلاث ( الكف والضبط والربط) علاقة تفاعل وتكامل؛ ذلك أن اللغة العربية تضفي على فعلي الضبط والربط معاني وجدانية كالحزم وشد النفس ورباطة الجأش ووثوق القلب (ورد في (لسان العرب) حول مادة / ض ب ط/:(رجل ضابط أي حازم... ورجل أضبط: يعمل بيديه جميعا...والضابط : القوي في عمله...ويقال: فلان لا يضبط عمله إذا عجز عن ولاية ما وليه). وحول مادة / ر ب ط/: ( يربط نفسه عن الدنيا أي يشدها ويمنعها...ورجل رابط الجأش أي شديد القلب...وربط جأشه رباطة: اشتد قلبه ووثق وحزم فلم يفر عند الروع...))
ولذلك فـمفهوم «العقل  في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوما بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة» (محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، 1984  ص. 31.)
والمبدأ الذي يحدد وحدة التفاعل بين الفكر والوجدان، بين العلم والعمل ـ في الحقل التداولي العربي الإسلامي ـ  مبدأ ديني بالدرجة الأولى. فإذا كانت معاني العقل دنيوية في دلالاتها اللغوية فإن القرآن «أضفى على تلك المعاني غائية الدين التي تحول القصد من التجربة والفهم إلى تدبر الخلق والاعتبار به للتعرف على الخالق وتعظيمه، وتحول القصد من حسن الخُلق إلى نفع الخلْق ونيل مرضاة الخالق» (محمد مصطفى عزام، «مصطلح العقل بين الفلسفة والتصوف»، في المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية (الرباط) ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1995، ص. 24.)...وهي غائية تتجلى في مظاهر عديدة ستكون موضع المقال المقبل.
*وحيد
8 - أكتوبر - 2008
التناقض أيضا    ( من قبل 8 أعضاء )    قيّم
 
هاهي الأستاذة ضياء تفي بوعدها بفتح  هذا الموضوع للنقاش ( بين الدين والفلسفة ) , وقد وضعتْ في مقدمتها هدفاً واضحاً للفلسفة وهو ( إيجاد الحلول لمشاكل الحياة ) , وفي المقابل أشارت إلى أن للفلسفة جانباً روحياً , وكأنها تريد إيقاف دوافع التصادم التي ستنشأ ( آلياً ) بين المفهومين , للوصول إلى أهداف متنوعة وغير متضادة بين الدين والفلسفة , فهل الهدف ممكن ٌ ؟
في الدين القضايا الأساسية لا تحتمل  رأياً وسطاً , فالتسليم بوجود الله تعالى هو أول الخطوات , أما الفلسفة والتي تعتمد العقل , وعبره يجب الوصول إلى الحقائق , فلا مُسلمات , بل قضايا قابلة للبحث دائماً , والدين يتناول الجانب الحياتي الواقعي للإنسان ويضع له التشريعات , بينما تتناول الفلسفة ( في معظم مواضيعها )  بالتحليل العقلي ما وراء الطبيعة ,,
لا أريدُ وضع الصعوبات أمام قراءة جادة حول العلاقة بين الدين والفلسفة , لكن ( المطبات ) كثيرة , والأسئلة التي يبدأ فيها هذا الموضوع كبيرة جداً , وتحتاج إلى جهد كبير , أتمنى أن يكون الحوار في هذا الموضوع غير مقيد بالإلتزام بالبحث عن الحلول والتوافق , بل أيضاً إيضاح جوانب التناقض والإختلاف الموجودة أصلاً !
*محمد هشام
30 - أكتوبر - 2007
هايدغر وسؤال " الكون " ، " الكينونة " و " الكائن "     ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
ليس من السهل المغامرة في الكلام عن هايدغر ، الذي أعاد الفلسفة إلى مهدها الأول ، وذلك بالتساؤل عن معنى الوجود أو " كنه الوجود " ، ومن هنا تم اعتباره مجدد الأنتولوجيا التي هي : دراسة الذات الإنسانية من حيث كينونتها ( صفاتها المؤسسة لجوهر وجودها والتي لا يمكن انتزاعها عنها ) .
 
والتساؤل عن " الكون " بدأ منذ برمنيدس (450 ق . م ) الذي اعتبره أصل الوجود وبالمعنى العام الذي تدل عليه كلمة " التكوين " (Genèse ) كما جاءت في التوراة أي أنه : الوجود بعد العدم . غير أن أفلاطون قال بأن الذات في " كونها " ليست واحدة ، وليست متفردة بالصفات ، بل أن للصفات وجودات متعالية تجتمع بل وتتناقض أحياناً في الذات و" كونها " .
 
أما أرسطو ، فلقد توصل إلى تحديد " الكون " ( L'être ) على أنه : حصول الصورة في المادة ، وتحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى . يقابله " الفساد " الذي هو زوال الصورة عن المادة .
 
وأما الشيخ الرئيس " ابن سينا " فلقد استطاع ( على عكس أرسطو ) بالانطلاق من المحسوس ، تحديد خواص " الكون " لأنه كان طبيباً ويعنى بالجزئيات ثم ينطلق منها لتحديد الكليات : " الكون " عنده هو معنى أحادي وسيط بين الله والمخلوق . 
 
عند الأشاعرة : " الكون " هو مرادف ل " الثبوت " و " الوجود " و " التحقق " .
 
أما عند المعتزلة : فإن الكون والوجود هي مغايرة للثبوت والتحقق . ( لأن الكون والوجود عرضة للتغيير ) أما الثبوت والتحقق فهي أعم من الوجود .
 
ينطلق هايدغر في تعريفه " للكون " أو " الكينونة " من معطى بديهي وهو : أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتساءل عن معنى وجوده ، وأن مجرد طرح السؤال يفترض وجود معطى بديهي آخر لا يدركه العقل الراهن ، بكينونته ( أو كونه ) الراهن المتمثل أمامنا حالياً والذي يسميه هايدغر بالكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) ( Desein ).
 
إن فلسفة هايدغر تقليدية جداً لجهة إعادتها طرح السؤال عن مصدر المعرفة ، فإذا كان الإنسان يعرف بالبداهة أنه موجود بدليل أنه يحاول تحديد ماهية وجوده ، فإن هذا يفترض وجود معطى معرفي يتجاوز قدرة الإنسان الحالية على التفكير لأن الإنسان بكينونته الحاضرة غير قادر على تحديد معنى وجوده .
 
وصف الحياة الاعتيادية ، العلاقة بالعالم المحيط ، وبالآخرين ، قلقها والجذور المكونة لمعارفها الأنتولوجية ، تمكننا من تحديد وشرح البنية الإجمالية العامة للكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) التي تؤلف زمنيتها ، أي تحدد صفاتها في الزمن الراهن ( Temporalité ) والتي تجعل منها ذاتاً تاريخية . ثم أن دراسة هذه " الكينونات " وفهمها في زمنيتها وتاريخيتها ، سوف يرسم لنا أفق الكينونة الحقيقية الأصلية مقابل الكينونة الزائفة .
 
فالإنسان " متروك " في العالم ، وباكتشافه لنفسه ك : " مشروع " ، ككينونة قابلة للتحقيق سوف يتمكن من تحديد اتجاهه لأن " الكينونة الحاضرة " يمكن أن تتوه في وجود مزيف ( إغراق في الحياة العادية اليومية ) . ولا يتم التوصل إلى تحقيق الكينونة الأصلية إلا بالتجربة العاطفية والمعاش واقعيا التي تضعنا في حالة من القلق ، والتي يكون فيها ما يمكن تحقيقه من الكينونة معكوس بكليته .
 
هذه التجربة ( القلق ) التي تخفي عن أعيننا المشهد المطمئن لسلوكنا وتكشف أمامنا العدم بحدوده القصوى " كينونة الموت " تفتح أمامنا طريق الكشف على حقيقة الذات الفعلية " الكينونة الأصلية " . فالإنسان لا يكون إنساناً بطمئنة نفسه بواسطة المعرفة ( الأفكار النظرية ) لكنه يتحقق : بالتجربة القلقة وبأن ينقذ من النسيان سؤال الكينونة وذلك بأن يكون راعي هذه الكينونة وبأن يحرر الكلام من اعتياديته ( أي من الاستخدام اليومي التلقائي والاصطلاحي للكلام ) .
 
المسألة تكمن إذاً في تحرير الكينونة من تقنية التفكير ، وذلك بأن نعيد التفكير إلى بعده الأصلي وهو : تحقيق العلاقة بين الذات والإنسان ، وتحرير اللغة من استخدامها اليومي النفعي ، من علاقات القواعد اللغوية الشكلية ، لكي تعود إلى حالتها الشعرية لأنها تنبض بالمعاني ، و(لأن الإنسان يحيا على هذه الأرض بشاعرية ) كما يقول هولدرين .
 
وكان أبو العلاء المعري قد قال في قصيدته التي أولها : ألا في سبيل المجد ما انا فاعل
وإني وإن كنت الأخير زمانه
 
لآت بما لم تستطعه الأوائل .
 
 
*ضياء
23 - نوفمبر - 2007
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 
لم تحظَ فلسفة في القرن العشرين بما حظيت به فلسفة مارتن هايدغر (1889 – 1976). فقد كان مثار اهتمام معظم الفلاسفة والمفكّرين، ولاسيما بعد صدور كتابه الشهير عام 1927 "الكينونة والزمان" L'être et le temps الذي اعتبر أهم عمل فلسفي عرفه ذلك القرن. ولعل فرنسا كانت السبّاقة في التأثر به. وما "الكينونة والعدم" لجان بول سارتر سوى مثال على ذلك. كما شأن فلاسفة وجوديين آخرين وأبرزهم موريس مارلو بونتي وغبريال مارسيل. لكن ما يستميلنا لدى هذا الفيلسوف هو تحوّل فكره الى البحث في الشعر والشعراء، مما وسع نطاق جمهوره، وغدا مرجعاً يؤخذ بحكمه في هذا المجال، حتى عدّ بحق "صديق الشعراء". على عكس ما هو مأثور عن غالبية الفلاسفة. وحين توفي رثاه رينه شار الذي كانت تربطه به مودّة، بقصيدة قصيرة. إلا أنّ أحبّ الشعراء إليه هو هولدرلن. فقد خصّه بأربعة أبحاث كتبها في أوقات متفاوتة وهي: "هولدرلن وماهية الشعر" (1936) (يرى القارىء في ما يلي ترجمة للقسم الأكبر من هذا البحث)، "كما في يوم عيد" (1941)، "ذكرى" (1943) و"عودة" (1943). وجميعها ألقاها هايدغر كمحاضرات وصدرت مجموعة في كتاب عنوانه "اقترابات من هولدرلن". وفي رأي فيلسوفنا أنّ الشعر، وإن يكن من أرومة الفكر ذاتها، يبقى بعيداً جداً عنه: "المفكر يقول الوجود، أما الشاعر فيسمّي المقدّس. ولا شك أننا نعرف الكثير عن العلاقات بين الفلسفة والشعر، لكننا لا نعرف شيئاً عن الحوار بين الشاعر والمفكر اللذين يسكنان متقاربين على أبعد الجبال بعضها عن بعض" (فقرة من بحثه "ما الميتافيزيقا" – 1943). إنّ ما يقوله الشاعر هو المقدّس، وما يسمعه في كلامه هو المقدس. والكلام هو مجيء المقدس. وشعر هولدرلن هو من إملاء المقدس. و"الأعلى" و"المقدس" هما عنده امر واحد. إنهما الصفاء والسكون. ولعل هولدرلن قد ينفرد بإيمانه بالشعر وبأصله الألهي. فهو يتنشق في الشعر بخشوع أنفاس الألهي. ويقوم الشعر، كالاثير الذي يملأ العالم الواقع بين السماء والأرض، بملء الهوّة القائمة بين الفكر وأسفله، بين الآلهة والبشر. إلاّ أنّ "المادة" التي تعظّم هذا المقدس هي اللغة. والشاعر ككل كائن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت. ومع ذلك، فالشعر لا يكمن فقط في موسيقى اللغة وقدرتها البدئيّة على الكشف، وإنما في الصورة أيضاً. وهذه ليست خيالا خالصاً. إن "جوهر الصورة"، يقول هايدغر، هو أن يجعلنا نرى شيئاً ما. الصورة الشعرية ترينا العالم اليومي. لكنها ترينا إياه غريباً. إنها ترينا "اللامرئي".
 
هي ذي المواضيع الخمسة التي تعالجها هذه المحاضرة:

1 – "التعريض"(1): "هذه المشغلة الأكبر براءة من كل المشاغل".
(أعمال هولدرلن، المجلد 3، ص 377)

2 – "لذلك، فإن اللغة التي هي من أخطر الملكيات، قد أعطيت للأنسان... لكي يؤكد ما يكونه..." (المجلد 4، ص 246)

3 – "لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين
مُذ كنا حواراً
وفي مقدورنا أن يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 343)

4 – "ولكن ما يبقى، إنما يؤسسه الشعراء".
(المجلد 4، ص 63)

5 – "الانسان غنيّ بالقِيَم، لكنه شعرياً يقيم على هذه الأرض".
(المجلد 6، ص 25)

لماذا اخترنا أعمال هولدرلن لتبيُّن ماهية الشعر، وليس هوميروس أو سوفوكليس، فيرجيل أو دانتي، شكسبير أو غوته ؟ ألم تتحقق ماهية الشعر في أعمال هؤلاء الشعراء، في غنى يعادل وربما يتجاوز إبداعات هولدرلن التي توقفت فجأة قبل الأوان ؟

قد يكون. ومع ذلك اخترنا هولدرلن دون سواه. ولكن هل يمكن فعلا أن نستخرج من أعمال شاعر واحد ماهية الشعر بشكل عام؟

العام، نعني به ما يصح بالنسبة الى كثيرين. وهذا ما لا نستطيع بلوغه ولا من طريق التفكير المقارن. لذلك، ثمة حاجة الى أن نستعرض أكبر تشكل ممكن من القصائد وضروب الشعر. وفي هذه الحالة، فإن شعر هولدرلن ليس سوى واحد من كثرة. وإذ ذاك لا يكفي وحده للقيام بماهية الشعر. ويكون مشروعنا، منذ البداية، قد حوى بذور فشله. وهو فشل أكيد، ما دمنا نعني بـ"ماهية الشعر"، ما يتركّز في مفهوم عام يصح في كل ضرب من ضروب الشعر على السواء. ودائماً ما يكون هذا العام، هذه القيمة التي تصحّ بالنسبة الى كل خاص بدون تمييز، هو "اللامتحيّز: "إنه تلك "الماهية" التي لا يمكن أبداً ان تصبح ذاتية. فيما نحن نبحث عن هذه الذاتية في الماهية بالذات. وهذا ما يدفعنا الى أن نقرر إن كنا نهتم بالشعر وكيف، وإن تكن الافتراضات التي نأتي بها، تبقينا في مجال الشعر وكيف.

لم نختر هولدرلن لأن أعماله حققت، كواحد من أعمال كثيرة، ماهية الشعر العامة، بل لأن ما يشكل قوام شعره، هو ذلك القرار الشعري الذي يرتكز على "تقريض" ماهية الشعر بالذات. إن هولدرلن في نظرنا هو "شاعر الشعراء" بامتياز.

ولكن أليس فعل "التقريض" إشارة الى انحراف في تأمل الذات؟ أليس في الوقت نفسه اعترافاً بأننا محرومون من فيض العالم ؟ و"التقريض" عندئذ، ألا يزيد العقبات ؟ أليس شيئاً فائت الأوان ونهاية ؟

الجواب في ما يأتي:

في رسالة بعث بها هولدرلن الى امه في كانون الثاني 1799، أشار الى أنه مشغول بقرض الشعر. وهذا "الانشغال هو الأكثر براءة". فكيف ذلك ؟ إنه يتجلى في الشكل المعتدل لـ"اللعب". فهو يبتكر، طليقاً، عالمه الخاص من الصور، ويظل مستغرقاً في نطاق ما تصوّره. وهذا اللعب ينجو من رصانة القرار الملتزم بطريقة أو بأخرى. وعليه، فإن قرض الشعر هو مسالم تماماً، وفي الوقت عينه هو غير فعّال، لأنه يبقى مجرّد كلام وإطناب. وهذا لا نصيب له من الفعل الذي يتصل مباشرة بالواقع ويغيّره. الشعر كالحلم، لا حقيقة واقعة. إنه لعب كلمات، وليس البتة رصانة فعل. الشعر مسالم وغير فعّال. وهل ثمة أفضل من اللغة الصافية، يستطيع ان يدّعي أنه بلا خطر؟ طبعاً، نحن، في نظرتنا الى الشعر كـ "أكثر المشاغل براءة"، لم ندرك بعدُ جوهره. لكننا على الأقل، استطعنا أن نعيّن أين يجب البحث عنه. فالشعر يبدع أعماله في نطاق اللغة، ومن "مادة" اللغة. فماذا يقول هولدرلن في صدد اللغة؟ لنستمع مرة ثانية اليه.

 
في تخطيط مجزّأ يعود تاريخه الى العام نفسه (1800) الذي كتبت فيه الرسالة المذكورة آنفاً، يقول الشاعر:

"لكن الكائن البشري يقيم في الاكواخ، ويكتسي بثوب محتشم، لأن كينونته جد حميمة، وجدّ راعية أيضاً. والواقع، أنه يصون "الروح" كما الكاهنة الشعلة السموية. وهنا مهارته. ولذا أعطيت له، هو الشبيه بالآلهة، حرية الاختيرا، والقدرة السامية على التنظيم والتنفيذ. ولذا أيضاً، أعطيت له اللغة أخطر الملكيات حيث ينشىء ويهدم، ثم يغيب عائداً الى الحية أبداً، الربة وا لأم، لكي يشهد انه ورث عنها ما يكونه، وتعلّم منها أسمى ما تملك وأقدس، الحب الذي يحفظ الكون". (المجلد 4، ص 246)

إن اللغة، هذا المجال لـ"أكثر المشاغل براءة"، هي أيضاً أخطر الملكيات". فكيف التوفيق بين هذين الاثباتين. لنترك الآن هذا السؤال، ولنطرح قبلُ، ثلاثة أسئلة: لمن تكون اللغة ملكية؟ وكيف تكون الملكية الأخطر؟ وعلى أيّ وجه عموماً تكون ملكية ؟

لنلاحظ أولا الفقرة التي جاء فيها هذا الكلام عن اللغة. لقد جاء في مخطط لقصيدة يُظهر من هو الكائن البشري في مقابل كائنات الطبيعة الاخرى. وذكر بعضها: الوردة، البجع، الوعل في الغابة (المجلد 4، ص 302 و385). كذلك، فإن الفقرة المذكورة، وبما أن النباتات محددة بالنسبة الى الحيوانات، تبدأ بهذه الكلمات:

"ولكن في الأكواخ يقيم الكائن البشري".

فمن هو اذاً الكائن البشري؟ ذاك الذي عليه أن يشهد على ما يكونه. وأن يشهد يعني أن يكشف ويُبلغ من جهة، وفي الوقت نفسه يعني أيضاً أن يضمن، في الإبلاغ، ما أبلغ به. فالإنسان هو "ذاك" الذي "يكونه" بالضبط، في الشهادة على "دازاينه"(2) "Son Dasein" الخاص. لكن هذه الشهادة لا تعني أن كينونة الانسان تعبّر عن ذاتها بعد فوات الأوان، وأن هذا التعبير إضافي وعلى هامش كينونته. كلا، بل هي تساهم في تكوين "دازاين" الانسان بالذات. ولكن ما يجب على الانسان أن يشهد عليه؟ إنه انتماؤه الى الأرض. وهذا الانتماء قوامه أن يكون الانسان وارثاً ومتعلماً في كل شيء. لكنّ الأشياء في تنافر. وما يفرّق بين الأشياء، وفي الوقت نفسه يجمعها، هو ما يسميه هولدرلن "الحميمية – الذاتية" "l'Essentielle Intimité". وشهادة الانتماء الى هذه "الحميمية – الذاتية" تتم بخلق عالم وسطوع فجره، كما بهدمه وأفول نجمه. وتولد الشهادة على كينونة الأنسان، ومن ثم على تحققها الصحيح، من حرية القرار. وهذه الحرية تقبض على "الضروري" وترتبط بقيود داعٍ اعلى. وأن تكون شاهداً على هذا الانتماء الى الموجود "L'existant" في جملته، انما يتم و"يتأرخن" "S'histarialise" كـ"تاريخ". ولكن لكي يكون تاريخ ما ممكناً، يجب ان تعطى اللغة للأنسان. فاللغة هي من ملكيات الأنسان.

ولكن كيف تكون اللغة الملكية الاشد خطرأً ؟ انها الاخطر من كل الاخطار، لأنها هي التي تبدأ بخلق امكان خطر ما. فالخطر هو تهديد للكينونة من قِبَل كائن "étant" ما. وعليه، فالانسان لا يجد نفسه معرَّضاً، الا بمقتضى اللغة، لشيء منكشف "révélé"، يحاصره باعتباره كائناً ويثيره في "دازاينه"، ويضلله ويهديه باعتباره غير – كائن "Non – étant". فاللغة هي التي تخلق أولا المجال المنكشف حيث التهديد والضلال يضغطان على الكينونة؛ كذلك هي التي تخلق امكان ضياع الكينونة. لكن اللغة لسيت خطر الأخطار فحسب، بل هي تخفي حتماً في ذاتها ولذاتها خطراً دائماً. مهمة اللغة ان تكشف عن الكائن بصفته كائناً، في العمل "l'œuvre" وأن تضمنه. في اللغة يمكن التعبير عما هو الأكثر جلاء وغموضاً، كما عن الملتبس والشائع المشترك. وينبغي للكلام الأصيل كي يكون مفهوماً، وتالياً كي يصبح ملكاً جماعياً، أن يكون مشتركاً. لذلك ورد في فقرة أخرى لهولدرلن: "لقد تكلمت الى الألوهة، لكنكم نسيتم جميعاً ان البواكير لم تكن قطّ للفانين، وإنما هي ملك الآلهة. إذ ينبغي أولا ان تصبح الثمرة أكثر شيوعاً، والفة يومية، حتى تصير ملك الفانين" (المجلد 4، ص 238). فالجليّ والشائع يشكلان كلاهما قولاً ما. الكلام اذاً، بما هو كلام، لا يقدم مباشرة ضماناً على أنه كلام اصيل او فراغ صائت. بالعكس، إن الكلام الأصيل، غالباً ما يبدو، في بساطته، اشبه بشيء غير أصيل. ومن جهة أخرى، نرى ان الكلام الذي يتخذ مظهر الأصالة، ليس في الغالب سوى ثرثرة وتبليغ. وعلى هذا النحو، فاللغة مرغمة دوماً على أن تتخذ مظهر المولّد لذاتها، ومن ثم تُعرّض للخطر ما هو من خصائصها على الاطلاق، أي القول الأصيل.

فبأي معنى الآن هذه الملكية الأشد خطراً من سواها، هي "ملكية" للانسان؟ اللغة هي ملكيته الخاصة، لتصرّفه بها بهدف نقل اختباراته، وقراراته، وانطباعاته الشعورية. اللغة تصلح للفهم. وبما انها أداة صالحة لهذه الوظيفة، هي "ملكية". لكن ماهية اللغة لا تحصر همّها في كونها وسيلة للفهم. فتحديدنا لها على هذا النحو، لا يوصلنا الى ماهيتها الخاصة، وانما يقدّم نتيجة لهذه الماهية. اللغة ليست فقط أداة يملكها الأنسان الى جانب أدوات كثيرة أخرى. اللغة هي، قبل كل شيء وعلى العموم، ما يضمن إمكان الانوجاد في وسط رحابة الكائن. فحيث تكون اللغة فقط، يكون عالم، اي تلك الحلقة المتغيّرة أبداً، من القرارات، والمشاريع، والعمل، والمسؤولية، وكذلك من التعسف، والصخب، والانحطاط، والضلال. وحيث يكون عالم، يكون "تاريخ" فحسب. اللغة هي ملكية على معنى أكثر أصالة. فأن تكون ملكية ضامنة لهذا العالم ولهذا التاريخ، معناه انها تضمن أن "يكون" الأنسان على نحو "تاريخوي"(3) "Historial". اللغة ليست أداة جاهزة، بل بالعكس، إنها ذلك الحدث الذي يملك في ذاته أعلى إمكانات كينونة الأنسان. من ماهية اللغة هذه، علينا أولا ان نتحقق، لكي نفهم مجال عمل الشعر، ونفهم الشعر بذاته حقاً. فكيف تتأرخن اللغة؟ للأجابة عن هذا السؤال، لنتأمل معاً ما يقوله هولدرلن:
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 
( تابع )
*ضياء
27 - ديسمبر - 2007
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 
الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 نعثرعلى هذا القول في تخطيط طويل ومعقّد لقصيدة غير مكتملة، ومطلعها: "أيها المصلح، أنت يا من لم يصدّقه الناس قط" (المجلد 4، ص 162 و345)

"لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين،
مذ كنا حواراً،
وفي مقدورنا ان يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 350).

في البدء، لنستخرج من هذه الأبيات ما يتصل بسياق حديثنا: "مُذ كنا حوارا"... نحن – البشر – حوار. كينونة الانسان تتأسس في اللغة. وهذه اللغة لا تتخذ واقعاً - تاريخوياً أصيلا، إلا في "الحوار". على أن الحوار ليس وحده الوجه الذي تتحقق به اللغة. إلا انها كحوار فقط، تكون اللغة أصيلة. وما نعنيه عادة بـ"اللغة"، أي ذلك النسق من الكلمات وقواعد الكلام التركيبية، ليس سوى مظهر خارجي للغة. اذاً، ماذا يعني "الحوار" ؟ أكيداً، أن يتكلم الناس بعضهم مع بعض عن شيء ما. واللغة إذذاك، تكون الوسيط الذي يجعلنا على تواصل ولقاء بعضنا مع بعض. لكن هولدرلن يقول: "مذ كنّا حواراً وفي مقدورنا ان يصغي بعضنا الى بعض". إن القدرة على الأصغاء، بعيداً من أن تكون مجرد نتيجة لفعل الكلام في ما بيننا، هي على النقيض، افتراضية. حتى القدرة على الفهم قائمة بدورها على إمكان الكلام وفي حاجة اليه. فالقدرة على الكلام والقدرة على الفهم وجدتا معاً منذ البدء. إننا حوار – وهذا يعني في الوقت ذاته ودوماً: أننا حوار "واحد"... فالحوار ووحدته هما قوام "دازايننا".

لكنّ هولدلرلن لا يقول فقط: نحن حوار. إنه يقول: "مذ كنا حواراً"... فحيث ما زال قائماً وناشطاً استعداد الأنسان للغة، ليس ثمة بعد صعود – أصيل للغة – الحوار. فمنذ متى كنا حواراً؟ حيث يجب أن يكون حوار "واحد"، على الكلام الأصيل أن يبقى على صلة بـ"الواحد"، وبـ"الواحد في عينه". بدون هذه الصلة تكون المناقشة مستحيلة تماماً. لكن "الواحد في عينه" لا يمكن أن ينكشف إلا في ضوء شيء ما مثابر وباق. المثابرة والبقاء لا يتجليان إلا في ما هو باق وحاضر. لكن ذلك لا يحدث إلا لحظة ينفتح الزمان على مصراعيه. فمذ يضع الانسان نفسه في حضور شيء مستمر، يمكن أن يُعرّض نفسه لـ"قابلية التغيّر"، أي لما يجيء ويمضي؛ لأن المستمر وحده معرّض لـ"قابلية التغيّر". فقط مذ يجد "الزمان الذي يُمزّق" نفسه ممزقاً، في حاضر وماض ومستقبل، يقوم إمكان التوافق على شيء ما باق. لقد كنا حواراً "واحداً"، مذ "كان زمان". مذ سيق الزمان ليوجد ويستمر، مذذاك "نحن" في "التاريخ". وأن "نكون" حواراً "واحدا"، و"نكون" في "التاريخ"، كلاهما حالان متساويان في القِدَم، ويشكّلان كلا متضامناً، بل هما شيء واحد.

ومذ كنا حواراً - خبر الانسان كثيراً وسمّى العديد من الآلهة. ومذ أخذت اللغة تتأرخن رسمياً كحوار، انصرف الآلهة الى الكلام، وظهر عالم. ولكن مرة اخرى، يجدر بنا أن نلاحظ أن حضور الآلهة وظهور العالم ليسا مجرد نتيجة لحدوث اللغة، انما هما معاصران لها، الى درجة أنّ تسمية الآلهة، على وجه الدّقة، وتحول العالم الى كلام، هما قوام الحوار الأصيل الذي نكونه، نحن أنفسنا (...).

ولكن سرعان ما ينبت سؤال: كيف يبدأ ذلك الحوار الذي نكونه؟ ومن يقوم بتسمية الآلهة؟ ومن الذي يقبض اذاً، في الزمان الممزّق على شيء ما باق، ويجعل هذا الشيء يثابر بالكلام؟ عن ذلك يخبرنا هولدرلن في بساطة شاعر واثقة، فلنستمع الى قوله الرابع.
 
هذا القول يشكّل خلاصة قصيدته "ذكرى"، وهذا نصّه: "ولكن ما يبقى، إنما يؤسّسه الشعراء". إنه قول يلقي الضوء على سؤالنا عن ماهيّة الشعر. الشعر تأسيس بالكلام وفي الكلام. وما الذي يؤسَّس؟ أليس ما هو حاضر على الدوام باقياً؟ كلا! فعلى ما يبقى أن يُستدرح الى الاستمرار في وجه التيار الجارف؛ والى وجوب انتزاع البسيط من المعقّد؛ والى تفضيل المقاس على الشاسع. يجب ان يُكشَف عمّا يدعم ويدير الكائن في جملته. يجب أن يُكشَف عن الكينونة، حتى يظهر الكائن. والحال بالضبط، أن ما يبقى هو العابر. يقول هولدرلن: "وهكذا هو "عابر" سريع كل سموي. ولكن ليس بلا طائل" (المجلد الرابع ص 163). أما أن يدوم ذلك، فهذا ما "عُهد به كهمٍّ وخدمة، الى اولئك الذين يتصرّفون كشعراء" (المجلد الرابع، ص 145).
الشاعر يسمّي الآلهة ويسمي كل الأشياء في كينونتها. وهذه التسمية لا تقوم ببساطة على تزويد شيء ما اسماً كان معروفاً به سابقاً. إن الشاعر حينما يقول الكلام الأصيل، آنذاك فقط يجد الكائن نفسه قد سُمّي بما هو عليه، ويكون معروفاً ككائن. الشعر هو تأسيس الكينونة بالكلام. فما يبقى اذاً، ليس ابداً من خلق العابر. البسيط لا يُستخرج من المعقّد مباشرة. القياس لا يوجد في الشاسع. ولن نجد ابداً الاساس في الهاوية (...)
 
ننتقل الى القول الخامس. ونجده في القصيدة الطويلة العجيبة التي تبدأ:

"في الزرقة الفاتنة تُزهر
قبة الكنيسة ذات السقف المعدني
(المجلد 6، ص24)
وهنا يقول هولدرلن (السطر 32):
"الانسان غني بالقيم، لكنه شعرياً
يقيم على هذه الارض".

ان ما يعمله الانسان ويواظب عليه قد اكتسبه واستحقه بمجهوده الخاص. "ولكن" – يقول هولدرلن مشيرا بشدة الى التباين – كل ذلك لا يعني ماهية اقامته على هذه الارض، كل ذلك لا يبلغ صميم دازاين الانسان. فهذا الدازاين هو في صميمه "شعري". لكن ما نعنيه بالشعر الآن، هي تسمية الآلهة وماهية الاشياء. وهي تسمية مؤسِّسة. و"الاقامة شعريا" تعني: ان نقف في حضرة الآلهة وعلى مقربة جوهرية من الاشياء. فأن يكون الدازاين "شعرياً" في صميمه، معناه في الوقت نفسه، أن الدازاين، من حيث هو مؤسس، ليس قيمة، بل هبة.

الشعر ليس مجرد زخرفة تصحب الدازاين، ولا مجرد حماسة عابرة، وهو ليس مطلقا مجرد اثارة او تسلية خفيفة. الشعر هو الاساس الذي يدعم "التاريخ" وهو تالياً، ليس في بساطة مظهرا ثقافيا، او بالاحرى، في بساطة "تعبيرا" عن "روح ثقافة" ما.

وأن يكون دازايننا شعريا في صميمه، لا يمكن اخيرا ان يعني انه ليس في الحقيقة، الا لعبا مسالماً. ولكن، في القول الذي ذكرناه كأول مسألة في بحثنا، ألم يحدد هولدرلن بنفسه الشعر بأنه "تلك المشغلة التي هي اكثر المشاغل براءة"؟ فكيف يتوافق هذا مع ماهية الشعر كما نراها الآن متبدية؟ وهكذا نعود ثانية الى السؤال الذي كنا اهملناه في البداية. وللإجابة عنه الآن، سنحاول في الوقت نفسه ان نجمع معا في نظرة واحدة بين ماهية الشعر وماهية الشاعر.
ينتج من ذلك اولا ان المجال الذي يعمل فيه الشعر هو اللغة. فعلينا انطلاقا من ماهية اللغة، ان نتصور ماهية الشعر. وتالياً، لقد تبينّا كيف ان الشعر هو التسمية المؤسِّسة للكينونة وماهية جميع الاشياء – ولكن ليس اي كلام، بل ذاك الذي، بفعله، يجد كل شيء نفسه منكشفا، كما كل ما نناقشه ونبحثه بعد ذلك في لغتنا اليومية. ونتيجة ذلك ان الشعر لا يتناول ابدا اللغة كمادة تعمل، وتكون في تصرفه، بل بالعكس، هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة. الشعر هو اللغة الاولية للشعب التاريخوي. يجب اذاً بخلاف ذلك، ان تُفهم ماهية اللغة، بدءا من ماهية الشعر.

وأساس الدازاين الانساني هو الحوار، باعتباره صيغة خاصة لما يحدث في اللغة. لكن اللغة الاولية هي الشعر من حيث هو اساس للكينونة. والحال، ان اللغة هي "اشد الملكيات خطرا. اذاً، الشعر هو اشد الاعمال خطرا، وفي الوقت عينه هو "اكثر المشاغل براءة"(...)

والشعر يظهر لنا على انه لعب، فيما هو ليس كذلك. اللعب يجمع الناس، ولكن على نحو ينسى فيه كلٌّ نفسه. بينما العكس يتم في الشعر، حيث الانسان يركز ذاته على صميم دازاينه ليصل الى الطمأنينة، لا الى تلك الطمأنينة الوهمية لتعطّل الفكر التام وفراغه، بل الى تلك الطمأنينة اللامتناهية حيث تنشط كل الطاقات وكل العلاقات.

الشعر يوقظ ظهور اللاواقع والحلم في مقابل الواقع الصاخب والملموس الذي نعتقد انه ملاذنا. في حين ان الامر غير ذلك. فما يقوله الشاعر، وما يضطلع بوجوده هو الواقع (...)

والشعر باعتباره تأسيسا للكينونة، يكون التزامه مضاعفاً. ونحن، اذا ما نظرنا الى هذا القانون الذي هو في صميمه، استطعنا أن ندرك كليا ماهيته.
ان "التقريض" هو التسمية البدئية للآلهة. لكن "الكلام الشعري" لا يملك قدرته على التسمية، الا اذا كان يدفعنا الآلهة بأنفسهم الى الكلام. فكيف يتكلم الآلهة؟

"... والاشارات كانت
منذ سحيق الازمنة لغة الآلهة" (المجلد 4، ص 135).

وقوام "كلام" الشاعر أن يلتقط هذه الاشارات ليجعل منها تاليا، اشارات لشعبه (...)

ان تأسيس الكينونة اذاً، مرتبط باشارات الآلهة. والكلام الشعري في الوقت عينه، ليس سوى تأويل لـ"صوت الشعب". وهذا هو الاسم الذي اطلقه هولدرلن على الاساطير، "الاقوال" التي يتذكر بها شعب ما، انتماءه الى الكائن في جملته. وغالبا ما يصمت هذا الصوت او يضعف. فهو غير قادر على العموم على ان يخبر بنفسه عما هو اصيل. لذا، هو في حاجة الى اولئك المؤولين.

وهكذا، فقد اندمجت ماهية الشعر في هذه القوانين التي تجهد في الالتئام والافتراق، والتي تنظّم اشارات الآلهة وصوت الشعب. أما الشاعر فهو يقف في البين بين: بين أولئك الآلهة وهذا الشعب. إنه "ملقى في الخارج". في هذا "البين بين". بين الآلهة والبشر. ولكن أولاً، وفي هذا البين بين وحده، يتقرّر من هو الانسان وأين يقوم دازاينه. "ولكن شعرياً يقيم الانسان على هذه الارض".

ومن دون راحة، وبطمأنينة وبساطة متناميتين باستمرار، ومغترفاً من كنز يفيض بالصور، نذر هولدرلن كلامه "الشعري" لتلك المنطقة الوسطى. وهذا ما يحملنا على القول: "إنه شاعر الشعراء (...)


إيضاحات

 
-1 التقريض: المصطلح الالماني "dichten" لا يعني فقط نظم القصائد. ولكن يشير الى النشاط الذي يخلق ويشكّل، ويظهر كأنه كشف انطولوجي. وبما أن الفرنسية لا تحوي معادلاً له، فقد نحت المترجم الفرنسي المستشرق المعروف هنري كوربان كلمة "Poématiser"، المركبة من Poiesis وPoima المشتقتين من الفعل اليوناني Poienen الذي يعني صنع. وقد وجدتُ أن كلمة "التقريض" في العربية أي صناعة الشعر وقوله، هي قريبة من المعنى المقصود.

-2 الدازاين: أي الكينونة في العالم. وهذه العبارة لا تشتمل فقط على المعنى المكاني، بل أيضاً وخصوصاً على المعنى الانطولوجي. وهذه الكينونة الانسانية هي عامة بين جميع الناس، وإن بدأت تجربتي من كينونتي أنا الخاصة بي. ومهمة التحليل الانطولوجي ستكون اذاً، الكشف عن الكينونة الانسانية عامة. وهذا المصطلح نجده لدى سارتر في تعبير "الحقيقة الانسانية"، وفي مصطلح "الآنية" لدى عبد الرحمن بدوي، وفي تعبير "الكينونة - هناك" في ترجمة عام 1964 لكتاب هايدغر "الكينونة والزمان". وقد آثرت إبقاء المصطلح الالماني نفسه، كما فعل فرنسوا فيزان في ترجمة جديدة للكتاب المذكور صدرت عام 1986 لدى "دار غاليمار"، لأن أي ترجمة له لن تفي.

-3 التاريخوي: في نظر هايدغر، ما يتعلق بالتاريخ كسيرورة تخص كل واحد منا، وتتعلق حتى بمصيرنا ومستقبلنا، أي مستقبل الانسانية
 
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 
*ضياء
27 - ديسمبر - 2007
لمحة عن المناخ الفكري والسياسي لفلسفة كنت (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 يعتبر الكثير من الفرنسيين ديكارت المؤسس الحقيقي للحداثة الفكرية كونه أول من شعر بأهمية الذات الفردية كما عبر عنها في مقولة " الكوجيتو " . غير أن هذا الرأي غير مجمع عليه ولا حتى في فرنسا نفسها بل أن المتفق عليه " عالمياً " أن كنت هو فيلسوف الحداثة . ليس لأنه استطاع أن يتمثل روح عصره ويعبر عنها بكل ما مثلته من ثورات إجتماعية وتطور علمي وصناعي هائل وانفتاح إقتصادي على العالم الجديد ( أميركا ) ، بل لأن فلسفته قد وضعت أساس الفكر الحديث بتمييزها حقول المعرفة وفصلها بعضاً عن بعض . ميزت فلسفة كنت بين العقل العملي والعقل النظري والحكم الفني ، كما ميزت بين الدين والأخلاق والفن ، وفتحت بهذا طريق استقلال المعرفة عن الدين .
 
 كان إيمانويل كنت (Emmanuel Kant ( 1724 - 1804  يعد أشهر من يمثل حركة التنوير في ألمانيا ، وكان ينادي بإقامة  " حكم على الطريقة الجمهورية " ومن أشد المعجبين بأفكار الثورة الفرنسية التي كان قد كتب عنها :
 
"  إن هذه الثورة أوجدت عند المشاهدين لها الذين لا يلعبون دوراً فيها ، تعاطفاً روحياً معها يبلغ حد الحماسة التي قد تجر الويل على صاحبها ولا يمكن أن يكون لها سبباً أخراً غير الاستعداد الأخلاقي في الجنس البشري " ( مقدمة كتاب : المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً ) .
 
 
يعتبر كنت Kant إذن من أهم فلاسفة عصر الأنوار ، ويمكننا تصنيفه على أنه فيلسوف الليبرالية . تجدر الإشارة بأن الليبرالية في القرن الثامن والتاسع عشر كانت مذهب اليسار الذي تضمن حقوق الإنسان والحريات العامة وإلغاء الحواجز التي كانت تعيق حركة التجارة العالمية ، لكنها تعبر اليوم عن فلسفة اليمين الليبرالي منذ أستقرت الديموقراطيات الغربية وأصبحت المذاهب الإشتراكية فيها هي الممثلة لليسار .  
 
ترتكز القيمة المطلقة لليبرالية على الفرد : أعلنت الثورة الفرنسية قيام مجتمع جديد يكون فيه الأفراد أحراراً ومتساوين ! ومن هذا المعطى الأساسي الفلسفي تمخض إعلان " حقوق الإنسان والمواطن " ، وبناء عليه جرى إعادة تشكيل للمجتمع والدولة والتاريخ ... هذه الفردية التي انتقدها ماركس بشدة فيما بعد وانتقد طابعها " الأسطوري " لا زالت شديدة الحضور في الفكر الغربي ومضمونها أن : كل شخص هو فريد بذاته ولا يمكن استبداله ، وهو في الوقت نفسه متغير في حدود ذاته وبسبب صفاته المميزة ، وهو المفهوم الذي دفع به سارتر إلى حدوده القصوى حين قال بأن : " كل أنسان هو محصلة لكل البشر وأنه يساويهم جميعاً ويساوي أي واحد منهم ... " Jean Paul Sartre , Les Mots )  .
 
لا يمكننا فهم بروز الديموقراطية في العصر الحديث دون أن نفهم القاعدة المؤسسة للفردية الغربية أو ما يصطلح على تسميته ب " الإنسية " الغربية ( Humanisme ) لأن الملكية في المجتمعات القديمة كانت تستطيع ان تتقبل فكرة عدم المساواة بين الأفراد وهذا ما لا يمكن للديموقراطية قبوله : لا تمثل الديموقراطية حكم " الأحرار " بل حكم الأفراد " المتساوين " في الحقوق والواجبات . هذا المجتمع المكون من " أفراد " ، سوف ينعكس لأول مرة في القانون المدني الذي صاغه نابليون وهو بالنسبة لعصره شيء محدث ، بل هو " بدعة " في التاريخ لأنه ، وحتى ذلك الحين ، فإن البشرية كانت مجموعات منفصلة ، كل مجتمع فيها كان يعبر عن " كل " منظم بطريقة هرمية خاصة به ويعطي الأولوية والمكانة الفضلى للعناصر المكونة له . أما في المجتمع " الفرداني " فينظر لكل إنسان على أنه يمثل الإنسانية جمعاء .
 
هذا الإتحاد بين التميز الفردي والعالمية هو القاعدة المؤسسة للفردية الغربية أي " الإنسية " الحديثة . فلسفة كنت هي التجسيد المثالي لهذه الفردية (  Individualisme) ، فكيف ذلك ؟
 
*ضياء
15 - يناير - 2008
هامش للمقالة الأولى (2)    كن أول من يقيّم
 
 
هذه الأفكار الجديدة التي كانت قد بدأت بغزو المجتمعات والفكر الغربي هي وليدة تمخضات التحول الكبير في البنى الإقتصادية التي طالت المجتمع الأوروبي والتي هي وليدة بدورها للإكتشافات العلمية الهائلة ، والثورة الصناعية ، وحركة التجارة العالمية وتحولها من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي بعد اكتشاف أميركا. كل هذا أدى إلى ظهور الثورات الإجتماعية وحركة الإصلاح الديني التي عمت أوروبا كلها لصالح الطبقة البورجوازية الجديدة الصاعدة التي تزعمت قيادة هذه التحولات . هذا الصراع المرير الذي كنا قد أبرزنا بعض جوانبه في حديثنا عن شاتوبريان ، والذي أرغب في إعادة تناوله بالبحث في ملف الوطن والزمن المتحول وذلك بفتح قوسين للحديث عن التحولات الأدبية الكبرى في القرن التاسع عشر الذي طال جميع المجالات ومنها الأدب والفلسفة طبعاً . سأورد هنا ترجمة لفقرة صغيرة من كتاب : Lettres d'un royaliste Savoisien ( رسائل ملكي من السافوا ) كتبها جوزيف دو ماتر Joseph de Maistre أحد مناصري الحكم الملكي المعادين للثورة الفرنسية يتهكم فيها على " إعلان حقوق الإنسان والمواطن " الذي رفعته الثورة الفرنسية في العام 1789 هذا فحواها :
 
" لو كانوا قالوا لنا : حقوق المواطن ، أو حقوق الإنسان المواطن ، لكنا فهمنا ربما ! لكني أعترف بأن " الإنسان " ، الذي هو غير المواطن كما يبدو ، هو شخص لا أعرفه أبداً . لقد تعرفت في حياتي على فرنسيين ، على إنكليز ، إيطاليين ، ألمان أو روسيين ... : وعلمت حتى بفضل أحد الكتب المشهورة ( يقصد كتاب فولتير ) بأنه يمكن أن يكون المرء فارسياً أيضاً . أما " الإنسان " فأنا لم أره مطلقاً ، وإذا كان لديه حقوق أم لا ، فهذا آخر ما يهمني " ........
 
*ضياء
16 - يناير - 2008
 1  2  3  4