هايدغر وسؤال " الكون " ، " الكينونة " و " الكائن " ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
ليس من السهل المغامرة في الكلام عن هايدغر ، الذي أعاد الفلسفة إلى مهدها الأول ، وذلك بالتساؤل عن معنى الوجود أو " كنه الوجود " ، ومن هنا تم اعتباره مجدد الأنتولوجيا التي هي : دراسة الذات الإنسانية من حيث كينونتها ( صفاتها المؤسسة لجوهر وجودها والتي لا يمكن انتزاعها عنها ) .
والتساؤل عن " الكون " بدأ منذ برمنيدس (450 ق . م ) الذي اعتبره أصل الوجود وبالمعنى العام الذي تدل عليه كلمة " التكوين " (Genèse ) كما جاءت في التوراة أي أنه : الوجود بعد العدم . غير أن أفلاطون قال بأن الذات في " كونها " ليست واحدة ، وليست متفردة بالصفات ، بل أن للصفات وجودات متعالية تجتمع بل وتتناقض أحياناً في الذات و" كونها " .
أما أرسطو ، فلقد توصل إلى تحديد " الكون " ( L'être ) على أنه : حصول الصورة في المادة ، وتحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى . يقابله " الفساد " الذي هو زوال الصورة عن المادة .
وأما الشيخ الرئيس " ابن سينا " فلقد استطاع ( على عكس أرسطو ) بالانطلاق من المحسوس ، تحديد خواص " الكون " لأنه كان طبيباً ويعنى بالجزئيات ثم ينطلق منها لتحديد الكليات : " الكون " عنده هو معنى أحادي وسيط بين الله والمخلوق .
عند الأشاعرة : " الكون " هو مرادف ل " الثبوت " و " الوجود " و " التحقق " .
أما عند المعتزلة : فإن الكون والوجود هي مغايرة للثبوت والتحقق . ( لأن الكون والوجود عرضة للتغيير ) أما الثبوت والتحقق فهي أعم من الوجود .
ينطلق هايدغر في تعريفه " للكون " أو " الكينونة " من معطى بديهي وهو : أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتساءل عن معنى وجوده ، وأن مجرد طرح السؤال يفترض وجود معطى بديهي آخر لا يدركه العقل الراهن ، بكينونته ( أو كونه ) الراهن المتمثل أمامنا حالياً والذي يسميه هايدغر بالكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) ( Desein ).
إن فلسفة هايدغر تقليدية جداً لجهة إعادتها طرح السؤال عن مصدر المعرفة ، فإذا كان الإنسان يعرف بالبداهة أنه موجود بدليل أنه يحاول تحديد ماهية وجوده ، فإن هذا يفترض وجود معطى معرفي يتجاوز قدرة الإنسان الحالية على التفكير لأن الإنسان بكينونته الحاضرة غير قادر على تحديد معنى وجوده .
وصف الحياة الاعتيادية ، العلاقة بالعالم المحيط ، وبالآخرين ، قلقها والجذور المكونة لمعارفها الأنتولوجية ، تمكننا من تحديد وشرح البنية الإجمالية العامة للكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) التي تؤلف زمنيتها ، أي تحدد صفاتها في الزمن الراهن ( Temporalité ) والتي تجعل منها ذاتاً تاريخية . ثم أن دراسة هذه " الكينونات " وفهمها في زمنيتها وتاريخيتها ، سوف يرسم لنا أفق الكينونة الحقيقية الأصلية مقابل الكينونة الزائفة .
فالإنسان " متروك " في العالم ، وباكتشافه لنفسه ك : " مشروع " ، ككينونة قابلة للتحقيق سوف يتمكن من تحديد اتجاهه لأن " الكينونة الحاضرة " يمكن أن تتوه في وجود مزيف ( إغراق في الحياة العادية اليومية ) . ولا يتم التوصل إلى تحقيق الكينونة الأصلية إلا بالتجربة العاطفية والمعاش واقعيا التي تضعنا في حالة من القلق ، والتي يكون فيها ما يمكن تحقيقه من الكينونة معكوس بكليته .
هذه التجربة ( القلق ) التي تخفي عن أعيننا المشهد المطمئن لسلوكنا وتكشف أمامنا العدم بحدوده القصوى " كينونة الموت " تفتح أمامنا طريق الكشف على حقيقة الذات الفعلية " الكينونة الأصلية " . فالإنسان لا يكون إنساناً بطمئنة نفسه بواسطة المعرفة ( الأفكار النظرية ) لكنه يتحقق : بالتجربة القلقة وبأن ينقذ من النسيان سؤال الكينونة وذلك بأن يكون راعي هذه الكينونة وبأن يحرر الكلام من اعتياديته ( أي من الاستخدام اليومي التلقائي والاصطلاحي للكلام ) .
المسألة تكمن إذاً في تحرير الكينونة من تقنية التفكير ، وذلك بأن نعيد التفكير إلى بعده الأصلي وهو : تحقيق العلاقة بين الذات والإنسان ، وتحرير اللغة من استخدامها اليومي النفعي ، من علاقات القواعد اللغوية الشكلية ، لكي تعود إلى حالتها الشعرية لأنها تنبض بالمعاني ، و(لأن الإنسان يحيا على هذه الأرض بشاعرية ) كما يقول هولدرين .
وكان أبو العلاء المعري قد قال في قصيدته التي أولها : ألا في سبيل المجد ما انا فاعل
وإني وإن كنت الأخير زمانه |
|
لآت بما لم تستطعه الأوائل . |
|