البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 1  2  3  4 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الإيطيقا وفلسفة السياسة -1-    كن أول من يقيّم
 
 
Fernandez Buey
ترجمة: أحمد بلشهاب
1. الأخلاق و"الإيطيقا" ética & Moral
لا تميز اللغة المألوفة بين الكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا"، إذ نستعملهما بلا فرق للدلالة على مجموع قواعد السلوك الإنساني.
واشتقاقيا، فإن الكلمتين Moral وEtica، تحيلان على التوالي إلى Mores أو Ethos، إلى سلوك الكائن البشري المقيد بعادات وتقاليد وأعراف. نقول مثلا، إن هذا السلوك، أو ذاك، أخلاقي أو غير أخلاقي، إيطيقي أو العكس، ونحن نقصد بذلك أنه حسن أو قبيح، متوافق مع مجموع محدد من معايير السلوك، نعدُّها عادة مقبولة، ونميل في معظم الحالات إلى اعتبارها معايير كلية وشاملة؛ أي يتقاسمها كل الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية المفترضة.
لكن، من وجهة نظر فلسفية ومنهجية، ليس للكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا" معنى متطابق. فالأخلاق هي مجموع معايير وأفعال خاصة بالسلوك، نعتاد على قبولها بوصفها تحديدات صالحة، أما الإيطيقا فهي التفكير حول لماذا نعتبرها صالحة؟.ولهذا تعودنا القول، عند التدقيق، إن الإيطيقا فلسفة أخلاقية، أو معرفة فلسفية تدرس قواعد الأخلاق وأسسها.
لن أخوض في تحليل أنماط الإيطيقا المختلفة التي بلورها الفلاسفة طوال التاريخ، ولا في عرض الإيطيقا المعاصرة، يكفي أن نعرف أن ثمة فلسفات أخلاقية، وأنه لا يوجد اتفاق بين الفلاسفة حول أفضل طريقة لتأسيس القواعد الأخلاقية. ومن يريد التعمق في هذه الاختلافات يمكنه قراءة الأعمال التالية:
J. L. Aranguren, Ética, En Obras Completas, Trotta , 1995
A. Sánchez Vázquez, Ética, Barcelona, Crítica , 1978
N. Bilbeny, Aproximación a La Ética, Barcelona, ARIEL 1992
E. Guisan, Introducción a La Ética, Madrid, CATEDRA 1995
هذا الوضع يطرح أول مشكلة: هل يتوجب علينا استعمال الكلمتين:"الأخلاق" و"الإيطيقا" كما يستعملهما معظم الناس، أي كمترادفين متطابقين، أم ينبغي أن نقبل الاختلاف الذي أقامه الفلاسفة بين الأخلاق والإيطيقا، ونعوِّل على وجهة نظر وصفية تعرض للفلسفات الأخلاقية الموجودة، أو لاتجاه فلسفي (نفعي، وجودي، ماركسي)؟.
عند معالجة مسائل أخلاقية، يكون القرار حول هذه النقطة مُهِمًّا، خاصة إذا كنا نسعى في دراستنا للأخلاق النظرية إلى الإحاطة بكل تلك التفاصيل. ومع ذلك، أقترح (ن أجل استعاد التحذلق) استعمال الكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا" كما تستعملهما الأغلبية، مع وجوب التوقف عند بعض التدقيقات التي أدخلها الفلاسفة على المعاني المعبر عنها بهاتين الكلمتين. إن المثال الأحسن على أن هذا المعيار يمكن أن يعطي نتائج مهمة هو بحث Fernando Savater, Etica Para Amador, Barcelona 1991 فرغم الاختلاف المنهجي بين الأخلاق والإيطيقا، يقرر المؤلف استعمال الكلمتين كمرادفين لإبلاغ وجهة نظره الخاصة للمجتمع.
في العقود الأخيرة، ظهر نتيجة للتطور الهائل في العلوم، خاصة في الأنتروبولوجيا والسوسيوبيولوجيا، منافسون لفلاسفة الأخلاق، وقد كتب أحدهم: على العلماء والباحثين في العلوم الإنسانية أن يدركوا أنه قد حان الوقت لانتزاع الإيطيقا من يد الفلاسفة، وإقامتها على أساس بيولوجي، ويبدو أن فلاسفة كثيرين قبلوا التحدي، فهم يستعرضون في أبحاثهم الأخيرة موضوعات الإجهاض، وحقوق الحيوان، والمساواة الجنسية، والعنف الخ.
 
* * *
2. اٌُلإيطيقا والسياسة: Política & Ética
في مجتمعاتنا المعاصرة، غدا يتكرس بمرور الوقت مفهوم فقير للسياسة، مفهوم محقِّر، بعيد عن المعنى اليوناني القديم للسياسة. من المفيد أن نبدأ، لتوضيح الأشياء، بتدقيق العلاقة بين الأخلاق والسياسة. من أجل هذا يكون من الأفضل التوجه إلى المكان القديم، حيث نبت العلمان "السياسة والأخلاق" أي إلى أرسطو.في البداية نسجل أن لأرسطو وضوحا تاما تجاه الاختلاف بين موضوعات الأخلاق النيقوماخية La Ética a Nicomaco وموضوعات السياسة. فموضوعات الأخلاق هي نظريات الخير، والسعادة، والفضيلة والعدالة، والصداقة. في حين تهتم موضوعات السياسة بتحليل المجتمع المدني والعائلي، وتحليل المؤسسات،وأساليب الحكم. هكذا إذن، إذا تقيدنا بأصلهما، فإن الاختلاف بين الأخلاق والسياسة، من وجهة نظر منهجية،يبدو واضحا بالبداهة. تهدف الأخلاق إلى تحليل الفضائل والبحث عن السعادة، والتساؤل حول حقيقة العدالة، وما يتوجب أن نعتبره سلوكا فاضلا وعادلا، ليتمكن الفرد من أن يكون سعيدا؛ باختصار أنها تسعى إلى تحقيق الحياة الخيرة للكائن البشري. من جهتها، تتوخى السياسة تحليل المؤسسات، وأنظمة الحكم التي اخترعها الناس في حياتهم العامة، لإبراز النظام الأفضل؛ باختصار إنها تتطلع إلى تأسيس المجتمع الخيِّر (أو الحكومة الجيدة).
طبعا, لأن أرسطو يعتبر الإنسان حيوانا سياسيا، أي حيوانا مدنيا واجتماعيا، فهو نفسه لم يتخل عن تذكيرنا بأن الفضيلة والعدالة والسعادة تتحقق عندما يتم التوصل إليها بالترابط مع فضائل أخرى، أي سياسيا. إذ بين الأخلاق والسياسة توجد بالبداهة استمرارية وتداخل. ففي حال مثالنا, وهو أن الإنسان حيوان سياسي, ليس ثمة عدالة، ولا فضيلة, ولاسعادة على هامش المجتمع، على هامش السياسة. لهذا، إذا درسنا في شيء من الثاني أعمال أرسطو نلاحظ أن الأخلاق النيقوماخيه تعلن (بكيفية مضمرة) عن السياسة، وأن هذه الأخيرة تحيل باستمرار على الأخلاق, كما أن تأمل أرسطو في التربية والقوانين يكوِّن مجال التقاءِ عَالَم الأخلاق وعَالَم السياسة، بمعنى أن الأخلاق والحقوق السياسة تشكل عنده كلا موحدا، حيث موضوعاته قابلة للتجزئة، منهجيا، عند التحليل فقط.
من هنا يشتق أمران:
الأول: أن التمييز بين مجالى الأخلاق والسياسة تمييز منهجى، حتى يمكن معالجة موضوعا تهما في كتابين منفصلين.
الثانى: لأن الإنسان حيوان سياسي، حيوان مدني واجتماعي، فإن النظرات التحليلية لمجال (مجال حياة الفرد السعيدة) تحيل باستمرار عند التطبيق إلى المجال الآخر (المدينة المحكومة جيدا)، بحيث إن المجالين يمكن أن يُدرسا في كتاب واحد. وعندما ندرس كتاب السياسة لأفلاطون، الذي نترجمه عادة بالجمهورية، يتأكد لدينا هذا الانطباع؛ أي أن موضوعات الأخلاق وموضوعات السياسة مترابطة إلى حد أنها تشكل كلا واحدا.
من هنا استعمل فلاسفة النهضة باستمرار هذا التعبير: الحياة الخيرية في مدينة محكومة جيدا. كما أن المفهوم الأرسطى النبيل للسياسة يمكن ترجمته هكذا: السياسة هي أخلاق الجماعة.
 الآن، علينا أن نتقدم خطوة أكبر لتوضيح العلاقة بين الأخلاق والسياسة.لكون المدونة الأرسطية للأخلاق النيقوماخيه ( أي التفكير في الفضيلة، والعدالة والسعادة)، سابقة زمنيا على السياسة (أي التفكير في أنظمة الحكم التي اخترعها الكائن البشري) فقد يستنتج من ذلك أن الأخلاق هي أيضا سابقه في الأساس. وكثير من الناس يعتقدون هذا. لكنه لا يمثل وجهة نظر أرسطو، ففي الصفحات الأولى للأخلاق النيقوماخية، وفي مواضع كثيرة من العمل يتأكد تفوق السياسة. يكتب أرسطو:
"أول ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن الخير يُشْتقُّ من العلم السائد، من العلم الذي هو أساس كل العلوم، إنه علم السياسة. فالسياسة في الواقع هي التي تحدد ما هي العلوم الأساسية لوجود الدول، وما هي العلوم التي يتوجب على المواطنين تعلمها، وإلى أي مستوى يجب أن يصلوا في امتلاكها، وفوق هذا يجب أن نلاحظ أن العلوم المعتبرة، أقصد علم الحرب وعلم الإدارة والبلاغة، هي علوم خاضعة للسياسة، وحيث إن هذه الأخيرة تستفيد من كل العلوم التطبيقية، وتصف باسم القانون ما يجب عمله وما يجب تركه، فإنه يمكن القول إن هدفها يلتقي مع أهداف العلوم الأخرى، وبالنتيجة فإن خير السياسة هو الخير الحقيقي والأعلى بالنسبة للفرد والدولة".
لاشك أن خلاصة أرسطو الاستدلالية واضحة جدا، ذلك أن غاية السياسة تستوعب غايات العلوم الأخرى القريبة (البلاغة، القانون، الحرب)، وحيث إن الخير هو نفس الخير للفرد والدولة، صارت المعرفة السياسة أساس كل المعارف، إلى درجة أن القسم الأول من كتاب الأخلاق الذي يعالج الخير والسعادة يوصف بأنه، بكيفية معينة، بحث في السياسة.
ما سبق يفترض مفهوما نبيلا للسياسة وللسياسي، للسياسة كنشاط عملي وكمعرفة نظرية، لاسيما في علاقاتها بالأخلاق. وينبغي أن نسارع إلى القول إن وجهة نظر أرسطو هذه تصطدم ببعض القناعات الثابتة في إطار ثقافتنا، خاصة بما مثلته المسيحية في هذه الثقافة، لأن المسيحية تؤكد تفوق الأخلاق على السياسة بشكل غير مشروط. وكما يقال، فإن الأخلاق شيء، والسياسة شيء آخر، وبين الاثنين الأخلاقُ هي الأفضل.
سأقدم مثالا يوضح إلى أي حد خرق هذا التعارض بين الأخلاق والسياسة ثقافتنا. عندما شرعت في قراءة الأخلاق النيقوماخية، أثار انتباهي موقف المترجم الذي نقل العمل إلى الإسبانية. فعندما وصل إلى الفقرة، التي استشهدت بها، سارع إلى تصحيح كلام أرسطو مسجلا في أسفل الصفحة ملحوظة تقول: "السياسة تحكم الدول، لكنها لا تشكل الأخلاق، ولا هي المسؤولة عن دراسة مسألة الخير. بل على العكس، لا قيمة للسياسة إذا لم تستق مبادئها من الأخلاق، ولم تعمل على اتباعها ".
ليس هذا كل شيء، ففي كل مرة يؤكد فيها أرسطو تفوق السياسة، أو يقول إن موضوعات الأخلاق والسياسة قابلة للنقاش، إذ لا توجد فيهما الدقة التي هي خاصية العلوم الأخرى، يغضب المترجم ويتابع مسجلا ملاحظات في أسفل الصفحة كما يلي:
"الأخلاق، عندما تفهم جيدا، تتسبب في تفرقة أقل مما تفعله السياسة، وتمنح كل وعي متبصر ونبيل مبادئ صلبة".
"إذا كانت البلاغة لا تتوافر على براهين ملموسة، فإن الأخلاق يمكن أن تتوفر عليها، كما استطاع أرسطو رؤيتها في سقراط وأفلاطون".
"إن هذا الذي يقوله أرسطو يتأسس على انشغالات العهد اليوناني القديم، حيث كان المواطن مجرد عضو في الدولة".
"ليس للحياة سوى هدف واحد، والظن بأنه يمكن أن يكون لها أهداف كثيرة، من شأنه فتح الباب أمام الشك والخطأ".
ويغضب مترجمنا بشدة عندما يؤكد أرسطو أن الفضيلة غاية أفعال السياسي الحقيقي، لأن ما يسعى إليه هو جعل المواطنين فضلاء خاضعين للقوانين. حين يصل إلى هذه الفقرة يكتب مصححا كلام أرسطو "إن درس الفضيلة ينتمي إلى الأخلاق فقط، ومنها يتوجب على السياسة أن تستمد أساسها وليس العكس".
من كل هذه الاعتراضات، يمكن أن نعثر على سبب غضب المترجم في هذه الجملة التي تقول: "إن وجهة نظر أرسطو تتأسس على انشغالات العهد اليوناني القديم، حيث كان المواطن يعتبر مجرد مواطن في الدولة".
لاشك أن في العهد اليوناني القديم، عند تقييم فضائل الكائن البشري، كان يعد أمرا جوهريا أن يُنظر كيف يسلك هذا الفرد تجاه قضايا السياسة، وقد كان المنشدون في التراجيديا اليونانية يكررون مرة تلو أخرى: من أجل معرفة ماهية الإنسان "أخلاقيا" ينبغي أن نرى كيف يسلك في القضايا السياسية، ونوع خاص كمواطن ذي حقوق وعليه واجبات؛ أي بالعلاقة مع القوانين. ومع ذلك، يمكن أن ينتج عن استعمال كلمة الدولة في هذا السياق بعض الالتباسات. لأن السياسة في العهد اليوناني، كما نعلم، لم تكن هي الدولة بالمعنى المعاصر لهذا المفهوم، بل كانت بالأحرى المجتمع بالمعنى الواسع. وهذا لا يعني أن السياسة في العهد اليوناني القديم خلت من الصراع بين الوعي الأخلاقي الفرداني وقواعد المجتمع، إذ بعض التراجيديات تقوم على الصراع، وهذا هو موضوع دفاع سقراط، فالتراجيديا تتكون أساسا من الصراع بين الوعي الفردي والقوانين القائمة. غير أن اليونانيين، في سعيهم لإيجاد حل لهذا الصراع، أعطوا الأسبقية لاعتبارات المواطن بوصفه كائنا اجتماعيا وعضوا في المجتمع.
لكن ما ينبغي تسجيله هنا هو أن المترجم الإسباني لكتاب أرسطو، عندما ينتقد وجهة نظر القدماء، يفترض أن المواطن يمكن أن يكون شيئا آخر، مختلفا عن أن يكون عضوا في الدولة أو في المجتمع المدني.
كان المترجم مؤمنا بهذه الثنائية، وإن لم يعلنها صراحة: الأخلاق أهم من السياسة لأنها تتعلق، على وجه الدقة، بسلوك الكائن البشري بوصفه فردا قبل كل شيء، وعضوا في مدينة أخرى تختلف عن المدينة التي هي الدولة أو المجتمع؛ أي عضوا في مدينة الله.
توجد هكذا، قوانين تعلو على تلك التي اخترعها الإنسان في السياسة، قوانين واضحة، هي بمعنى معين متوافقة مع القانون الطبيعي.
لاشك أن هذا مفهوم ديني لاهوتي للعلاقة بين الأخلاق والسياسة، وهو الذي شكل بكيفية مكثفة ثقافتنا، أقصد الثقافة الأوربية ذات الأساس المسيحي.
أما إحدى النتائج الخطيرة لهذا الفهم الديني للعلاقة بين الأخلاق والسياسة فكانت هي الانتقاص من السياسة لأسباب أخلاقية، أي الانتقاص من ذلك المجال الذي اعتبره أرسطو جوهريا، وصار لميدان وعي الفرد الأولوية على المجال العمومي أو السياسي، ومُجِّدت فضائل الشخص الأخلاقي على حساب قوانين الدولة.
طبعا، إن لهذا الاتجاه تفسيرا تاريخيا، يجد جذوره في الصراع الداخلي الذي عاشه الشخص المسيحي في عهد الإمبراطورية الرومانية، ذلكم أن تدرج القيم كان يتأسس انطلاقا من هذا الصراع، انطلاقا من تمجيد المقاومة الأخلاقية للفرد المسيحي ضد السياسة الإمبراطورية القائمة آنذاك، لأن السيد المسيح أسس حركة دينية أخلاقية، وليس حركة سياسية لمواطنين يسعون إلى تأسيس مجتمع المواطنة على الأرض.
ما أرويه ليس حكاية بلا أهمية بالنسبة لموضوعنا، لأن تشكل ثقافتنا من الروح المسيحية طوال قرون ظل هكذا حتى بالنسبة لعالمنا اليوم الذي يعتبر على العموم علمانيا ودنيويا، وحيث يتغلب الفصل بين الدين والدولة. هذا الفهم الديني للعلاقة بين الأخلاق والسياسة يعود إلى الظهور دوما في كثير من القضايا العمومية المثارة، هكذا في موضوع الإجهاض، موضوع نقل الأعضاء البشرية، وفي كل الحالات المتعلقة بالبيولوجية الأخلاقية، لأن الكثير من الناس مازالوا يفكرون، عند الحديث عن العلاقة بين الأخلاق والسياسة، مثل ذلك المترجم الإسباني للأخلاق النيقوماخية.
 
* * *
*abdelhafid
6 - أكتوبر - 2008
الإيطيقا وفلسفة السياسة (تتمة )    كن أول من يقيّم
 
3. قدماء ومحدثون:
السؤال المثار الآن هو: هل بإمكان المرء أن يبقى أرسطيا، وهو يقوم بإجراء هذه المقارنة التفضيلية بين الأخلاق والسياسة، دون أن يبدو قديما؟.
لعل القول إن الإنسان حيوان سياسي يعني في مدلوله الأصلي، أن يكون جزء من نوع اجتماعي يتمتع بالعقل، والقدرة على الاندماج في مجموع يغتني أعضاؤه روحيا وذاتيا عبر التواصل الاجتماعي، ويحسون أنهم ملزمون بالمشاركة، بكيفية فعالة، في تسيير الشأن العام من أجل إدراك الفضائل والسعادة الشخصية.
بيد أن أعمال المؤرخين المعاصرين أوضحت أن هذا المفهوم النبيل للسياسة لم يتطابق دوما مع ما كان يحدث فعلا في الدولة اليونانية. وفوق هذا، كان الغنى الروحي والشخصي للمواطنين المشاركين في السياسة، يتأسس على تقسيم اجتماعي صارم للعمل، وعلى وجود العبودية.
هناك كلام كثير يمكن قوله عن التوجه السياسي لسقراط، لكن بدون الدخول في مناقشة هذا الأمر، فإن ما كتبه أفلاطون يجعلنا نفكر بأن واقع المشاركة السياسية في أثينا كان أفقر مما اقترحه المفهوم اليوناني النبيل للسياسة.
هذه هي الحقيقة الأولى التي ينبغي ذكرها حتى لا ينخدع أحد. فالعمل السياسي ربما كان منذ بدايته الكلاسيكية نشاطا يطبعه التناقض الداخلي، حيث تتنافس الفضيلة، والنزاهة، والعقل، وحسن التواصل مع الأنانية، والفساد، والشر، والكراهية. لقد اعتاد المنشدون "الخورس" في تراجيديا سوفوكليس على تقديم هذا التحذير: دليل قيمة الإنسان يُستنتج من طبيعة علاقته بالسلطة، نعرف بالضيط ما يساويه الشخص لما نراه يسلك سياسيا كمشرع.
كان أرسطو يعرف هذا جيدا، بحيث أن مفهومه النبيل للسياسة ينبغي قراءته كخطاب عقلاني ينطبق تقريبا على ما يلي: رغم التناقض الداخلي للممارسة العملية للمواطنين، من المفيد لنا أن نشارك في المهام السياسية، لأن هذا يجعلنا أفضل، نحن الذين لنا حق المواطنة، وإذا حاولنا عقد مقارنة فإن المشاركة في مهام السياسة، هي ثقافيا وروحيا، ترضي النفس أكثر مما إذا تركناها في يد طاغية أو أو ليغارشية، كما يجري ربما يسبب الارتياب من السياسة في أماكن أخرى.
ومع هذا فإن أعمال المؤرخين المعاصرين تسجل أربعة تحفظات على المفهوم النبيل للسياسة.
إن الفرد المسمى نيقوماخية، أو جوردي، أو فيكتوريا، يمكن ألا يعي أنه ينتمي حقيقة إلى مجتمع سياسي أو مدني.
قد يدخل في مناقشة مع الآخرين حول ماذا يعني أن يكون كائنا سياسيا في لحظة تاريخية معينة، ولكن تبقى لديه شكوك حول إن كان هذا الحيوان السياسي متطابقا في أثينا وإسبارطة.
يمكن في بعض الشروط ألا يسلك كحيوان سياسي، وهذا ليس بسبب أنه يجهل انتماءه للكائنات العاقلة، ولا بسبب التهاون، وإنما لعدم اقتناعه بأن الفضيلة وسعادة الأفراد تدركان بممارسة السياسة.
قد يعبر عن اشمئزازه من الطريقة المعتادة في العمل السياسي سواء في بلده أو في عالمه، ومن ثم يحاول تغييرها اقتناعا منه بأنه حيوان سياسي، لكن فضيلته وسعادته تدركان هنا بالأسلوب أو بالكيفية التي تتخذها مشاركته المدنية في القضايا العمومية.
ما يقال في النقطة الأولى يتخذ أحيانا طابعا إشكاليا حينما نبرهن بأنه يوجد أفراد يتجنبون العمل السياسي لا بسبب أنهم يجهلون انتماءهم إلى نوع الحيوان السياسي، بل لأنهم بفضل هذا الجهل يعيشون فضلاء وسعداء.
علينا أن نسجل أن مقابلة سعادة شخص بالابتعاد عن السياسة، أو العيش على الهامش، أمر غير بعيد عن ثقافتنا التي تطابق المشاركةَ السياسية بشرور السلطة، والسذاجةَ تجاه الأشياء بالخير والسعادة.
الحجة المتضمنة في النقطة الثانية لا تنفي بوجه عام المفهوم النبيل للمشاركة السياسية، لكنها تتطلب بعض التدقيقات. إن سلبية الفرد تجاه العمل السياسي لا تعود إلى جهله، وإنما إلى عدم اقتناعه بأن السياسة تقود إلى السعادة والفضيلة. وهذا السلوك يمثل بالطبع لحظات اليأس في تاريخ الإنسانية، ففي تلك اللحظات لا يمثل رفاق العمل السياسي سعادة المواطن فقط، وإنما يمثلون كذلك القوة والموت الناتجين عن المواجهة بين حقوق يراد لها أن تكون متساوية. حينئذ يتحول العقل إلى ديماغوجية، ويقرر ممارسة العنف، فتبرز أمام هذه الظواهر فكرة الابتعاد عن السياسة.
ظهر في العصر الحديث نموذجان في رفض السياسة؛ وهما النموذج الديني، والنموذج الجمالي، وفي كلتا الحالتين كان لدى الفرد يقين بـأن الفضيلة والسعادة لا تدركان عبر المشاركة في تدبير شؤون المدينة، وإنما بهجر السياسة إلى الدين وتهذيب العواطف. هناك في الحداثة نموذج أو أسلوب ثالث في الابتعاد عن السياسة، وهو اللجوء إلى جزيرة أو مكان بعيد، ليس احتجاجا على الحياة السياسية، وإنما لممارسة حياة فردانية إيجابية على المستوى الأدبي والاقتصادي،لأن في الجزيرة يمكن أن يفعل تقريبا، وربما بصوره أفضل، ما تفعله الأكثرية في المجتمع القائم.
خلافا للآخرين الذين يرون في هذه النماذج قضاءً على طبيعة الإنسان الاجتماعية، وإلغاءً لجزء من شخصيته عبر الطريق الصوفي والعدمية، أعتقد بوجود نوع من العدمية الإيجابية، وهي تعكس عندنا منذ القرن 19 ابتذال الفرد في حياة سياسية مشوهة. كما أن الانسحاب الديني أو الجمالي من النشاط السياسي هو انسحاب مؤقت، ولا يمكن أن ينهض بديلا للنموذج الأرسطي، فعندما يبدأ الطوفان تمارس السياسة في الأديرة. وأعتبر الآن أن الانسحاب الجمالي التام يتلاشى اليوم بسهولة أمام ضغوط وسائل الاتصال القادرة على إدماج الملايين من غير المتسيسين. يحصل عادة بأن انسحابا تاما من هذا النوع – وقد ظهر في العصر الحديث احتجاجا واعيا على اللاتسامح، وتحويل الإنسان إلى شخص ذي بعد واحد- ينتهي بتحوله، بلا شك، إلى نوع من السذاجة السياسية غير المقصودة.
يبقى، إذن، الوعي التاريخي والرؤية التراجيدية للسياسة المعاصرة المعبر عنهما في النقطة الرابعة. إن النشاط السياسي، كما تقول هذه النقطة، ليس ملتبسا ومتناقضا فقط، بل صار، في غمرة احتكاكه اليومي بالواقع، وتدخله في كل تفاصيل حياة الأفراد، يختصر كل مرة في السلطة. فالسياسة هي السلطة، والسلطة هي المنصب في الدولة، والدولة غدت تتحول كل مرة إلى مراقب ومنظم لحياة الأفراد، بالإضافة إلى وصي.
خيبة الأمل، التي هي صفة ملازمة للإنسان المعاصر، جاءته من اعتقاده بأن الذين يشاركون في محاصرة الشر المتولد عن اللعبة السياسية قليلون. هذا هو الدرس الذي كان علينا أن نتعلمه في القرن العشرين، فما سمي بسياسة الجماهير، والمشاركة المكثفة للمواطنين في السياسة، التي بدأت في تزايد منذ السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، انتهت في الوقت الراهن بأفعال وحشية: معسكرات الاعتقال النازية، وحشية القنابل على هيروشيما وفيتنام وبغداد.
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها، هي أنه ينبغي وضع المفهوم الأرسطي النبيل للسياسة في سياقه، فلا يكفي مطلقا أن يشارك بكثافة أناس أكثر في الحياة السياسية، وفي مهام الديمقراطية، لأن مدننا ودولنا لها بُعْدٌ لا يتطابق معه النموذج الأرسطي الذي صيغ لمدينة/دولة صغيرة، وعدد محصور من السكان. لهذا يتوجب التفكير مرتين عند الحديث عن المشاركة والتدبير في الديمقراطيات الحديثة.
لدى مناقشته العلاقة بين الأخلاق والسياسة، ميز Aranguren بين أربعة نماذج ممكنة في الحداثة للتفكير في هذه العلاقة:
- السياسة الواقعية، حيث يعتبر مهنيوها الأخلاق مثالية سلبية، وتدخلها في السياسة أمرا مقلقا.
- رفض الفعل السياسي باعتباره شرا غير قابل للإصلاح، وذلك بحجة أن الأسبقية للأخلاق.
- المفهوم التراجيدي الذي يقتضي أن تتعايش الأخلاق والسياسة مع انشطار الفرد وتمزقه بين المطلب الأخلاقي وعدم القدرة على تجنب السياسة.
- المفهوم الدرامي لإشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة، بوصفها بحثا مستمرا، وتوترا دائما، ونقدا ذاتيا لا يرحم.
إلا أن Aranguren انتتقد بوضوح النموذجين الأولين، ومالبشكل إيجابي إلى النموذجين الأخيرين. وأنا أتفق مع هذا التوصيف للأشياء، لكني أريد أن أضيف أننا، بمجرد انغماسنا في السياسة، ننتبه إلى أن هذا الاختلاف بين المفهومين التراجيدي والدرامي ينمحي بالتمام بالنسبة للمثقف الواعي بما تعنيه السياسة، واليقظ في الوقت ذاته تجاه الأخلاق. والتجربة المعيشة توضح أنه إذا كان بين السياسة الواقعية والأخلاقيات تعارض جذري،فإن المفهومين التراجيدي والدرامي ليسا صيغتين متحجرتين لفهم علاقة الأخلاق بالسياسة، بل هما نَبْرتان لإشكالية باطنية تتغيران تاريخيا في حياة الإنسان الواحد.فلا وجود لحدود بين العيش التراجيدي والعيش الدرامي للعلاقة بين الأخلاق والسياسة، فالبحث المستمر، والتوتر الدائم، والنقد الذاتي الذي لا يرحم، ترتبط عادة بانشطار الفرد وتمزقه. ولهذا، فإن فضاء الفصل بين التراجيدي والدرامي يصير شفافا.
 
* * *
خلاصـة
في التفكير حول المسائل المنهجية، توصلنا إلى نتائج نريد تلخيصها في ما يلي:
الإيطيقا (أو علم الأخلاق) نظرية حول سلوك الإنسان وتصرفه وقيمه الأخلاقية.
- حيث أن النظريات الإيطيقية هي إنتاجات ثقافية لامتداد اجتماعي، ولكون هذا الامتداد يوجد بدوره مندمجا في امتداد بيولوجي اجتماعي، وفيزيائي بيولوجي، فإنه يبدو ضروريا عند معالجة الإيطيقا أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل البيولوجية، والسوسيولوجية، والسوسيوبيولوجية.
- إن القبول بهذه النقطة كمنطلق لا ينفي الطابع المستقل للتفكير الإيطيقي.
- حيث أن الكائن البشري حيوان سياسي، حيوان مدني واجتماعي، فإن النظريات الإيطيقية غير منفصلة عن التفكير السياسي، ومع ذلك يمكن الفصل بين الإيطيقا والسياسة لأسباب منهجية.
- مثلما أن الإيطيقا تفكير حول السلوكيات الأخلاقية المحددة في قواعد ومعايير، كذلك علم السياسة هو تفكير (فلسفي بالأساس) حول سلوك هذا الحيوان الاجتماعي، المدني، الذي هو الإنسان.
- كما نميز بين الكلمتين: الإيطيقا والأخلاق،يكون من الملائم أن نميز كذلك، على المستوى الإجرائي، بين السياسة بما هي براكسيس أو نشاط، وعلم السياسة بوصفه تفكيرا حول نشاطات الناس السياسية.
- إن الجواب عن السؤال: أيهما أسبق الأخلاق أم السياسة؟ سوف يتوقف على نظرتنا للكائن البشري، أي على الجانب الذي نلح عليه، أ- فإما أن نعتبر الإنسان حيوانا اجتماعيا ومدنيا، ومن ثم يكون كائنا سياسيا. ب- وإما أن نعتبره فردا/شخصا بمسؤوليات وواجبات أمام قوى(ربما متعالية) ليست من النوع السياسي.
- رغم أن اختلاف المفهوم حول الإنسان هو الذي يحدد الفكرة التي نكونها عن العلاقة بين الإيطيقي والسياسي في كثير من مناقشاتنا لموضوعات ملموسة، يبقى هناك على الدوام اعتراض الأخلاق على السياسة، واعتراض السياسة على السلوكيات الأخلاقية ( وغير الأخلاقية).
- ثمة على الأقل أربعة نماذج للتفكير وعيش العلاقة بين الأخلاق والسياسة، وهي:
أ- السياسة الواقعية، وفيها تعتبر الأخلاق مثالية سلبية، وينظر إلى تدخلها في السياسة بعين القلق.
ب-رفض العمل السياسي باعتباره شرا لا يصلح، وذلك بحجة أسبقية الأخلاق وتفوقها.
ج- المفهوم التراجيدي الذي يقضي بأن تتعايش الأخلاق والسياسة مع تمزق الفرد الذي يجد نفسه محاصرا بين المطلب الأخلاقي وعدم القدرة على تجنب العمل السياسي.
د- المفهوم الدرامي لإشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة، باعتبارها بحثا مستمرا، وتوترا دائما، ونقدا ذاتيا لا يرحم.
كل هذه الصيغ، للتفكير وعيش العلاقة بين الإيطيقا والسياسة، يمكن أن تتحقق في حالات الحماس الفردي أو في حالات جماعية متميزة خلال أوقات تاريخية مختلفة. وإذا تجنبنا طرح السؤال: أي صيغة من هذه الصيغ تتغلب على الفرد أو/والجماعة في هذه اللحظة أو تلك؟ سنجد التفكير الإيطيقي حول السلوك الأخلاقي، والتفكير النظري حول الحياة السياسية كانا وسيظلان من خصائص الإنسان. إن الكائن البشري، فوق أنه كائن اجتماعي، هو كائن تاريخي. فلا توجد نماذج أو مقولات ثابتة للجميع من أجل التفكير وعيش العلاقة بين الأخلاق والسياسة.
 
Cuadernos del Norte nº 7
دفاتر الشمال - العدد السابع
1
                         *
مجلة ثقافية تصدر من تطوان - المغرب
*abdelhafid
6 - أكتوبر - 2008
الرموز ... بين مركزية الحق ورمزية الخلق..    كن أول من يقيّم
 
 
د-خالد المزيني
Monday, November 03, 2008
نظرة معيارية
تفاوت الثقافات في مدى السلطة الروحية التي تمنحها للأشخاص، وكلما كانت الثقافة أكثر هشاشة كان أصحابها أكثر تشبثاً بالشخص (الرمز)، وكانت السلطات الممنوحة للرمز أكبر، وحينئذ يتمثل دور الأتباع، في إضفاء المهابة على الرمز، مشفوعة بالحكايات المدخولة تارة، والملفقة تارة أخرى، وهم في ذلك يحققون هدفين:
أولهما: تحشيد أكثر عدد من المقلدين.
وثانيهما: إخفاء العيوب والتناقضات المنهجية الداخلية تحت عباءة الرمز، وفي هذه البيئة يختلط الحق بالخلق، وتنسحق شخصية الأتباع، وتضمحل مسؤوليتهم في البحث عن الحق، حيث كان يجب أن يقوموا به، ويتماهى الصواب مع الرمز، فالمعيار – حينها - هو الرمز، أما الحق عندهم فمدلول لا دالّ، هذه أغلوطة بشرية جاءت الرسل عليهم السلام بدفعها، فقد جاؤوا بالتصحيح المعياري لمركز الحق والصواب، فالمركزية للحق، وأما الأشخاص فلهم حق التقدير على المستوى الأخلاقي، وأما على المستوى المعياري، فالعبرة بالحق لا الخلق، فانتقَلوا بالملة العوجاء من الشخصانية إلى المبدئية والقيمية، وانتشلوا البشرية من وهدة التبعية القاصرة، إلى مقام المسؤولية الرشيدة.
بدهي أن للعلماء مكانتهم العالية، بقدر ما يحملون من العلم، ويلتزمون من العمل، ولهم من التقدير بحسب هذا وهذا، وأن صلاح الأمة لا يستتب إلاّ بالتزام الدين، وأن هذا الالتزام لا يستقيم إلاّ بإجلال أحكامه، ومن لوازم هذا الإجلال إجلال أوعيته وحملته وهم العلماء، لكنه: الإجلال الواعي، الذي يمايز بين التقدير المطلوب، والتقديس الممنوع، إنه منهج يربي في الأتباع مسؤولية التبلغ بالحق، بقدر ما يلقي على العالم من تبعة البلاغ، ولما قال الحارث بن حوط لعلي رضي الله عنه: أتظن أن طلحة والزبير وعائشة – رضي الله عنهم - اجتمعوا على باطل؟! قال له: يا حارث! إنه ملبوسٌ عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه.
وبهذه المعايير الصارمة تواردت النصوص القرآنية والنبوية الكثيرة، أمثال قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). [المائدة: 75]، وقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ). [آل عمران: 144]. وحذّر من المبالغة في منح المخلوق حق الاتباع المطلق، فقال تعالى: )اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). [التوبة: 31]، والصحيح أنهم ما عبدوهم من دون الله، لكن وقعوا في أغلوطة معيارية، حين أطاعوهم في كل ما قالوا، ولو كان تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ فتلك عبادتهم.
وعلى هذا النسق صاح أئمة السلف محذرين الأتباع من تقليدهم بغير علم، أو المبالغة في تعظيم أقوالهم وفتاويهم، ولا تجد عالماً كتب الله له القبول في الأمة، ثم هو يدعو إلى تعظيم نفسه، واتخاذه رمزاً بالمفهوم السائد، لكن لما طال الأمد، وشجرت المذاهب، واتخذت كل طائفة رمزاً علمياً تطيف بأقواله الشروح والحواشي، لم يكن هذا تصرفاً واعياً، بقدر ما كان ردة فعل للهجوم الوارد عليهم من الخصوم، حينها:
 تقاصرت مسؤولية الأتباع، بقدر ما تعالت رمزية المتبوع، وقديماً تعامل العلماء الراسخون مع هذا الوضع بوصفه ضرورة على خلاف الأصل.
ولما قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك؟، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غداً، وعن أشهب بن عبد العزيز، قال: كنت عند مالك، فسئل عن البتة، فأخذت ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي: مالك لا تفعل، فعسى في العشي أقول إنها واحدة، ذكرهما ابن القيم في إعلام الموقعين.
ولأمر ما اختار الله لختم رسالاته: أمة العرب، التي كانت أقرب الأمم إلى معدن الفطرة، وأبعدها عن التكلف والغلو في المعظَّمين، ولم يكونوا
يخضعون لبشرٍ مثلهم كما صنعت الأمم الأخرى، فبعث فيها نبياً من أنفسها، رفعها إلى سن الرشد الفكري، وشذّب ما أصابها من تفريط الجفاة، وإفراط الغلاة، فكانت أمة وسطاً، تمحض العبادة للخالق، وتخضع لمن ولاه الله أمرها، وتقدّره قدره، بحسب ما معه من سلطان الحق لا غير.
وإذَن؛ فلغة الترميز الشخصي أُراها غريبة عن لغة القرآن، التي سلكت مسلك الوضوح والصرامة في تحديد مراكز المخلوقين على تفاوت درجاتهم، بخلاف ما هو سائد في ثقافات الغلو الباطنية، التي لا تقوم إلاّ على الشخصانية، فنقرأ في القاموس الكنسي ألفاظاً تتمحور حول: الأقانيم وأسرارها، وما إليها من المصطلحات الدائرة على مبدأ الرمزية الشخصانية.
ومثل ذلك في ثقافة التصوف الباطني، نجد طغيان لغة الرمز، كما في مصنفات الحلاج وابن الفارض وجلال الدين الرومي وابن عربي في آخرين، وللشيخ خاصة عندهم رمزية خرافية، صارت لهم ذات أنواط، كما للذين من قبلهم ذوات أنواط، وهكذا لا يمكن للغلو أن يتماسك إلاّ على ساق الترميز الاستلابي.
والعلماء الربانيون أنفسهم لا يدعون إلى ذواتهم، ولا يطالبون باتخاذهم رموزاً يتمحور الحق حولها، وإنما يؤكدون على الدوام أن العبرة بالحق، وأن الحجة دائرة معه، وليس هذا تواضعاً منهم كما قد يُظن، مع يقيننا باشتمالهم على هذا الخلق الكريم، لكنه موقف مبدئي، يضع الحق في نصابه، وينأى عن الشعاراتية.
فإن قيل: إن في هذا الكلام تقليلاً من هيبة الدين، بإسقاط رمزية العالمين به، فالجواب: أن ثمة فرقاً بين المستوى الأخلاقي والمستوى المعياري؛ فللعالم قدره وهيبته بحسب الموقف الأخلاقي، وواجب على الأمة ترئيس العالم، بل السعي في صناعة العلماء، وتعزيز أدوارهم في المجتمعات؛ لأن البديل سيكون ترئيس الجهال، والناس لا يصلحون فوضى لا سراة لهم.
وأما الموقف المعياري فالعبرة بالحق ذاته، ولهذا لو تبين للمقلد خطأ العالم لم يجز له اتباعه، وهذا يهدم مبدأ الرمزية أصلاً. إن المواقف الأخلاقية: لا مذاهب فيها، بل هي محل اتفاق، بخلاف الترجيحات العلمية فثمّ تشتجر المذاهب والآراء.
معضلة الترميز أنه يورث اشتباهاً بين الموقفين، ومع مرور الزمان يختلط الموقف الأخلاقي بالمعياري، ويقع التجاوز بالغلو في الأشياخ والصالحين، هذا ما ظهر لي، مع تقديري البالغ لمن خالفني من الإخوة الباحثين، والله وحده المستعان.
*عن
 
*abdelhafid
4 - نوفمبر - 2008
العروي: التقليد والحداثة لا يتعايشان إلا على مستوى الخطاب.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
حوار                                    
عبد الله العروي
 
 
.........................
ترجمة - سعيد الشطبي
                                       
- تقول في كتابك الأخير: «لم أرفع أبدا راية الفلسفة، ولا راية الثيولوجيا، ولا راية التاريخ؛ كل ما قمت به، ببساطة، هو أنني دافعت عن التاريخانية». عموما، مازلت تقوم بذلك. بم تبرر استمرارك في السير على نفس الطريق في الوقت الذي شهدت فيه التاريخانية تخلي الكثيرين عنها وتعرضت للنقد وتخوف منها آخرون من حيث ما يمكن أن يترتب عنها؟ ألا يزعجك أن تبقى وحيدا في مواجهة الجميع؟
< يمكنني أن أرد بما يلي: «ما الذي أتت به اللاتاريخانية؟». لا شيء، اللهم أنها هيأت سرير التقليدانية في معناها القح وصيغتها الصلبة. وهو ما نراه حولنا اليوم في كل مكان. فالمجتمعات الغربية جميعها آخذة، الآن، في اكتشاف أنها مجتمعات دينية؛ بل حتى في موطن فولتير نفسه، صرنا نسمع يساريين سابقين ينتقدون غياب التعالي والكينونة ما بعد العالم المادي.
إننا ندرك، اليوم، أن الفيلسوف، بالوظيفة، الذي لم يكن يكف عن الحديث عن وجود بنية ضمنية إنما كان يعني بذلك الانسجام الإلهي. أنا لست ضد الثيولوجيا، بل إنني أستغرق وقتا طويلا في دراستها والاستفادة منها؛ بيد أنني أجدني ميالا إلى ثيولوجيا متبناة، لا ثيوصوفية مخجلة أو مهربة.
لماذا قلت إنني لا أريد أن أكون فيلسوفا ولا ثيولوجيا ولا حتى مؤرخا حقيقيا؟ لأنني، كما قلت سابقا بكل تواضع، لا أعتقد أن الإنسان، أعني أي إنسان كان، أنت أو أنا، يمكنه في يوم من الأيام أن ينجح في أن يُلزم الحقيقة المطلقة الانكشاف أمامه مهما ملك من وسيلة في سبيل ذلك. ما يمكنه أن ينكشف أمامنا، أمام أي كان منا، ما هو إلا حقيقة نسبية، مشتركة، مقتسمة. فالحقيقة الموضوعية ليست هي الحقيقة المطلقة؛ إنها حقيقة اتفاق أو حقيقة صفقة، تسمح لنا بالتعايش في الحياة. أذكّر هنا بأننا نتكلم دائما عن العلوم الإنسانية، أو بالأحرى عن الحياة في المجتمع.
- لنعد إلى كتابك الأخير، الذي تتحدث فيه عن قراءة القرآن من خلال الحديث عن أثرها على الوجدان أكثر من العقل. ترى، كيف يمكن قراءة هذا الكلام الصادر عن رجل عقلاني؟
< لم يسبق لي، أبدا، أن قلت إن العقل هو شمولية تلغي كل ما ليس عقلا. عموما، أنا أستعمل كلمة «عقلانية» التي تقحم في معناها مشاركة الإنسان كما تشير إلى ذلك الكلمة في العربية. وقد وضحت في العديد من المناسبات أن مجال العقلانية محصور (العلم التجريبي، السياسة والتاريخ من حيث هو خادم للسياسة). غير أن التجربة الإنسانية لا تتوقف هاهنا؛ بل هنالك مجال واسع حيث لا تلعب العقلانية دورا كبيرا، بل دورا ثانويا، فحسب.
إن ما بدا لي، دائما، خطيرا عند استحضار السوابق التاريخية هو إقحام اللاعقلاني في موضوع الأولى به أن يظل تحت عنوان العقلانية، إما بحكم التوافق أو بحكم نفعية ما. فاللاعقلاني مُبعد عن الخير المشترك لسبب بسيط يتجلى في كونه منفلتا، لا يُتحكم فيه (ما العمل بالسحر في العلوم، أو بالعنف في السياسة، أو بالجنون في التاريخ؟). أما ما تبقى للاعقلاني فهو مجال التجربة الفردية الشاسع، من قبيل الفن، والأدب والدين.
لدي استطراد هنا. يحز في نفسي أن أرى في مدارسنا أن الكتاب المدرسي حول التربية الدينية يبدأ بفصل حول الغيب؛ لست لأنني أنفي الغيب، بل إنني أستغرب أن نكلم الأطفال عن الغيب، والحال أنه ينبغي أن نتحدث في الموضوع مع البالغين بعد أن يكونوا غادروا المدرسة بزمن طويل. مكان هذا النوع من مواضيع الحديث ليس مناسبا.
- : في إطار هذا السؤال حول الجانب الوجداني، نكاد نذهب حد اعتبار أن هنالك جانبا صوفيا فيكم ينكشف للقراء...
< العلم هو الحقيقة المشتركة فكريا؛ السياسة هي الحقيقة المشتركة اجتماعيا؛ أما الحقيقة الفردية فهي حقيقة ممنوحة للغير، لكنها ليست مشتركة بالضرورة والمبدإ. سموها كما تريدون، لكن هذا التمييز بين الأنواع الثلاثة للحقيقة، إذا بحثتم عنه جديا، ستجدونه حاضرا عند أكبر العقلانيين.
- كتبت في «الإسلام والحداثة» ما مضمونه أن مسعاك ليس هو وصف حالة من دون مخرج، بل هو بلوغ أقصى ما يمكن على مستوى الموضوعية حتى لا تكون ضحية لحلول خادعة. وفي كتابك الأخير «السنة والإصلاح»، تعود إلى عهد النبي إبراهيم. هل الباعث على ذلك هو الموضوعية دائما؟
< العنوان الحقيقي لكتابي هو «سنة وإصلاح»، الذي من خلاله سعيت إلى تعميم ما أريد قوله. إن إبراهيم يمثل مركز البرهنة، ويرمز إلى ظهور الذاكرة. وقد ظهر في وقت توقفت فيه الإنسانية (إنسانيتنا وليس إنسانية الآخرين، كالصينين والهنود، إلخ... التي نجهلها جهلا فظيعا، للأسف) والتفتت إلى ماضيها. الزمن كله، هنا، يتلخص في رؤية تكشف، في لحظة واحدة، ما سبق وما سيكون. هكذا وُلد التقليد.
إبراهيم هو الذاكرة، هو التقليد؛ إنه كلٌ متعدد مختزل في وحدة. التقليد هو اختزال التاريخ كله في نقطة واحدة من الزمكان. أما في ما يخص حالتنا نحن، فإن سنتنا تلخص تاريخ ملايير (كوسموس)، وملايين (حيوات)، وآلاف (الوعي) السنين في ما قيل عنه، نظريا، خلال عقد (في ما يسمى، كذلك، سنة) من الزمن. إنها إعادة منح التاريخ، الطبيعي والإنساني، غير الواعي ثم الواعي، كل كينونته؛ إنه، بمعنى من المعاني، الدخول «في الإصلاح». من دون ذلك، سنكون نواجه التقليد بالتقليد ليس إلا، ونجد أنفسنا في حرب تقليد مشتعلة؛ وهو ما نعيشه اليوم.
- نلاحظ اليوم أن الزوج «تقليد/حداثة» مازال يفرض ذاته بكثير من الإصرار، سواء على مستوى خطاب الدولة أو داخل المجتمع. وقد سبق أن كتبت أن دائرتي «التقليد والحداثة» لا يمكنهما أن تتعايشا في زمكان واحد. من أين لك هذا اليقين؟
< أُذكر هنا أن مفهومي التقليد والحداثة لا يتعايشان إلا على مستوى الخطاب، لا في الأفعال. فنحن نتحدث عن الطب التقليدي والمعمار التقليدي والفن التقليدي كما لو أنها أمور تثير الفضول. لكن، هل سبق لكم أن رأيتم في الشارع دراجات نارية تقليدية، وفي الجو طائرات تقليدية، وفي المستشفيات أجهزة كشف تقليدية؟ اللهم إذا تعلق الأمر بثنائية من نوع خاص كأن نقول: الجسد حديث والدماغ تقليدي. في هذه الحال يتعلق الأمر بنظرة (تقليدية) نلقيها على حقيقة (حديثة).
لكن، عندما نعود إلى النصوص القديمة، ندرك جيدا أن التقليد المكتوب، والذي نحتفظ ببعض أثره، هو دائما خطاب حول حقيقة. والسنة هي دائما محاكمة لبدعة معينة. والأخيرة تحيل على المعيش، على الملموس؛ أما السنة فما هي إلا إدانة شفهية، اجتماعية، وسياسية للبدعة. وما نسميه «بروز السنة» هو، بكل الصرامة، إعادة تسمية ما يخلقه ويجدده التاريخ. و»الجديد»، الذي يقابل بالنقد، لا يزول بالمرة، بل يعاد تصنيفه بشكل مختلف، فحسب. هذا ما نعيشه، اليوم.
أفليست أسلمة الحداثة و«تحويلها إلى تقليد» تكييفا لما لا نستطيع تجاوزه تحت اسم آخر مختلف؟ لقد رأينا ذلك جليا في شأن المنتوجات المالية الإسلامية: فقد كانت معروفة، واستُعملت قبل أن يُتخلى عنها؛ لكن يمكن دائما استعمالها والتخلي عنها مجددا. فهي ليست إسلامية إلا بالاسم لأنها كانت سائدة في الماضي في البلدان الإسلامية.
 
عن ج. المساء...

عن «لاروفي إكونوميا»
*abdelhafid
22 - نوفمبر - 2008
اللاهوت والفلسفة    كن أول من يقيّم
 
لعل الأمر الذي غفل عنه الكثير من العقول المفكرة التي تسعى جاهدة لرمي قارب النجاة من الغرق الأخلاقي والإنحطاط  الفكري الذي توصلنا إليه,هو الفلسفة بمعناها العميق الذي يمتد أصوله إلى اليونانية على يد (هيرقليطس وبرمنيدس وديمقريطس...........الخ)(الطبيعيين)ومن بعدهم عمالقة الحكمة(سقراطوأفلاطون وأرسطو و..........)   مرورا بالرواقيين  والأبيقوريين, وصولا باليونانية الحديثة ومن بعدها الوسيطة ومن ثم الحديثة فالمعاصرة.
إن خوض الفلسفة في الماورائيات جاء تفسيرا للقوانين الكونية ذات الأسباب الغامضة,وهذا الخوض للبحث عن التفسيرات أدى  إلى وجود آراء متناقضة حملت في طيات هذا التناقض الغنى الفكري وهيأت الأرض الخصبة للحوار الفكري الهادف إلى تقديم الحلول دون البت المطلق بها وتقديم الحلول النهائية على أساس أنه لايوجد حقيقة مطلقة(عندما سأل الفارابي وهو على فراش  ْالموت عن الحقيقة إبتسم قائلا :إنها حديث خرافة)
وبإعتبار الفلسفة خادمة للعقل ,إلا أننا لانستطيع تجاهل دورها في خدمة اللاهوت في العصر الوسيط,وأبرز من يمثل هذا الدور للفلسفة هو القديس أوغسطين عندما وحد طريق المعرفة الفلسفية العقلية واللاهوتية الروحية, حيث ربط بين الوحي والفكر بين العقل والنقل بين الدين والفلسفة.
 
 
الموضوع فتح على مصراعيه,ناهيك على أنه موضوع متشابك مترابط , مترامي الأفكار.
لكن نؤمن أن الفلسفة هي السبيل الوحيد للسمو الروحي والعبور إلى معرفة اللامتناهي متعاضدة باللاهوت الديني.
وتبق الفلسفة :مبدأ يعلم الإنسان كيف يعيش في الحياة
 
إبراهيم
30 - أكتوبر - 2007
الفلسفة واللاهوت    كن أول من يقيّم
 
بكل بساطة: بالرغم من أن الفلسفة خادمة للعقل والفكر , إلا أننا لايمكن أن نلغي دورها في خدمة اللاهوت.
وأبرز من يمثل تلك المرحلة هي الفلسفة الوسيطة على يد الفيلسوف الكبير أوغسطين عندما وصل إلى أن المعرفة لها طريقين  الذي وحدهما (طريق الفلسفة وطريق اللاهوت , العقل والنقل, الفكر والروح)
إبراهيم
30 - أكتوبر - 2007
ما أحوجنا لشجاعة أدبية ولصرامة منهجية ولوضوح في الرؤية وفي المنهج كما لدى الأستاذ والمفكر عبد الله     كن أول من يقيّم
 
شكرا جزيلا لك الأستاذ الكريم عبد الحفيظ، ذلك أنني أعتبر مجرد عرض آراء المفكر العربي عبد الله العروي نضالا حقيقيا يسوق في اتجاه نقاش عميق وهاديء وملائم، يتميز بالشجاعة وبالخصوبة للإتيان بالجديد ولطرق باب التخلص من التكرار والتسطيح، والسقوط في الاستسهال الذي يقودنا في الغالب الأعم إلى التقهقر في الفكر وإن استعملنا المفاهيم والمصطلحات الحديثة الظهور في ميادين التنظير العلمي,  تحية صادقة لك أستاذ عبد الحفيظ ولكل الإخوة الأساتذة المنورين لصفحات هذا الموقع الجميل,
*إدريس
4 - مارس - 2009
هايدغر وسؤال " الكون " ، " الكينونة " و " الكائن "     ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
ليس من السهل المغامرة في الكلام عن هايدغر ، الذي أعاد الفلسفة إلى مهدها الأول ، وذلك بالتساؤل عن معنى الوجود أو " كنه الوجود " ، ومن هنا تم اعتباره مجدد الأنتولوجيا التي هي : دراسة الذات الإنسانية من حيث كينونتها ( صفاتها المؤسسة لجوهر وجودها والتي لا يمكن انتزاعها عنها ) .
 
والتساؤل عن " الكون " بدأ منذ برمنيدس (450 ق . م ) الذي اعتبره أصل الوجود وبالمعنى العام الذي تدل عليه كلمة " التكوين " (Genèse ) كما جاءت في التوراة أي أنه : الوجود بعد العدم . غير أن أفلاطون قال بأن الذات في " كونها " ليست واحدة ، وليست متفردة بالصفات ، بل أن للصفات وجودات متعالية تجتمع بل وتتناقض أحياناً في الذات و" كونها " .
 
أما أرسطو ، فلقد توصل إلى تحديد " الكون " ( L'être ) على أنه : حصول الصورة في المادة ، وتحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى . يقابله " الفساد " الذي هو زوال الصورة عن المادة .
 
وأما الشيخ الرئيس " ابن سينا " فلقد استطاع ( على عكس أرسطو ) بالانطلاق من المحسوس ، تحديد خواص " الكون " لأنه كان طبيباً ويعنى بالجزئيات ثم ينطلق منها لتحديد الكليات : " الكون " عنده هو معنى أحادي وسيط بين الله والمخلوق . 
 
عند الأشاعرة : " الكون " هو مرادف ل " الثبوت " و " الوجود " و " التحقق " .
 
أما عند المعتزلة : فإن الكون والوجود هي مغايرة للثبوت والتحقق . ( لأن الكون والوجود عرضة للتغيير ) أما الثبوت والتحقق فهي أعم من الوجود .
 
ينطلق هايدغر في تعريفه " للكون " أو " الكينونة " من معطى بديهي وهو : أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتساءل عن معنى وجوده ، وأن مجرد طرح السؤال يفترض وجود معطى بديهي آخر لا يدركه العقل الراهن ، بكينونته ( أو كونه ) الراهن المتمثل أمامنا حالياً والذي يسميه هايدغر بالكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) ( Desein ).
 
إن فلسفة هايدغر تقليدية جداً لجهة إعادتها طرح السؤال عن مصدر المعرفة ، فإذا كان الإنسان يعرف بالبداهة أنه موجود بدليل أنه يحاول تحديد ماهية وجوده ، فإن هذا يفترض وجود معطى معرفي يتجاوز قدرة الإنسان الحالية على التفكير لأن الإنسان بكينونته الحاضرة غير قادر على تحديد معنى وجوده .
 
وصف الحياة الاعتيادية ، العلاقة بالعالم المحيط ، وبالآخرين ، قلقها والجذور المكونة لمعارفها الأنتولوجية ، تمكننا من تحديد وشرح البنية الإجمالية العامة للكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) التي تؤلف زمنيتها ، أي تحدد صفاتها في الزمن الراهن ( Temporalité ) والتي تجعل منها ذاتاً تاريخية . ثم أن دراسة هذه " الكينونات " وفهمها في زمنيتها وتاريخيتها ، سوف يرسم لنا أفق الكينونة الحقيقية الأصلية مقابل الكينونة الزائفة .
 
فالإنسان " متروك " في العالم ، وباكتشافه لنفسه ك : " مشروع " ، ككينونة قابلة للتحقيق سوف يتمكن من تحديد اتجاهه لأن " الكينونة الحاضرة " يمكن أن تتوه في وجود مزيف ( إغراق في الحياة العادية اليومية ) . ولا يتم التوصل إلى تحقيق الكينونة الأصلية إلا بالتجربة العاطفية والمعاش واقعيا التي تضعنا في حالة من القلق ، والتي يكون فيها ما يمكن تحقيقه من الكينونة معكوس بكليته .
 
هذه التجربة ( القلق ) التي تخفي عن أعيننا المشهد المطمئن لسلوكنا وتكشف أمامنا العدم بحدوده القصوى " كينونة الموت " تفتح أمامنا طريق الكشف على حقيقة الذات الفعلية " الكينونة الأصلية " . فالإنسان لا يكون إنساناً بطمئنة نفسه بواسطة المعرفة ( الأفكار النظرية ) لكنه يتحقق : بالتجربة القلقة وبأن ينقذ من النسيان سؤال الكينونة وذلك بأن يكون راعي هذه الكينونة وبأن يحرر الكلام من اعتياديته ( أي من الاستخدام اليومي التلقائي والاصطلاحي للكلام ) .
 
المسألة تكمن إذاً في تحرير الكينونة من تقنية التفكير ، وذلك بأن نعيد التفكير إلى بعده الأصلي وهو : تحقيق العلاقة بين الذات والإنسان ، وتحرير اللغة من استخدامها اليومي النفعي ، من علاقات القواعد اللغوية الشكلية ، لكي تعود إلى حالتها الشعرية لأنها تنبض بالمعاني ، و(لأن الإنسان يحيا على هذه الأرض بشاعرية ) كما يقول هولدرين .
 
وكان أبو العلاء المعري قد قال في قصيدته التي أولها : ألا في سبيل المجد ما انا فاعل
وإني وإن كنت الأخير زمانه
 
لآت بما لم تستطعه الأوائل .
 
 
*ضياء
23 - نوفمبر - 2007
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 
لم تحظَ فلسفة في القرن العشرين بما حظيت به فلسفة مارتن هايدغر (1889 – 1976). فقد كان مثار اهتمام معظم الفلاسفة والمفكّرين، ولاسيما بعد صدور كتابه الشهير عام 1927 "الكينونة والزمان" L'être et le temps الذي اعتبر أهم عمل فلسفي عرفه ذلك القرن. ولعل فرنسا كانت السبّاقة في التأثر به. وما "الكينونة والعدم" لجان بول سارتر سوى مثال على ذلك. كما شأن فلاسفة وجوديين آخرين وأبرزهم موريس مارلو بونتي وغبريال مارسيل. لكن ما يستميلنا لدى هذا الفيلسوف هو تحوّل فكره الى البحث في الشعر والشعراء، مما وسع نطاق جمهوره، وغدا مرجعاً يؤخذ بحكمه في هذا المجال، حتى عدّ بحق "صديق الشعراء". على عكس ما هو مأثور عن غالبية الفلاسفة. وحين توفي رثاه رينه شار الذي كانت تربطه به مودّة، بقصيدة قصيرة. إلا أنّ أحبّ الشعراء إليه هو هولدرلن. فقد خصّه بأربعة أبحاث كتبها في أوقات متفاوتة وهي: "هولدرلن وماهية الشعر" (1936) (يرى القارىء في ما يلي ترجمة للقسم الأكبر من هذا البحث)، "كما في يوم عيد" (1941)، "ذكرى" (1943) و"عودة" (1943). وجميعها ألقاها هايدغر كمحاضرات وصدرت مجموعة في كتاب عنوانه "اقترابات من هولدرلن". وفي رأي فيلسوفنا أنّ الشعر، وإن يكن من أرومة الفكر ذاتها، يبقى بعيداً جداً عنه: "المفكر يقول الوجود، أما الشاعر فيسمّي المقدّس. ولا شك أننا نعرف الكثير عن العلاقات بين الفلسفة والشعر، لكننا لا نعرف شيئاً عن الحوار بين الشاعر والمفكر اللذين يسكنان متقاربين على أبعد الجبال بعضها عن بعض" (فقرة من بحثه "ما الميتافيزيقا" – 1943). إنّ ما يقوله الشاعر هو المقدّس، وما يسمعه في كلامه هو المقدس. والكلام هو مجيء المقدس. وشعر هولدرلن هو من إملاء المقدس. و"الأعلى" و"المقدس" هما عنده امر واحد. إنهما الصفاء والسكون. ولعل هولدرلن قد ينفرد بإيمانه بالشعر وبأصله الألهي. فهو يتنشق في الشعر بخشوع أنفاس الألهي. ويقوم الشعر، كالاثير الذي يملأ العالم الواقع بين السماء والأرض، بملء الهوّة القائمة بين الفكر وأسفله، بين الآلهة والبشر. إلاّ أنّ "المادة" التي تعظّم هذا المقدس هي اللغة. والشاعر ككل كائن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت. ومع ذلك، فالشعر لا يكمن فقط في موسيقى اللغة وقدرتها البدئيّة على الكشف، وإنما في الصورة أيضاً. وهذه ليست خيالا خالصاً. إن "جوهر الصورة"، يقول هايدغر، هو أن يجعلنا نرى شيئاً ما. الصورة الشعرية ترينا العالم اليومي. لكنها ترينا إياه غريباً. إنها ترينا "اللامرئي".
 
هي ذي المواضيع الخمسة التي تعالجها هذه المحاضرة:

1 – "التعريض"(1): "هذه المشغلة الأكبر براءة من كل المشاغل".
(أعمال هولدرلن، المجلد 3، ص 377)

2 – "لذلك، فإن اللغة التي هي من أخطر الملكيات، قد أعطيت للأنسان... لكي يؤكد ما يكونه..." (المجلد 4، ص 246)

3 – "لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين
مُذ كنا حواراً
وفي مقدورنا أن يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 343)

4 – "ولكن ما يبقى، إنما يؤسسه الشعراء".
(المجلد 4، ص 63)

5 – "الانسان غنيّ بالقِيَم، لكنه شعرياً يقيم على هذه الأرض".
(المجلد 6، ص 25)

لماذا اخترنا أعمال هولدرلن لتبيُّن ماهية الشعر، وليس هوميروس أو سوفوكليس، فيرجيل أو دانتي، شكسبير أو غوته ؟ ألم تتحقق ماهية الشعر في أعمال هؤلاء الشعراء، في غنى يعادل وربما يتجاوز إبداعات هولدرلن التي توقفت فجأة قبل الأوان ؟

قد يكون. ومع ذلك اخترنا هولدرلن دون سواه. ولكن هل يمكن فعلا أن نستخرج من أعمال شاعر واحد ماهية الشعر بشكل عام؟

العام، نعني به ما يصح بالنسبة الى كثيرين. وهذا ما لا نستطيع بلوغه ولا من طريق التفكير المقارن. لذلك، ثمة حاجة الى أن نستعرض أكبر تشكل ممكن من القصائد وضروب الشعر. وفي هذه الحالة، فإن شعر هولدرلن ليس سوى واحد من كثرة. وإذ ذاك لا يكفي وحده للقيام بماهية الشعر. ويكون مشروعنا، منذ البداية، قد حوى بذور فشله. وهو فشل أكيد، ما دمنا نعني بـ"ماهية الشعر"، ما يتركّز في مفهوم عام يصح في كل ضرب من ضروب الشعر على السواء. ودائماً ما يكون هذا العام، هذه القيمة التي تصحّ بالنسبة الى كل خاص بدون تمييز، هو "اللامتحيّز: "إنه تلك "الماهية" التي لا يمكن أبداً ان تصبح ذاتية. فيما نحن نبحث عن هذه الذاتية في الماهية بالذات. وهذا ما يدفعنا الى أن نقرر إن كنا نهتم بالشعر وكيف، وإن تكن الافتراضات التي نأتي بها، تبقينا في مجال الشعر وكيف.

لم نختر هولدرلن لأن أعماله حققت، كواحد من أعمال كثيرة، ماهية الشعر العامة، بل لأن ما يشكل قوام شعره، هو ذلك القرار الشعري الذي يرتكز على "تقريض" ماهية الشعر بالذات. إن هولدرلن في نظرنا هو "شاعر الشعراء" بامتياز.

ولكن أليس فعل "التقريض" إشارة الى انحراف في تأمل الذات؟ أليس في الوقت نفسه اعترافاً بأننا محرومون من فيض العالم ؟ و"التقريض" عندئذ، ألا يزيد العقبات ؟ أليس شيئاً فائت الأوان ونهاية ؟

الجواب في ما يأتي:

في رسالة بعث بها هولدرلن الى امه في كانون الثاني 1799، أشار الى أنه مشغول بقرض الشعر. وهذا "الانشغال هو الأكثر براءة". فكيف ذلك ؟ إنه يتجلى في الشكل المعتدل لـ"اللعب". فهو يبتكر، طليقاً، عالمه الخاص من الصور، ويظل مستغرقاً في نطاق ما تصوّره. وهذا اللعب ينجو من رصانة القرار الملتزم بطريقة أو بأخرى. وعليه، فإن قرض الشعر هو مسالم تماماً، وفي الوقت عينه هو غير فعّال، لأنه يبقى مجرّد كلام وإطناب. وهذا لا نصيب له من الفعل الذي يتصل مباشرة بالواقع ويغيّره. الشعر كالحلم، لا حقيقة واقعة. إنه لعب كلمات، وليس البتة رصانة فعل. الشعر مسالم وغير فعّال. وهل ثمة أفضل من اللغة الصافية، يستطيع ان يدّعي أنه بلا خطر؟ طبعاً، نحن، في نظرتنا الى الشعر كـ "أكثر المشاغل براءة"، لم ندرك بعدُ جوهره. لكننا على الأقل، استطعنا أن نعيّن أين يجب البحث عنه. فالشعر يبدع أعماله في نطاق اللغة، ومن "مادة" اللغة. فماذا يقول هولدرلن في صدد اللغة؟ لنستمع مرة ثانية اليه.

 
في تخطيط مجزّأ يعود تاريخه الى العام نفسه (1800) الذي كتبت فيه الرسالة المذكورة آنفاً، يقول الشاعر:

"لكن الكائن البشري يقيم في الاكواخ، ويكتسي بثوب محتشم، لأن كينونته جد حميمة، وجدّ راعية أيضاً. والواقع، أنه يصون "الروح" كما الكاهنة الشعلة السموية. وهنا مهارته. ولذا أعطيت له، هو الشبيه بالآلهة، حرية الاختيرا، والقدرة السامية على التنظيم والتنفيذ. ولذا أيضاً، أعطيت له اللغة أخطر الملكيات حيث ينشىء ويهدم، ثم يغيب عائداً الى الحية أبداً، الربة وا لأم، لكي يشهد انه ورث عنها ما يكونه، وتعلّم منها أسمى ما تملك وأقدس، الحب الذي يحفظ الكون". (المجلد 4، ص 246)

إن اللغة، هذا المجال لـ"أكثر المشاغل براءة"، هي أيضاً أخطر الملكيات". فكيف التوفيق بين هذين الاثباتين. لنترك الآن هذا السؤال، ولنطرح قبلُ، ثلاثة أسئلة: لمن تكون اللغة ملكية؟ وكيف تكون الملكية الأخطر؟ وعلى أيّ وجه عموماً تكون ملكية ؟

لنلاحظ أولا الفقرة التي جاء فيها هذا الكلام عن اللغة. لقد جاء في مخطط لقصيدة يُظهر من هو الكائن البشري في مقابل كائنات الطبيعة الاخرى. وذكر بعضها: الوردة، البجع، الوعل في الغابة (المجلد 4، ص 302 و385). كذلك، فإن الفقرة المذكورة، وبما أن النباتات محددة بالنسبة الى الحيوانات، تبدأ بهذه الكلمات:

"ولكن في الأكواخ يقيم الكائن البشري".

فمن هو اذاً الكائن البشري؟ ذاك الذي عليه أن يشهد على ما يكونه. وأن يشهد يعني أن يكشف ويُبلغ من جهة، وفي الوقت نفسه يعني أيضاً أن يضمن، في الإبلاغ، ما أبلغ به. فالإنسان هو "ذاك" الذي "يكونه" بالضبط، في الشهادة على "دازاينه"(2) "Son Dasein" الخاص. لكن هذه الشهادة لا تعني أن كينونة الانسان تعبّر عن ذاتها بعد فوات الأوان، وأن هذا التعبير إضافي وعلى هامش كينونته. كلا، بل هي تساهم في تكوين "دازاين" الانسان بالذات. ولكن ما يجب على الانسان أن يشهد عليه؟ إنه انتماؤه الى الأرض. وهذا الانتماء قوامه أن يكون الانسان وارثاً ومتعلماً في كل شيء. لكنّ الأشياء في تنافر. وما يفرّق بين الأشياء، وفي الوقت نفسه يجمعها، هو ما يسميه هولدرلن "الحميمية – الذاتية" "l'Essentielle Intimité". وشهادة الانتماء الى هذه "الحميمية – الذاتية" تتم بخلق عالم وسطوع فجره، كما بهدمه وأفول نجمه. وتولد الشهادة على كينونة الأنسان، ومن ثم على تحققها الصحيح، من حرية القرار. وهذه الحرية تقبض على "الضروري" وترتبط بقيود داعٍ اعلى. وأن تكون شاهداً على هذا الانتماء الى الموجود "L'existant" في جملته، انما يتم و"يتأرخن" "S'histarialise" كـ"تاريخ". ولكن لكي يكون تاريخ ما ممكناً، يجب ان تعطى اللغة للأنسان. فاللغة هي من ملكيات الأنسان.

ولكن كيف تكون اللغة الملكية الاشد خطرأً ؟ انها الاخطر من كل الاخطار، لأنها هي التي تبدأ بخلق امكان خطر ما. فالخطر هو تهديد للكينونة من قِبَل كائن "étant" ما. وعليه، فالانسان لا يجد نفسه معرَّضاً، الا بمقتضى اللغة، لشيء منكشف "révélé"، يحاصره باعتباره كائناً ويثيره في "دازاينه"، ويضلله ويهديه باعتباره غير – كائن "Non – étant". فاللغة هي التي تخلق أولا المجال المنكشف حيث التهديد والضلال يضغطان على الكينونة؛ كذلك هي التي تخلق امكان ضياع الكينونة. لكن اللغة لسيت خطر الأخطار فحسب، بل هي تخفي حتماً في ذاتها ولذاتها خطراً دائماً. مهمة اللغة ان تكشف عن الكائن بصفته كائناً، في العمل "l'œuvre" وأن تضمنه. في اللغة يمكن التعبير عما هو الأكثر جلاء وغموضاً، كما عن الملتبس والشائع المشترك. وينبغي للكلام الأصيل كي يكون مفهوماً، وتالياً كي يصبح ملكاً جماعياً، أن يكون مشتركاً. لذلك ورد في فقرة أخرى لهولدرلن: "لقد تكلمت الى الألوهة، لكنكم نسيتم جميعاً ان البواكير لم تكن قطّ للفانين، وإنما هي ملك الآلهة. إذ ينبغي أولا ان تصبح الثمرة أكثر شيوعاً، والفة يومية، حتى تصير ملك الفانين" (المجلد 4، ص 238). فالجليّ والشائع يشكلان كلاهما قولاً ما. الكلام اذاً، بما هو كلام، لا يقدم مباشرة ضماناً على أنه كلام اصيل او فراغ صائت. بالعكس، إن الكلام الأصيل، غالباً ما يبدو، في بساطته، اشبه بشيء غير أصيل. ومن جهة أخرى، نرى ان الكلام الذي يتخذ مظهر الأصالة، ليس في الغالب سوى ثرثرة وتبليغ. وعلى هذا النحو، فاللغة مرغمة دوماً على أن تتخذ مظهر المولّد لذاتها، ومن ثم تُعرّض للخطر ما هو من خصائصها على الاطلاق، أي القول الأصيل.

فبأي معنى الآن هذه الملكية الأشد خطراً من سواها، هي "ملكية" للانسان؟ اللغة هي ملكيته الخاصة، لتصرّفه بها بهدف نقل اختباراته، وقراراته، وانطباعاته الشعورية. اللغة تصلح للفهم. وبما انها أداة صالحة لهذه الوظيفة، هي "ملكية". لكن ماهية اللغة لا تحصر همّها في كونها وسيلة للفهم. فتحديدنا لها على هذا النحو، لا يوصلنا الى ماهيتها الخاصة، وانما يقدّم نتيجة لهذه الماهية. اللغة ليست فقط أداة يملكها الأنسان الى جانب أدوات كثيرة أخرى. اللغة هي، قبل كل شيء وعلى العموم، ما يضمن إمكان الانوجاد في وسط رحابة الكائن. فحيث تكون اللغة فقط، يكون عالم، اي تلك الحلقة المتغيّرة أبداً، من القرارات، والمشاريع، والعمل، والمسؤولية، وكذلك من التعسف، والصخب، والانحطاط، والضلال. وحيث يكون عالم، يكون "تاريخ" فحسب. اللغة هي ملكية على معنى أكثر أصالة. فأن تكون ملكية ضامنة لهذا العالم ولهذا التاريخ، معناه انها تضمن أن "يكون" الأنسان على نحو "تاريخوي"(3) "Historial". اللغة ليست أداة جاهزة، بل بالعكس، إنها ذلك الحدث الذي يملك في ذاته أعلى إمكانات كينونة الأنسان. من ماهية اللغة هذه، علينا أولا ان نتحقق، لكي نفهم مجال عمل الشعر، ونفهم الشعر بذاته حقاً. فكيف تتأرخن اللغة؟ للأجابة عن هذا السؤال، لنتأمل معاً ما يقوله هولدرلن:
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 
( تابع )
*ضياء
27 - ديسمبر - 2007
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 
الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 نعثرعلى هذا القول في تخطيط طويل ومعقّد لقصيدة غير مكتملة، ومطلعها: "أيها المصلح، أنت يا من لم يصدّقه الناس قط" (المجلد 4، ص 162 و345)

"لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين،
مذ كنا حواراً،
وفي مقدورنا ان يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 350).

في البدء، لنستخرج من هذه الأبيات ما يتصل بسياق حديثنا: "مُذ كنا حوارا"... نحن – البشر – حوار. كينونة الانسان تتأسس في اللغة. وهذه اللغة لا تتخذ واقعاً - تاريخوياً أصيلا، إلا في "الحوار". على أن الحوار ليس وحده الوجه الذي تتحقق به اللغة. إلا انها كحوار فقط، تكون اللغة أصيلة. وما نعنيه عادة بـ"اللغة"، أي ذلك النسق من الكلمات وقواعد الكلام التركيبية، ليس سوى مظهر خارجي للغة. اذاً، ماذا يعني "الحوار" ؟ أكيداً، أن يتكلم الناس بعضهم مع بعض عن شيء ما. واللغة إذذاك، تكون الوسيط الذي يجعلنا على تواصل ولقاء بعضنا مع بعض. لكن هولدرلن يقول: "مذ كنّا حواراً وفي مقدورنا ان يصغي بعضنا الى بعض". إن القدرة على الأصغاء، بعيداً من أن تكون مجرد نتيجة لفعل الكلام في ما بيننا، هي على النقيض، افتراضية. حتى القدرة على الفهم قائمة بدورها على إمكان الكلام وفي حاجة اليه. فالقدرة على الكلام والقدرة على الفهم وجدتا معاً منذ البدء. إننا حوار – وهذا يعني في الوقت ذاته ودوماً: أننا حوار "واحد"... فالحوار ووحدته هما قوام "دازايننا".

لكنّ هولدلرلن لا يقول فقط: نحن حوار. إنه يقول: "مذ كنا حواراً"... فحيث ما زال قائماً وناشطاً استعداد الأنسان للغة، ليس ثمة بعد صعود – أصيل للغة – الحوار. فمنذ متى كنا حواراً؟ حيث يجب أن يكون حوار "واحد"، على الكلام الأصيل أن يبقى على صلة بـ"الواحد"، وبـ"الواحد في عينه". بدون هذه الصلة تكون المناقشة مستحيلة تماماً. لكن "الواحد في عينه" لا يمكن أن ينكشف إلا في ضوء شيء ما مثابر وباق. المثابرة والبقاء لا يتجليان إلا في ما هو باق وحاضر. لكن ذلك لا يحدث إلا لحظة ينفتح الزمان على مصراعيه. فمذ يضع الانسان نفسه في حضور شيء مستمر، يمكن أن يُعرّض نفسه لـ"قابلية التغيّر"، أي لما يجيء ويمضي؛ لأن المستمر وحده معرّض لـ"قابلية التغيّر". فقط مذ يجد "الزمان الذي يُمزّق" نفسه ممزقاً، في حاضر وماض ومستقبل، يقوم إمكان التوافق على شيء ما باق. لقد كنا حواراً "واحداً"، مذ "كان زمان". مذ سيق الزمان ليوجد ويستمر، مذذاك "نحن" في "التاريخ". وأن "نكون" حواراً "واحدا"، و"نكون" في "التاريخ"، كلاهما حالان متساويان في القِدَم، ويشكّلان كلا متضامناً، بل هما شيء واحد.

ومذ كنا حواراً - خبر الانسان كثيراً وسمّى العديد من الآلهة. ومذ أخذت اللغة تتأرخن رسمياً كحوار، انصرف الآلهة الى الكلام، وظهر عالم. ولكن مرة اخرى، يجدر بنا أن نلاحظ أن حضور الآلهة وظهور العالم ليسا مجرد نتيجة لحدوث اللغة، انما هما معاصران لها، الى درجة أنّ تسمية الآلهة، على وجه الدّقة، وتحول العالم الى كلام، هما قوام الحوار الأصيل الذي نكونه، نحن أنفسنا (...).

ولكن سرعان ما ينبت سؤال: كيف يبدأ ذلك الحوار الذي نكونه؟ ومن يقوم بتسمية الآلهة؟ ومن الذي يقبض اذاً، في الزمان الممزّق على شيء ما باق، ويجعل هذا الشيء يثابر بالكلام؟ عن ذلك يخبرنا هولدرلن في بساطة شاعر واثقة، فلنستمع الى قوله الرابع.
 
هذا القول يشكّل خلاصة قصيدته "ذكرى"، وهذا نصّه: "ولكن ما يبقى، إنما يؤسّسه الشعراء". إنه قول يلقي الضوء على سؤالنا عن ماهيّة الشعر. الشعر تأسيس بالكلام وفي الكلام. وما الذي يؤسَّس؟ أليس ما هو حاضر على الدوام باقياً؟ كلا! فعلى ما يبقى أن يُستدرح الى الاستمرار في وجه التيار الجارف؛ والى وجوب انتزاع البسيط من المعقّد؛ والى تفضيل المقاس على الشاسع. يجب ان يُكشَف عمّا يدعم ويدير الكائن في جملته. يجب أن يُكشَف عن الكينونة، حتى يظهر الكائن. والحال بالضبط، أن ما يبقى هو العابر. يقول هولدرلن: "وهكذا هو "عابر" سريع كل سموي. ولكن ليس بلا طائل" (المجلد الرابع ص 163). أما أن يدوم ذلك، فهذا ما "عُهد به كهمٍّ وخدمة، الى اولئك الذين يتصرّفون كشعراء" (المجلد الرابع، ص 145).
الشاعر يسمّي الآلهة ويسمي كل الأشياء في كينونتها. وهذه التسمية لا تقوم ببساطة على تزويد شيء ما اسماً كان معروفاً به سابقاً. إن الشاعر حينما يقول الكلام الأصيل، آنذاك فقط يجد الكائن نفسه قد سُمّي بما هو عليه، ويكون معروفاً ككائن. الشعر هو تأسيس الكينونة بالكلام. فما يبقى اذاً، ليس ابداً من خلق العابر. البسيط لا يُستخرج من المعقّد مباشرة. القياس لا يوجد في الشاسع. ولن نجد ابداً الاساس في الهاوية (...)
 
ننتقل الى القول الخامس. ونجده في القصيدة الطويلة العجيبة التي تبدأ:

"في الزرقة الفاتنة تُزهر
قبة الكنيسة ذات السقف المعدني
(المجلد 6، ص24)
وهنا يقول هولدرلن (السطر 32):
"الانسان غني بالقيم، لكنه شعرياً
يقيم على هذه الارض".

ان ما يعمله الانسان ويواظب عليه قد اكتسبه واستحقه بمجهوده الخاص. "ولكن" – يقول هولدرلن مشيرا بشدة الى التباين – كل ذلك لا يعني ماهية اقامته على هذه الارض، كل ذلك لا يبلغ صميم دازاين الانسان. فهذا الدازاين هو في صميمه "شعري". لكن ما نعنيه بالشعر الآن، هي تسمية الآلهة وماهية الاشياء. وهي تسمية مؤسِّسة. و"الاقامة شعريا" تعني: ان نقف في حضرة الآلهة وعلى مقربة جوهرية من الاشياء. فأن يكون الدازاين "شعرياً" في صميمه، معناه في الوقت نفسه، أن الدازاين، من حيث هو مؤسس، ليس قيمة، بل هبة.

الشعر ليس مجرد زخرفة تصحب الدازاين، ولا مجرد حماسة عابرة، وهو ليس مطلقا مجرد اثارة او تسلية خفيفة. الشعر هو الاساس الذي يدعم "التاريخ" وهو تالياً، ليس في بساطة مظهرا ثقافيا، او بالاحرى، في بساطة "تعبيرا" عن "روح ثقافة" ما.

وأن يكون دازايننا شعريا في صميمه، لا يمكن اخيرا ان يعني انه ليس في الحقيقة، الا لعبا مسالماً. ولكن، في القول الذي ذكرناه كأول مسألة في بحثنا، ألم يحدد هولدرلن بنفسه الشعر بأنه "تلك المشغلة التي هي اكثر المشاغل براءة"؟ فكيف يتوافق هذا مع ماهية الشعر كما نراها الآن متبدية؟ وهكذا نعود ثانية الى السؤال الذي كنا اهملناه في البداية. وللإجابة عنه الآن، سنحاول في الوقت نفسه ان نجمع معا في نظرة واحدة بين ماهية الشعر وماهية الشاعر.
ينتج من ذلك اولا ان المجال الذي يعمل فيه الشعر هو اللغة. فعلينا انطلاقا من ماهية اللغة، ان نتصور ماهية الشعر. وتالياً، لقد تبينّا كيف ان الشعر هو التسمية المؤسِّسة للكينونة وماهية جميع الاشياء – ولكن ليس اي كلام، بل ذاك الذي، بفعله، يجد كل شيء نفسه منكشفا، كما كل ما نناقشه ونبحثه بعد ذلك في لغتنا اليومية. ونتيجة ذلك ان الشعر لا يتناول ابدا اللغة كمادة تعمل، وتكون في تصرفه، بل بالعكس، هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة. الشعر هو اللغة الاولية للشعب التاريخوي. يجب اذاً بخلاف ذلك، ان تُفهم ماهية اللغة، بدءا من ماهية الشعر.

وأساس الدازاين الانساني هو الحوار، باعتباره صيغة خاصة لما يحدث في اللغة. لكن اللغة الاولية هي الشعر من حيث هو اساس للكينونة. والحال، ان اللغة هي "اشد الملكيات خطرا. اذاً، الشعر هو اشد الاعمال خطرا، وفي الوقت عينه هو "اكثر المشاغل براءة"(...)

والشعر يظهر لنا على انه لعب، فيما هو ليس كذلك. اللعب يجمع الناس، ولكن على نحو ينسى فيه كلٌّ نفسه. بينما العكس يتم في الشعر، حيث الانسان يركز ذاته على صميم دازاينه ليصل الى الطمأنينة، لا الى تلك الطمأنينة الوهمية لتعطّل الفكر التام وفراغه، بل الى تلك الطمأنينة اللامتناهية حيث تنشط كل الطاقات وكل العلاقات.

الشعر يوقظ ظهور اللاواقع والحلم في مقابل الواقع الصاخب والملموس الذي نعتقد انه ملاذنا. في حين ان الامر غير ذلك. فما يقوله الشاعر، وما يضطلع بوجوده هو الواقع (...)

والشعر باعتباره تأسيسا للكينونة، يكون التزامه مضاعفاً. ونحن، اذا ما نظرنا الى هذا القانون الذي هو في صميمه، استطعنا أن ندرك كليا ماهيته.
ان "التقريض" هو التسمية البدئية للآلهة. لكن "الكلام الشعري" لا يملك قدرته على التسمية، الا اذا كان يدفعنا الآلهة بأنفسهم الى الكلام. فكيف يتكلم الآلهة؟

"... والاشارات كانت
منذ سحيق الازمنة لغة الآلهة" (المجلد 4، ص 135).

وقوام "كلام" الشاعر أن يلتقط هذه الاشارات ليجعل منها تاليا، اشارات لشعبه (...)

ان تأسيس الكينونة اذاً، مرتبط باشارات الآلهة. والكلام الشعري في الوقت عينه، ليس سوى تأويل لـ"صوت الشعب". وهذا هو الاسم الذي اطلقه هولدرلن على الاساطير، "الاقوال" التي يتذكر بها شعب ما، انتماءه الى الكائن في جملته. وغالبا ما يصمت هذا الصوت او يضعف. فهو غير قادر على العموم على ان يخبر بنفسه عما هو اصيل. لذا، هو في حاجة الى اولئك المؤولين.

وهكذا، فقد اندمجت ماهية الشعر في هذه القوانين التي تجهد في الالتئام والافتراق، والتي تنظّم اشارات الآلهة وصوت الشعب. أما الشاعر فهو يقف في البين بين: بين أولئك الآلهة وهذا الشعب. إنه "ملقى في الخارج". في هذا "البين بين". بين الآلهة والبشر. ولكن أولاً، وفي هذا البين بين وحده، يتقرّر من هو الانسان وأين يقوم دازاينه. "ولكن شعرياً يقيم الانسان على هذه الارض".

ومن دون راحة، وبطمأنينة وبساطة متناميتين باستمرار، ومغترفاً من كنز يفيض بالصور، نذر هولدرلن كلامه "الشعري" لتلك المنطقة الوسطى. وهذا ما يحملنا على القول: "إنه شاعر الشعراء (...)


إيضاحات

 
-1 التقريض: المصطلح الالماني "dichten" لا يعني فقط نظم القصائد. ولكن يشير الى النشاط الذي يخلق ويشكّل، ويظهر كأنه كشف انطولوجي. وبما أن الفرنسية لا تحوي معادلاً له، فقد نحت المترجم الفرنسي المستشرق المعروف هنري كوربان كلمة "Poématiser"، المركبة من Poiesis وPoima المشتقتين من الفعل اليوناني Poienen الذي يعني صنع. وقد وجدتُ أن كلمة "التقريض" في العربية أي صناعة الشعر وقوله، هي قريبة من المعنى المقصود.

-2 الدازاين: أي الكينونة في العالم. وهذه العبارة لا تشتمل فقط على المعنى المكاني، بل أيضاً وخصوصاً على المعنى الانطولوجي. وهذه الكينونة الانسانية هي عامة بين جميع الناس، وإن بدأت تجربتي من كينونتي أنا الخاصة بي. ومهمة التحليل الانطولوجي ستكون اذاً، الكشف عن الكينونة الانسانية عامة. وهذا المصطلح نجده لدى سارتر في تعبير "الحقيقة الانسانية"، وفي مصطلح "الآنية" لدى عبد الرحمن بدوي، وفي تعبير "الكينونة - هناك" في ترجمة عام 1964 لكتاب هايدغر "الكينونة والزمان". وقد آثرت إبقاء المصطلح الالماني نفسه، كما فعل فرنسوا فيزان في ترجمة جديدة للكتاب المذكور صدرت عام 1986 لدى "دار غاليمار"، لأن أي ترجمة له لن تفي.

-3 التاريخوي: في نظر هايدغر، ما يتعلق بالتاريخ كسيرورة تخص كل واحد منا، وتتعلق حتى بمصيرنا ومستقبلنا، أي مستقبل الانسانية
 
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 
*ضياء
27 - ديسمبر - 2007
 1  2  3  4