1. الأخلاق و"الإيطيقا" ética & Moral
لا تميز اللغة المألوفة بين الكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا"، إذ نستعملهما بلا فرق للدلالة على مجموع قواعد السلوك الإنساني.
واشتقاقيا، فإن الكلمتين Moral وEtica، تحيلان على التوالي إلى Mores أو Ethos، إلى سلوك الكائن البشري المقيد بعادات وتقاليد وأعراف. نقول مثلا، إن هذا السلوك، أو ذاك، أخلاقي أو غير أخلاقي، إيطيقي أو العكس، ونحن نقصد بذلك أنه حسن أو قبيح، متوافق مع مجموع محدد من معايير السلوك، نعدُّها عادة مقبولة، ونميل في معظم الحالات إلى اعتبارها معايير كلية وشاملة؛ أي يتقاسمها كل الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية المفترضة.
لكن، من وجهة نظر فلسفية ومنهجية، ليس للكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا" معنى متطابق. فالأخلاق هي مجموع معايير وأفعال خاصة بالسلوك، نعتاد على قبولها بوصفها تحديدات صالحة، أما الإيطيقا فهي التفكير حول لماذا نعتبرها صالحة؟.ولهذا تعودنا القول، عند التدقيق، إن الإيطيقا فلسفة أخلاقية، أو معرفة فلسفية تدرس قواعد الأخلاق وأسسها.
لن أخوض في تحليل أنماط الإيطيقا المختلفة التي بلورها الفلاسفة طوال التاريخ، ولا في عرض الإيطيقا المعاصرة، يكفي أن نعرف أن ثمة فلسفات أخلاقية، وأنه لا يوجد اتفاق بين الفلاسفة حول أفضل طريقة لتأسيس القواعد الأخلاقية. ومن يريد التعمق في هذه الاختلافات يمكنه قراءة الأعمال التالية:
J. L. Aranguren, Ética, En Obras Completas, Trotta , 1995
A. Sánchez Vázquez, Ética, Barcelona, Crítica , 1978
N. Bilbeny, Aproximación a La Ética, Barcelona, ARIEL 1992
E. Guisan, Introducción a La Ética, Madrid, CATEDRA 1995
هذا الوضع يطرح أول مشكلة: هل يتوجب علينا استعمال الكلمتين:"الأخلاق" و"الإيطيقا" كما يستعملهما معظم الناس، أي كمترادفين متطابقين، أم ينبغي أن نقبل الاختلاف الذي أقامه الفلاسفة بين الأخلاق والإيطيقا، ونعوِّل على وجهة نظر وصفية تعرض للفلسفات الأخلاقية الموجودة، أو لاتجاه فلسفي (نفعي، وجودي، ماركسي)؟.
عند معالجة مسائل أخلاقية، يكون القرار حول هذه النقطة مُهِمًّا، خاصة إذا كنا نسعى في دراستنا للأخلاق النظرية إلى الإحاطة بكل تلك التفاصيل. ومع ذلك، أقترح (ن أجل استعاد التحذلق) استعمال الكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا" كما تستعملهما الأغلبية، مع وجوب التوقف عند بعض التدقيقات التي أدخلها الفلاسفة على المعاني المعبر عنها بهاتين الكلمتين. إن المثال الأحسن على أن هذا المعيار يمكن أن يعطي نتائج مهمة هو بحث Fernando Savater, Etica Para Amador, Barcelona 1991 فرغم الاختلاف المنهجي بين الأخلاق والإيطيقا، يقرر المؤلف استعمال الكلمتين كمرادفين لإبلاغ وجهة نظره الخاصة للمجتمع.
في العقود الأخيرة، ظهر نتيجة للتطور الهائل في العلوم، خاصة في الأنتروبولوجيا والسوسيوبيولوجيا، منافسون لفلاسفة الأخلاق، وقد كتب أحدهم: على العلماء والباحثين في العلوم الإنسانية أن يدركوا أنه قد حان الوقت لانتزاع الإيطيقا من يد الفلاسفة، وإقامتها على أساس بيولوجي، ويبدو أن فلاسفة كثيرين قبلوا التحدي، فهم يستعرضون في أبحاثهم الأخيرة موضوعات الإجهاض، وحقوق الحيوان، والمساواة الجنسية، والعنف الخ.
* * *
2. اٌُلإيطيقا والسياسة: Política & Ética
في مجتمعاتنا المعاصرة، غدا يتكرس بمرور الوقت مفهوم فقير للسياسة، مفهوم محقِّر، بعيد عن المعنى اليوناني القديم للسياسة. من المفيد أن نبدأ، لتوضيح الأشياء، بتدقيق العلاقة بين الأخلاق والسياسة. من أجل هذا يكون من الأفضل التوجه إلى المكان القديم، حيث نبت العلمان "السياسة والأخلاق" أي إلى أرسطو.في البداية نسجل أن لأرسطو وضوحا تاما تجاه الاختلاف بين موضوعات الأخلاق النيقوماخية La Ética a Nicomaco وموضوعات السياسة. فموضوعات الأخلاق هي نظريات الخير، والسعادة، والفضيلة والعدالة، والصداقة. في حين تهتم موضوعات السياسة بتحليل المجتمع المدني والعائلي، وتحليل المؤسسات،وأساليب الحكم. هكذا إذن، إذا تقيدنا بأصلهما، فإن الاختلاف بين الأخلاق والسياسة، من وجهة نظر منهجية،يبدو واضحا بالبداهة. تهدف الأخلاق إلى تحليل الفضائل والبحث عن السعادة، والتساؤل حول حقيقة العدالة، وما يتوجب أن نعتبره سلوكا فاضلا وعادلا، ليتمكن الفرد من أن يكون سعيدا؛ باختصار أنها تسعى إلى تحقيق الحياة الخيرة للكائن البشري. من جهتها، تتوخى السياسة تحليل المؤسسات، وأنظمة الحكم التي اخترعها الناس في حياتهم العامة، لإبراز النظام الأفضل؛ باختصار إنها تتطلع إلى تأسيس المجتمع الخيِّر (أو الحكومة الجيدة).
طبعا, لأن أرسطو يعتبر الإنسان حيوانا سياسيا، أي حيوانا مدنيا واجتماعيا، فهو نفسه لم يتخل عن تذكيرنا بأن الفضيلة والعدالة والسعادة تتحقق عندما يتم التوصل إليها بالترابط مع فضائل أخرى، أي سياسيا. إذ بين الأخلاق والسياسة توجد بالبداهة استمرارية وتداخل. ففي حال مثالنا, وهو أن الإنسان حيوان سياسي, ليس ثمة عدالة، ولا فضيلة, ولاسعادة على هامش المجتمع، على هامش السياسة. لهذا، إذا درسنا في شيء من الثاني أعمال أرسطو نلاحظ أن الأخلاق النيقوماخيه تعلن (بكيفية مضمرة) عن السياسة، وأن هذه الأخيرة تحيل باستمرار على الأخلاق, كما أن تأمل أرسطو في التربية والقوانين يكوِّن مجال التقاءِ عَالَم الأخلاق وعَالَم السياسة، بمعنى أن الأخلاق والحقوق السياسة تشكل عنده كلا موحدا، حيث موضوعاته قابلة للتجزئة، منهجيا، عند التحليل فقط.
من هنا يشتق أمران:
الأول: أن التمييز بين مجالى الأخلاق والسياسة تمييز منهجى، حتى يمكن معالجة موضوعا تهما في كتابين منفصلين.
الثانى: لأن الإنسان حيوان سياسي، حيوان مدني واجتماعي، فإن النظرات التحليلية لمجال (مجال حياة الفرد السعيدة) تحيل باستمرار عند التطبيق إلى المجال الآخر (المدينة المحكومة جيدا)، بحيث إن المجالين يمكن أن يُدرسا في كتاب واحد. وعندما ندرس كتاب السياسة لأفلاطون، الذي نترجمه عادة بالجمهورية، يتأكد لدينا هذا الانطباع؛ أي أن موضوعات الأخلاق وموضوعات السياسة مترابطة إلى حد أنها تشكل كلا واحدا.
من هنا استعمل فلاسفة النهضة باستمرار هذا التعبير: الحياة الخيرية في مدينة محكومة جيدا. كما أن المفهوم الأرسطى النبيل للسياسة يمكن ترجمته هكذا: السياسة هي أخلاق الجماعة.
الآن، علينا أن نتقدم خطوة أكبر لتوضيح العلاقة بين الأخلاق والسياسة.لكون المدونة الأرسطية للأخلاق النيقوماخيه ( أي التفكير في الفضيلة، والعدالة والسعادة)، سابقة زمنيا على السياسة (أي التفكير في أنظمة الحكم التي اخترعها الكائن البشري) فقد يستنتج من ذلك أن الأخلاق هي أيضا سابقه في الأساس. وكثير من الناس يعتقدون هذا. لكنه لا يمثل وجهة نظر أرسطو، ففي الصفحات الأولى للأخلاق النيقوماخية، وفي مواضع كثيرة من العمل يتأكد تفوق السياسة. يكتب أرسطو:
"أول ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن الخير يُشْتقُّ من العلم السائد، من العلم الذي هو أساس كل العلوم، إنه علم السياسة. فالسياسة في الواقع هي التي تحدد ما هي العلوم الأساسية لوجود الدول، وما هي العلوم التي يتوجب على المواطنين تعلمها، وإلى أي مستوى يجب أن يصلوا في امتلاكها، وفوق هذا يجب أن نلاحظ أن العلوم المعتبرة، أقصد علم الحرب وعلم الإدارة والبلاغة، هي علوم خاضعة للسياسة، وحيث إن هذه الأخيرة تستفيد من كل العلوم التطبيقية، وتصف باسم القانون ما يجب عمله وما يجب تركه، فإنه يمكن القول إن هدفها يلتقي مع أهداف العلوم الأخرى، وبالنتيجة فإن خير السياسة هو الخير الحقيقي والأعلى بالنسبة للفرد والدولة".
لاشك أن خلاصة أرسطو الاستدلالية واضحة جدا، ذلك أن غاية السياسة تستوعب غايات العلوم الأخرى القريبة (البلاغة، القانون، الحرب)، وحيث إن الخير هو نفس الخير للفرد والدولة، صارت المعرفة السياسة أساس كل المعارف، إلى درجة أن القسم الأول من كتاب الأخلاق الذي يعالج الخير والسعادة يوصف بأنه، بكيفية معينة، بحث في السياسة.
ما سبق يفترض مفهوما نبيلا للسياسة وللسياسي، للسياسة كنشاط عملي وكمعرفة نظرية، لاسيما في علاقاتها بالأخلاق. وينبغي أن نسارع إلى القول إن وجهة نظر أرسطو هذه تصطدم ببعض القناعات الثابتة في إطار ثقافتنا، خاصة بما مثلته المسيحية في هذه الثقافة، لأن المسيحية تؤكد تفوق الأخلاق على السياسة بشكل غير مشروط. وكما يقال، فإن الأخلاق شيء، والسياسة شيء آخر، وبين الاثنين الأخلاقُ هي الأفضل.
سأقدم مثالا يوضح إلى أي حد خرق هذا التعارض بين الأخلاق والسياسة ثقافتنا. عندما شرعت في قراءة الأخلاق النيقوماخية، أثار انتباهي موقف المترجم الذي نقل العمل إلى الإسبانية. فعندما وصل إلى الفقرة، التي استشهدت بها، سارع إلى تصحيح كلام أرسطو مسجلا في أسفل الصفحة ملحوظة تقول: "السياسة تحكم الدول، لكنها لا تشكل الأخلاق، ولا هي المسؤولة عن دراسة مسألة الخير. بل على العكس، لا قيمة للسياسة إذا لم تستق مبادئها من الأخلاق، ولم تعمل على اتباعها ".
ليس هذا كل شيء، ففي كل مرة يؤكد فيها أرسطو تفوق السياسة، أو يقول إن موضوعات الأخلاق والسياسة قابلة للنقاش، إذ لا توجد فيهما الدقة التي هي خاصية العلوم الأخرى، يغضب المترجم ويتابع مسجلا ملاحظات في أسفل الصفحة كما يلي:
"الأخلاق، عندما تفهم جيدا، تتسبب في تفرقة أقل مما تفعله السياسة، وتمنح كل وعي متبصر ونبيل مبادئ صلبة".
"إذا كانت البلاغة لا تتوافر على براهين ملموسة، فإن الأخلاق يمكن أن تتوفر عليها، كما استطاع أرسطو رؤيتها في سقراط وأفلاطون".
"إن هذا الذي يقوله أرسطو يتأسس على انشغالات العهد اليوناني القديم، حيث كان المواطن مجرد عضو في الدولة".
"ليس للحياة سوى هدف واحد، والظن بأنه يمكن أن يكون لها أهداف كثيرة، من شأنه فتح الباب أمام الشك والخطأ".
ويغضب مترجمنا بشدة عندما يؤكد أرسطو أن الفضيلة غاية أفعال السياسي الحقيقي، لأن ما يسعى إليه هو جعل المواطنين فضلاء خاضعين للقوانين. حين يصل إلى هذه الفقرة يكتب مصححا كلام أرسطو "إن درس الفضيلة ينتمي إلى الأخلاق فقط، ومنها يتوجب على السياسة أن تستمد أساسها وليس العكس".
من كل هذه الاعتراضات، يمكن أن نعثر على سبب غضب المترجم في هذه الجملة التي تقول: "إن وجهة نظر أرسطو تتأسس على انشغالات العهد اليوناني القديم، حيث كان المواطن يعتبر مجرد مواطن في الدولة".
لاشك أن في العهد اليوناني القديم، عند تقييم فضائل الكائن البشري، كان يعد أمرا جوهريا أن يُنظر كيف يسلك هذا الفرد تجاه قضايا السياسة، وقد كان المنشدون في التراجيديا اليونانية يكررون مرة تلو أخرى: من أجل معرفة ماهية الإنسان "أخلاقيا" ينبغي أن نرى كيف يسلك في القضايا السياسية، ونوع خاص كمواطن ذي حقوق وعليه واجبات؛ أي بالعلاقة مع القوانين. ومع ذلك، يمكن أن ينتج عن استعمال كلمة الدولة في هذا السياق بعض الالتباسات. لأن السياسة في العهد اليوناني، كما نعلم، لم تكن هي الدولة بالمعنى المعاصر لهذا المفهوم، بل كانت بالأحرى المجتمع بالمعنى الواسع. وهذا لا يعني أن السياسة في العهد اليوناني القديم خلت من الصراع بين الوعي الأخلاقي الفرداني وقواعد المجتمع، إذ بعض التراجيديات تقوم على الصراع، وهذا هو موضوع دفاع سقراط، فالتراجيديا تتكون أساسا من الصراع بين الوعي الفردي والقوانين القائمة. غير أن اليونانيين، في سعيهم لإيجاد حل لهذا الصراع، أعطوا الأسبقية لاعتبارات المواطن بوصفه كائنا اجتماعيا وعضوا في المجتمع.
لكن ما ينبغي تسجيله هنا هو أن المترجم الإسباني لكتاب أرسطو، عندما ينتقد وجهة نظر القدماء، يفترض أن المواطن يمكن أن يكون شيئا آخر، مختلفا عن أن يكون عضوا في الدولة أو في المجتمع المدني.
كان المترجم مؤمنا بهذه الثنائية، وإن لم يعلنها صراحة: الأخلاق أهم من السياسة لأنها تتعلق، على وجه الدقة، بسلوك الكائن البشري بوصفه فردا قبل كل شيء، وعضوا في مدينة أخرى تختلف عن المدينة التي هي الدولة أو المجتمع؛ أي عضوا في مدينة الله.
توجد هكذا، قوانين تعلو على تلك التي اخترعها الإنسان في السياسة، قوانين واضحة، هي بمعنى معين متوافقة مع القانون الطبيعي.
لاشك أن هذا مفهوم ديني لاهوتي للعلاقة بين الأخلاق والسياسة، وهو الذي شكل بكيفية مكثفة ثقافتنا، أقصد الثقافة الأوربية ذات الأساس المسيحي.
أما إحدى النتائج الخطيرة لهذا الفهم الديني للعلاقة بين الأخلاق والسياسة فكانت هي الانتقاص من السياسة لأسباب أخلاقية، أي الانتقاص من ذلك المجال الذي اعتبره أرسطو جوهريا، وصار لميدان وعي الفرد الأولوية على المجال العمومي أو السياسي، ومُجِّدت فضائل الشخص الأخلاقي على حساب قوانين الدولة.
طبعا، إن لهذا الاتجاه تفسيرا تاريخيا، يجد جذوره في الصراع الداخلي الذي عاشه الشخص المسيحي في عهد الإمبراطورية الرومانية، ذلكم أن تدرج القيم كان يتأسس انطلاقا من هذا الصراع، انطلاقا من تمجيد المقاومة الأخلاقية للفرد المسيحي ضد السياسة الإمبراطورية القائمة آنذاك، لأن السيد المسيح أسس حركة دينية أخلاقية، وليس حركة سياسية لمواطنين يسعون إلى تأسيس مجتمع المواطنة على الأرض.
ما أرويه ليس حكاية بلا أهمية بالنسبة لموضوعنا، لأن تشكل ثقافتنا من الروح المسيحية طوال قرون ظل هكذا حتى بالنسبة لعالمنا اليوم الذي يعتبر على العموم علمانيا ودنيويا، وحيث يتغلب الفصل بين الدين والدولة. هذا الفهم الديني للعلاقة بين الأخلاق والسياسة يعود إلى الظهور دوما في كثير من القضايا العمومية المثارة، هكذا في موضوع الإجهاض، موضوع نقل الأعضاء البشرية، وفي كل الحالات المتعلقة بالبيولوجية الأخلاقية، لأن الكثير من الناس مازالوا يفكرون، عند الحديث عن العلاقة بين الأخلاق والسياسة، مثل ذلك المترجم الإسباني للأخلاق النيقوماخية.
* * *