ضعف الخلافة العباسية في مرآة الشعر: كن أول من يقيّم
ضعف الخلافة العباسية في مرآة الشعر: اتضح أن تدخل الأتراك والفرس وغيرهم في مجريات الأحداث السياسية ، التي عصفت في آخر المطاف بالدولة العباسية إلى غير رجعة. يعتبر إقدام القادة الأتراك على قتل الخليفة المتوكل على الله في الخامس عشر من شهر شوال سنة 247هـ, بداية العصر العباسي الثاني, وفيه استبد القادة بالسلطة, وأصبح الخليفة طوع إرادتهم وأسير هواهم... كما بان أن لقب الخليفة صار اسمًا فقط بلا مسمى أو فعل، منذ منتصف القرن الثالث وبداية القرن الرابع، على حد قول ابن عمار الأندلسي: مما يقبح عندي ذكر أندلـس *** أسـماء معتـضد فيها ومعتمـد ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد فقد بلغت مكانة الخليفة درجة كبيرة من الانحطاط بتدخل الأعاجم من أتراك وغيرهم في شؤون الدولة العباسية، مما جعل أحد الشعراء يصف ذلك متندرًا،من حال الخليفة المستعين(248 - 252هـ ): خـليفة في قفـص *** بين وصيف وبغا يقــول ما قالا لـه *** كمـا يقول الببغا فظاهر أن الخليفة صار محبوسًا مقيدًا، لا عقل له ولا شخصية، يردد ما يؤمر به، وينفذ توجيهات سيادية عليا لا يستطيع نقدها أو الاعتراض عليها أو التغيير فيها، أو حتى مجرد التردد في قولها! وكون قائل هذه النتفة مجهولاً يوحي بمدى بطش هذين التركيين، وبكون النتفة صارت مثلاً شعبيًّا، يستدعى في كل صالون أومنتدى سياسي يتناول تلك القضية بالتحليل! لقد أصبح مصير الخلافة في أيدي الأتراك, فمن شاءوا خلعوه ثم قتلوه, ومن شاءوا ألزموه خلع نفسه وسملوه وصادروا أمواله. ودليل ذلك أنه حين خلع الخليفة أحمد المستعين بالله, وهو أول خليفة خلع, لم يلبث أن قُتِل بعد خلعه. وقد تنبأ الناس بمصير من تتابع بعده من خلفاء بني العباس, وسار في الناس شعر قيل في ذلك اليوم، يقول شاعرهم: خـــلع الخليفـــة أحـمـدٌ وسيقـتل التالي لـه أو يخلـع إيهـا بنـي العباس إن سـبيلكم فـي قتل أعبـدكم سبيل مهيـع رقعتــمُ دنيـــاكـمُ فتمـزقـت بكــم الحيـاة تمـزقًا لا يـرقَـعُ وقد تحقق ما قيل في خلفاء بني العباس من خلع وسمل وقتل. فقد توالى على الخلافة منذ خلافة المنتصر بالله سنة 248هـ إلى خلافة المستظهر بالله سنة 487هـ, أي خلال 239 سنة, سبعة عشر خليفة, منهم أربعة قتلوا وهم: المستعين بالله والمعتز بالله والمهتدي بالله والمقتدر بالله, ومنهم ثلاثة خلعوا وسملوا وهم: القاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله, ومنهم اثنان أجبرا على خلع نفسيهما وهم: المطيع والطائع, وهناك خليفتان قيل في بعض الروايات أنهما قتلا بالسم وهما: المعتمد على الله والمعتضد بالله, فيكون مجموع من قتل وخلع ومات بالسم عشر خلفاء...وصدق البحتري في قوله: فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت بهيـبتـهـا أبـوابـه ومقـاصره فمـا قاتـلت عنـه المنـون جنوده ولا دافـعت أمـلاكـه وذخـائـره وكان خلع الخليفة يوم ابتهاج عند الجند, ففيه يجري نهب دار الخلافة وفيه يطالب الجند الخليفة الجديد برسم (بيعته). وكان يجري على الخليفة المخلوع نفقة قد لا تكفيه, فيضطر إلى التكفف واستعطاف الناس, كما جرى للخليفة القاهر بالله بعد خلعه ومصادرة أمواله وسمله, فكان يخرج إلى جامع المنصور ويتكفف المصلين ويقول: تصدقوا علي فأنا من قد عرفتم!!! و لم يكن حال الوزراء بأفضل من حال الخلفاء, فكان الوزير يأتمر بأمر المتغلبين, فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله, وقد يقتلونه, كما جرى للوزير أحمد بن إسرائيل ولكاتبه عيسى بن نوح. فقد صادرهما القائد التركي صالح بن وصيف وقتلهم ضربا بالسياط. ومثل ذلك بل أشد جرى لكثير من الوزراء. وكثيرًا ما كان الوزير يُنصب ثم يُعزل, ويتكرر نصبه وعزله عدة مرات لا يفصل بينهما إلا أمد قصير, وغالبًا ما كان ينتهي عزله بمصادرته وقتله, ومع ذلك فإن الكثيرين كانوا يطمعون في تولي الوزارة, ويبذلون المال في سبيل توزيرهم! ذلك أن الوزارة كانت موردًا للثراء الفاحش عن طريق الرشاوى, من ذلك أن محمد بن عبيد الله بن خاقان وزير المعتضد بالله كان يأخذ الرشوة من كل طالب وظيفة, وربما عين للوظيفة الواحدة عددًا من الموظفين, وقيل: إنه عين في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا للكوفة وأخذ من كل واحد رشوة. وإذا كان الوزير حسن السياسة, وكان ذا دهاء وذكاء فإنه يستطيع أن ينال من الخليفة أو الأمير البويهي تفويضًا بتصريف أمور الدولة, وكان أهمها ضمان الخراج وتعيين الولاة والعمال والقضاة والكتاب, فيكون للوزير على من يوليه جبايات يجني منها ربحًا وفيرًا, ويثرى به ثراءً فاحشًا. من أجل ذلك كانت الوزارة هدفًا للدسائس من حاسدي الوزير, الطامعين في منصبه, فإذا أفلح الدس على الوزير عزل وصودرت أمواله, وكان ما يصادر يعد بآلاف الآلاف من الدنانير, ومع ذلك فقد يسلم له الكثير مما يكون قد طمره في حفرة, أو أخفاه في مكان بعيد. لذلك كانوا يعتبرون الوزارة مركز ابتلاء ونقمة, ولا تلبث أيامها القصار أن تنتهي ببلاء حتى قيل في ذلك: إذا أبصرت فـي خلع وزيرًا فقل: أبشر بقاصمة الظهور بأيام طـوال فــي بـلاء وأيام قصار في سـرور وكثيرًا ما كان يصح الرأي في الوزير المعزول أو تنجح الشفاعة فيه, فيستوزر للمرة الثانية والثالثة, فإذا عاد, كان أول ما يفعله بطشه بخصومه وجمعه عن طريق الجبايات والرشاوي ما فقده بالعزل والمصادرة, وفي ذلك يقول شاعر آخر في الوزير ابن خاقان: محمد بن يحيى (ت312هـ): وزير لايمل مـن الرقاعة يولى ثـم يعزل بعـد ساعة إذا أهـل الرشـا صاروا إليه فـأحظـى القـوم أوفرهم بضاعة وهو تصوير حقيقي للحالة السياسية التي بلغتها الدولة العباسية في تلك الفترة من الضعف والتمزق، وصدق المتنبي في قوله: وإنما الناس بالملوك وما تنفع عرب ملوكها عجم لا دين عندهم ولا حسب ولا عهـود لهم ولا ذمـم |