تابع إيجابية الصحابة كن أول من يقيّم
روى الإمام البخاري قال :« حدثنا إسحق قال :حدثنا محمد بن الفُضَيْل عن الوليد بن جميع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مُنْحَرِفِينَ و لا مُتَمَاوِتِينَ، و كانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، و يذكرون أَمْرَ جاهليتهم، فإذا أُرِيدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الله دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ . » [1][4] ، 2- و روى الإمام الترمذي قال: « حدثنا علي بن حُجْرٍ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر من مائة مرة، و كان أصحابه يتناشدون الشعرَ و يتذاكرون أشياء مِنْ أَمْرِ الجاهلية، و هو ساكِتٌ، و ربما تَبَسَّمَ مَعَهُمْ. » [1][5] فهذه المجالس تضم أكمل الخلق، محمداًe، و أَفْضَلَ ما في هذه الأمة، صحابته رضي الله عنهم، وهم أعلم الناس بكلام العرب، وبالضوابط الشرعية التي عَلَّمَهُمْ إياها رسول اللهe، وبالتالي فَلُغَةُ المجلس أَنْظَفُ لغة وأصفاها وأضبطُها، و مع ذلك، فهم يتكلمون في أمر الجاهلية و يتناشدون أشعارها و رسول اللهeيتابع بحرص المعلم الأمين ما يَتَفَوَّهُ به أصحابه، لأن أقوالهم و أفعالهم في حضرتهeتشريعٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ في هذه الأمة، و ربما يعجبه صلى الله عليه و سلم هذا البيت، أو تلك الحادثة، فيتبسم صلى الله عليه و سلم ؛ إنه حقاًّ لفرقٌ كبير بين هذا المجلس الزَّكِيِّ الطاهر، وبين مجالس اللهو و القَصْفِ والخلاعة التي تُتَنَاشَدُ فيها الأشعارُ الجاهلية و أحاديثُها بما فيها من فِسْقٍ ومجون، و بالتالي شَتَّانَ بين شعر جاهلي يُنْشَدُ في ذلك المجلس الطاهر، و بين هذا الذي يُنشد في هذا المجلس الفاجر . و هذا يجسد بوضوح ذلك البعد الإنساني العميق في النظرة النبوية الشريفة إلى الشعر، فهي تأخذ من الإبداع الجاهلي ما يعبر عن الإنسان البريء، الناطق بالحكمة المعبرة عن مشاعر الإنسان و خَلَجَاتِهِ بما هو إنسان، و ليس بالكلام البذيء الذي يحط من هذه الإنسانية ذاتها إلى مدارك الحيوان الْمُمَجِّدِ للشُّذُوذِ و اللَّذَّةِ والْخَطِيئَةِ، أو التي تقدس الحجر فَتَعْبُدُه من دون الله عز وجل؛ و كأني بمجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقوم بعملية التصفية للإرث الشعري العربي، فيأخذ منه ما يتلاءم مع الشعور الإنساني النبيل و ذوقه الفطري السليم، و ينبذ ما يتعارض مع دينه وإنسانيته، وهذا ما يحيل عليه قول جابر بن سمرة رضي الله عنه « فإذا أُرِيدَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الله دَارَتْ حَمَالِيقُ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ . »، فكل ما يتعارض مع دين المسلم أو يطعن فيه من إبداع مهما كانت طبيعته، يظل إبداعا مرفوضا، حتى و إن صدر عمن يدعي بأنه مسلم فضلا عن سواه، لأن ما يعارض الدين الإسلامي، يعارض بالضرورة الفطرة الإنسانية فالإبداع العربي قبل الإسلام هو إنتاج إنساني، فيه الغَثُّ و السمين و الطَّيِّبُ و الرديء، فليس من العدل أن يقاس كله بمقياس واحد، وأن يُهْمَلَ كلُّه بحجة أن قائله ليس بمسلم، لا، لأن عظمة الإسلام تكمن في تهذيب الإنسان و إصلاحه و تكريمه، و ليس في هدمه و تحطيمه، وأولى هذه الجوانب استدعاءً لهذا الإصلاح وذاك التهذيب، بعد تصحيح عقيدته و تنقيتها، هو فكره و ثقافته، فما كان من إبداعه فطريا وإنسانيا لا يصادم الحق ولا يضاد العقيدة الإسلامية، وَجَبَ احتضانه و تزكيته مهما كان قائله، لأنه أَوَّلاً و قبل كل شيء هو إنسان له أحاسيسه وعواطفه التي أودعها الله عز وجل فيه، ليعبر بها عن فطرته و إنسانيته في إبداع يُؤْخَذُ منه ويُتْرَكُ، ويُقْبَلُ منه و يُرَدُّ، و هذا هو هَدْيُ محمد صلى الله عليه و سلم، و هَدْيُ صحابته رضي الله عنهم،وهَدْيُ من تبعهم بإحسان ، |