البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 5  6  7 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
العقل في المنظومة الدينية - 1    كن أول من يقيّم
 
مساء الخير...وكل عيد وأنتم بألف خير...
يبدو أن ملف الفلسفة والدين سيجعلنا نتحرك على في فضاء غير محدود...وقد اغتنى كثيرا باقتباسات الأخت ضياء والأخ عبدالحفيظ...فالشكر موصول لكما ..في انتظار المزيد. سأطل عليكم بهذه المقالة كاستئناف للمقالات السابقة...
 
لقد تمكنت المنظومة الفلسفية ـ تاريخيا ـ من أن تؤسس لنفسها إطارها المرجعي الخاص والذي يحدد نمط تفكيرها ورؤيتها للوجود وتصورها للعقل والمعرفة. وهي العناصر التي تناولناها في المقالات السابقة. وبقي علينا ـ في الجزء الثاني من مقالاتنا ـ أن نتحدث عن ما يميز المنظومة الدينية حتى يتسنى لنا ـ موضوعيا ـ وضع نوع من المقارنة بين الفلسفة والدين، من حيث الرؤية والمنهج والغاية...
وسوف نستعيد هنا بعض ما كتبناه في هذا المجلس ـ خاصة في الموضوع الذي اقترحه الأخ النويهي ـ والذي نرى أنه يستجيب لما نهدف إليه هاهنا.
تتحدد المنظومة الدينية بمجموع النصوص والمعارف والعلوم التي تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية بوجه خاص، باعتبارها ثقافة تقوم أساسا على مركزية النص الديني (حول اعتبار الحضارة العربية الإسلامية حضارة نص، انظر: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت، 1990، ص.9- 10. وكذلك: حسن حنفي، التراث و التجديد، المركز العربي للبحث  و النشر، القاهرة، 1980، ص.177 – 178)، وباعتبارها تشكل كذلك الإطار الحضاري الذي شكل بنية العقل العربي الإسلامي المنتج لتلك الثقافة.
إذ رغم التأثيرات الخارجية التي خضع لها مفكرو الإسلام، والمتمثلة في الفلسفة اليونانية والموروث الفارسي والهيلينستي، ورغم الاختلاف المذهبي الموجود بين هؤلاء، بين السنة والشيعة، المعتزلة والأشاعرة، الفلاسفة والمتصوفة ...إلخ، يمكن القول بأن قراءة مفكري الإسلام للنص الديني صدرت عن عقل واحد، هو العقل العربي الإسلامي الذي يخترق كل تلك "العقول" بحكم وجود عناصر وخصائص مشتركة بينها: فهي عقول لا تمارس فعاليتها إلا في إطار المعرفة التي يفرضها الوحي القرآني باعتباره نصا متعاليا، كما أنها عقول تعتبر المجتهدين من السلف سلطة عليا مهابة ومرجعا للاتباع، ثم إنها عقول تفكر بآليات ذهنية تنتمي إلى الفضاء العقلي القروسطي( محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، لندن، 1990،  ص.236-237..) وانطلاقا من وحدة العقل هذه وتبعيتها لسلطة النص والسلف نفترض أن بين العقل القارئ والنص المقروء ثوابت إبيستمولوجية واضحة.
من أهم هذه الثوابت التصور الديني للعقل كمصدر للمعرفة (وهي مناسبة جزئية للمقارنة بين ما كتبناه سابقا وما نكتبه اللحظة)
إن الحقل التداولي العربي يحدد معاني العقل في القيد والربط والحبس والإمساك والتمييز. وهي معاني يمكن حصرها في ثلاثة أفعال عقلية: الكف والضبط والربط (طه عبدالرحمن ، العمل الديني وتجديد العقل، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1989، ص. 33- 34.) والتي نعتبرها الأنشطة العقلية الأساسية الدالة على الممارسة الذهنية في مرجعيتنا الدينية.
يحيل فعل الكف، أي المنع، على بعد أخلاقي لوظيفة القلب باعتباره وازعا أخلاقيا يعقل ويحبس ويكف صاحبه عن التورط في المهالك، فيكون «العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها ... والعقل : التثبت في الأمور ... وسمي العقل عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه» (لسان العرب). وهو معنى يعطي للعقل بعدا معياريا قيميا يخص الممارسة العملية الأخلاقية. مما يسمح بالقول بأن الكف فعل عقلي يشير إلى مهارات الضبط النفسي والتدبير الأخلاقي، وهي مهارات تتعلق بالجانب العاطفي الوجداني في القلب.
 أما فعل الضبط، أي إمساك الشيء حتى لا ينفلت، فيحيل على بعد معرفي لوظيفة القلب باعتباره ملكة حفظ، وقوة تذكر واستظهار( وبهذا المعنى وردت الآية:) يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( (البقرة:75))، وفي الاصطلاح «الضبط هو إسماع الكلام كما يحق سماعه، ثم فهم معناه الذي أريد به، ثم حفظه ببذل مجهوده والثبات عليه بمذاكرته إلى حين أدائه إلى غيره» (الجرجاني،كتاب التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، ص.137.). وواضح أن الضبط  هنا يشير إلى نشاط عقلي يتمثل في مهارات إسماع الخطاب وفهمه وحفظه واستظهاره.
أما فعل الربط، أي إدراك العلاقة بين قضيتين، فيحيل أيضا على بعد معرفي لوظيفة القلب باعتباره قوة إدراك وتأمل وفهم ونظر وتدبر في الكون () أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها... ( (الحج: 46)). وفي التاريخ وماضي الأمم ()وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد( (ق:  36 ـ37)) وفي النص الديني ()أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها( (محمد: 24)). ومن الواضح أن فعل الربط هنا نشاط ذهني يتمثل في مهارات الاستدلال والقياس.
 ويبدو أن العلاقة بين هذه الأفعال العقلية الثلاث ( الكف والضبط والربط) علاقة تفاعل وتكامل؛ ذلك أن اللغة العربية تضفي على فعلي الضبط والربط معاني وجدانية كالحزم وشد النفس ورباطة الجأش ووثوق القلب (ورد في (لسان العرب) حول مادة / ض ب ط/:(رجل ضابط أي حازم... ورجل أضبط: يعمل بيديه جميعا...والضابط : القوي في عمله...ويقال: فلان لا يضبط عمله إذا عجز عن ولاية ما وليه). وحول مادة / ر ب ط/: ( يربط نفسه عن الدنيا أي يشدها ويمنعها...ورجل رابط الجأش أي شديد القلب...وربط جأشه رباطة: اشتد قلبه ووثق وحزم فلم يفر عند الروع...))
ولذلك فـمفهوم «العقل  في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوما بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة» (محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، 1984  ص. 31.)
والمبدأ الذي يحدد وحدة التفاعل بين الفكر والوجدان، بين العلم والعمل ـ في الحقل التداولي العربي الإسلامي ـ  مبدأ ديني بالدرجة الأولى. فإذا كانت معاني العقل دنيوية في دلالاتها اللغوية فإن القرآن «أضفى على تلك المعاني غائية الدين التي تحول القصد من التجربة والفهم إلى تدبر الخلق والاعتبار به للتعرف على الخالق وتعظيمه، وتحول القصد من حسن الخُلق إلى نفع الخلْق ونيل مرضاة الخالق» (محمد مصطفى عزام، «مصطلح العقل بين الفلسفة والتصوف»، في المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية (الرباط) ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1995، ص. 24.)...وهي غائية تتجلى في مظاهر عديدة ستكون موضع المقال المقبل.
*وحيد
8 - أكتوبر - 2008
الرموز ... بين مركزية الحق ورمزية الخلق..    كن أول من يقيّم
 
 
د-خالد المزيني
Monday, November 03, 2008
نظرة معيارية
تفاوت الثقافات في مدى السلطة الروحية التي تمنحها للأشخاص، وكلما كانت الثقافة أكثر هشاشة كان أصحابها أكثر تشبثاً بالشخص (الرمز)، وكانت السلطات الممنوحة للرمز أكبر، وحينئذ يتمثل دور الأتباع، في إضفاء المهابة على الرمز، مشفوعة بالحكايات المدخولة تارة، والملفقة تارة أخرى، وهم في ذلك يحققون هدفين:
أولهما: تحشيد أكثر عدد من المقلدين.
وثانيهما: إخفاء العيوب والتناقضات المنهجية الداخلية تحت عباءة الرمز، وفي هذه البيئة يختلط الحق بالخلق، وتنسحق شخصية الأتباع، وتضمحل مسؤوليتهم في البحث عن الحق، حيث كان يجب أن يقوموا به، ويتماهى الصواب مع الرمز، فالمعيار – حينها - هو الرمز، أما الحق عندهم فمدلول لا دالّ، هذه أغلوطة بشرية جاءت الرسل عليهم السلام بدفعها، فقد جاؤوا بالتصحيح المعياري لمركز الحق والصواب، فالمركزية للحق، وأما الأشخاص فلهم حق التقدير على المستوى الأخلاقي، وأما على المستوى المعياري، فالعبرة بالحق لا الخلق، فانتقَلوا بالملة العوجاء من الشخصانية إلى المبدئية والقيمية، وانتشلوا البشرية من وهدة التبعية القاصرة، إلى مقام المسؤولية الرشيدة.
بدهي أن للعلماء مكانتهم العالية، بقدر ما يحملون من العلم، ويلتزمون من العمل، ولهم من التقدير بحسب هذا وهذا، وأن صلاح الأمة لا يستتب إلاّ بالتزام الدين، وأن هذا الالتزام لا يستقيم إلاّ بإجلال أحكامه، ومن لوازم هذا الإجلال إجلال أوعيته وحملته وهم العلماء، لكنه: الإجلال الواعي، الذي يمايز بين التقدير المطلوب، والتقديس الممنوع، إنه منهج يربي في الأتباع مسؤولية التبلغ بالحق، بقدر ما يلقي على العالم من تبعة البلاغ، ولما قال الحارث بن حوط لعلي رضي الله عنه: أتظن أن طلحة والزبير وعائشة – رضي الله عنهم - اجتمعوا على باطل؟! قال له: يا حارث! إنه ملبوسٌ عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه.
وبهذه المعايير الصارمة تواردت النصوص القرآنية والنبوية الكثيرة، أمثال قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). [المائدة: 75]، وقوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ). [آل عمران: 144]. وحذّر من المبالغة في منح المخلوق حق الاتباع المطلق، فقال تعالى: )اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). [التوبة: 31]، والصحيح أنهم ما عبدوهم من دون الله، لكن وقعوا في أغلوطة معيارية، حين أطاعوهم في كل ما قالوا، ولو كان تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ فتلك عبادتهم.
وعلى هذا النسق صاح أئمة السلف محذرين الأتباع من تقليدهم بغير علم، أو المبالغة في تعظيم أقوالهم وفتاويهم، ولا تجد عالماً كتب الله له القبول في الأمة، ثم هو يدعو إلى تعظيم نفسه، واتخاذه رمزاً بالمفهوم السائد، لكن لما طال الأمد، وشجرت المذاهب، واتخذت كل طائفة رمزاً علمياً تطيف بأقواله الشروح والحواشي، لم يكن هذا تصرفاً واعياً، بقدر ما كان ردة فعل للهجوم الوارد عليهم من الخصوم، حينها:
 تقاصرت مسؤولية الأتباع، بقدر ما تعالت رمزية المتبوع، وقديماً تعامل العلماء الراسخون مع هذا الوضع بوصفه ضرورة على خلاف الأصل.
ولما قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك؟، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غداً، وعن أشهب بن عبد العزيز، قال: كنت عند مالك، فسئل عن البتة، فأخذت ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي: مالك لا تفعل، فعسى في العشي أقول إنها واحدة، ذكرهما ابن القيم في إعلام الموقعين.
ولأمر ما اختار الله لختم رسالاته: أمة العرب، التي كانت أقرب الأمم إلى معدن الفطرة، وأبعدها عن التكلف والغلو في المعظَّمين، ولم يكونوا
يخضعون لبشرٍ مثلهم كما صنعت الأمم الأخرى، فبعث فيها نبياً من أنفسها، رفعها إلى سن الرشد الفكري، وشذّب ما أصابها من تفريط الجفاة، وإفراط الغلاة، فكانت أمة وسطاً، تمحض العبادة للخالق، وتخضع لمن ولاه الله أمرها، وتقدّره قدره، بحسب ما معه من سلطان الحق لا غير.
وإذَن؛ فلغة الترميز الشخصي أُراها غريبة عن لغة القرآن، التي سلكت مسلك الوضوح والصرامة في تحديد مراكز المخلوقين على تفاوت درجاتهم، بخلاف ما هو سائد في ثقافات الغلو الباطنية، التي لا تقوم إلاّ على الشخصانية، فنقرأ في القاموس الكنسي ألفاظاً تتمحور حول: الأقانيم وأسرارها، وما إليها من المصطلحات الدائرة على مبدأ الرمزية الشخصانية.
ومثل ذلك في ثقافة التصوف الباطني، نجد طغيان لغة الرمز، كما في مصنفات الحلاج وابن الفارض وجلال الدين الرومي وابن عربي في آخرين، وللشيخ خاصة عندهم رمزية خرافية، صارت لهم ذات أنواط، كما للذين من قبلهم ذوات أنواط، وهكذا لا يمكن للغلو أن يتماسك إلاّ على ساق الترميز الاستلابي.
والعلماء الربانيون أنفسهم لا يدعون إلى ذواتهم، ولا يطالبون باتخاذهم رموزاً يتمحور الحق حولها، وإنما يؤكدون على الدوام أن العبرة بالحق، وأن الحجة دائرة معه، وليس هذا تواضعاً منهم كما قد يُظن، مع يقيننا باشتمالهم على هذا الخلق الكريم، لكنه موقف مبدئي، يضع الحق في نصابه، وينأى عن الشعاراتية.
فإن قيل: إن في هذا الكلام تقليلاً من هيبة الدين، بإسقاط رمزية العالمين به، فالجواب: أن ثمة فرقاً بين المستوى الأخلاقي والمستوى المعياري؛ فللعالم قدره وهيبته بحسب الموقف الأخلاقي، وواجب على الأمة ترئيس العالم، بل السعي في صناعة العلماء، وتعزيز أدوارهم في المجتمعات؛ لأن البديل سيكون ترئيس الجهال، والناس لا يصلحون فوضى لا سراة لهم.
وأما الموقف المعياري فالعبرة بالحق ذاته، ولهذا لو تبين للمقلد خطأ العالم لم يجز له اتباعه، وهذا يهدم مبدأ الرمزية أصلاً. إن المواقف الأخلاقية: لا مذاهب فيها، بل هي محل اتفاق، بخلاف الترجيحات العلمية فثمّ تشتجر المذاهب والآراء.
معضلة الترميز أنه يورث اشتباهاً بين الموقفين، ومع مرور الزمان يختلط الموقف الأخلاقي بالمعياري، ويقع التجاوز بالغلو في الأشياخ والصالحين، هذا ما ظهر لي، مع تقديري البالغ لمن خالفني من الإخوة الباحثين، والله وحده المستعان.
*عن
 
*abdelhafid
4 - نوفمبر - 2008
العروي: التقليد والحداثة لا يتعايشان إلا على مستوى الخطاب.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
حوار                                    
عبد الله العروي
 
 
.........................
ترجمة - سعيد الشطبي
                                       
- تقول في كتابك الأخير: «لم أرفع أبدا راية الفلسفة، ولا راية الثيولوجيا، ولا راية التاريخ؛ كل ما قمت به، ببساطة، هو أنني دافعت عن التاريخانية». عموما، مازلت تقوم بذلك. بم تبرر استمرارك في السير على نفس الطريق في الوقت الذي شهدت فيه التاريخانية تخلي الكثيرين عنها وتعرضت للنقد وتخوف منها آخرون من حيث ما يمكن أن يترتب عنها؟ ألا يزعجك أن تبقى وحيدا في مواجهة الجميع؟
< يمكنني أن أرد بما يلي: «ما الذي أتت به اللاتاريخانية؟». لا شيء، اللهم أنها هيأت سرير التقليدانية في معناها القح وصيغتها الصلبة. وهو ما نراه حولنا اليوم في كل مكان. فالمجتمعات الغربية جميعها آخذة، الآن، في اكتشاف أنها مجتمعات دينية؛ بل حتى في موطن فولتير نفسه، صرنا نسمع يساريين سابقين ينتقدون غياب التعالي والكينونة ما بعد العالم المادي.
إننا ندرك، اليوم، أن الفيلسوف، بالوظيفة، الذي لم يكن يكف عن الحديث عن وجود بنية ضمنية إنما كان يعني بذلك الانسجام الإلهي. أنا لست ضد الثيولوجيا، بل إنني أستغرق وقتا طويلا في دراستها والاستفادة منها؛ بيد أنني أجدني ميالا إلى ثيولوجيا متبناة، لا ثيوصوفية مخجلة أو مهربة.
لماذا قلت إنني لا أريد أن أكون فيلسوفا ولا ثيولوجيا ولا حتى مؤرخا حقيقيا؟ لأنني، كما قلت سابقا بكل تواضع، لا أعتقد أن الإنسان، أعني أي إنسان كان، أنت أو أنا، يمكنه في يوم من الأيام أن ينجح في أن يُلزم الحقيقة المطلقة الانكشاف أمامه مهما ملك من وسيلة في سبيل ذلك. ما يمكنه أن ينكشف أمامنا، أمام أي كان منا، ما هو إلا حقيقة نسبية، مشتركة، مقتسمة. فالحقيقة الموضوعية ليست هي الحقيقة المطلقة؛ إنها حقيقة اتفاق أو حقيقة صفقة، تسمح لنا بالتعايش في الحياة. أذكّر هنا بأننا نتكلم دائما عن العلوم الإنسانية، أو بالأحرى عن الحياة في المجتمع.
- لنعد إلى كتابك الأخير، الذي تتحدث فيه عن قراءة القرآن من خلال الحديث عن أثرها على الوجدان أكثر من العقل. ترى، كيف يمكن قراءة هذا الكلام الصادر عن رجل عقلاني؟
< لم يسبق لي، أبدا، أن قلت إن العقل هو شمولية تلغي كل ما ليس عقلا. عموما، أنا أستعمل كلمة «عقلانية» التي تقحم في معناها مشاركة الإنسان كما تشير إلى ذلك الكلمة في العربية. وقد وضحت في العديد من المناسبات أن مجال العقلانية محصور (العلم التجريبي، السياسة والتاريخ من حيث هو خادم للسياسة). غير أن التجربة الإنسانية لا تتوقف هاهنا؛ بل هنالك مجال واسع حيث لا تلعب العقلانية دورا كبيرا، بل دورا ثانويا، فحسب.
إن ما بدا لي، دائما، خطيرا عند استحضار السوابق التاريخية هو إقحام اللاعقلاني في موضوع الأولى به أن يظل تحت عنوان العقلانية، إما بحكم التوافق أو بحكم نفعية ما. فاللاعقلاني مُبعد عن الخير المشترك لسبب بسيط يتجلى في كونه منفلتا، لا يُتحكم فيه (ما العمل بالسحر في العلوم، أو بالعنف في السياسة، أو بالجنون في التاريخ؟). أما ما تبقى للاعقلاني فهو مجال التجربة الفردية الشاسع، من قبيل الفن، والأدب والدين.
لدي استطراد هنا. يحز في نفسي أن أرى في مدارسنا أن الكتاب المدرسي حول التربية الدينية يبدأ بفصل حول الغيب؛ لست لأنني أنفي الغيب، بل إنني أستغرب أن نكلم الأطفال عن الغيب، والحال أنه ينبغي أن نتحدث في الموضوع مع البالغين بعد أن يكونوا غادروا المدرسة بزمن طويل. مكان هذا النوع من مواضيع الحديث ليس مناسبا.
- : في إطار هذا السؤال حول الجانب الوجداني، نكاد نذهب حد اعتبار أن هنالك جانبا صوفيا فيكم ينكشف للقراء...
< العلم هو الحقيقة المشتركة فكريا؛ السياسة هي الحقيقة المشتركة اجتماعيا؛ أما الحقيقة الفردية فهي حقيقة ممنوحة للغير، لكنها ليست مشتركة بالضرورة والمبدإ. سموها كما تريدون، لكن هذا التمييز بين الأنواع الثلاثة للحقيقة، إذا بحثتم عنه جديا، ستجدونه حاضرا عند أكبر العقلانيين.
- كتبت في «الإسلام والحداثة» ما مضمونه أن مسعاك ليس هو وصف حالة من دون مخرج، بل هو بلوغ أقصى ما يمكن على مستوى الموضوعية حتى لا تكون ضحية لحلول خادعة. وفي كتابك الأخير «السنة والإصلاح»، تعود إلى عهد النبي إبراهيم. هل الباعث على ذلك هو الموضوعية دائما؟
< العنوان الحقيقي لكتابي هو «سنة وإصلاح»، الذي من خلاله سعيت إلى تعميم ما أريد قوله. إن إبراهيم يمثل مركز البرهنة، ويرمز إلى ظهور الذاكرة. وقد ظهر في وقت توقفت فيه الإنسانية (إنسانيتنا وليس إنسانية الآخرين، كالصينين والهنود، إلخ... التي نجهلها جهلا فظيعا، للأسف) والتفتت إلى ماضيها. الزمن كله، هنا، يتلخص في رؤية تكشف، في لحظة واحدة، ما سبق وما سيكون. هكذا وُلد التقليد.
إبراهيم هو الذاكرة، هو التقليد؛ إنه كلٌ متعدد مختزل في وحدة. التقليد هو اختزال التاريخ كله في نقطة واحدة من الزمكان. أما في ما يخص حالتنا نحن، فإن سنتنا تلخص تاريخ ملايير (كوسموس)، وملايين (حيوات)، وآلاف (الوعي) السنين في ما قيل عنه، نظريا، خلال عقد (في ما يسمى، كذلك، سنة) من الزمن. إنها إعادة منح التاريخ، الطبيعي والإنساني، غير الواعي ثم الواعي، كل كينونته؛ إنه، بمعنى من المعاني، الدخول «في الإصلاح». من دون ذلك، سنكون نواجه التقليد بالتقليد ليس إلا، ونجد أنفسنا في حرب تقليد مشتعلة؛ وهو ما نعيشه اليوم.
- نلاحظ اليوم أن الزوج «تقليد/حداثة» مازال يفرض ذاته بكثير من الإصرار، سواء على مستوى خطاب الدولة أو داخل المجتمع. وقد سبق أن كتبت أن دائرتي «التقليد والحداثة» لا يمكنهما أن تتعايشا في زمكان واحد. من أين لك هذا اليقين؟
< أُذكر هنا أن مفهومي التقليد والحداثة لا يتعايشان إلا على مستوى الخطاب، لا في الأفعال. فنحن نتحدث عن الطب التقليدي والمعمار التقليدي والفن التقليدي كما لو أنها أمور تثير الفضول. لكن، هل سبق لكم أن رأيتم في الشارع دراجات نارية تقليدية، وفي الجو طائرات تقليدية، وفي المستشفيات أجهزة كشف تقليدية؟ اللهم إذا تعلق الأمر بثنائية من نوع خاص كأن نقول: الجسد حديث والدماغ تقليدي. في هذه الحال يتعلق الأمر بنظرة (تقليدية) نلقيها على حقيقة (حديثة).
لكن، عندما نعود إلى النصوص القديمة، ندرك جيدا أن التقليد المكتوب، والذي نحتفظ ببعض أثره، هو دائما خطاب حول حقيقة. والسنة هي دائما محاكمة لبدعة معينة. والأخيرة تحيل على المعيش، على الملموس؛ أما السنة فما هي إلا إدانة شفهية، اجتماعية، وسياسية للبدعة. وما نسميه «بروز السنة» هو، بكل الصرامة، إعادة تسمية ما يخلقه ويجدده التاريخ. و»الجديد»، الذي يقابل بالنقد، لا يزول بالمرة، بل يعاد تصنيفه بشكل مختلف، فحسب. هذا ما نعيشه، اليوم.
أفليست أسلمة الحداثة و«تحويلها إلى تقليد» تكييفا لما لا نستطيع تجاوزه تحت اسم آخر مختلف؟ لقد رأينا ذلك جليا في شأن المنتوجات المالية الإسلامية: فقد كانت معروفة، واستُعملت قبل أن يُتخلى عنها؛ لكن يمكن دائما استعمالها والتخلي عنها مجددا. فهي ليست إسلامية إلا بالاسم لأنها كانت سائدة في الماضي في البلدان الإسلامية.
 
عن ج. المساء...

عن «لاروفي إكونوميا»
*abdelhafid
22 - نوفمبر - 2008
ما أحوجنا لشجاعة أدبية ولصرامة منهجية ولوضوح في الرؤية وفي المنهج كما لدى الأستاذ والمفكر عبد الله     كن أول من يقيّم
 
شكرا جزيلا لك الأستاذ الكريم عبد الحفيظ، ذلك أنني أعتبر مجرد عرض آراء المفكر العربي عبد الله العروي نضالا حقيقيا يسوق في اتجاه نقاش عميق وهاديء وملائم، يتميز بالشجاعة وبالخصوبة للإتيان بالجديد ولطرق باب التخلص من التكرار والتسطيح، والسقوط في الاستسهال الذي يقودنا في الغالب الأعم إلى التقهقر في الفكر وإن استعملنا المفاهيم والمصطلحات الحديثة الظهور في ميادين التنظير العلمي,  تحية صادقة لك أستاذ عبد الحفيظ ولكل الإخوة الأساتذة المنورين لصفحات هذا الموقع الجميل,
*إدريس
4 - مارس - 2009
 5  6  7