البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 4  5  6  7 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
ديكارت...وانتصار المثالية    كن أول من يقيّم
 
إذا كانت إشكالية ديكارت، إشكالية المذهب العقلي، هي الغلو في الإرادة والإفراط في التفاؤل، أي إذا كان«العقليون قد افترضوا ضمنا أن المعرفة الكاملة يمكن بلوغها في نهاية المطاف، فإن نظرة لوك الجديدة كانت أقل تفاؤلا في هذا الصدد» (راسل). ولكن رغم هذا التواضع من طرف النزعة التجريبية التي رفضت "فطرة العقل" ورفعت شعار "الصفحة البيضاء"، فإن تأثيرها لم يكن بعمق وقوة التأثير الذي مارسته الفلسفات المثالية في الغرب. إن الفلسفة الحقيقية ـ كما يقول شوبنهاور ـ يجب أن تكون مثالية. والواقع أن لوك، كمؤسس للنزعة التجريبية، لم يكن «منهجيا في معالجته لموضوعاته. وكثيرا ما يترك الموضوع حين تنشأ صعوبات. وقد أدى به تكوينه الذهني العملي إلى معالجة المشكلات الفلسفية بطريقة تجزيئية دون أن يواجه مشكلة الوصول إلى موقف متسق مع ذاته. لقد كان بالفعل، كما قال، عاملا تابعا»(لوك). وكانت نتيجة هذه التجزيئية وغياب النسقية أن «التجريبية التقليدية حين انحدرت إلى القرن التاسع عشر، استنفذت الكثير من إمكانياتها النظرية، حتى كادت تُخفى الأصالة والإبداع من آثار أهلها »(توفيق الطويل).  
بين ديكارت وجون لوك مسافة كنفس المسافة التي افترضها كل واحد منهما بين الفطري والمكتسب. وفي نقطة بين هاتين النزعتين سيطرح كانط مشروعا نقديا، ليس من أجل التوفيق بينهما بل من أجل تجاوزهما...
 
*وحيد
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (12)    كن أول من يقيّم
 
ثانيا : أديان الفردية الروحية (ارتفاع الروحى فوق الطبيعى):
يتطور التصور الإلهى مع أديان الفردية الروحية؛ حيث تتحرر الروح من الطبيعة بعد أن كانت غارقة فيها مع أديان الطبيعة التى جسدت الروح فى صور حسية. وحيثما ترتقى الروح فوق الطبيعة، فإن الإله يصبح شخصا ذا غايات محددة وحكيمة، وتتحقق فيه عناصر الروح أكثر من ذى قبل، لأنه صار كليا، ومع ذلك يتيح للجزئى أن يخرج عنه ويستقل، ثم يتصالح معه ويستوعبه فى الفردى، وإن كان هذا التصالح لا يلغى الجزئى على نحو تام. وإذا كانت بعض أديان الطبيعة، مثل الهندوسية، تملك تصورا مجردا للإله فى صورة" براهما " لكنه لم يكن موضوعا للوعى، ولم ينفصم عن الطبيعة من حيث كونه الوجود الكلى للطبيعة. وإذا كان التصور الإلهى قد أصبح موضوعا للوعى فى الزرادشتية، فإنه كان مصورا تصويرا حسيا على هيئة نور. بينما تحولت الطبيعة مع أديان الفردية الروحية إلى مجرد كائن مخلوق، عرضى ظاهرى، ومتناهى. وارتفعت الروح فوق الطبيعة؛ حيث غدت هى الخالق والوجود الأول([i]).
  وتجلت أديان الفردية الروحية فى ثلاث صور، هى:
(1) اليهودية (دين الجلال):
اضطرب موقع اليهودية فى النسق الهيجلى إلى حد التناقض، فبينما يأتى لاحقا على الدين المصرى فى محاضرات 1824 و 1827 م، يأتي سابقا عليه فى محاضرات 1831 م، ضاربا بالتاريخ الحقيقى عرض الحائط!
وإذا كان الفن الرمزى يوازى أديان الطبيعة، والفن الكلاسيكى يوازى أديان الفردية الروحية، فإن هيجل يضع اليهودية- وهى من أديان الفردية الروحية- فى نطاق الفن الرمزى وليس فى نطاق الفن الكلاسيكى([ii]).
وفى "محاضرات فى فلسفة التاريخ" تأتى اليهودية قبل الحضارة المصرية،مع أن اليهودية نابعة من الحضارة المصرية، والوعي الديني عند اليهود مسبوق بالوعي الديني عند المصريين.
ويعتبر هيجل أن التصور اليهودى للإله باعتباره الواحد المجرد مشكلاً للانفصال بين الشرق الغرب([iii]). وينسى أن اليهودية شرقية، بل كل الأديان الموحى بها شرقية وليست غربية.
   هذا، وبينما نظر كنط فى "الدين فى حدود العقل وحده " إلى اليهودية بوصفها مجرد تنظيم سياسى وغير مستحقة لاسم الدين؛ لافتقادها لعناصره الجوهرية، وهى خلود النفس، والنية الباطنة، والمبادئ الأخلاقية المستندة إلى الضمير، ومفهوم الإله رب العالمين([iv])، بينما نظر إليها كنط على هذا النحو، نجد هيجل يمجد اليهودية باعتبارها ، دين الجلال الذى قطع مرحلة فى تطور الروح أكثر تقدما من أديان الطبيعة. ويا ليته يقصد اليهودية الأولى، يهودية موسى وهارون، وإنما يقصد اليهـودية اللاحقة المستندة إلى العهد القديم فى شكله الحالى الذى أثبت علم النقد التاريخى تحريفه وخضوعه للتشكل والتبدل عبر عصور متلاحقة، وهى دين الجلال عند هيجل لأنها آمنت بالله ذى الجلال والسمو، خالق الطبيعة وسيدها والأساس الأول والمطلق([v]). فالتصور الإلهى تحرر معها من كل ما هو حسى وطبيعى، وتراجعت الطبيعة إلى مكانها كشيء متناهى وعرضى ومخلوق وغير إلهي ولم يبق فى مرتبة الإجلال غير الله الواحد، الشخص، المتعالى والمتحرر من كل ما هو حسى. فعندما تصور اليهودية الله متجردا من الشكل ولا ماهية له سوى الماهية الروحية المحض، بالتعارض مع العالم والطبيعة، فإنها تعتق الروحى من كل رباط له بالحسى والطبيعى، وتحرره من قيود الوجود المتناهى ، وقدمت المثال النموذجى للجليل، وعبرت عنه أنقى تعبير، فلأول مرة بالفعل تختفى فكرة التناسل، فكرة الولادة الطبيعية، لتحل محلها فكرة الخلق من قبل قوة روحية([vi]) "قال الله للنور: كن، فكان! ". ولا ريب فى أن الرب السيد، الجوهر الواحد، يتظاهر للخارج، لكن تظاهره يأتى فى منتهى النقاء، لا جسديا: إنه الكلمة المعبرة عن المفكر بوصفه قوة روحية، بأمرها يسقط للحال كل ما هو موجود فى حال من طاعة خرساء، بيد أن الله لا ينتقل إلى هذا العالم المخلوق وكأنه بالفعل واقعة، بل يبقى فى وحدته المتوحدة، من دون أن تتولد عن هذا الانفصال ثنائية حقيقية، فما هو خارجى هو صنيعه الذى لا يتمتع بأى استقلال عنه، وهو لا يوجد إلا ليكون شاهدا على حكمته ورأفته وعدله، وليس الواحد حاضرا  فى أشياء الطبيعة، لكن أشياء الطبيعة هذه ما هى إلا أعراض عاجزة، وأقصى ما فى مستطاعها أن تنم عن ظاهر الماهية، بدل أن تكون تجسدها الحقيقى، وما دام الله الواحد مفصولا على هذا النحو عن عالم الظواهر العينية ومثبتا فى ذاته، ومادام العالم الخارجى، من جهته، متعينا على هذا النحو كعالم متناه وثانوى المنزلة، فإن عالم الطبيعة وعالم الإنسان يظهران للمرة الأولى فارغين من الألوهية، فليست الطبيعة تجسيدا لله، فالأرض أرض، والنبات نبات، والحيوان حيوان، والإنسان إنسان([vii]).
    ونظرا لأن اليهودية تؤمن بأن الإله الواحد ذى الجلال هو إله الشعب  فقط، فإنها ديانة مانعة على نحو مطلق([viii]).
    أما عقيدة الآخرة وخلود النفس، فليس لها مكان في النسق الديني اليهودي. وفى هذه النقطة يتفق هيجل مع كنط. ولقد سبق لنا تحرير هذه المسألة عند الحديث عن موقف كنط من اليهودية، حيث تبين أن خلود النفس من العقائد الخلافية بين فرق اليهود، وثمة تناقض بين نصوص العهد القديم بشأنها، وليس من الدقة ما ذهب إليه كنط وهيجل من نفى هذه العقيدة عن مجموع اليهودية.
ومن المنظور الهيجلى، فإن عدم إيمان اليهود بخلود النفس يرجع إلى عدم الشعور بالاستقلال الفردى، وعدم حرية الروح العينى، والفردية لا توجد فى ذاتها ولذاتها، فليس مباح لأى شيء فى هذا العالم أن يتطلع إلى الاستقلال، إذ إن كل شيء موجود بقوة الله، وليس لوجوده من غاية سوى الشهادة على مجد الله وجلاله وعلى عرضية العالم. وفكرة الخلود غريبة عن تصور الجليل الذى ارتبط به لدى الإنسان إحساس بتناهيه وبالهوة التى لاقرار لها والتي تفصله عن الله الواحد الجليل، الذى هو وحده غير القابل للفناء، وكل شيء سواه متناه وغير حر وخاضع للولادة والزوال.
من هذا النص يولد الإحساس بدناءة الإنسان أمام الله، فالتسامى إلى الله يقوم على الخشية من غضبه والرغبة فى رضاه؛ ولذا جاءت العبادات اليهودية عبادات صورية.
أما الشريعة فهى نابعة من إرادة الجليل ذى الحكمة والقدرة على الفصل بين الخير والشر. ورضوخ الفرد للشريعة التى أنزلها الله، يعلي من مقامه ، ويضفى على علاقاته بالله طابعا إيجابيا. ثم لا يلبث أن يدرك أن كل الجانب السلبى من حياته وآلامه إنما هو عاقبة تمرده على الشريعة، بينما الجانب الإيجابي من حياته ورغد عيشه ومسراته إنما هو ثمرة انصياعه للشريعة. وهنا تظهر الأخلاق الحق، لأن الله يمجد عن طريق الاستقامة والعمل الصالح([ix]). وبينما يرى هيجل أن أخلاق اليهود أخلاق حق، يفند كنط الأخلاق اليهودية، ويجزم بأنها ليست أخلاقَ حقٍ، لأنها تفتقد عناصر الأخلاقية، وهى مجرد أفعال خارجية تخضع لقوانين إلزامية، وليست قائمة على النية الأخلاقية الباطنة أو الضمير. والمبادئ الأخلاقية لا تنتسب إلى اليهودية بما هى اليهودية، وإنما استعارها اليهود فى العصر الهلينى من اليونان([x]). ويبدو أن الخطوة التى كان تقدمها كنط إلى الإمام كان هيجل مصرا على أن يرجعها إلى الخلف!


(50) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 328 ff.
(51) هيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، ص 106.
(52) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 180.
(53) Kant, Religion Within the Limits of Reason Alone ,p. 116-8.
(54) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 365.
(55) Ibid., p. 360-1.
(56) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 182. وهيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، ص 110.
(57) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 371.
(58)Ibid., p. 372.
وهيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 182.
وهيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، ص 114.
(59) Kant, Religion Within the Limits of Reason Alone ,p. 116.
*ضياء
17 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (13)    كن أول من يقيّم
 
ب) الدين اليوناني (دين الجمال):
وفى الدين اليونانى تفوقت الروح على الطبيعة، حيث لم تصبح القوة الحقيقية للطبيعة، بل أصبحت للسياسة. وتتضح هذه العقيدة من خلال الإيمان بزيوس رب الأرباب والسلطة والقانون، الذى انتصر على العمالقة:قوى السماء والأرض والبحار. ولكن الروح تصالحت مع الطبيعة فى الفن حيث تم التعبير عن آلهة اليونان فى شكل حسى، فالروح تجلى فى العمل الفنى بتمامه، وغدا للآلهة شكل البشر وجسدهم بل وغاياتهم! وتصالح المعنى مع المادة، مع العنصر الحسى، مع الكائن لشيء آخر، ويتجلى الروحى بتمامه فى هذه الخارجية، وهذه الأخيرة تعنى الداخلى الذى يعرف بتمامه فى شكله الخارجى([i]).
   ومع أن هيجل يدعو هذا الدين بالدين الجمالى، أو دين الجمال  فى المخطوطة ومحاضرات 4 82 1 و 827 1، ودين الحرية والجمال فى محاضرات 1 83 م- مع ذلك فإنه يعتبره محدود الأفق، ضيق المجال، لكنه كان كذلك ممهدا للدين المطلق، لأنه تمثل الله على أنه ذو طابع إنسانى، وصور الإنسان على أنه ذو جوهر إلهى، ومن هنا مهد لعقيدة التجسد المسيحى، غير أنه ظل يفتقد لعنصر حرية الروح؛ لأنه جعل القدر والضرورة تحكم فى كل الأشياء بما فيها الآلهة([ii]).


(60) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 333 ff.
(61) Ibid., p. 355.
*ضياء
17 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (14)    كن أول من يقيّم
 
(ب) الدين الروماني (دين الغائية):
أما الدين الرومانى، فإن هيجل يدعوه دين الغائية، فهو يجمع بين الجلال والجمال. ومع ذلك فهو دين نفعى، لأن أتباعه ينظرون إلى الآلهة بوصفها وسائل تحقق رغباتهم، وهم يصلون إليها ويعبدونها عندما يحتاجونها ولاسيما فى أوقات الضرورة والحرب([i]). وهو دين سياسى ينظر إلى الدولة بوصفها الغاية القصوى([ii])، أما تصوره للإنسان فقد ظل يفتقد لكثير من العناصر، وأهمها الذاتية واللامحدودية، إذ إنه لا يعى أن الذاتية الخاصة وما تتيحه من تجاوز تتخطى إلى ما لانهاية كل نظام أقيم.
وقد بلغ استلاب الإنسان منتهاه فى الدين الرومانى، لا لأن الآلهة أصبحت ذات وظائف نفعية للإنسان والدولة، وإنما لأن الإمبراطور أصبح مهيمنا على كل القوى الإنسانية، وتمركزت فيه كل سلطات الألوهية، وأصبح يملك قدرة قدرية تعسفية أكثر مما تملك ا لآلهة.
لقد تم تكريم الإمبراطور بوصفه السلطة العليا، وعُظّم كإله، لأنه هذه السلطة اللاعقلية التى تحكم الأفراد . ويعبر جارودى بشكل مكثف عن فكرة هيجل وتوصيفه لهذا الوضع، فيقول:
" فى الإمبراطور تركز وتفرد كل سلطان البشرية المنخلع: كل الإلهى بات محتشدا فى هذا الكائن المحدود، وفى الوقت نفسه، إنه شقاء وألم الفرد الذى جرد من كل كينونته، من كل سلطته، من كل مستقبله"([iii]).
   ومن ثم أصبحت الثقة فى قوانين الآلهة الأزلية ثقة خرساء، ولم تعد تماثيل الآلهة الآن سوى مجرد جثث هامدة فارقتها الحياة، ولم تعد الأناشيد الدينية سوى ألفاظ خاوية زال عنها أى مضمون إيمانى، وخلت موائد الآلهة من أى مضمون روحى، ولم يعد فى استطاعة الألعاب والاحتفالات أن تزود الوعى بذلك الإحساس السعيد بوجود وحدة بين البشر والآلهة. ولقد تحولت نشوة اليقين الذاتى الذى لا يتزعزع - على نحو ما عبر عنه الوعى الرواقى بتأكيده لذاته فى جرأة وشجاعة- إلى إحساس قوى بفقدان أى عنصر إلهى فى ضوء سيادة الوعى الشكي المصحوب بقلق حاد.. مما أدى إلى تداعى العالم الأخلاقى..([iv]).. يقول هيجل:
لوعى الشقى هو علم هذا الضياع التام. وفيما يتعلق بهذا الوعى الشقى، ضاعت القيمة الداخلية لشخصيته المباشرة، والقيمة الداخلية لشخصيته المتوسطة، الشخصية المفكرة، سواء بسواء، لقد أصبحت الثقة خرساء فى آيات النبوة التى كان عليها أن تعرف الخاص. والتماثيل التى هى الآن جثث هربت منها نفسها. والأناشيد كلمات بدون إيمان. وباتت موائد الآلهة بدون الغذاء والشراب الروحيين، ولم تعد الألعاب والأعياد تعيد للوعى وحدته السعيدة مع الماهية، وتنقص أعمال ربات الإلهام قوة الروح الذى كان يرى يقين ذاته يتدفق من تصادم الآلهة والبشر. لقد صارت بالنسبة لنا: ثمار جميلة مفصولة عن الشجرة، منحنا إياها قدر صديق، كما تقدم فتاة جميلة هذه الثمار، بدون الحياة الفعلية لوجودها- هنا، بدون الشجرة التى حملتها، بدون الأرض، بدون العناصر التى تؤلف ماهيتها، بدون المناخ… أو تناوب الفصول التى كانت تضبط صيرورتها..، ولكن كما أن الفتاة التى تقدم ثمار الشجرة هى أكثر من الطبيعة التى كانت تعرفها مباشرة، الطبيعة المنتشرة فى شروطها وعناصرها، الشجرة، الهواء، الضوء، الخ، لأنها تركب فى شكل أعلى كل هذه الشروط فى بريق عينيها الواعية ذاتها وفى حركة تقديمها الثمار- كذلك فإن روح القدر الذى يقدم لنا هذه الأعمال الفنية هو أكثر من الحياة الأخلاقية لهذا الشعب ومن فعاليته، إنه روح قدر المأساة الذى يستجمع كل هذه الآلهة الفردية وكل هذه المحمولات للماهية فى البانثيون الوحيد، فى الروح الواعى ذاته كروح"([v]).


(62) Ibid., p. 385.
(63) Ibid., p. 387.
(64) روجيه جارودى، فكر هيجل، ص 238.
(65) قارن: د. زكريا ابراهيم، هيجل، أو المثالية المطلقة، ص 428.
(66) هيجل، ظاهريات الروح، ج 2، ص 261- 262، مقتبس من جارودى، فكر هيجل، ص 47 1- 48 1.
*ضياء
17 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (15)    كن أول من يقيّم
 
المسيحية :
إن الألم الناشئ عن ذلك الوضع الذي آل إليه الدين الروماني، والشقاء الكلى، والتناقض بين المحدود واللامحدود، سيتغلب الروح عليها فى الدين الحقيقى للروح الذى يقدم تصورا متكاملا للعلاقة بين المحدود واللامحدود فى الإنسان، بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية، وما هذا الدين الحقيقى للروح عند هيجل إلا الدين المسيحى([i]).
ويذهب هيجل إلى أن جميع الأديان السابقة على المسيحية ما هى إلا معبرة عن جوانب من المسيحية ذاتها، وعندما جاء ت هذه الأخيرة استوعبتها استيعابا كاملا من وجهة نظر هيجل. رغم أن المسيحية تركز على الروح وملكوت الله أكثر مما تركز على الجسد والحياة! ورغم أنها تذيب الإنساني فى الإلهي! ورغم أنها تفتقد لمفهوم التنزيه والتوحيد المجرد الذى يعتبر أسمى العقائد فى الله حتى الآن من منظور عقلانى، ورغم أن مفهوم الشريعة كمنهج للحياة العملية غائب عنها، ورغم الانتقادات التى وجهت إليها من قبل علم النقد التاريخى، وهو العلم الذى لم يستفد منه هيجل البتة.
ولقد توقف العرض الهيجلي لتطور الأديان عند المسيحية دون ذكر للدين الذي جاء بعدها،وهو الإسلام.


(67) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 387.
د.محمد عثمان الخشت
كلية الآداب-جامعة القاهرة
*ضياء
17 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (16)    كن أول من يقيّم
 
     الإسلام:
جاء الإسلام في المرحلة النهائية من مراحل ارتقاء الدين، واستوعب كل العناصر الإيجابية في الأديان السابقة عليه، وخلص مفهوم الألوهية من كل ما علق به من تصورات تشبهه بالبشر،أو تخلط بينه وبين الطبيعة،أو بينه وبين أي مستوى من مستويات الوجود ؛فهو : ( ليس كمثله شيء) ،وهو الذي يجب تنزيهه عن كل ما يصفه به البشر: (سبحانه وتعالى عما يصفون)،وهو الذي لا يمل المسلم في كل صلاة من تكبيره :" الله أكبر"، أكبر من كل تصورات البشر،أكبر من كل شيء،أكبر من كل قيمة، أكبر من كل ما هو طبيعي أو إنساني أو حيواني.وهو الذي لا يمل المؤمن من تسبيحه في كل صلاة ،أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به، تارة :" سبحان ربي العظيم" في الركوع، وتارة "سبحان ربي الأعلى" في السجود.
والإسلام دين التوحيد المحض والبساطة فى الاعتقاد ؛ حيث ينظر إلى الله باعتباره روحا خالصا، وباعتباره إلها مجردا وليس محسوسا عيانيا. وهذا التجريد هو المسئول عن نبذ الإسلام للوسائط التشبيهية والتجسيمية وتحريم التصوير التجسيمى، درءا لمشابهة أعمال الله؛فالله ليس له شبيه وكذلك أعماله.
فالتجريد الإسلامى للألوهية بلغ بها إلى قمة ترقى الوعى بالإلهي . ولذا فالإسلام لا يخاطب الناس بالمعجزات الحسية،ولكن بالآيات العقلية الفكرية:تارة بالاستشهاد  بالطبيعة،وتارة بالاستشهاد بالاستنباطات البرهانية، وتارة بالاستشهاد بالسنن التاريخية .
ويفصل الإسلام بين مستويات الوجود دون خلط بينها،ودون طغيان لمستوى على مستوى؛ فالألوهية غير الطبيعة ،وغير الإنسانية،وغير الحيوانية.وكل طرف من هذه المستويات غير الآخر.والدخول من مستوى إلى مستوى ليس خاضعا لنوع من الإرادة العمياء،وتدخل الله في الطبيعة ليس عشوائيا؛ لأن القرآن يؤكد وجود سنن طبيعية وقوانين كلية لا تتغير ولا تتبدل،وأن الله خلق الأشياء وفق قانون أو قدر: ( إنا كل شيء خلقاه بقدر){القمر:49}..(سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا).
والقرآن لا يتحدث عن صفات لله؛ إمعانا في التنزيه، وإنما يتحدث عن أسماء لله،فالله ليس سرابا مثل البراهما ؛ وهي أسماء له باعتبار أفعاله :العدل ،العلم، القوة، الرحمة…الخ. فالروح الإلهي يخرج من تجرده، فيحقق ذاته فى الكون عبر أفعاله الإبداعية.
وأفعال الله إبداعية، لكنها ليست سحرية، بل : ( كل شيء عنده بمقدار ){الرعد:8}..(والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم){الأنعام:96}..(وخلق كل شيء فقدره تقديرا){الفرقان:2}..(وكان أمر الله قدرا مقدورا){الأحزاب:38}…الخ.
وهو رب العالمين: الموجودات كلها، والبشر كلهم:المؤمن والكافر ،والتقي والعاصي.
وهو ليس في زمان لأنه خالق الزمان،وليس في مكان لأنه خالق المكان،ومع ذلك (فأينما تولوا فثم وجه الله).
فالإسلام هو دين الروح المطلق،لأنه يتكشف فيه الروح من حيث هو روح كلي مجرد على نحو مطلق. والروح الإلهي ليس غارقا في الطبيعة ،بل متعالٍ عليها،كما أنه لا يحل في أي حيز أو مخلوق،ولا يتحد مع بشر في طبيعة واحدة،ومع ذلك فقد نفخ الله في الإنسانية من روحه؛ فهو منبع الحياة العاقلة؛ لكن ليس معنى هذا وحدة  الإنساني والإلهي، فمستويات الوجود متمايزة:الإلهي، الطبيعي،الإنساني.
د.محمد عثمان الخشت
كلية الآداب-جامعة القاهرة

*ضياء
17 - سبتمبر - 2008
كانط...الفيلسوف هو المشرع للعقل الإنساني    كن أول من يقيّم
 
إذا كان ديكارت حلقة في مسار ترسيخ وحدة وشمولية العقل الرياضي المجرد، مستئنفا الإعجاب اليوناني بالرياضيات، جاء كانط بعد منهج ديكارت وجاذبية جاليلي وفيزياء نيوتن، أي بعد النجاح الباهر الذي حققه العقل الرياضي، مع انبهار قوي بمنطق أرسطو الذي اعتبره كاملا يستحيل تعديله أو تحسينه، ومع الوفاء للتمييز الأفلاطونيبين الظاهرة والشيء في ذاته، وإن خالفه في جعل الظاهرة الإمكانية الوحيدة المتاحة للمعرفة من طرف العقل الإنساني.
ومن أجل تجاوز الفيلسوفين قال كانط بأن المعرفة ليست مجرد تجريد للعيان، وليست إدراكا للمتعالي عن العيان، بل هي وضع العيان (الأشياء) في الأذهان (مقولات الفهم)، ومن هنا كانت مثاليته صورية.
 وتجلى الطابع المثالي الصوري القائم على قبلية المقولات المنطقية في نمط حياة كانط قبل طريقة تفكيره: لقد تميزت الحياة اليومية لكانط بانتظام آلي دقيق ومحدد أشبه بانتظام ساعة مضبوطة، وكان يخضع سلوكه اليومي لإرادته كما كان حريصا ألا يعلن أية فكرة قبل أوان نضجها واكتمالها.
كانت هذه الصرامة العقلية خاصية تميز طبعه وكذا فلسفته بدون شك. كما تجلت تلك الصورية في حرص كانط على إضفاء الطابع النسقي الصارم على أفكاره، وهو الطابع الذي ميز تصوره للعقل باعتباره بناء معماريا يخضع لوحدة متماسكة: فهناك أولا الوحدة التأليفية القبلية والضرورية الشاملة للفهم، والتي من خلالها أسس علمية المعرفة النظرية القائمة على التجربة على علمية الرياضيات والفيزياء. وهناك ثانيا الوحدة النسقية المخططة الإجمالية التي ينتظم فيها الفهم بمقولاته والعقل الخالص بمبادئه العامة، العالم والنفس والله، كأفكار ترانسندنتالية أو أشياء في ذاتها (Noumènes ) والتي تشكل السقف الذي ينتهي عنده العقل الإنساني.
 وبحكم أن الوحدة الأولى، وحدة الفهم، تتعلق بما هو كائن فستبصبح المعرفة ممكنة وسيكون الفهم هو المشرع لقوانين الطبيعة مستخدما أدوات الرياضيات والمنطق والفيزياء. وبحكم أن الوحدة الثانية تتعلق بما ينبغي أن يكون فسيكون العقل الخالص مشرعا للقانون الأخلاقي مستخدما مفهوم الحرية. وفي الحالتين يبقى «الفيلسوف هو وحده المشرع للعقل البشري؛ في حين أن الرياضي والفيزيائي والمنطقي ليسوا سوى صناع لدى سيد هو المثال الأعلى الذي يجمعهم جميعا ويستخدمهم كأدوات لصالح غايات العقل البشري الأساسية»(موسى وهبة). وبذلك يمكن اعتبار الرياضيات والمنطق القديمين، والفيزياء الحديثة النشأة مع جاليلي وتوريشيلي Toricelli ثم نيوتن، علوما دخلت  تاريخيا  في الطريق "السليم" المؤدي إلى معرفة يقينية وضرورية.
لكن إذا كان المنطق المستمد من أرسطو يقدم معارف عقلية محضة ويقتصر على جعل الفهم يهتم فقط بذاته وبصورته بصرف النظر عن كل مضمون، فإن الرياضيات والفيزياء، بالعكس من ذلك، تنطوي على معارف عقلية وموضوعية في نفس الوقت: فالرياضيات  تؤسس أحكامها الكلية والضرورية على المكان والزمان كصورتين قبليتين تعملان على تنظيم انطباعات الحساسية، أما الفيزياء فتعتبر كلية ضرورية ـ حسب كانط ـ لأن أحكام التجربة لن تكون لها قيمة موضوعية إلا إذا قامت من جهة على الحدس الحسي وعلى المقولات الخالصة في الفهم. ولذلك تعتبر الرياضيات والفيزياء العلمين الوحيدين اللذين يقدمان أدوات كل معرفة يقينية ممكنة والتي يعتمدها الفيلسوف في تشريعه للعقل. وبإدراجه الفيزياء ضمن منظومة تلك العلوم يكون كانط قد وضع السقف الذي يغطي بناء العقل الإنساني النظري، ووجهه نحو نمط واحد محدد من الفعالية الذهنية الإنسانية، هي فعالية العقل المنطقي الرياضي.
يكتسي التصور الكانطي أهمية خاصة في تاريخ الفلسفة لثلاثة اعتبارات أساسية: أولها يتعلق بما قبل كانط؛ فقد مر على البشرية ثلاثون قرنا دون أن يخطر على بال أحد الفلاسفة أن يجعل قدرة العقل على المعرفة موضوعا للتحليل والنقد، قبل استخدامه كأداة للوصول إلى الحقيقة؛  وهو العمل الذي أنجزه كانط بعمله ودعوته إلى فحص "العقل البشري" ، قبل توظيفه كوسيلة للمعرفة والبرهنة على حقائق لاهوتية ميتافيزيقية(زكريا ابراهيم).
والاعتبار الثاني يتعلق باللحظة التاريخية لكانط؛ فإذا كان ديكارت يعتبر أب الفلسفة الحديثة، فإن كانط يشطر هذه الفلسفة شطرين: أخذ عمن سبقوه وسار  في تيارهم، ولكنه اتجه منحى جديدا سيسيطر لمدة طويلة.
 أما الاعتبار الثالث فيتعلق بما بعد كانط، ونرى هنا أن تأثير كانط امتد طوال القرن العشرين، و لم ينحصر فقط في الفلسفة بل امتد إلى حقول علمية عديدة منها علم النفس، وبشكل أخص إلى أهم نظرية سيكولوجية حول النمو المعرفي؛ أي نظرية بياجيه. لقد تأثر بياجيه بكانط وقرأه بعمق، واهتم مثله بتحديد مصادر القدرة العقلية الإنسانية على المعرفة، في إطار نظريته الإبيستمولوجية، كما اعتبر مثله أن التعلمات والتمثلات الإنسانية تتطلب معرفة سابقة ببعض المفاهيم الأساسية المتعلقة بالزمان والمكان، وأن مفاهيم المدة أو الفترة الزمنية سابقة على التعلم، وبالرغم من تأكيد بياجيه على ضرورة وأهمية هذه المفاهيم توصل إلى أن الطفل يقوم ببنائها تدريجيا من خلال عملية الموازنة. فالمسافة المعرفية التي تفصل بين كانط وبياجيه ضئيلة إلى حد كبير، على الأقل من حيث الجهاز المفاهيمي الذي يوظفانه في المجال المعرفي الخاص بكل منهما.
*وحيد
19 - سبتمبر - 2008
العقل الفلسفي...الرؤية والحدود (خلاصات)    كن أول من يقيّم
 
بداية أتوجه بشكري مجددا للأستاذة الفاضلة ضياء على اقتراحها لهذا الموضوع وعلى تشجيعها للمشاركة فيه وعلى نفسها الطويل والنبيل.
سنحاول في هذه المداخلة تكثيف خلاصات المداخلات السابقة في أفق إبراز رؤيتها العامة للنموذج النظري الذي يجب أن يؤطر التفكير العقلي الإنساني. وسوف نعتمد تركيبا مقارنا لإبراز المختلف والمشترك بين الفلاسفة. أما الوجه الآخر للمقارنة، أي الدين، فسوف يتطلب منا بعضا من الوقت نستجمع فيه بعض الأفكار لتقديمها على شكل تصور نطمح أن يكون متماسكا بدرجة معينة...
---------------------
 تبين من خلال المداخلات السابقة انه إذا كانت الفسلفة اليونانية قد انشغلت بتحرير الخطاب من الأسطوري والغيبي، فإن انشغال الفلسفة الحديثة انصب على الدفاع عن قيمة العقل الإنساني وتحريره ـ نظريا وعمليا ـ من وصاية الدين والكنيسة.
لقد جعل أفلاطون الرياضيات الشرط الوحيد الذي يفصل بين المحسوس المتغير والظني اليومي من جهة ، والمعقول الثابت واليقيني المفارق من جهة أخرى، كما جعل أرسطو من المبادئ الأولية للمنطق الآلة التي تعصم الذهن من الخطأ، واعتبر ديكارت الرياضيات حاملة المنهج الشامل المؤسس للعلم العجيب الذي يمكن من السيطرة على الطبيعة، أما كانط فقد أضاف إلى المنطق والرياضيات علم الفيزياء ليجعل منها جميعا الأدوات التي تمكن الفيلسوف من تحديد ما يمكن وما لا يمكن معرفته.
هكذا تأسس التصور الفلسفي للعقل الإنساني من طرف المؤسسين الكبار للفلسفة في بدايتها وحداثتها. والملاحظ هنا، أنه باستثناء معين لأرسطو، فكل الفلاسفة الآخرين ينتمون إلى خانة ما يسمى بالمثالية؛ فإلى هذا الاتجاه ينتمي المنظرون الكبار للعقل الإنساني الذين تصوروا هذا العقل "أسطورة" كبرى قادرة على تفسير كل شيء بالمنطق والحساب، بالاستدلال والرياضيات، في إقصاء تام لكل ما يتعلق بالذاتية والوجدان والصدفة والوجود والفردي والفرح والاحتفال والحب والألم والفكاهة، والشعر والفن...، وكل إقصاء معناه أن تلك العقلانية تصورت العقل مطلقا مغلقا ومكتفيا بذاته، يحمل قبليا مبادئ بسيطة تجعله ينفر من التعقد والتناقض والتعارض المطلق في تصوره للأشياء(إدغار موران).
 وانطلاقا من هذا النقد للعقلانية الكلاسيكية والحديثة يمكن القول بأن تاريخ الفلسفة لم يقدم إلا تصورا مغلقا لعقل واحد يقوم على استخدام التصورات المنطقية والمفاهيم الرياضية والمقولات المجردة والرموز اللغوية، أي باختصار هو العقل القائم على اللوغوس، على الكلام والحساب.
إن "تفكير" الفلاسفة المؤسسين للعقلانية القديمة والحديثة لم يمكِّنهم ـ في نهاية تحليلهم الفلسفي ـ من الوفاء لانتظارات قدرات العقل الإنساني، ولم يسعفهم ذلك التحليل في إبراز "الطاقات" التي يزخر بها ذلك العقل.
*وحيد
19 - سبتمبر - 2008
الإيطيقا وفلسفة السياسة -1-    كن أول من يقيّم
 
 
Fernandez Buey
ترجمة: أحمد بلشهاب
1. الأخلاق و"الإيطيقا" ética & Moral
لا تميز اللغة المألوفة بين الكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا"، إذ نستعملهما بلا فرق للدلالة على مجموع قواعد السلوك الإنساني.
واشتقاقيا، فإن الكلمتين Moral وEtica، تحيلان على التوالي إلى Mores أو Ethos، إلى سلوك الكائن البشري المقيد بعادات وتقاليد وأعراف. نقول مثلا، إن هذا السلوك، أو ذاك، أخلاقي أو غير أخلاقي، إيطيقي أو العكس، ونحن نقصد بذلك أنه حسن أو قبيح، متوافق مع مجموع محدد من معايير السلوك، نعدُّها عادة مقبولة، ونميل في معظم الحالات إلى اعتبارها معايير كلية وشاملة؛ أي يتقاسمها كل الناس بغض النظر عن اختلافاتهم الثقافية المفترضة.
لكن، من وجهة نظر فلسفية ومنهجية، ليس للكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا" معنى متطابق. فالأخلاق هي مجموع معايير وأفعال خاصة بالسلوك، نعتاد على قبولها بوصفها تحديدات صالحة، أما الإيطيقا فهي التفكير حول لماذا نعتبرها صالحة؟.ولهذا تعودنا القول، عند التدقيق، إن الإيطيقا فلسفة أخلاقية، أو معرفة فلسفية تدرس قواعد الأخلاق وأسسها.
لن أخوض في تحليل أنماط الإيطيقا المختلفة التي بلورها الفلاسفة طوال التاريخ، ولا في عرض الإيطيقا المعاصرة، يكفي أن نعرف أن ثمة فلسفات أخلاقية، وأنه لا يوجد اتفاق بين الفلاسفة حول أفضل طريقة لتأسيس القواعد الأخلاقية. ومن يريد التعمق في هذه الاختلافات يمكنه قراءة الأعمال التالية:
J. L. Aranguren, Ética, En Obras Completas, Trotta , 1995
A. Sánchez Vázquez, Ética, Barcelona, Crítica , 1978
N. Bilbeny, Aproximación a La Ética, Barcelona, ARIEL 1992
E. Guisan, Introducción a La Ética, Madrid, CATEDRA 1995
هذا الوضع يطرح أول مشكلة: هل يتوجب علينا استعمال الكلمتين:"الأخلاق" و"الإيطيقا" كما يستعملهما معظم الناس، أي كمترادفين متطابقين، أم ينبغي أن نقبل الاختلاف الذي أقامه الفلاسفة بين الأخلاق والإيطيقا، ونعوِّل على وجهة نظر وصفية تعرض للفلسفات الأخلاقية الموجودة، أو لاتجاه فلسفي (نفعي، وجودي، ماركسي)؟.
عند معالجة مسائل أخلاقية، يكون القرار حول هذه النقطة مُهِمًّا، خاصة إذا كنا نسعى في دراستنا للأخلاق النظرية إلى الإحاطة بكل تلك التفاصيل. ومع ذلك، أقترح (ن أجل استعاد التحذلق) استعمال الكلمتين "الأخلاق" و"الإيطيقا" كما تستعملهما الأغلبية، مع وجوب التوقف عند بعض التدقيقات التي أدخلها الفلاسفة على المعاني المعبر عنها بهاتين الكلمتين. إن المثال الأحسن على أن هذا المعيار يمكن أن يعطي نتائج مهمة هو بحث Fernando Savater, Etica Para Amador, Barcelona 1991 فرغم الاختلاف المنهجي بين الأخلاق والإيطيقا، يقرر المؤلف استعمال الكلمتين كمرادفين لإبلاغ وجهة نظره الخاصة للمجتمع.
في العقود الأخيرة، ظهر نتيجة للتطور الهائل في العلوم، خاصة في الأنتروبولوجيا والسوسيوبيولوجيا، منافسون لفلاسفة الأخلاق، وقد كتب أحدهم: على العلماء والباحثين في العلوم الإنسانية أن يدركوا أنه قد حان الوقت لانتزاع الإيطيقا من يد الفلاسفة، وإقامتها على أساس بيولوجي، ويبدو أن فلاسفة كثيرين قبلوا التحدي، فهم يستعرضون في أبحاثهم الأخيرة موضوعات الإجهاض، وحقوق الحيوان، والمساواة الجنسية، والعنف الخ.
 
* * *
2. اٌُلإيطيقا والسياسة: Política & Ética
في مجتمعاتنا المعاصرة، غدا يتكرس بمرور الوقت مفهوم فقير للسياسة، مفهوم محقِّر، بعيد عن المعنى اليوناني القديم للسياسة. من المفيد أن نبدأ، لتوضيح الأشياء، بتدقيق العلاقة بين الأخلاق والسياسة. من أجل هذا يكون من الأفضل التوجه إلى المكان القديم، حيث نبت العلمان "السياسة والأخلاق" أي إلى أرسطو.في البداية نسجل أن لأرسطو وضوحا تاما تجاه الاختلاف بين موضوعات الأخلاق النيقوماخية La Ética a Nicomaco وموضوعات السياسة. فموضوعات الأخلاق هي نظريات الخير، والسعادة، والفضيلة والعدالة، والصداقة. في حين تهتم موضوعات السياسة بتحليل المجتمع المدني والعائلي، وتحليل المؤسسات،وأساليب الحكم. هكذا إذن، إذا تقيدنا بأصلهما، فإن الاختلاف بين الأخلاق والسياسة، من وجهة نظر منهجية،يبدو واضحا بالبداهة. تهدف الأخلاق إلى تحليل الفضائل والبحث عن السعادة، والتساؤل حول حقيقة العدالة، وما يتوجب أن نعتبره سلوكا فاضلا وعادلا، ليتمكن الفرد من أن يكون سعيدا؛ باختصار أنها تسعى إلى تحقيق الحياة الخيرة للكائن البشري. من جهتها، تتوخى السياسة تحليل المؤسسات، وأنظمة الحكم التي اخترعها الناس في حياتهم العامة، لإبراز النظام الأفضل؛ باختصار إنها تتطلع إلى تأسيس المجتمع الخيِّر (أو الحكومة الجيدة).
طبعا, لأن أرسطو يعتبر الإنسان حيوانا سياسيا، أي حيوانا مدنيا واجتماعيا، فهو نفسه لم يتخل عن تذكيرنا بأن الفضيلة والعدالة والسعادة تتحقق عندما يتم التوصل إليها بالترابط مع فضائل أخرى، أي سياسيا. إذ بين الأخلاق والسياسة توجد بالبداهة استمرارية وتداخل. ففي حال مثالنا, وهو أن الإنسان حيوان سياسي, ليس ثمة عدالة، ولا فضيلة, ولاسعادة على هامش المجتمع، على هامش السياسة. لهذا، إذا درسنا في شيء من الثاني أعمال أرسطو نلاحظ أن الأخلاق النيقوماخيه تعلن (بكيفية مضمرة) عن السياسة، وأن هذه الأخيرة تحيل باستمرار على الأخلاق, كما أن تأمل أرسطو في التربية والقوانين يكوِّن مجال التقاءِ عَالَم الأخلاق وعَالَم السياسة، بمعنى أن الأخلاق والحقوق السياسة تشكل عنده كلا موحدا، حيث موضوعاته قابلة للتجزئة، منهجيا، عند التحليل فقط.
من هنا يشتق أمران:
الأول: أن التمييز بين مجالى الأخلاق والسياسة تمييز منهجى، حتى يمكن معالجة موضوعا تهما في كتابين منفصلين.
الثانى: لأن الإنسان حيوان سياسي، حيوان مدني واجتماعي، فإن النظرات التحليلية لمجال (مجال حياة الفرد السعيدة) تحيل باستمرار عند التطبيق إلى المجال الآخر (المدينة المحكومة جيدا)، بحيث إن المجالين يمكن أن يُدرسا في كتاب واحد. وعندما ندرس كتاب السياسة لأفلاطون، الذي نترجمه عادة بالجمهورية، يتأكد لدينا هذا الانطباع؛ أي أن موضوعات الأخلاق وموضوعات السياسة مترابطة إلى حد أنها تشكل كلا واحدا.
من هنا استعمل فلاسفة النهضة باستمرار هذا التعبير: الحياة الخيرية في مدينة محكومة جيدا. كما أن المفهوم الأرسطى النبيل للسياسة يمكن ترجمته هكذا: السياسة هي أخلاق الجماعة.
 الآن، علينا أن نتقدم خطوة أكبر لتوضيح العلاقة بين الأخلاق والسياسة.لكون المدونة الأرسطية للأخلاق النيقوماخيه ( أي التفكير في الفضيلة، والعدالة والسعادة)، سابقة زمنيا على السياسة (أي التفكير في أنظمة الحكم التي اخترعها الكائن البشري) فقد يستنتج من ذلك أن الأخلاق هي أيضا سابقه في الأساس. وكثير من الناس يعتقدون هذا. لكنه لا يمثل وجهة نظر أرسطو، ففي الصفحات الأولى للأخلاق النيقوماخية، وفي مواضع كثيرة من العمل يتأكد تفوق السياسة. يكتب أرسطو:
"أول ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن الخير يُشْتقُّ من العلم السائد، من العلم الذي هو أساس كل العلوم، إنه علم السياسة. فالسياسة في الواقع هي التي تحدد ما هي العلوم الأساسية لوجود الدول، وما هي العلوم التي يتوجب على المواطنين تعلمها، وإلى أي مستوى يجب أن يصلوا في امتلاكها، وفوق هذا يجب أن نلاحظ أن العلوم المعتبرة، أقصد علم الحرب وعلم الإدارة والبلاغة، هي علوم خاضعة للسياسة، وحيث إن هذه الأخيرة تستفيد من كل العلوم التطبيقية، وتصف باسم القانون ما يجب عمله وما يجب تركه، فإنه يمكن القول إن هدفها يلتقي مع أهداف العلوم الأخرى، وبالنتيجة فإن خير السياسة هو الخير الحقيقي والأعلى بالنسبة للفرد والدولة".
لاشك أن خلاصة أرسطو الاستدلالية واضحة جدا، ذلك أن غاية السياسة تستوعب غايات العلوم الأخرى القريبة (البلاغة، القانون، الحرب)، وحيث إن الخير هو نفس الخير للفرد والدولة، صارت المعرفة السياسة أساس كل المعارف، إلى درجة أن القسم الأول من كتاب الأخلاق الذي يعالج الخير والسعادة يوصف بأنه، بكيفية معينة، بحث في السياسة.
ما سبق يفترض مفهوما نبيلا للسياسة وللسياسي، للسياسة كنشاط عملي وكمعرفة نظرية، لاسيما في علاقاتها بالأخلاق. وينبغي أن نسارع إلى القول إن وجهة نظر أرسطو هذه تصطدم ببعض القناعات الثابتة في إطار ثقافتنا، خاصة بما مثلته المسيحية في هذه الثقافة، لأن المسيحية تؤكد تفوق الأخلاق على السياسة بشكل غير مشروط. وكما يقال، فإن الأخلاق شيء، والسياسة شيء آخر، وبين الاثنين الأخلاقُ هي الأفضل.
سأقدم مثالا يوضح إلى أي حد خرق هذا التعارض بين الأخلاق والسياسة ثقافتنا. عندما شرعت في قراءة الأخلاق النيقوماخية، أثار انتباهي موقف المترجم الذي نقل العمل إلى الإسبانية. فعندما وصل إلى الفقرة، التي استشهدت بها، سارع إلى تصحيح كلام أرسطو مسجلا في أسفل الصفحة ملحوظة تقول: "السياسة تحكم الدول، لكنها لا تشكل الأخلاق، ولا هي المسؤولة عن دراسة مسألة الخير. بل على العكس، لا قيمة للسياسة إذا لم تستق مبادئها من الأخلاق، ولم تعمل على اتباعها ".
ليس هذا كل شيء، ففي كل مرة يؤكد فيها أرسطو تفوق السياسة، أو يقول إن موضوعات الأخلاق والسياسة قابلة للنقاش، إذ لا توجد فيهما الدقة التي هي خاصية العلوم الأخرى، يغضب المترجم ويتابع مسجلا ملاحظات في أسفل الصفحة كما يلي:
"الأخلاق، عندما تفهم جيدا، تتسبب في تفرقة أقل مما تفعله السياسة، وتمنح كل وعي متبصر ونبيل مبادئ صلبة".
"إذا كانت البلاغة لا تتوافر على براهين ملموسة، فإن الأخلاق يمكن أن تتوفر عليها، كما استطاع أرسطو رؤيتها في سقراط وأفلاطون".
"إن هذا الذي يقوله أرسطو يتأسس على انشغالات العهد اليوناني القديم، حيث كان المواطن مجرد عضو في الدولة".
"ليس للحياة سوى هدف واحد، والظن بأنه يمكن أن يكون لها أهداف كثيرة، من شأنه فتح الباب أمام الشك والخطأ".
ويغضب مترجمنا بشدة عندما يؤكد أرسطو أن الفضيلة غاية أفعال السياسي الحقيقي، لأن ما يسعى إليه هو جعل المواطنين فضلاء خاضعين للقوانين. حين يصل إلى هذه الفقرة يكتب مصححا كلام أرسطو "إن درس الفضيلة ينتمي إلى الأخلاق فقط، ومنها يتوجب على السياسة أن تستمد أساسها وليس العكس".
من كل هذه الاعتراضات، يمكن أن نعثر على سبب غضب المترجم في هذه الجملة التي تقول: "إن وجهة نظر أرسطو تتأسس على انشغالات العهد اليوناني القديم، حيث كان المواطن يعتبر مجرد مواطن في الدولة".
لاشك أن في العهد اليوناني القديم، عند تقييم فضائل الكائن البشري، كان يعد أمرا جوهريا أن يُنظر كيف يسلك هذا الفرد تجاه قضايا السياسة، وقد كان المنشدون في التراجيديا اليونانية يكررون مرة تلو أخرى: من أجل معرفة ماهية الإنسان "أخلاقيا" ينبغي أن نرى كيف يسلك في القضايا السياسية، ونوع خاص كمواطن ذي حقوق وعليه واجبات؛ أي بالعلاقة مع القوانين. ومع ذلك، يمكن أن ينتج عن استعمال كلمة الدولة في هذا السياق بعض الالتباسات. لأن السياسة في العهد اليوناني، كما نعلم، لم تكن هي الدولة بالمعنى المعاصر لهذا المفهوم، بل كانت بالأحرى المجتمع بالمعنى الواسع. وهذا لا يعني أن السياسة في العهد اليوناني القديم خلت من الصراع بين الوعي الأخلاقي الفرداني وقواعد المجتمع، إذ بعض التراجيديات تقوم على الصراع، وهذا هو موضوع دفاع سقراط، فالتراجيديا تتكون أساسا من الصراع بين الوعي الفردي والقوانين القائمة. غير أن اليونانيين، في سعيهم لإيجاد حل لهذا الصراع، أعطوا الأسبقية لاعتبارات المواطن بوصفه كائنا اجتماعيا وعضوا في المجتمع.
لكن ما ينبغي تسجيله هنا هو أن المترجم الإسباني لكتاب أرسطو، عندما ينتقد وجهة نظر القدماء، يفترض أن المواطن يمكن أن يكون شيئا آخر، مختلفا عن أن يكون عضوا في الدولة أو في المجتمع المدني.
كان المترجم مؤمنا بهذه الثنائية، وإن لم يعلنها صراحة: الأخلاق أهم من السياسة لأنها تتعلق، على وجه الدقة، بسلوك الكائن البشري بوصفه فردا قبل كل شيء، وعضوا في مدينة أخرى تختلف عن المدينة التي هي الدولة أو المجتمع؛ أي عضوا في مدينة الله.
توجد هكذا، قوانين تعلو على تلك التي اخترعها الإنسان في السياسة، قوانين واضحة، هي بمعنى معين متوافقة مع القانون الطبيعي.
لاشك أن هذا مفهوم ديني لاهوتي للعلاقة بين الأخلاق والسياسة، وهو الذي شكل بكيفية مكثفة ثقافتنا، أقصد الثقافة الأوربية ذات الأساس المسيحي.
أما إحدى النتائج الخطيرة لهذا الفهم الديني للعلاقة بين الأخلاق والسياسة فكانت هي الانتقاص من السياسة لأسباب أخلاقية، أي الانتقاص من ذلك المجال الذي اعتبره أرسطو جوهريا، وصار لميدان وعي الفرد الأولوية على المجال العمومي أو السياسي، ومُجِّدت فضائل الشخص الأخلاقي على حساب قوانين الدولة.
طبعا، إن لهذا الاتجاه تفسيرا تاريخيا، يجد جذوره في الصراع الداخلي الذي عاشه الشخص المسيحي في عهد الإمبراطورية الرومانية، ذلكم أن تدرج القيم كان يتأسس انطلاقا من هذا الصراع، انطلاقا من تمجيد المقاومة الأخلاقية للفرد المسيحي ضد السياسة الإمبراطورية القائمة آنذاك، لأن السيد المسيح أسس حركة دينية أخلاقية، وليس حركة سياسية لمواطنين يسعون إلى تأسيس مجتمع المواطنة على الأرض.
ما أرويه ليس حكاية بلا أهمية بالنسبة لموضوعنا، لأن تشكل ثقافتنا من الروح المسيحية طوال قرون ظل هكذا حتى بالنسبة لعالمنا اليوم الذي يعتبر على العموم علمانيا ودنيويا، وحيث يتغلب الفصل بين الدين والدولة. هذا الفهم الديني للعلاقة بين الأخلاق والسياسة يعود إلى الظهور دوما في كثير من القضايا العمومية المثارة، هكذا في موضوع الإجهاض، موضوع نقل الأعضاء البشرية، وفي كل الحالات المتعلقة بالبيولوجية الأخلاقية، لأن الكثير من الناس مازالوا يفكرون، عند الحديث عن العلاقة بين الأخلاق والسياسة، مثل ذلك المترجم الإسباني للأخلاق النيقوماخية.
 
* * *
*abdelhafid
6 - أكتوبر - 2008
الإيطيقا وفلسفة السياسة (تتمة )    كن أول من يقيّم
 
3. قدماء ومحدثون:
السؤال المثار الآن هو: هل بإمكان المرء أن يبقى أرسطيا، وهو يقوم بإجراء هذه المقارنة التفضيلية بين الأخلاق والسياسة، دون أن يبدو قديما؟.
لعل القول إن الإنسان حيوان سياسي يعني في مدلوله الأصلي، أن يكون جزء من نوع اجتماعي يتمتع بالعقل، والقدرة على الاندماج في مجموع يغتني أعضاؤه روحيا وذاتيا عبر التواصل الاجتماعي، ويحسون أنهم ملزمون بالمشاركة، بكيفية فعالة، في تسيير الشأن العام من أجل إدراك الفضائل والسعادة الشخصية.
بيد أن أعمال المؤرخين المعاصرين أوضحت أن هذا المفهوم النبيل للسياسة لم يتطابق دوما مع ما كان يحدث فعلا في الدولة اليونانية. وفوق هذا، كان الغنى الروحي والشخصي للمواطنين المشاركين في السياسة، يتأسس على تقسيم اجتماعي صارم للعمل، وعلى وجود العبودية.
هناك كلام كثير يمكن قوله عن التوجه السياسي لسقراط، لكن بدون الدخول في مناقشة هذا الأمر، فإن ما كتبه أفلاطون يجعلنا نفكر بأن واقع المشاركة السياسية في أثينا كان أفقر مما اقترحه المفهوم اليوناني النبيل للسياسة.
هذه هي الحقيقة الأولى التي ينبغي ذكرها حتى لا ينخدع أحد. فالعمل السياسي ربما كان منذ بدايته الكلاسيكية نشاطا يطبعه التناقض الداخلي، حيث تتنافس الفضيلة، والنزاهة، والعقل، وحسن التواصل مع الأنانية، والفساد، والشر، والكراهية. لقد اعتاد المنشدون "الخورس" في تراجيديا سوفوكليس على تقديم هذا التحذير: دليل قيمة الإنسان يُستنتج من طبيعة علاقته بالسلطة، نعرف بالضيط ما يساويه الشخص لما نراه يسلك سياسيا كمشرع.
كان أرسطو يعرف هذا جيدا، بحيث أن مفهومه النبيل للسياسة ينبغي قراءته كخطاب عقلاني ينطبق تقريبا على ما يلي: رغم التناقض الداخلي للممارسة العملية للمواطنين، من المفيد لنا أن نشارك في المهام السياسية، لأن هذا يجعلنا أفضل، نحن الذين لنا حق المواطنة، وإذا حاولنا عقد مقارنة فإن المشاركة في مهام السياسة، هي ثقافيا وروحيا، ترضي النفس أكثر مما إذا تركناها في يد طاغية أو أو ليغارشية، كما يجري ربما يسبب الارتياب من السياسة في أماكن أخرى.
ومع هذا فإن أعمال المؤرخين المعاصرين تسجل أربعة تحفظات على المفهوم النبيل للسياسة.
إن الفرد المسمى نيقوماخية، أو جوردي، أو فيكتوريا، يمكن ألا يعي أنه ينتمي حقيقة إلى مجتمع سياسي أو مدني.
قد يدخل في مناقشة مع الآخرين حول ماذا يعني أن يكون كائنا سياسيا في لحظة تاريخية معينة، ولكن تبقى لديه شكوك حول إن كان هذا الحيوان السياسي متطابقا في أثينا وإسبارطة.
يمكن في بعض الشروط ألا يسلك كحيوان سياسي، وهذا ليس بسبب أنه يجهل انتماءه للكائنات العاقلة، ولا بسبب التهاون، وإنما لعدم اقتناعه بأن الفضيلة وسعادة الأفراد تدركان بممارسة السياسة.
قد يعبر عن اشمئزازه من الطريقة المعتادة في العمل السياسي سواء في بلده أو في عالمه، ومن ثم يحاول تغييرها اقتناعا منه بأنه حيوان سياسي، لكن فضيلته وسعادته تدركان هنا بالأسلوب أو بالكيفية التي تتخذها مشاركته المدنية في القضايا العمومية.
ما يقال في النقطة الأولى يتخذ أحيانا طابعا إشكاليا حينما نبرهن بأنه يوجد أفراد يتجنبون العمل السياسي لا بسبب أنهم يجهلون انتماءهم إلى نوع الحيوان السياسي، بل لأنهم بفضل هذا الجهل يعيشون فضلاء وسعداء.
علينا أن نسجل أن مقابلة سعادة شخص بالابتعاد عن السياسة، أو العيش على الهامش، أمر غير بعيد عن ثقافتنا التي تطابق المشاركةَ السياسية بشرور السلطة، والسذاجةَ تجاه الأشياء بالخير والسعادة.
الحجة المتضمنة في النقطة الثانية لا تنفي بوجه عام المفهوم النبيل للمشاركة السياسية، لكنها تتطلب بعض التدقيقات. إن سلبية الفرد تجاه العمل السياسي لا تعود إلى جهله، وإنما إلى عدم اقتناعه بأن السياسة تقود إلى السعادة والفضيلة. وهذا السلوك يمثل بالطبع لحظات اليأس في تاريخ الإنسانية، ففي تلك اللحظات لا يمثل رفاق العمل السياسي سعادة المواطن فقط، وإنما يمثلون كذلك القوة والموت الناتجين عن المواجهة بين حقوق يراد لها أن تكون متساوية. حينئذ يتحول العقل إلى ديماغوجية، ويقرر ممارسة العنف، فتبرز أمام هذه الظواهر فكرة الابتعاد عن السياسة.
ظهر في العصر الحديث نموذجان في رفض السياسة؛ وهما النموذج الديني، والنموذج الجمالي، وفي كلتا الحالتين كان لدى الفرد يقين بـأن الفضيلة والسعادة لا تدركان عبر المشاركة في تدبير شؤون المدينة، وإنما بهجر السياسة إلى الدين وتهذيب العواطف. هناك في الحداثة نموذج أو أسلوب ثالث في الابتعاد عن السياسة، وهو اللجوء إلى جزيرة أو مكان بعيد، ليس احتجاجا على الحياة السياسية، وإنما لممارسة حياة فردانية إيجابية على المستوى الأدبي والاقتصادي،لأن في الجزيرة يمكن أن يفعل تقريبا، وربما بصوره أفضل، ما تفعله الأكثرية في المجتمع القائم.
خلافا للآخرين الذين يرون في هذه النماذج قضاءً على طبيعة الإنسان الاجتماعية، وإلغاءً لجزء من شخصيته عبر الطريق الصوفي والعدمية، أعتقد بوجود نوع من العدمية الإيجابية، وهي تعكس عندنا منذ القرن 19 ابتذال الفرد في حياة سياسية مشوهة. كما أن الانسحاب الديني أو الجمالي من النشاط السياسي هو انسحاب مؤقت، ولا يمكن أن ينهض بديلا للنموذج الأرسطي، فعندما يبدأ الطوفان تمارس السياسة في الأديرة. وأعتبر الآن أن الانسحاب الجمالي التام يتلاشى اليوم بسهولة أمام ضغوط وسائل الاتصال القادرة على إدماج الملايين من غير المتسيسين. يحصل عادة بأن انسحابا تاما من هذا النوع – وقد ظهر في العصر الحديث احتجاجا واعيا على اللاتسامح، وتحويل الإنسان إلى شخص ذي بعد واحد- ينتهي بتحوله، بلا شك، إلى نوع من السذاجة السياسية غير المقصودة.
يبقى، إذن، الوعي التاريخي والرؤية التراجيدية للسياسة المعاصرة المعبر عنهما في النقطة الرابعة. إن النشاط السياسي، كما تقول هذه النقطة، ليس ملتبسا ومتناقضا فقط، بل صار، في غمرة احتكاكه اليومي بالواقع، وتدخله في كل تفاصيل حياة الأفراد، يختصر كل مرة في السلطة. فالسياسة هي السلطة، والسلطة هي المنصب في الدولة، والدولة غدت تتحول كل مرة إلى مراقب ومنظم لحياة الأفراد، بالإضافة إلى وصي.
خيبة الأمل، التي هي صفة ملازمة للإنسان المعاصر، جاءته من اعتقاده بأن الذين يشاركون في محاصرة الشر المتولد عن اللعبة السياسية قليلون. هذا هو الدرس الذي كان علينا أن نتعلمه في القرن العشرين، فما سمي بسياسة الجماهير، والمشاركة المكثفة للمواطنين في السياسة، التي بدأت في تزايد منذ السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، انتهت في الوقت الراهن بأفعال وحشية: معسكرات الاعتقال النازية، وحشية القنابل على هيروشيما وفيتنام وبغداد.
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها، هي أنه ينبغي وضع المفهوم الأرسطي النبيل للسياسة في سياقه، فلا يكفي مطلقا أن يشارك بكثافة أناس أكثر في الحياة السياسية، وفي مهام الديمقراطية، لأن مدننا ودولنا لها بُعْدٌ لا يتطابق معه النموذج الأرسطي الذي صيغ لمدينة/دولة صغيرة، وعدد محصور من السكان. لهذا يتوجب التفكير مرتين عند الحديث عن المشاركة والتدبير في الديمقراطيات الحديثة.
لدى مناقشته العلاقة بين الأخلاق والسياسة، ميز Aranguren بين أربعة نماذج ممكنة في الحداثة للتفكير في هذه العلاقة:
- السياسة الواقعية، حيث يعتبر مهنيوها الأخلاق مثالية سلبية، وتدخلها في السياسة أمرا مقلقا.
- رفض الفعل السياسي باعتباره شرا غير قابل للإصلاح، وذلك بحجة أن الأسبقية للأخلاق.
- المفهوم التراجيدي الذي يقتضي أن تتعايش الأخلاق والسياسة مع انشطار الفرد وتمزقه بين المطلب الأخلاقي وعدم القدرة على تجنب السياسة.
- المفهوم الدرامي لإشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة، بوصفها بحثا مستمرا، وتوترا دائما، ونقدا ذاتيا لا يرحم.
إلا أن Aranguren انتتقد بوضوح النموذجين الأولين، ومالبشكل إيجابي إلى النموذجين الأخيرين. وأنا أتفق مع هذا التوصيف للأشياء، لكني أريد أن أضيف أننا، بمجرد انغماسنا في السياسة، ننتبه إلى أن هذا الاختلاف بين المفهومين التراجيدي والدرامي ينمحي بالتمام بالنسبة للمثقف الواعي بما تعنيه السياسة، واليقظ في الوقت ذاته تجاه الأخلاق. والتجربة المعيشة توضح أنه إذا كان بين السياسة الواقعية والأخلاقيات تعارض جذري،فإن المفهومين التراجيدي والدرامي ليسا صيغتين متحجرتين لفهم علاقة الأخلاق بالسياسة، بل هما نَبْرتان لإشكالية باطنية تتغيران تاريخيا في حياة الإنسان الواحد.فلا وجود لحدود بين العيش التراجيدي والعيش الدرامي للعلاقة بين الأخلاق والسياسة، فالبحث المستمر، والتوتر الدائم، والنقد الذاتي الذي لا يرحم، ترتبط عادة بانشطار الفرد وتمزقه. ولهذا، فإن فضاء الفصل بين التراجيدي والدرامي يصير شفافا.
 
* * *
خلاصـة
في التفكير حول المسائل المنهجية، توصلنا إلى نتائج نريد تلخيصها في ما يلي:
الإيطيقا (أو علم الأخلاق) نظرية حول سلوك الإنسان وتصرفه وقيمه الأخلاقية.
- حيث أن النظريات الإيطيقية هي إنتاجات ثقافية لامتداد اجتماعي، ولكون هذا الامتداد يوجد بدوره مندمجا في امتداد بيولوجي اجتماعي، وفيزيائي بيولوجي، فإنه يبدو ضروريا عند معالجة الإيطيقا أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل البيولوجية، والسوسيولوجية، والسوسيوبيولوجية.
- إن القبول بهذه النقطة كمنطلق لا ينفي الطابع المستقل للتفكير الإيطيقي.
- حيث أن الكائن البشري حيوان سياسي، حيوان مدني واجتماعي، فإن النظريات الإيطيقية غير منفصلة عن التفكير السياسي، ومع ذلك يمكن الفصل بين الإيطيقا والسياسة لأسباب منهجية.
- مثلما أن الإيطيقا تفكير حول السلوكيات الأخلاقية المحددة في قواعد ومعايير، كذلك علم السياسة هو تفكير (فلسفي بالأساس) حول سلوك هذا الحيوان الاجتماعي، المدني، الذي هو الإنسان.
- كما نميز بين الكلمتين: الإيطيقا والأخلاق،يكون من الملائم أن نميز كذلك، على المستوى الإجرائي، بين السياسة بما هي براكسيس أو نشاط، وعلم السياسة بوصفه تفكيرا حول نشاطات الناس السياسية.
- إن الجواب عن السؤال: أيهما أسبق الأخلاق أم السياسة؟ سوف يتوقف على نظرتنا للكائن البشري، أي على الجانب الذي نلح عليه، أ- فإما أن نعتبر الإنسان حيوانا اجتماعيا ومدنيا، ومن ثم يكون كائنا سياسيا. ب- وإما أن نعتبره فردا/شخصا بمسؤوليات وواجبات أمام قوى(ربما متعالية) ليست من النوع السياسي.
- رغم أن اختلاف المفهوم حول الإنسان هو الذي يحدد الفكرة التي نكونها عن العلاقة بين الإيطيقي والسياسي في كثير من مناقشاتنا لموضوعات ملموسة، يبقى هناك على الدوام اعتراض الأخلاق على السياسة، واعتراض السياسة على السلوكيات الأخلاقية ( وغير الأخلاقية).
- ثمة على الأقل أربعة نماذج للتفكير وعيش العلاقة بين الأخلاق والسياسة، وهي:
أ- السياسة الواقعية، وفيها تعتبر الأخلاق مثالية سلبية، وينظر إلى تدخلها في السياسة بعين القلق.
ب-رفض العمل السياسي باعتباره شرا لا يصلح، وذلك بحجة أسبقية الأخلاق وتفوقها.
ج- المفهوم التراجيدي الذي يقضي بأن تتعايش الأخلاق والسياسة مع تمزق الفرد الذي يجد نفسه محاصرا بين المطلب الأخلاقي وعدم القدرة على تجنب العمل السياسي.
د- المفهوم الدرامي لإشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة، باعتبارها بحثا مستمرا، وتوترا دائما، ونقدا ذاتيا لا يرحم.
كل هذه الصيغ، للتفكير وعيش العلاقة بين الإيطيقا والسياسة، يمكن أن تتحقق في حالات الحماس الفردي أو في حالات جماعية متميزة خلال أوقات تاريخية مختلفة. وإذا تجنبنا طرح السؤال: أي صيغة من هذه الصيغ تتغلب على الفرد أو/والجماعة في هذه اللحظة أو تلك؟ سنجد التفكير الإيطيقي حول السلوك الأخلاقي، والتفكير النظري حول الحياة السياسية كانا وسيظلان من خصائص الإنسان. إن الكائن البشري، فوق أنه كائن اجتماعي، هو كائن تاريخي. فلا توجد نماذج أو مقولات ثابتة للجميع من أجل التفكير وعيش العلاقة بين الأخلاق والسياسة.
 
Cuadernos del Norte nº 7
دفاتر الشمال - العدد السابع
1
                         *
مجلة ثقافية تصدر من تطوان - المغرب
*abdelhafid
6 - أكتوبر - 2008
 4  5  6  7