البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 3  4  5  6  7 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تطور الأديان : (2)    كن أول من يقيّم
 
ولا بد من ملاحظة أمرين:
أولهما : أن هيجل يستخدم اصطلاح الدين الطبيعى استخداما خاصا مباينا للاستخدام الشائع فى الفلسفة الحديثة، ولا سيما القرن الثامن عشر؛ حيث كان الدين الطبيعى هو ذلك الدين القائم على العقل والتحرر من كافة المعتقدات الدينية المرتكزة إلى أساس غير عقلانى، ويرفض الأديان السماوية الموحى بها؟
فالعقل من وجهة نظر الدين الطبيعى فى القرن الثامن عشر قادر على معرفة الحقيقة وليس بحاجة إلى أنبياء أو كهنة، واذا كانت هناك مرجعية فهى فحسب مرجعية العقل الذى من حقه التعامل مع الطبيعة بوصفها براعة وفطرة وتحررا، ومن ثم ينبغى أن نفرق بين أديان الطبيعة عند هيجل التى هى أديان المرحلة البدائية فى تاريخ الإنسانية وفى بداية سلم التطور، وبين الدين الطبيعى عند فلاسفة القرن الثامن عشر باعتباره دين العقل والحرية والنقاء، أى قمة التطور والتفكير الدينى، وهيجل نفسه يشير إلى هذا الاختلاف فى المعنى بين استخدامه هو والاستخدام الشائع فى العصور الحديثة لاصطلاح " الدين الطبيعى"([i]).
وثانى الأمرين- أن هيجل متأثر بمفهوم كنط عن الحرية والطبيعة، حيث يرى كنط ان مجال الطبيعة هو مجال الضرورة التى تتعارض بدورها مع مجال الأخلاق الذى هو مجال الحرية. ولذا فإن هيجل اعتبر أن انغماس الروح فى الطبيعة جعلها غير محبوة بالحرية، لأن الطبيعة تقوم على الضرورة والحتمية.


(6) Ibid., p.205.
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (3)    كن أول من يقيّم
 
ديانة السحر المباشر:
  يعد هذا الدين أول صورة من صور الدين فى تاريخ تطور الروح، حيث إنه يمثل أول مرحلة من مراحل الدين الطبيعى([i])، ومن ثم فهو عبارة عن صورة بدائية لعلاقة اللامتناهى بالمتناهى، حيث لا تكاد تتصور ديانة السحر أى انفصال بين الاثنين، فهما فى حالة اختلاط تام، بل لا يكاد يوجد أى نوع من الوعى باللانهائى أو الكلى فى هذا الدين، فكل ما هو موجود جزئى، ولا وجود للروح الخالص الكلى، والموجودات الجزئية موجودة على نحو منفصل لا يربط بينها خيط كل جامع. حتى شعور الإنسان بنفسه وتميزه عن سائر الكائنات لا يكون نتيجة شعوره بكونه موجودا عاقلا كليا، وإنما بوصفه موجودا جزئيا بكل ما فى هذه الجزئية من أنانية ورغبة وغريزة وهوى. ورغم هذا الشعور بالتمايز النسبى، فلا يزال الإنسان ينظر إلى نفسه باعتباره جزءا من الطبيعة.
  ولا يعرف الإنسان الروح الإلهي فى الديانة السحرية إلا باعتبارها قوة قادرة على التدخل فى مجرى الطبيعة وتحويلها لصالح رغباته وأهوائه، أى أنه لا يعرف الروح بوصفها كلية عاقلة ذات انفصال، وإنما هى قوة كامنة فى الطبيعة.
   والاتصال بالروح يكون فى ديانة السحر عن طريق الإرادة السحرية التى تتحقق عبر طقوس وشعائر غاية فى السطحية والفجاجة، وليس عن طريق الصلاة.
ودين السحر لا يكاد يستحق اسم " الدين "، يقول هيجل:
"... أول مرحلة من دين الطبيعة هو دين السحر الذى ربما نعتبره غير جدير باسم الدين "([ii]).
  ولا يزال هذا الشكل البدائي للدين باقيا عند بعض القبائل الأفريقية والاسكيمو. كما أن الرؤية السحرية للعالم لا تزال تسيطر على بعض من اتباع عديد من الديانات التى كانت فى الأصل تحررا من الرؤية السحرية


(7) Ibid., p. 223.
(8) Ibid., p.229-630.
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (4)    كن أول من يقيّم
 
أديان الجوهر:
أ) الديانة الصينية:
لا تزال هذه الديانة ديانة سحرية، طبقا لمحاضرات 1827 م، وإن كانت قد حققت تطورا لهذه الديانة([i]).
ورغم أن هذا التصنيف يفتقد البرهنة الحاسمة فى محاضرات 1824 م، فإن معالجة هيجل فى محاضرات 1827 م تقدمت إلى حد كبير وتجاوزت ما سبق أن قاله فى حاضرات 1824م، حيث تغلبت على تلك النقطة التى كان من الصعب فيها البرهنة على أننا فعلا مازلنا فى مرحلة دين السحر.
ويميز هيجل فى البداية بين ثلاث حالات للديانة الصينية:
الحالة الأولى: الدين الأقدم، دين السماء، وهو دين الدولة للإمبراطورية الصينية.
الحالة الثانية : دين الداو أو الطاو( أي العقل),
الحالة الثالثة : البوذية الصينية التى نشأت فى القرن الأول للميلاد([ii]).
وسنتحدث الآن عن الدين الأول والثانى، على أن نتناول لاحقا الدين الثالث.
وفيما يتعلق بالدين الأول، وهو الدين الأقدم لسلالة تشو الحاكمة، فإن هيجل قد اعتمد على تلك الدراسة الدقيقة للجزويت المسماة" ذكريات متعلقة بالصين " 1776- 1814 م، بالإضافة إلى المجلد السادس من التاريخ الكلى للرحلات 1750 م، وتعرف هيجل من خلال هاتين الدراستين على أن العبادة فى هذا الدين ليست عبادة الإمبراطور، فما هو إلا رمز دينى سام للسماء التى تمثل قوى الطبيعة، بالإضافة إلى كونه مثلا للأخلاقية الراقية([iii]). والسماء تدل على الكلية المجردة وغير المحددة تماما. ونظرا لما في السماء من تجريد، فإن الإمبراطور هو الرمز المشخص المهيمن على الأرض بكل ما فيها من قوى طبيعية وأرواح، وهو وحده المرتبط بالسماء الفارغة، وكل شيء متعين مستمد من الإمبراطور وخاضع لسيطرته المباشرة([iv])، ولهذا السبب فإن هيجل يرى أنها لا تزال ديانة سحرية. ولقد عاد هيجل إلى البيئة الطقسية التى تأسست فيها السلالة الحاكمة الجديدة، بما فيها دور الشن الذى وجه له انتباها خاصا فى محاضرات 1824 م.
ويطلق هيجل على دين الصين القديم: دين الطبيعة، فقوامه تكريم السماء بوصفها قوة عليا، سامية، والخوف منها، وإجلال الأرواح الكائنة فى جميع أنحائها. ولما كان الإمبراطور هو القمة فى هذا الدين، وهو وحده الذى يملك الاتصال مع قوى الطبيعة، وهو المجسد للسلطة والرئيس الأعلى للدولة ولدينها، فإنه هو الوحيد الذي يقدم القرابين فى الأعياد، ويقوم بتقديم الشكر للسماء على وفرة الحصاد، والتضرع إليها التماسا للبركة عند بذر البذور. ويعتقد الصينيون- وفق هيجل- أن السلوك الطيب يرضى السماء، ويجلب البركة، أما السلوك الآثم، فإنه يغضب السماء التى تعاقب مقترفيه بأن تلبسهم لباس الحاجة والفقر.
وإذا كانت العلاقة العامة للإمبراطورية مع السماء متوقفة ومحصورة فى الإمبراطور، فإن هناك مجالا لعلاقة خاصة، إذ يوجد روح حارس لكل مقاطعة، وكل مدينة، وكل جبل، وكل نهر، وتخضع كل تلك الأرواح لإمرة الإمبراطور([v]).
والأخلاق التى يقوم عليها دين الطبيعة الصينى هى التى تبلورت مع كونفوشيوس الذى قام بتقديم وتطوير مذهب أخلاقى اعتمادا على عناصر أخلاقية موجودة فى التاريخ الصينى. وكونفوشيوس معلم أخلاقى وليس فيلسوفا تأمليا من وجهة نظر هيجل([vi]). ويطلق هيجل على هذه الأخلاق: أخلاق الدولة، وهى ذات طابع أبوى بطرياركى، فهناك الواجبات تجاه الإمبراطور، وواجبات الأبناء نحو الآباء، وواجبات الآباء نحو أبنائهم، وواجبات الأشقاء والشقيقات تجاه بعضهم البعض.
ويعتقد هيجل أن فى أخلاقهم نواحى عديدة ممتازة. بيد أنه سرعان ما يوجه لهم انتقادا عنيفا، إذ أنه يرى أن الواجبات الأخلاقية عندهم، ذات طابع صورى شكلى، وهى غير نابعة من شعور حر، داخلى، ولا ترتكز إلى حرية ذاتية، فالجميع بما فيهم العلماء خاضعون للمراقبة ولأوامر ا لإمبراطور.
ولا يقوم هيجل بتوجيه هذا الانتقاد على أساس أنه معبر عن جانب واحد من جوانب تكوين الشعب الصينى، بل أنه يعتبره سمة السمات فى شخصيته.. يقول: " السمة التى يتميز بها هى أنه كان بعيدا عن كل ما يتعلق بالروح، أى عن الأخلاقيات الحرة، الذاتية منها أو الموضوعية، وعن الوجدان وعن الجانب الباطنى للدين..."([vii]).
ويفرع على هذا الحكم العام حكما آخر هو: مبلغ ضآلة الاحترام الذى يكنونه لأنفسهم كأفراد وكبشر بصفة عامة([viii])، وافتقادهم للشعور بالكرامة([ix])، لكنه يناقض هذا الحكم فى موضع آخر عندما يقول: " يمكن أن يقال عن الصينيين أنهم حساسون ضد الإهانة إلى أقصى درجة "([x])، ويدلل هيجل على هذا القول الأخير بأن الشخص منهم قد يلجأ إلى قتل نفسه لكى يدمر خصمه دفاعا عن كرامته!

*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (5)    كن أول من يقيّم
 
أما الديانة الأخرى،فهي الطاو (العقل أو الطريق)، فيعتمد هيجل فى عرضها على ذكريات الجزويت، وذكريات وآراء قابيل راموزا عن لاوتسى([xi]). ويسمى أتباع هذه الديانة بـ " الطاو- سيين "، وهم ليسوا مثقفين أو موظفين، كما أنهم ليسوا مشاركين فى دين الدولة، وغير منتسبين إلى الدين البوذى.
والذى طور هذا الدين، هو لاو- تسى المولود آخر القرن السابع قبل الميلاد، وهو أقدم من كونفوشيوس، ولكنه عاصره فى جزء من حياته. ويذكر هيجل أنه ليس بمؤسس للمذهب، وإنما مطوره([xii]).
وتحتل أعمال لاوتسى مكانا مرموقا عند الصينيين، وإن كانت لا تحظى بالمرجعية التى تحظى بها أعمال كونفوشيوس.
ويحتوى كتاب لاوتسى الرئيسى على جزعين، هما: الطاو- كينج، والطى-كينج. ويشار إليه عادة باسم " طاو- طى- كينج " ،أى كتاب القول والفضيلة. والطاو هو العقل الأصلى الذى خلق العالم والذى يسوسه مثلما يسوس الروح الجسد، ومعناه أيضا: الطريق، المنهج، الجوهر، المبدأ... وإذا ما تم تكثيف كل هذه المعانى فإنها تلتقى فى معنى رمزى ما ورائى يشير إلى الطريق بوجه عام، الاتجاه، مجرى الأشياء وأساس وجود كل شيء([xiii]). ويجب أن يكون الإنسان بدون هوى حتى يمكن أن يتأمله فى بهائه ؛ فالأهواء تجعل الإنسان لا يراه إلا فى نقصه، أى لا يراه إلا محدودا.
أما الطاو- سيين، فيعنى أنصار العقل، وهم يكرسون حياتهم لدراسة العقل، ويؤكدون أن الذى يعرف العقل فى جوهره يملك العلم الكلى، الوسيلة الكلية للخلاص، الفضيلة الكاملة، ومن ثم فإنه يكتسب قوة تفوق الطبيعة، ويكون قادرا على الصعود إلى السماء،وهو يطير عبر الأجواء، ولا يموت أبدا([xiv]).
ويشير هيجل إلى مقطع شهير فى كتاب لاوتسى يثير كثيرا من التساؤلات، ولاسيما من قبل المبشرين المسيحيين، يتحدث فيه لاوتسى عن أن العقل خلق الواحد، والواحد خلق الاثنين، والاثنان خلقا الثلاثة، ولكن الثلاثة خلقت العالم بأسره. ولقد ا عتبر بعض المبشرين هذا المقطع محتويا على مفهوم قريب من مفهوم التثليث المسيحى([xv]).
ويشير إلى هذا المعنى أيضا مقطع آخر ذكره راموزا يقول فيه لاوتسى:" إن ذلك الذى تتدبرونه ولا ترونه يسمىJ، وإن ذلك الذى تسمعونه ولا تفهمونه يسمىCHI ،وذلك الذى تبحث يدكم عنه ولا تستطيع إمساكه يسمى WEI ". أو حسب النص اللاتيني: " إنك تنظره ولا تراه، وباسمه يدعى J،وأن تصيخ السمع ولا تسمعه وباسمه يدعى CHI ،وإنك تسعى وراءه بيدك ولا تبلغه، فاسمه WEI ". ونقرأ بعد قليل- فيما يقول هيجل-: "هذه الأمور الثلاثة لا يمكننا اكتناهها، فهى متحدة ولا تشكل إلا شيئا واحدا، وما هو أرفع منها ليس بأفضل منها، وهو أدنى منها ليس دونها (ليس أشد غموضا)، إنها سلسلة متصلة الحلقات، سلسلة لا نستطيع أن نسميها، وأساسها فى اللاوجود ". وغالبا ما تدور المسألة حول هذه الأمور الثلاثة: " إنه الشكل بلا شكل، الصورة بلا صورة، هو الشكل المطلق، الصورة المطلقة، الوجود الذى لا يوصف، وحين نمضى إلى ما يتجاوز ذلك لا نتعرف إلى أى مبدأ فلا شيء فى العلى "، أو" إنك تسير أمامه فلا ترى رأسه، وتجرى وراءه فلا ترى ظهره " ،وإن ذلك الذى يدرك الشرط الأول القديم للعقل والذى يمكنه أن يعرف ما هو موجود حاليا يمكن القول فيه أنه يملك سلسلة العقل([xvi]).
  ويوضح هيجل فيها أنه ذكر التثليث لأن بعض المبشرين أرادوا أن يروا فيها أصلا لأشكال أخرى من هذا النوع .
ولما كان العدم هو الوجود الأعلى فى الديانة الطاوية، كما إنه كذلك فى ديانة فو، المنتشرتين فى الصين بالإضافة إلى ديانة الدولة التى تنظر إلى الإمبراطور بوصفه الرئيس على للدولة والدين معا، فإن هذا ترتب عليه أن الأفراد أصبح لديهم عن أنفسهم أسوأ مشاعر الذاتية. ومن هنا يرى هيجل أن: " الديانة الصينية لا يمكن أن تكون هى ما نطلق عليه نحن اسم الدين، لأن الدين عندنا هو العمق الداخلى للروح فى ذاتها بأن تتصور الروح نفسها فى ذاتها، أى فى أعمق أعماق جوهرها. وينسحب الإنسان فى هذه المجالات،إذن، من علاقته بالدولة أيضا، ويلجأ إلى عمقه الداخلى ويكون فى هذه الحالة قادرا على انتزاع نفسه من سيطرة الحكومة الدنيوية. لكن الدين فى الصين لا يرتفع إلى هذه الدرجة لأن الإيمان الحقيقى لا يكون ممكنا إلا حينما يكون (وجود) الأفراد فى ذاتهم أنفسهم ولذاتهم. (أعنى حين يكون فى استطاعتهم أن يوجدوا لأنفسهم) مستقلين عن كل سلطة قهرية خارجية. وليس للفرد فى الصين أى جانب من جوانب هذا الاستقلال، ولهذا فهو فى الدين لا استقلال له "([xvii]).


(9) Ibid., p. 253.
(10) Ibid., p. 236.
(11) P. C. Hodgson, Editorial  Introduction to Hegel’s Lectures on the Philosophy of Religion, p.43.
(12) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 237.-8.
(13) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، الجزء الثانى، العالم الشرقى. ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، وراجعه على الأصل الألمانى د، محمود حمدى زقزوق، القاهرة، دار الثقافة، 986 1، ص 86 .
(14) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 246.
(15) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ،2/95.
(16) المصدر السابق، ص 96.
(17) السابق، ص 84.
(18) السابق، ص 82.
 
(19) P. C. Hodgson, Editorial  Introduction to Hegel’s Lectures on the Philosophy of Religion, p.43.
(20) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion,  p.246
(21) Ibid., p.244.
(22) Ibid., p.245.
(23) Ibid., p.246-7.
(24) Hegel, Lectures on the History  of  Philosophy ,pp. 124 ff.
(25) هيجل ،محاضرات في فلسفة التاريخ،2/85.


*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (6)    كن أول من يقيّم
 
ب) الديانة الهندوسية:
  يؤكد هيجل على أن السمة الأساسية للديانة الهندوسية داخلة ضمن تصورات الشرق الكلية. ففى الحدس الشرقي بشكل عام، والحدس الهندوسي بشكل خاص، يوجد عدد كبير من المذاهب الفلسفية والدينية، المؤمنة والملحدة، كلها مشتركة فى قاعدة واحدة بسيطة جدا ؛ حيث يمكن أن نميز فى الديانة الهندوسية المسترسلة فى الخيال- شيئا أخيرا هو البراهما، الذات العليا، العلة الأولى، روح الكون العليا وجوهره، إن البراهما هو الأساس وهو الوحدة العليا، ومن هذا الأساس ينبثق العالم بأسره، ومع ذلك فإنه يمكث فى الألوهة، فى الوحدة مع الألوهة. إن كل شيء صادر عنه، وناشئ منه. وهذه المنتجات هى الآلهة والأبطال والقوى الكلية والتكوينات والظواهر من جهة، وهى الحيوانات والنباتات والطبيعة غير العضوية من جهة ثانية. أما موقع الإنسان فهو الوسط بينها. وليس من الصواب- فى نظر هيجل- اعتبار هذا المعتقد الهندوسى هو النظرية المسيحية فى الخلق أو شئ قريب منه، لأن الكون فى نظر المسيحية هو العالم الحالى، وهذا العالم عادى، لكنه فى نظر الهندوسية إلهى مثل البراهما نفسه. ولذا فإن الهندوسى يؤله بفضل خياله الخصب كل الحاضر لدرجة الإيهام.
   لكن من جهة أخرى فإن الهندوسية تتصور المطلق على أنه الكلى اللامتمايز واللامتعين بالمرة، ويفتقر هذا الغلو فى التجريد إلى مضمون خاص، ولا تقابله أية شخصيةعينية، ومن ثم لا يصلح لأن يصاغ ويقولب من قبل الإدراك ؛ فالبراهما ذلك الإله الأسمى المحايد يفلت من الإدراك الحسي، ولا يمكن التفكير فيه([i]).
  وثمة تعيينات أساسية للبراهما (المحايد)، هى التريمورتى، أى الثالوث الإلهي،
أولها البراهما (المذكر)، ثم الفيشنو وبالأخص فى صورة كريشنا، ثم شيفا أو مَهَديفا، أما الضلع الأول من الثالوث، وهو براهما (المذكر)، فإنه صاحب النشاط المنتج والمنجب، فاطر العالم، كبير الآلهة، الخ. وهو يتميز عن البراهما (المحايد) الكائن الأعلى، أما هو أى براهما المذكر- فهو أول مواليده، لكنه من جهة أخرى يتداخل من جديد مع هذه الألوهية المجردة([ii]).
وإله تريمورتى الثانى هو فشنو أو كريشنا، الذى يحفظ ويصون، والذى يتجسد فى أشكال كثيرة لا حصر لها([iii]).
والثالث، هو شيفا الإله الذى يدمر([iv]).
والتجليات المقابلة لهذه الآلهة الثلاثة لا تقع تحت حصر، وإذا نظر إلى عمومية مدلولاتها فإن نشاطاتها لا متناهية العدد، وبعضها يتعلق بالظواهر الطبيعية، وعلى الأخص العنصرية، وعلى سبيل المثال فإن فشنو يختص بكل ما له صلة بالنار. أما البعض الآخر فعبارة عن أنشطة روحية، علما بأن كلا النوعين من الأنشطة يتداخل ويتراكب بصورة بالغة التنوع.
وفى الواقع أن الإله الثالث فى الثالوث الهندوسى، ليس هو الكلية العينية التى تجمع بين الإلهين الأول والثانى فى المسيحية حسب منظور هيجل، بل هو فقط متمم للإلهين الآخرين، وبدلا من أن يرتد إلى ذاته، لا يتعدى كونه تحولا، تغيرا، تد ميرا.
  ولهذا يذهب هيجل إلى أنه لا مناص من الامتناع عن طلب الحقيقة العليا فى مثل هذه العقيدة التى ما هى إلا تعبير عن خطوات العقل الأولى، وإذا كان فى هذه العقيدة نوع من التلميح إلى التثليث المسيحى، فليس من الجائز اعتمادا على التشابه الرقمى اعتبار هذا التثليث الأصل الأول الذى صدر عنه التثليث المسيحى، لأن الإله الثالث فى الثالوث الهندوسى ليس وحدة مركبة من الإلهين الأولين، كما أنه لا يمثل عودة الجزئي إلى الكلى في لحظة ثالثة هى لحظة الفردية. فضلا عن أن الآلهة الثلاثة ليست متضمنة فى الجوهر وغير مؤثرة فى طبيعته الداخلية، بل هى مجرد ثلاثة تجليات خارجية للجوهر الواحد، ومن ثم فهى لا تمثل وحدة عينية مثل الفكرة الشاملة ومثل وحدة الأقانيم الثلاثة فى المسيحية. وانما هى تجليات متباينة([v]).
والأسلوب الذى يلجأ إليه الهندوسى للقضاء على الهوة القائمة بين المتناهي واللامتناهى، هى الجهاد من أجل التماهي مع هذا الجوهر، وغاية الهندوسى هى الصعود بلا توقف نحو ذلك التجريد الأقصى، وقبل أن يفلح الإنسان فى بلوغ درجته القصوى يكون كل شيء قد تبخر وتلاشى: المضمون العيني ووعيه بذاته على حد سواء. لهذا لا يعرف الهندوسى من تصالح أو تماهٍ مع البراهما، بمعنى أن الروح الإنساني لا يعي هذه الوحدة، وإنما تتحقق الوحدة بالنسبة إليه متى زال كل شيء: وعيه ومضمون العالم ومضمون شخصيته على حد سواء. ويعتبر هذا الفناء- الذي يصل إلى حد غيبوبة الوعي التامة- أسمى حالات الغبطة التى بفضلها يغدو الإنسان قادرا على الوصول إلى الله الأسمى وعلى صيرورته هو نفسه برهمانا.
إن غاية الهندوسى هى التوحد مع الواحد، الارتفاع إلى الوجود كفكر. ويكون الوجود كفكر مباشر لدى طبقة البراهمة باعتبارها أسمى طبقة، وهم يكتسبون ميزة الاتصال بما هو إلهي بفضل مولدهم، وهم أيضا موضع تكريم من الآخرين كبراهمة، كآلهة.
وتوجد طريقة أخرى يسلكها أولئك الذين ينتسبون إلى الطبقات الأخرى لكي يعودوا إلى ذواتهم، تتمثل هذه الطريقة فى إماتة الذات والتخلص من الحياة الخارجية ومن كل حيوية. كما أن هناك من يمكثون مثلا عشر سنوات واقفين فوق قاعدة، ثم يبقون جالسين لأمد مماثل! ويعتني أصدقاؤهم بمأكلهم ومشربهم. وبفضل هذا السلوك الذى يسمى باليوجا يجعل الهندوسى من نفسه فكرا خالصا لا يفكر فى أي شيء. وهذا الفكر هو البراهما ذاته الذي يعتبر الوجود فيه هدفا أعلى للهندوسى. أما الإنسان المستغرق فى الرغبات والحسيات بشكل عام فإنه لا يبلغ هذه المرتبة، ويكون بعد الموت فى حالة جديدة وفق عقيدة التناسخ، فيبقى فى الزمان، فى الوجود التابع، من خلال حالة حيوانية([vi]).
  وهكذا نلاحظ أن الهندوسية- كما يفهمها هيجل- هى دين الوحدة المجردة، دين الجوهر الواحد، وهذا الجوهر مجرد، وغير متعين، وبغير تمييز داخلى؛ ومن ثم فهو لاشكل له، وكل تعيين إنما يتمثل خارجه. ولذا فإنه ليس روحا، لأن الروح كلى متعين، بل إنه هو الذى يعين ذاته بذاته، حيث يخرج من داخله الجزئي بوصفه مبدأ التعين، ثم يعود فيمتص هذا الجزئى- الذى أصبح آخر- فى داخله، حيث يصير هذا الآخر مضمون الكلى بعد أن استرد وحدته، وتصالح فيه الجانب الكلى مع الجانب الجزئي فى شكل جديد هو الفردى.

*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (7)    كن أول من يقيّم
 
(ج) الديانة البوذية واللامية:
تعتبر البوذية واللامية آخر مرحلة من مراحل أديان الجوهر. ولقد اضطرب موقعها فى نسق هيجل الدينى اضطرابا ملحوظا، حيث جعلها تارة قبل الهندوسية، وذلك فى محاضرات 4 82 1 م، و827 1 م، بينما يضعها بعد الهندوسية فى محاضرات 1 83 1 م. ولاشك أن الوضع الأخير هو الصواب إذا أردنا الدقة التاريخية حسب البحوث الأكثر حداثة، لأن البوذية جاءت كرد فعل على الهندوسية، أى إنها لاحقة عليها، ذلك لأن " سيد هارتا" (563- 483 ق. م) مؤسس البوذية، الذى يطلق عليه اسم " بوذا "- أى الرجل المستنير أو الملهم أو اليقظ أو البصير- قد ارتد عن الديانة الهندوسية بسبب فوارقها القبلية المقدسة وطقوسها المعقدة فى عبادة الآلهة والتضحية لها، وسعى إلى التحرر من الألم، بواسطة الكمال الأخلاقى الذى يمكن بلوغه بالانسحاب من الحياة (الانعتاق الجميل)، والانغماس فى النيرفانا. وقد أنكر بوذا وجود الله الخالق، وأنكر أيضا ديانة الفيدا، ولكنه قبل تعاليمها عن دورة الميلاد والممات (السانسارا)، وعن الجزاء (الكرما) التى تشير إلى أن تناسخ الأرواح لا يتوقف على القبيلة التى ينتمى إليها إنسان ما، ولا على التضحيات التى قدمها، وإنما يتوقف على حسنات الإنسان وسيئاته فقط.
إذن فخلاصة الأبحاث الحديثة حول البوذية تكشف عن أن الوضع التاريخى لها هو بعد الهندوسية وليس قبلها. وهذا ما تبينه هيجل فى محاضرات 1831 م، وإن كان لم يتبينه فى محاضرات 1824 و 1827 م.
ونظرا لأن بوذا وضع ديانة بلا إله، فقد نظر إلى الجوهر بوصفه عدما. فالأصل فى الوجود هو العدم، والنهاية كذلك هى العدم. ولهذا فإن المبدأ الأساسى للوجود فى حالة سكون أبدى بلا نشاط أو إرادة، ولا يمكن أن يتغير فى ذاته. والأشياء الموجودة فى العالم ما هى إلا صور فى حالة تغير، وعند تحليلها فإنها تفقد كيفيتها، حيث إن كل الأشياء واحدة فى جوهرها الذى هو العدم([vii]).
ولقد جاءت طريقة الخلاص فى هذه الديانة تبعا لتصورها للجوهر. فلما كان الجوهر هو العدم، فإن الخلاص يكون عن طريق التوحد مع العدم والانعتاق من الوجود- من الحياة بكل مظاهرها: الوعى، العواطف، الإرادة([viii]) .فالسعادة هى فى الاتحاد مع العدم، والتحرر التام من الوجود، ويقترب الإنسان من السعادة القصوى بمقدار تحرره من مظاهر الوجود، بل إن الإنسان يمكنه أن يتحرر من الشيخوخة والموت والمرض عن طريق التأمل والعودة إلى الباطن والوصول إلى حالة النيرفانا، وبوصول الإنسان إلى حالة النيرفانا يكون قد نجح فى عملية التوحد والتحرر من عملية التناسخ([ix]). ومن هنا يطلق على هذه الديانة وصف " الديانة المستغرقة فى ذاتها .
ويشير هيجل إلى أن بوذا يعبد فى الهند بنفس هذا الاسم " بوذا "، وفى الصين تحت اسم " فو Foo. وفى سيلان تحت اسم " جواتاما ". لكن البوذية تأخذ بين التبت والمغول فى وسط أسيا وسيبريا- شكل اللامية، حيث معبودهم يدعى "اللاما". ويفوق عدد أتباع البوذية عدد المسلمين، كما أن عدد المسلمين يفوق عدد المسيحيين([x]).
ويوجد ثلاثة من اللاما، أكثرهم شهرة هو "الدلاى لاما" الموجود فى لهاسا بالتبت، وثانيهم هو "التشو- لاما" الموجود فى تشو- لامبو، ويدعى أيضا بانتشن رينبوتشى، أما الثالث فهو الموجود بجنوب سيبيريا([xi]).
وتعتبر اللامية متطورة عن البوذية، والجانب المشترك بينهما هو وجود علاقة بإنسان ما بوصفه حاملا للوحدة الجوهرية للمطلق، لكن البوذية الأصلية- عند هيجل- تدرك هذه العلاقة على أنها علاقة بإنسان ميت، بينما في اللامية هي علاقة بإنسان حي هو اللاما. لكن هذا لا يعنى الارتباط بما هو جزئي في الإنسان، وإنما الارتباط بما هو كلى فيه، بما هو ماهوى فيه ومعبر عن الوحدة الجوهرية للروح، ومن ثم فإن هذا البوذا أو اللاما يمثل نبع العطاء الروحي، لكن لا يعنى هذا أنه سيد للطبيعة بحيث يمكنه القيام بالسحر والمعجزات، وإنما يعنى فقط أنه متميز عن الطبيعة بكل ما فيها من جزئيات. ومن هنا نفهم كيف أن البوذية، واللامية بوصفها صورة معدلة منها، قضت على الديانة " الشامانية " في منغوليا القائمة علي السحر والمعجزات والشعوذة([xii]).
ولقد انتشرت البوذية فى الصين، والهند، وسيلان، وأنام، وبورما. وأخذت شكل اللامية- كما سبقت الإشارة- عند المغول. لكن هيجل لا يشير إلى تحول الكثيرين من المغول إلى الإسلام بعد غزوهم للعالم الإسلامي، وكيف أنه في الوقت الذى انهزم فيه المسلمون أمامهم، انتصر الإسلام عليهم([xiii]).
   وينبغى ملاحظة أن هيجل رغم وعيه بالفروق والتمييزات الدقيقة داخل الهندوسية،فإنه لم يكن على مستوى الوعى نفسه بالبوذية وفرقها المختلفة، ولم يعرف التيار الإنساني الأصلي داخلها، وهو المعروف بالهنايانا، والذى ينظر إلى البوذا على أنه حكيم لا إله. كما أن معرفة هيجل بالتيار المؤله لبوذا، وهو تيار متأخر، كانت ناقصة إلى حد بعيد. فللبوذية تاريخ طويل، تبدلت فيه عقائدها على مر الزمان، وتنوعت مدارسها تنوعا كبيرا([xiv]).
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (8)    كن أول من يقيّم
 
 أديان التحول من الدين الطبيعى إلى الدين الروحى:
باستعراض الديانة الصينية، والهندوسية، والبوذية واللامية، نكون قد انتهينا من ثاني مرحلة فى تطور الأديان وفق المنظور الهيجلى، وهى تلك المرحلة التى يدعوها هيجل بأديان الجوهر. لكن ليس معنى ذلك أننا قد غادرنا بعد أديان الطبيعة، فنحن لا نزال فيها، لأن أديان الجوهر تمثل فقط الشق الثاني من أديان الطبيعة. لكن الفكرة ستأخذ في التطور وتعمل جاهدة على الخروج من هذه المرحلة إلى مرحلة أديان الفردية الروحية. بيد أنها لا تصل إلى هذه المرحلة مباشرة، وإنما عبر محطة وسطى انتقالية تظهر فيها أديان جديدة تتجلى فيها بعض عناصر الروح بشكل جزئي. وهذه الأديان التي يدعوها هيجل " أديان التحول " تشمل الديانة الزرادشتية، والسورية، والمصرية.
ولا تمثل أديان التحول مرحلة مستقلة تماما عن مرحلة أديان الجوهر،بل هى تابعة لها، إذ ينتمى الاثنان إلى مرحلة أكبر تضمهما معا (بالإضافة إلى ديانة السحر المباشر) هي مرحلة أديان الطبيعة، لكن تتميز أديان التحول بأن الفكرة فيها تحاول الانعتاق من الطبيعة، لكنها لا تنجح فى ذلك نجاحا تاماً حيث يظل مفهوم الجوهر له حضور قوى بجانب ظهور عناصر جديدة روحية فى تصور الإله، ولا تكفى تلك العناصر الروحية الآخذة فى الظهور للحكم بأن الإله أصبح في الوعي الإنساني روحا حقيقيا متعينا، وإنما هو في مرحلة وسط بين الجوهرية والروحية([xv]).


(26) Hegel, Lectures on the History  of  Philosophy ,pp. 138 ff.
    - Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 270 ff.
(27) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 275.
(28) Ibid., p. 277.
(29) Ibid., p. 279.
(30) Ibid., p. 429..
(31) Ibid., p. 383 ff.
(32) Ibid., p. 256.
ومحاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 139.
(33) Ibid., p. 256.
(34) Ibid., p. 253 ff.
(35) Ibid., p. 251.
(36) Ibid., p. 264.
(37) Ibid., p. 265 ff.
(38) انظر: فيليب خورى حتى، تاريخ العرب، ج 2، 635.
(39) د. سرفبالى رادا كرشنا، و د. شارلز مور، الفكر الفلسفى الهندى، ترجمة ندره اليازجى، بيروت، دار اليقظة العربية، 1967، ص 353- 5 35 وما بعدها.
 
(40) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 292 ff.
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (9)    كن أول من يقيّم
 
(1) الديانة الزرادشتية:
تظهر مرحلة البين بين هذه أولا فى ديانة زرادشت (660- 583 ق. م)، ورغم أنها سابقة على البوذية، إلا أن هيجل لا يعبأ بهذا، فالمهم عنده هو تركيب منطقه على تاريخ الأديان، بصرف النظر عن الموضوعية التاريخية.
والديانة الزرادشتية تؤمن بنوع من ثنائية الإلهى: الأول باسم أهورامزدا، وهو الإله المضىء والظاهر فى ذاته، ونقيضه هو أهريمان، أى الظلام، وهو نجس فى ذاته.
ومع أن الإلهى مع الزرادشتية أصبح أكثر تحديدا وتشخيصا عن الإلهى فى الديانات التى ذكرها هيجل من قبل، فإن هذا التشخيص سطحى للغاية من وجهة النظر الهيجلية، فأهورامزدا ليس ذاتا حرة متحررة عن الحس نظير إله اليهود، كما أنه ليس ذاتا روحية وشخصية نظير إله النصارى الذى يُمثَّل كروح واع لذاته ولشخصيته الواقعية، بل يبقى من حيث هو نور غير قابل للانفصال عن الموضوعات الحسية رغم توجيه الابتهالات إليه باسم الملك والقاضى والأكبر...، الخ.
إن أهورامزدا إذن هو كلية جميع أشكال الوجود الخاصة التى يتحقق فيها الإلهى والنقى مع النور والأنوار، لكن هذه الكلية لا تزال غير قادرة على التجرد من الموضوعات التى هى غارقة فيها..، إنها كلية كامنة فى الخصوصى والفردى مثل كمون النوع فى الأجناس والأفراد. نعم إن أهورامزدا من حيث هو هذه الكلية، يحتل مكانة فوق الخصوصى، ويعد هو الأول والأرفع،.. لكنه لا يوجد إلا فى كل ما هو مضيء ونقى، مثلما لا يوجد أهريمان إلا في كل ما هو قاتم، ومظلم، وفان، ومريض..
إن الواقع فى الديانة الزرادشتية- وذلك فى جانبه الخير- ممثل لوجود أهورامزدا.  ذلك أن كل ما هو مصدر للنماء والحياة وكل ما يصون البقاء، متمركز فى النور والطهر والنقاء، وبالتالى فى أهورامزدا،، والحقيقة والحب والعدل، وكل كائن حى، والروح، والغبطة.. إلخ، كل ذلك يعتبره زرادشت مضيئا وإلهيا فى ذاته،. دون تمييز بين ظاهريات الطبيعة وظاهريات الروح، تماما مثلما أن النور والصلاح، الصفات الحسية والروحية، تتطابق و تتداخل فى أهورامزدا ذاته.
ومن ثم يذهب زرادشت إلى أن تجلى الخليقة يعبر عن جوهرية الروح والقوة وجميع أشكال الحركات الحيوية، وذلك بقدر ما تنزع إلى صون ما هو صالح، وإلى إزالة ما هو طالح وضار فى ذاته، على اعتبار أن ما هو واقعى وصالح لدى الناس والحيوانات والنبات ما هو إلا النور، وحسب درجة هذا الضياء وكميته يرتهن تفاوت تجلى أو سطوع ا لأشياء([i]).
لكن مملكة النور لا تستقل وحدها بالعالم عند زرادشت، وإنما تقف على النقيض منها مملكة الظلام، وعلى رأسها أهريمان. وينتمي إليها الشر الروحى والطبيعى، وبصفة عامة كل ما هو هدام وسلبى. غير أنه غير مسموح لأهريمان إله الشر أن يوسع نفوذه ويبسط سلطانه، حيث إن العالم فى مجموعه يسعى إلى تدمير مملكة الظلام وإزالتها نهائيا، وتأمين حضور أهورامزدا وسيطرته على كل مناحي الحياة ([ii]).
ووفق هذا التصور لطبيعة الإلهى، تأتى العبادة فى الزرادشتية، حيث ينبغى على الإنسان أن يكرس حياته كلها من أجل مملكة النور، فيعمل على تطهير جسمه وروحه، وإشاعة الخير حوله، وأن يتعبد بالقول والفكر لأهورامزدا وكل ما هو منبثق عنه، ومحاربة أهريمان وكل نشاط منبثق عنه.
أى أن المجوسى لا يوجه صلواته فقط إلى أهورامزدا، وإنما كذلك إلى جميع ما انبثق عنه تبعا لدرجته ومقامه من الطهارة والصلاح. فبعد الصلاة إلى أهورامزدا يصلى المجوسى إلى " الأمسشسباندات "وهى الانبثاقات الأولى لأهورامزدا والأكثر سطوعا وتجليا، والتى تحيط بعرشه، وتساعده فى حكم العالم.
وتستهدف الصلاة التى توجه إلى تلك الأرواح السماوية- خواصها ومهامها بالتحديد، فإذا كانت من الكواكب، فإن الصلاة توجه إليها فى زمن ظهورها، وترتفع الابتهالات إلى الشمس نهارا، وتختلف طبيعة الابتهالات تبعا لحالة الشمس، من شروق إلى تعامد إلى غروب. ويصلى المجوسى فى فترة الضحى لأهورامزدا فى المقام الأول حتى يزيد من سطوعه وتجليه، وعندما يأتى المساء يصلى توسلا لأهورامزدا من أجل أن تتم الشمس مسارها.
وعندما جاء الإسلام نهى عن الصلاة فى تلك الأوقات درءا للتشبه بالمجوسى وحرصا على التفرد.
كما يوجه المجوس صلواتهم إلى الأرواح الطاهرة من السلف، أيا كان الوطن الذى تستوطنه، وخاصة إلى روح زرادشت، وزعماء المدن والطبقات الاجتماعية..
ويصلى المجوس كذلك إلى " مترا " إله العدل وقاضى الأموات، ومخصب الأرض والصحارى، والمدافع عن السلام ضد عوامل الحرب والصراع.
ويرفعون ابتهالاتهم أيضا إلى مظاهر الطبيعة من حيوانات وأشجار وجبال.. باسم أهورا مزدا، تقديرا لخدماتها للإنسانية.
وتوصى " الزندافستا " بإلحاح على وجوب التمرس على فعل الخير وطهارة الفكر والقول والعمل، والاقتداء بأهورامزدا وكل الأرواح الطيبة، والسعى إلى تطهير الطبيعة، وإشاعة نور الحياة، من خلال الصدقات، وعيادة المرضى، وغرس النبات، وحفر الآبار...الخ([iii]).
إذن فلقد أصبح الإله مع الزرادشتية- حسب هيجل- أكثر تحديدا فهو الخير،على العكس من " براهما " الذى كان بلا تحديد، وعلى عكس الجوهر عند البوذية الذى كان عدما. لكن لا يزال هذا الإله أحادى الجانب، لأن هناك إلها آخر يناقضه هو أهريمان إله الشر. ومع أن كلا منهما ذو بعد شخصي إلا أن مفهوم الشخصية لا يزال هنا- من وجهة نظر هيجل- مفهوما سطحيا، حيث إن نقيض أهورامزدا لم ينبع من داخله، وإنما هو خارج عنه، عكس الإله الكلى المتعين الذى يضع نقيضه من داخله، ثم يتوحد معه فى شكل جديد.
فالكلي فى الزرادشتية له آخر، وهذا عنصر روحي شخصي لا يزال غير كاف لأن هذا الآخر مستقل تماما عن الكلى. ومن هنا يعتبر هيجل إله الزرادشتية بين الجوهرية والروحية، وإن كان ما يزال قريبا أكثر من مرحلة الجوهر، لأن الثنائية الإلهية مفتقدة للوحدة التركيبية. وهذا هو مكمن القصور فى المبدأ الفارسى، إذ إنه لم يتعرف بشكل تام على وحدة التعارض([iv])؛ فالصراع يقع خارج الكلى وليس في داخله، والآخر ليس نابعا منه، بل هو مستقل عنه تمام الاستقلال .


(41) Ibid., p. 304 ff.
(42) Ibid., p. 301, 304, 312 .
(43) هيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، محاضرات فى علم الجمال، ترجمة جورج طرابيشى، بيروت، دار الطليعة، 1986 م، ص  42 وما بعدها.
(44) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 13.
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (10)    كن أول من يقيّم
 
(ب) الديانة السورية:
لم يذكر هيجل الديانة السورية إلا فى محاضرات 1831 م، فى حين أنه تجاهلها أو جهلها فى المخطوطة وفى كل من محاضرات 1824 و 1827 م([i]).
وتمثل الديانة السورية، بوصفها ديانة الألم عند هيجل، مرحلة أكثر تقدما بالقياس للديانة الزرادشتية، لأن الانقسام فيها يقع داخل الكلى ذاته، فالإله يتضمن سلبه، ولا يعد هذا السلب خارجا مستقلا عن الإله. وفى ذلك يتحقق أكثر عناصر الروح أهمية عند هيجل، وهو الانقسام والتمايز داخل الفكرة الإلهية. ويتضح هذا من خلال أهم عقيدتين في تلك الديانة، وهما عقيدتا العنقاء وأدونيس.
فالعنقاء طائر أسطوري يحترق ذاتيا ثم ينبعث مرة أخرى من رماده، أى أنه يتضمن سلبه، ومن ثم تشتمل الفكرة الإلهية فى داخلها على " الآخر "وعبر ذلك "الآخر" تعود مرة أخرى إلى ذاتها([ii]).
أما العقيدة الثانية فهى مبنية على أسطورة أدونيس الذى يموت، ويظل ميتا ثلاثة أيام، ثم يسترد حياته مرة ثانية.
وهنا يبرز مفهوم هام فى المنظور الهيجلى، وهو أن السلب (الموت) كامن فى الإله، وليس متخارجا عنه تماما مثلما كان الأمر مع الديانة الزرادشتية. الأمر الذى يشير إلى نشوء فكرة موت الإله، وهى فكرة عميقة ودليل على تقدم الروح عند هيجل! فبها يتحقق التطور الداخلي للفكرة الإلهية وفق المنظومة الهيجلية، وهى أن الإلهى يتضمن نفيه، والآخر جزء من الذات الإلهية، أو بلغة المنطق: الجزئى كامن فى الكلى، والشقاق بينهما هو شقاق داخلى. ويعتبر هيجل بروز هذا العنصر مؤشرا على ترقى الفكرة الإلهية من مرحلة الجوهر إلى مرحلة أكثر قربا من مفهوم روحانية الإله وشخصانيته!
  وربما يكون من الجلى أن السبب فى أن هذه الديانة تكتسب أهمية خاصة عند هيجل، يرجع إلى أنها تشكل جانبا أساسيا فى تكون العقيدة المطلقة، لأنها تضع البذرة التاريخية لعقيدة موت الإله فى المسيحية، وهى الديانة المطلقة عند هيجل.


(45) P. C. Hodgson, Editorial  Introduction to Hegel’s Lectures on the Philosophy of Religion, p.48-9.
(46) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p.309,314.
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
تطور الأديان : (11)    كن أول من يقيّم
 
ج) الديانة المصرية:
مع الديانة المصرية يكون هيجل قد وصل إلى آخر محطة فى أديان التحول، والنقطة النهائية فى أديان الطبيعة، لأن أديان التحول تمثل الشق الثالث من أديان الطبيعة؛ حيث كانت ديانة السحر تمثل الشق الأول، بينما كانت أديان الجوهر تمثل الشق الثانى.
وهى تمثل المحطة الأخيرة  لأن الروح تجاهد فيها من أجل التحرر من ربقة الطبيعة، وتنزع نحو الوحدة العينية التى توضع فيها الطبيعة فقط بوصفها الأساس لتجلى الروح.
بيد أنها لا تستطيع التحرر الكامل، وإن كانت قد تمكنت من تحقيق تحرر جزئى حيث لم تعد الوحدة بين الطبيعة والروح هى تلك الوحدة الأولية المباشرة مثلما كان الحال بالنسبة للأديان الأقل تطورا، وإنما أصبح هناك مع الديانة المصرية عنصران متناقضان، يكدح أحدهما للتحرر من الآخر، أى أن الروح الغارق فى الطبيعة يكدح من أجل التحرر منها.
ومن ثم تعتبر الديانة المصرية، عند هيجل، ديانة انتقالية من مرحلة أديان الطبيعة إلى مرحلة أديان الفردية ا لروحية، وهى ا ليهودية، واليونانية، والرومانية.
وإذا كان هيجل قد وضع الديانة اليهودية بعد الديانة المصرية فى محاضرات 1827 م، وهذا وضع دقيق، ويتفق مع محاضرات 1824 م، فإن الأمر عاد ليضطرب معه فى محاضرات 1831 م، حيث وضع الديانة المصرية بعد الديانة اليهودية!
الأكثرمن ذلك لفتا للنظر أن هيجل يضع الديانة المصرية- فى كل الأحوال- فى نقطة غير نقطة البداية، مع أن الديانة المصرية، رغم عمقها وتطورها الداخلى، هى أقدم الديانات نظرا لقدم الحضارة المصرية ذاتها.
بالإضافة إلى ذلك، إن هيجل رغم رصده لشيء من التنوع داخل الديانة المصرية،  فإنه لا يشير إلى التقدم والتطور الحادث في تاريخ هذه الديانة ذاتها، فهي ليست ديانة واحدة، وإنما ديانات متعددة تتابعت على مر التاريخ القديم، ولقد بلغ تنوعها درجة التناقض الجذري بالتناظر مع التبدلات السياسية العميقة التي كانت تحدث آنذاك، وأسرع شاهد يتوارد إلى الذهن فى هذا الصدد هو ذلك الصراع بين أخناتون وإلهه آتون من جهة وكهنة آمون من جهة أخرى.
لا شيء يهم هنا مع هيجل إلا إثبات فكرته المسبقة عن انتقال الروح من الشرق إلى الغرب! والديانة المصرية بثرائها وتعددها وقابليتها للتأويل ربما تكون أكثر الديانات التى تسمح لهيجل بتقديم تفسير لها يساعده على إثبات فكرته بصرف النظر عن التتابع التاريخي الواقعي.
فلم يعجز هيجل عن قراءة أفكاره القبلية فى تمثال أبى الهول، فهو الدليل عنده على صحة تلك الأفكار ؛ إذ إنه لغز مبهم يدل على محاولة الروح التحرر من الطبيعة، فنصفه حيوان وهو الجانب الطبيعى، ونصفه الآخر رأس بشرى وهو الجانب الروحى([i]).
ويدل كذلك على محاولة الروح التحرر من الطبيعة عند هيجل أن الأرض عند المصريين منقسمة إلى قسمين: أحدهما مملكة الحياة، وثانيهما مملكة الموت، بل إن الآثار تدل على الفكرة ذاتها من وجهة نظر هيجل، فنصفها فوق الأرض والنصف الآخر تحت الأرض.
ونظرا لأن محاولة تحرر الروح من الطبيعة- حسب القراءة الهيجلية- لم تزل غير ناجحة، فإن الاثنين مازالا متحدين فى الوعى الدينى المصرى، ولذا نرى هيجل يفسر عبادة قدماء المصريين للحيوانات على أنها دليل اتحاد الروحى بالطبيعى، لأن الحيوان يشتمل على دائرتى الطبيعة الحية والروح الغامضة التى لا تزال منغلقة على ذاتها، ولقد تصور قدماء المصريين أن فى عالم الحيوان الشيء الباطن وما هو غير قابل للإدراك، ومن ثم فإن عبادة الحيوان تدلل على ارتباط الروحى والطبيعى، حيث إن الحيوان مشتمل على الجانبين. ولقد تحولت أشكال الحيوانات إلى رموز، فالصقر رمز التنبؤ، وأبيس رمز الفيضان، والخنفساء رمز التوالد والنشوء([ii]).
ويعتبر هيجل عبادة الحيوانات أنقى من عبادة مظاهر الطبيعة للأسباب سالفة الذكر.
ولكن إذا كان قدماء المصريين قد عبدوا مظاهر الطبيعة، فإنهم قد أعطوها معنى روحيا، فالنيل رمز الحياة، والشمس رمز العطاء، وهو ما عبرت عنه أسطورة أوزريس. فأوزوريس كإله يعد جامعا لعناصر الفكرة الثلاثة عند هيجل، فأوزريس الإله الكلى يموت، أي يسلب نفسه ويستخرج نقيضه من داخله. وهنا يتحول إلى الجزئية، ثم يتغلب على الموت، فيسلب هذا النقيض، أى يسلب السلب، ويعود إلى ذاته، حيث يتحدد الكلى مع الجزئى فى الفردى. فإذا كان السلب هو الموت، فإن سلب السلب هو القيامة. وعليه إن الإله أصبح متضمنا فى داخله لسلبه، ومع أن الموت يأتى لأوزريس من الخارج من " تيفون " ([iii])- حسب هيجل- فإنه يعتبره داخلا فى جوهره، لأنه لا يظل خارجيا بالنسبة إليه، وإنما يصبح داخليا عندما يعانى أوزريس الموت.
ويمجد هيجل فكرة الخلود عند المصريين، ويعتبرهم أول مكتشف لخلود الروح الفردية ، ورغم أن هذه الفكرة تعنى أن الروح جوهر منفصل عن الطبيعة، فإن هيجل لا يريد أن يسجل وعى المصريين بهذا الانفصال، بل يمر عليه مرور الكرام، أو بالأحرى غير الكرام، لأنه يصدع قراءته من أساسها والتى يريد أن يؤكد فيها عدم قدرة الروح على التحرر والانفصال عن الطبيعة في الوعي الديني المصري.


(47) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p.313,327,354.
(48) Ibid., p322-3.
(49) تروى تواريخ الأساطير المصرية أن الذى تآمر على قتل أوزريس هو أخوه " ست" ليستولي على عرشه، ولكن إيزيس زوجة أوزريس كانت ساحرة كبرى، نجحت فى أن تلقح نفسها من أوزريس الميت، ثم أنجبت حورس الذي حارب عمه " ست " وانتصر عليه، واسترد العرش السليب. وقد اعتبر المصريون القدماء "ست"  إلها للشر والانتقام، على نقيض أخيه أوزريس إله الخير والمحبة، وكان " ست " هو المعبود القومى للصعيد، وعاصمته أمبوس، وكان حيوانه المقدس كلبا بريا، وكان رمزه القوة والبأس والعواصف والرعود.
*ضياء
16 - سبتمبر - 2008
 3  4  5  6  7