عندما طرحتٌ أهمية البدء من وضع منظومتي الفلسفة والدين داخل سياق التشكل والتطور التاريخي كان هدفي من ذلك إبراز الدور التاريخي في رسم معالم التميز والخصوصية التي تسم التفكير الفلسفي والتفكير الديني كلا على حدة. أعتبر أن الفلسفة ليست مجرد معارف وتصورات ومفاهيم، بل هي طريقة في التفكير تشكلت من داخل الإنتاج الفلسفي...كما أن الدين ليس نصوصا وفتاوى بل هو رؤية عقلية تشكلت عبر الاحتكاك بتلك النصوص.
ما الذي يميز الرؤيتين؟ مثل هذا السؤال لا يمكن مقاربته في اعتباري الشخصي إلا من خلال العودة إلى التاريخ. وبالدرجة الأولى تاريخ الفلسفة. ولكن لا تاريخ الأفكار الفلسفية الخالصة، بل تاريخ الطريقة التي امتزج فيها الإبداع الفلسفي مع طريقة التفكير، أي تاريخ الكيفية التي توحد فيها العقل واللغة، المضمون والأسلوب، الفلسفة والتفلسف.
العودة إلى الأصول
شكل التفكير النظري الفلسفي مع اليونان لحظة انعطاف في تاريخ العقل الإنساني الذي كان, إلى حدود تلك اللحظة, خاضعا لهيمنة التفكير الأسطوري في علاقته النظرية والوجودية بالكون والطبيعة؛ لذلك بدأ أفق التفكير في البحث عن منطق للكون قبل التفكير في منطق العقل الإنساني.
مع بداية القرن السادس قبل الميلاد، دشن فلاسفة ملطية (طاليس وأناكسيمندر وأناكسيمانس) طريقة جديدة في التفكير في الطبيعة تقوم على تفسير الطبيعة بالطبيعة، حيث تشكل كل الموجودات، الآلهة والعالم والإنسان، كونا موحدا ومتجانسا كمظاهر للطبيعة نفسها، كما أن الطرق والكيفيات التي تشكلت وانتظمت بواسطتها هذه الطبيعة يمكن الوصول إليها العقل الإنساني، والتعبير عنها باللغة. لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن الأشياء والظواهر يجب أن تخضع لمبدأ واحد أو محدد يبرر وجودها ويمكن الإنسان من فهمها وتفسيرها وقياسها والتعبير عنها في خطاب فلسفي واضح ومفهوم من طرف الجميع.
إذا كان فلاسفة ملطية قد أرجعوا أشياء الوجود إلى عناصر طبيعية، فإن المدرسة الفيثاغورية ستُدخل عنصرا جديدا في التفكير في الكون، هو عنصر الرياضيات، حيث اعتبر فيثاغور أن الأشياء كلها أعداد. فمن أجل فهم الكون والعالم لابد من معرفة وتبين العدد في الأشياء. وهذه المعرفة هي التي تحقق السيطرة على العالم. وقد أصبحت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. والإعجاب بالرياضيات ـ عند فيثاغور ـ يجد تفسيره في مبدأين:
أولهما وجودي؛ فإذا كان الانسجام أو التناغم بين الأشياء يقتضي وجود نسب محددة فيما بينها، فذلك يدل على أن الأشياء تحاكي الأعداد باعتبارها ماهيات مستقلة ومنطقية في ذاتها وأعم من الموجودات، وبالتالي لها خصائص جوهرية (أعداد كاملة ومتحابة...).
وثانيهما معرفي؛ فإذا كانت خصائص الأعداد القابلة للقياس هي التي تثير إعجاب الذكاء الإنساني، وتحفزه لتعقلها وتأملها، فذلك يقتضي التوسل بالبرهان باعتباره روح الرياضيات، من حيث أنه استدلال استنباطي دقيق قائم على البديهيات؛ ولعل ذلك هو السبب الذي جعل فيثاغور، وتلامذته، ينزعجون من غرابة بعض الأعداد التي لا تقبل القياس المضبوط والصياغة المنطقية، معتبرين ذلك فضيحة عقلية، لأن العقل يجب أن يكون حدسيا في معرفته، منطقيا في تصوراته واستدلالاته، وواضحا في لغته.
وينتج عن المبدأين السابقين أن العدد عقلاني في الواقع، منطقي في ذاته؛ وهو بذلك يشكل مجالا يندرج ضمنه كل شيء في اللوغوس. وبالتالي ستكون الرياضيات هي نموذج الانسجام الأنطلوجي، ومثال اليقين العقلي؛ فإذا كانت الأشياء المادية ناقصة ومتغيرة وزائلة، فإن الأعداد الرياضية هي المعقول الحقيقي الكامل والخالد؛ وتلك فكرة استأنفها أفلاطون، ومازالت سائدة لحد الآن.
إذا كان فيثاغور قد انزعج من التناقض، وعانق فكرة الانسجام، فإن هيرقليطس سيعتبر أن أساس العالم هو التآلف والتوازن بين الأضداد؛ إذ خلف صراع الأضداد الخاضع لحساب مضبوط، يوجد تناغم يشكل جوهر العالم؛ ذلك هو قانون العالم الذي أطلق عليه هيراقبيطس اسم اللوغوس Logos كقوة ناظمة لصيرورة الظواهر، أو كعقل كلي كوني محايث للطبيعة. وعلى العقل الإنساني، الذي هو جزء منه البحث عنه والاحتذاء، وتجسيده في خطاب واضح وصادق. لذلك فالخطاب الصادق هو الذي يدرك اللوغوس ويتطابق معه. ومن لا يدركه لا يعرف ما يقول، ولا يفهم ما يقال؛ ومن هنا تكون الخطابات الكاذبة في مواجهة دائمة مع الخطاب الصادق أما الذي يتكلم بالعقل فهو الذي يعمل من أجل فهم الأشياء أو برازها كما هي.
مع هيرقليطس تحققت وحدة اللوغوس، وحدة الواقع والخطاب في عقلهما (يشير العقل هنا إلى خاصية الفاعلية، أي كون الفاعل يقوم بفعل العقل والتنظيم والتنسيق أو إدراكهما) ومعقوليتهما (تشير المعقولية إلى خاصية المفعولية، أي كون الفاعل قابلا لأن يدرِِك ويفهم ويفسر نظامه وخطابه). ومع هيرقليطس ارتفع الصراع والتباين بين تصور موضوعي للعقل يكون العالم بموجبه معقولا وقابلا للتعبير عنه في خطاب منطقي، وتصور ذاتي يكون العقل بموجبه خطابا بشريا كاشفا وصريحا.
على خلاف هيرقليطس سيؤكد بارمنيديس، بشكل قوي، على الوحدة العضوية بين الفكر والوجود الثابت والواحد، فاليقين العقلي هو المتعلق فقط بإدراك ذلك الوجود، لأن مبادئ العقل مطابقة تماما لوحدة وتجانس الوجود؛ أي أن خطاب العقل ليس مجرد حديث منطوق، بل هو تجل وجودي لحقيقة الوجود؛ أما الخطاب الذي يتحدث عن الكثرة والتغير والتعدد فهو مجرد وهم وظن. إن تصور بارمنيدس يقصي كل نشاط عقلي لا يخضع لمبادئ المنطق الضامنة لليقين والقائمة في الوجود. ويدل ذلك على أن وحدة وتجانس وثبات الوجود خصائص مؤسسة لوحدة وثبات مبادئ العقل، ( وهي المبادئ التي سيبلورها أرسطو فيما بعد ).
مجمل القول، أنه مع هؤلاء الفلاسفة الثلاث، فيثاغور وهيرقليطس وبارمنيدس، تأسس نموذج في التفكير يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق"، الأدوات الأساسية التي يتوسل بها العقل الإنساني في إدراكه لنظام العالم: ففيثاغور جعل من انسجام العدد الطريقة المثالية في التفكير في العالم، وهيرقليطس جعل من صدق الخطاب الوسيلة المثلى للتعبير عن جوهر العالم، وبارمنيدس طابق بين ثبات منطق العقل وثبات نظام الوجود. فكانوا بذلك مؤسسين لتصور فلسفي يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق" أطرا مؤسسة للنشاط العقلي الإنساني. لكن الأفق الذي دشنه هؤلاء، مع أسلافهم الملطيين، كان يسير من الإنسان إلى الكون والطبيعة، دون أن يكون العقل أو الخطاب الإنساني موضوعا للتفكير. ولذلك لما غالا هؤلاء في هذه النزعة المبجلة والتقديسية للطبيعة تمردت الروح اليونانية من خلال ظهور السوفسطائية، التي حولت الشراع والانتباه نحو الطبيعة الداخلية. وهو الاهتمام الذي تمثل بشكل واضح مع سقراط.