البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 1  2  3  4  5 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
نظرية المعرفة عند كنت : الفكرة النفسية السيكولوجية (5 )    كن أول من يقيّم
 
ينفي كنت ، بناء على ما تقدم ، نفياً قاطعاً إمكانية إدراك العقل الإنساني لجوهر الأشياء أو الأشياء في ذاتها ( النومينا ) كما يسميها . وما إدراكنا ل " الأنا " التي هي الذات المفكرة سوى إشارة إلى موضوع الحس الباطن الذي هو موضوع للتجربة وهو في الوقت عينه مركزاً للقبليات السابقة على التجربة ، أي أن معرفتنا به هي قبلية وبعدية ، والتي لا يمكن أن تكون جوهراً بحسب معرفتنا بها ( في هذا نقد لنظرية ديكارت أو الكوجيتو الديكارتي : أنا أفكر إذن أنا موجود ) وأن مسألة خلود النفس هي من المسائل الخارجة على إدراكات العقل ولا تخضع لقوانين التجربة العقلية .
 
 " نحن نسمي إذن جوهر هذا الأنا المفكر ( النفس ) بوصفه الذات التي ينتهي إليها تفكيرنا والتي لا يمكن أبداً أن نتمثلها كمحمول على شيء آخر ، مع ذلك سوف يبقى تصور هذا الجوهر فارغاً تماماً ولا نتيجة منه ، إذا لم يكن في إمكاننا إثبات دوامه .....
 
وإذا كنا نريد إذن أن نستدل من تصور النفس بوصفها جوهراً على دوامها ، فإن نتيجة هذا الإستدلال لا تنطبق على النفس إلا بالنظر إلى التجربة الممكنة ، ولا تنطبق عليها من حيث هي شيء في ذاته خارج عن كل تجربة ممكنة . إن الشرط الذاتي لكل تجاربنا الممكنة هو الحياة ؛ وبالتالي فلا يمكن أن نستنتج إلا دوام النفس في الحياة لأن موت الإنسان هو نهاية كل تجربة بالنسبة إلى النفس موضوع التجربة ، إن لم يثبت لنا العكس وهو بالضبط موضع سؤالنا ........ " ( مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً ص : 158 -159 )
 
*ضياء
4 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : العقل المجرد (6)    كن أول من يقيّم
 
 
يعتقد كنت بأن نزعة العقل الإنساني إلى التفكير بالماورائيات لا يمكن الحد منها أو إيقافها ، غير إن هذا العقل في اندفاعه نحو التفكير الميتافيزيقي يقع في المغالطات ، لذلك ، فإننا لو تمكنا من معرفة كيفية حدوث المعرفة في الذهن الإنساني ، وانطلقنا من حقيقة المنهج العلمي الذي اثبتت نتائجه على أنها صحيحة ، فسيكون بإمكاننا تحديد نهج مماثل للمعرفة المجردة إنطلاقاً من القبليات ( التي أفنى عمره في البحث عنها ) الموجودة في الذهن والتي يمكن مقارنتها بالمسلمات الرياضية . فالذهن في انطلاقته نحو المعرفة : " قد يندفع خارجاً عن دائرته ، إما لكي يتمثل موضوعات التجربة في سلسلة يبلغ امتدادها حداً لا يمكن إدراكه بأية تجربة ، أو حتى لكي يبحث في الخارج عن النومينا التي يمكن أن يربطها العقل بهذه السلسلة والتي يمكن بواسطتها أن تكتمل وظيفة العقل تماماً وقد تحرر أخيراً في هذه المرة من شروط التجربة " ( مقدمة لكل ميتافيزيقا يمكن أن تصير علماً ص : 155 ) .
 
لهذه الغاية وضع كنت ما أسماه بالمنطق الترانسندنتالي وقصد به أن يكون علماً مجرداً وركناً أساسياً من ركن فلسفته النقدية : " يجب أن يكون لدينا منطقاً لا نستبعد منه كل مضمون المعرفة . يجب أن يستبعد هذا المنطق ما له مضمون تجريبي ، ويجب أن يحوي فقط قواعد الفكر الخالص في شيء ما " ( كنط وفلسفته النظرية : د . محمود زيدان ، دار المعارف بمصر 1979 )
 
يتناول المنطق الترانسندنتالي بحثاً في مصدر هذه القواعد والتصورات والمبادىء وحدودها . رأى كنت أنه يوجد لدينا إثنتي عشرة مقولة صنفها في أربعة قوائم هي :
 
1ـ مقولات الكم وتحوي : الوحدة ، الكثرة ، الجملة
2 ـ مقولات الكيف وتحوي : الإثبات ، النفي ، التحديد
3 ـ مقولات العلاقة وتحوي : الجوهر ، العلة ، المعلول
4 ـ مقولات الجهة وتحوي : الإمكان والاستحالة ، الوجود واللاوجود ، الضرورة والحدوث .
 
ويعتقد كنت بأن أرسطو قد أخطأ في اعتبار الزمان والمكان من المقولات وذلك لأنهما لا يصدران عن العقل الفعال وإنما عن القدرات الحسية .
 
ليست التصورات القبلية شرطاً ضرورياً لاستقبالنا الحدس الحسي ، لكنها شرط ضروري للإدراك ، هي شرط للمعرفة وهي شروط قبلية لكننا لا نتمكن من معرفتها إلا بعد التجربة .
 
فالفكر الواعي بحسب كنت ليس نفساً أو روحاً وليس وجوداً على الإطلاق ، إنما هو مجموعة تلك الشروط الضرورية التي تتيح لنا إمكانية الإدراك الحسي وإمكانية المعرفة . وهذه ثورة في عالم المعرفة بل هي " ثورة كوبرنيكية " كما أسماها .
 
 
*ضياء
7 - فبراير - 2008
قضايا في الدين والفكر..    كن أول من يقيّم
 
 
في قضايا الفكر والدين... محمد عابد الجابري. حوار مع مجلة مقدمات المغربية. أجرى الحوار: محمد الصغير جنجار. مقدمات:
بنيتم مشروعكم الفكري من خلال نقد الخطابات ...
 
*abdelhafid
9 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : الثورة الكوبرنيكية وتعيين حدود العقل المجرد(7)    كن أول من يقيّم
 
 
سنعود لتحديد مفهوم المعرفة : المعرفة هي عملية التركيب التي تحدث في الذهن بين معطيات الحس والتجربة والصورة التي تتولد عنها في الذهن البشري .
 
المادة هي موضوع المعطى الحسي .
 
الصورة هي مادة الفكر التي ولدت في الذهن نتيجة عملية التركيب بين المعطى الحسي وما أضافه الذهن بواسطة التصورات القبلية .( هذا يشبه تصور أرسطو للكون الذي هو مكون من هيولى وصورة ) .
 
يلخص كنت نظريته هذه في كتابه " نقد العقل الخالص " بمقولة شهيرة هي : " أن كل مفهوم بلا معطيات حسية هو مفهوم فارغ ، وأن كل معطى حسي بلا مفهوم فهو أعمى "
 
فالمعطيات الحسية هي إمدادات حقيقية تأتينا من العالم الخارجي ، العالم الواقعي المحسوس ، وهي ليست مجرد أوهام أو خيالات من نسج العقل . لكن مهمة نقد المعرفة هو الفصل بين ما يرد إلينا من الخارج ، وما نضفيه على المعطيات الحسية بواسطة ما لدينا من صور قبلية سابقة على التجربة . والمكان والزمان هما صورتان قبليتان تضيفهما القوة الحاسة على كل المعطيات الواردة إليها من الخارج ودون أن يكون لديهما أدنى وجود واقعي في الخارج . نحن ندرك إذن الأشياء الخاضعة لهذين الشرطين الأوليين السابقين لكل تجربة ولا ندرك كل ما يقع خارجهما . ومن هذا المنطلق ذاته يستبعد كنت كل معرفة للشيء بذاته ، أي للجوهر ، فالعقل الإنساني بشروط إدراكاته لا يمكنه معرفة المطلق واللامتناهي .
 
العقل الإنساني معد لمعرفة ومواجهة العالم الخارجي فقط . عند قيامه بهذه المهمة ، يكون العقل الإنساني مسلحاً بالمقولات الإثنتي عشرة التي تنظم معطيات الإدراك الحسي . هذا التلازم بين الحسي وتصورات العقل القبلية هو من طبيعة العقل البشري . هذا المفهوم خطير جداً لأنه يقلب مفهوم الذاتية رأساً على عقب : مقولات العقل البشري الأولية هي كلية وموضوعية ( هي واحدة إذن لدى جميع البشر ) المتغير هو : موضوع التجربة والإدراكات الحسية الواردة من العالم الخارجي .
 
هذه هي الثورة الكوبرنيكية التي جاء بها كنت والتي غيرت مفهوم الصراع الوجودي فكنت لا يهتم بالتاريخ ولا بالتقاليد أو الانتماء التي هي كما يقول : " ذات مسار عبثي لا حكمة فيه " بل هو يراهن على العالمية ضد الهوية ، وعلى المدنية ضد القوميات ، وعلى العقل البشري مرجعاً لقيم الإنسان الأخلاقية ضد اللاهوت والميتافيزيقا .
 
*ضياء
11 - فبراير - 2008
نظرية المعرفة عند كنت : النقد كمشروع فلسفي لا يكتمل (8)    كن أول من يقيّم
 
 
" أعلن كنت أن العقل في جانبه النظري البرهاني عاجز عن إثبات جوهرية النفس ثم بساطة هذا الجوهر وخلوده ؛ عاجز عن تحديد موقفه من الأسئلة التي يطرحها العقل الخالص فيما يتعلق بأصل الكون ونشأته وحدوده ؛ عاجز عن إثبات وجود الله . ثم أعلن أن الميتافيزيقا النظرية مستحيلة ؛ إنها وهم وخداع ؛ إنها ميتافيزيقات كاذبة ، وبل ومتناقضة . لم ؟ لأن الميتافيزيقا علم قبلي ، وكل ما هو قبلي يتضمن الضرورة المطلقة ومن ثم ينبغي أن تكون القضايا الميتافيزيقية يقينية . ومن جهة أخرى لم يسع الميتافيزيقيون إلى الإتيان بقضايا قبلية لا تثبت وجوداً ، وإنما مسعاهم الأساسي أن تثبت هذه القضايا وجوداً خارجاً على معاني هذه القضايا ، ومن ثم فالقضايا الميتافيزيقية تركيبية قبلية وليست قبلية خالصة . لكن تبين لكنت ومن خلال رحلته الشاقة الطويلة في نقد العقل الخالص أن العقل البرهاني لا يستطيع أن يثبت وجود كائنات كالنفس والله أو وجود معان كالخلود والحرية والعلة الأولى المطلقة ، لا يستطيع أن يثبت هذه أو تلك من مجرد فكرة إلى إثبات وجود واقعي يطابق هذه الفكرة انتقال غير مشروع . ينتهي كنت من ذلك إلى إعلانه بأنه يجب أن نضع حداً لكل الميتافيزيقات النظرية السابقة " السوفسطائية " " التوكيدية " و" المدرسية " وذلك بفضل " منهجه النقدي " . " ( كنط وفلسفته النقدية ، د. محمود زيدان ، دار المعارف الطبعة الثالثة 1979 : ص 348 ) .
 
يتلخص مشروع كنت النقدي بتفكيكه أدوات المعرفة وإيمانه بقدرة العقل على نقد ذاته ، وتدور مجمل فلسفته على معرفة كيف تتم عملية المعرفة في الذهن البشري وما هي شروطها القبلية أي أنها معرفة بالمعرفة . هذا يعني بأن فلسفته قد وضعت العقل بمواجهة نفسه ، فهو يساءل أدواته ويحاكمها وينقدها ، وهذه المعرفة بالمعرفة وأدواتها لا تتكشف لنا إلا عن طريق التجربة ، أي أنها عملية مستمرة تكشف عنها في كل مرة تجارب جديدة . وأما موضوعات الميتافيزيقا أو الحقائق المتعالية فهي إتجاه وتوجه لكن المعرفة بها لا يمكن أن تتحقق بالتجربة التي هي في حدود إمكانات العقل الإنساني . من هنا حصر موضوعات الميتافيزيقا بموضوعي : الطبيعة والحرية .
 
" ومذ عرفت النقد وأنا لا يمكن أن أكف عن التساؤل في كل مرة أطالع فيها كتاباً يثير إعجابي في الميتافيزيقا بدقة تصوراته وتنوعها وحسن ترتيبها وسهولة عرضها ، كما اتثقف بالمعلومات التي يقدمها إلي ، فأسأل نفسي : هل ساعد هذا المؤلف حقاً على تقدم الميتافيزيقا خطوة واحدة ؟ .......
 
لا أظن في عصر يسود فيه النظر والتأمل مثل عصرنا هذا ألا يستفيد ذوو الفضل ، وهم كثيرون ، من كل فرصة طيبة تتاح لهم لكي يساهموا ويعاونوا في تحقيق المصلحة المشتركة بالعمل على تقدم العقل تقدماً مستمراً نحو النور ، بشرط أن يكون هناك أمل في الوصول بهذه الطريقة إلى الهدف المشود . إن العلم الرياضي والعلم الطبيعي والقوانين والفنون والأخلاق نفسها وهلم جراً ، كلها لا تشبع النفس الإنسانية تماماً إذا يبقى فيها دائماً مكان مخطط للعقل النظري وحده ؛ وهذا الفراغ الذي يسود في النفس هو الذي يدفعنا إلى البحث عن شيء يشغلنا أو عن شخص نتسامر معه عن الخرافات والأباطيل والأحلام الصوفية ، ولكن ليس هذا إلا مجرد مظهر من جانبنا ، إذ أننا لا نبحث في الواقع إلا عن شيء نتلهى به لنسكت نداء العقل الذي يؤرقنا ، هذا العقل المخلص لغايته والذي يطالب بشيء يرضي ذاتهمن غير أن يدفعه ذلك إلى خدمة وجهات نظر أخرى ، أو خدمة ميولنا . ومن أجل هذا فإن الاعتبارات النقدية التي لا تتعلق إلا بنطاق العقل من حيث هو في ذاته ، ومن حيث إن كل المعارف والغايات الأخرى يحب أن تلتقي فيه وأن تتحد فيه بجملتها على أساس ، لها تأثير يجذب بشدة إليها أولئك الذين قد حاولوا أن يتوسعوا فقط في استخدام تصوراتهم ، وفي إمكاني أن أقول أيضاً أن جاذبيتها تفوق بشدة جاذبية أي علم نظري لا نقبل لسهولة أن نستبدله به . وأنا أقدم الآن هذه " المقدمة " كخطة وكخيط موصل في البحث ......
فالنقد يعطي لأحكامنا مقياساً يسمح لها بالتمييز الصحيح بين العلم والتظاهر بالعلم ، وعندما نمارس النقد في الميتافيزيقا بلا قيد أو شرط ، فإننا نكتسب بفضله تفكيراً منهجياً يكون له أثر طيب على استعمال العقل في المجالات الأخرى ، وبذلك فالنقد يلهمنا لأول مرة بالروح الفلسفية الحقيقية .....
( المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً : ما يمكن أن نعمله من أجل تقويم الميتافيزيقا كعلم / إيمانويل كنت ، ترجمة : د . نازلي إسماعيل حسين / دار الكتاب العربي 1968 )
 
 
*ضياء
12 - فبراير - 2008
مفهوم الأخلاق عند كنت (9)     كن أول من يقيّم
 
1ــ الأخلاق استعداد طبيعي :
 
تجد فلسفة كنت الأخلاقية جذورها في تربيته البروتاستنتيه وإعجابه الشديد بمفكري الثورة الفرنسية ولا سيما روسو : تكفي عبارة كهذه للتدليل على مدى تأثره بالنظريات التربوية والأخلاقية التي تشكل منها مناخ الثورة الفرنسية وعصر الإصلاح :
 
On ne trouve pas les principes qui conduisent au mal dans les dispositions naturelles de l'homme. L'unique cause du mal, c'est que la nature n'est pas soumise à des règles. Il n'y a dans l'homme de germe que pour le bien."
Emmanuel KANT, Réflexions sur l'éducation, pp. 80, édition Vrin
 
لا يوجد لدى الإنسان الإستعداد الطبيعي الذي يؤدي إلى عمل الشر ، إن السبب الوحيد للشر هو أن الطبيعة لا تخضع للقوانين . لا يوجد لدى الإنسان بذور إلا للخير .
 
هذه النزعة " القبلية " إلى الخير ، الموجودة كاستعداد طبيعي لدى الجنس البشري ، هي غاية البحث الميتافيزيقي لدى كنت ، وهذه " الطبيعة التي لا تخضع للقوانين " هي جوهر " قانون الأخلاق الذاتية " الذي سوف ينادي به .
 
" أما أن يعدل العقل الإنساني تماماً عن البحوث الميتافيزيقية فهذا ما لا يجب أن ننتظره ، كما أننا لن نفضل الامتناع تماماً عن التنفس على الاستمرار في استنشاق هواء فاسد . وسنجد إذن في كل وقت في هذا العالم ، وفضلاً عن ذلك عند كل إنسان ، وبخاصة عند كل إنسان مفكر ، ميتافيزيقا يفصلها كل واحد لنفسه على مقياسه نظراً لعدم وجود مقياس واحد للجميع .... (ص 212 )
 
واللاهوت الطبيعي تصور من هذا الجنس نجده في نهاية حدود العقل الإنساني الذي يرى نفسه ملتزماً بأن يرفع أنظاره إلى أعلى أي إلى فكرة الكائن الأسمى ( وعلمياً إلى العالم المعقول ) لا من أجل أن يعين أي شيء بالنسبة إلى هذا الكائن المعقول الخالص وإذن أي شيء خارج العالم المحسوس ، بل من أجل أن يوجه استعماله الخاص داخل هذا العالم بحسب المبادىء التي تعمل على تحقيق أكبر وحدة ممكنة له ( نظرية وكذلك عملية ) ؛ ومن أجل أن يستخدم في تحقيق هذه الغاية علاقة هذا العالم بالعقل المتقوم بنفسه كعلة لكل هذه الروابط ، ومن غير أن يبتدع لنفسه كائناً متخيلاً .... ( ص 201 )
 
وعندما أفحص كل الأفكار المتعالية التي يؤلف مجموعها المشكلة الخاصة بالعقل المجرد الطبيعي ، وهي المشكلة التي تلزم العقل بأن يهمل الملاحظة البسيطة للطبيعة وأن يتعالى على كل تجربة ممكنة لكي يحقق بهذه الجهد هذا الشيء ( علماً كان أو سفسطة ) الذي نطلق عليه اسم الميتافيزيقا ، فإني أرى على ما أعتقد أن الغاية من هذا الاستعداد الطبيعي للعقل هي تخليص الفكر من قيود التجربة ومن حدود الملاحظة البسيطة للطبيعة بحيث يرى أمامه مجالاً لا يحتوي إلا على موضوعات الذهن المجرد التي لا يمكن أن تصل إليها القوى الحاسة . وذلك حقاً لا لكي يصبح هذا المجال موضوعاً للنظر العقلي ( فنحن لا نجد فيه الأرضية الصلبة التي يمكن أن نقف عليها ) ، بل لأن المبادىء العملية لا يمكن أن تتصف بالكلية التي لا يستطيع العقل أن يتخلى عنها على الإطلاق من أجل غايته الأخلاقية، إلا إذا وجدت أمامها مثل هذا المجال الذي يحقق لها الأمل والرجاء الضروريين لها .
 
ولقد وجدت عندئذ أن الفكرة السيكولوجية مع القليل الذي نفهمه منها عن الطبيعة الخالصة للنفس الإنسانية التي تسمو على كل التصورات التجريبية تبين لنا بطريقة واضحة على الأقل ، عدم كفاية هذه التصورات ، وتبعدنا هكذا عن المادية على اعتبار أنها وجهة نظر سيكولوجية لا قيمة لها في تفسير الطبيعة الإنسانية ، وتجعل العقل منحصراً في غايته العملية . وهكذا فإن التصورات الكونية " الكوزمولوجية " التي تبين لنا أن المعرفة الممكنة للطبيعة لا تكفي لإرضاء العقل في بحوثه المشروعة ، وتفيد في إبعادنا عن المذهب الطبيعي الذي يجعل الطبيعة مكتفية بذاتها . وأخيراً فلما كانت الضرورة الطبيعية في عالم الحواس هي ضرورة مشروطة دائماً بما أنها تفترض دائماً تتبع أشياء أخرى ، فإن الضرورة اللامشروطة لا توجد إلا في وحدة العلة المتميزة عن العالم المحسوس ، وبناء على ذلك فإذا كانت علية هذه العلة هي بدروها طبيعية فلا يمكن أن تجعل وجود الممكن مفهوماً كنتيجة لها ؛ ولذلك فإن العقل يتحرر بفضل الفكرة اللاهوتية من مذهب القضاء والقدر الذي يفرض ضرورة غاشمة في الطبيعة أي في ارتباطها نفسها من غير مبدأ أول وبحسب علية هذا المبدأ نفسه ، وهكذا تقودنا هذه الفكرة إلى تصور العلة بالحرية بحسب العقل السامي . إن الأفكار المتعالية وإن كانت لا تفيد إذن في تعليمنا بطريقة إيجابية ؛ إلا أنها على الأقل تفيد في استبعاد الأحكام الجزئية التي نجدها في المذهب المادي والطبيعي ومذهب القضاء والقدر ، وهي المذاهب التي تضيق مجال العقل وتجعل مكان الأفكار الأخلاقية خارجاً عن مجال النظر العقلي ، ويبدو في نظري أن ذلك سيفسر لنا بقدر ما هذا الاستعداد الطبيعي . ( ص 205 ) ( المقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علماً )
 
*ضياء
9 - مارس - 2008
دون كيشوت في الفكر الفلسفي المعاصر ..    كن أول من يقيّم
 
 .. محاولة فهم طبيعة الوجود الإنساني المعاصر
عبد العزيز بومسهولي
- دون كيشوت كشخصية مفهومية.
لعل السؤال الذي تتمحور على أساسه هذه المقاربة، هو كالتالي: كيف أصبح سيرفانتيس ملهما للفكر الفلسفي المعاصر، من خلال روايته الإشكالية « دون كيشوت تتمة
                         http://www.alittihad.press.ma/affdetail.asp?codelangue=6&info=73291
*abdelhafid
18 - مايو - 2008
بين الدين والفلسفة...أولا: خلفيات الإشكال...    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
  • يفترض العنوان ـ بين الدين والفلسفة ـ وجود شكل من العلاقة بين منظومتين: يفترض في الأولى أن يكون مصدرها الأول إلهي. وينظر إلى الثانية على أنها نتاج للتفكير الإنساني. هاتان المنظومتان تحيلان بالضرورة إلى نمطين من التفكير، وأسلوبين في الحياة، ونموذجين ثقافيين، وطريقتين في التعبير...ورؤيتين للعالم. ويبدو لي أن الوقوف على هذه التمايزات التي يفرضها التاريخ ـ تاريخ التفكير الفلسفي والتفكير الديني ـ تتطلب العودة إلى الأصول والعوامل التي فرضت هذا النمط أو ذاك...لابد من قراءة الفلسفة والدين في سياقهما التاريخي...فمثلما أن الفلسفة لا تعبر عن عبقرية يونانية خارج التاريخ، فإن الدين يحيل هو نفسه عن أسباب النزول في أصله، وتعدد النوازل في تطور أشكال فهمه...
  • وفي تقديري لابد من العودة إلى تاريخية الفلسفة أولا...
*وحيد
3 - يوليو - 2008
علاقة شديدة التداخل تاريخياً    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
عندما بدأت بكتابة مقدمة هذا الموضوع ، كانت صورته واضحة تمام الوضوح في ذهني ، وكنت أرغب باتباع المنهج التاريخي الذي ذكرته لأنه الأمثل كما لاحظت أنت أيضاً ، بل كنت قد قررت البدء بالكتابة حول نشأة الأسطورة وعلاقتها بالدين والتركيز على أساطير الشرق العربي ـ المتوسطي على اعتبار أنها الخلية الأولى ( فيما يخصنا ) التي اتخذت طابع المنظومة الفكرية المتكاملة وتشكلت حولها النشاطات الإنسانية التي لا ترتبط مباشرة بالمادي ـ المعاش ، بل تتعداه إلى مجالات الروح : كالشعر والسحر والموسيقى والرسم والرقص ... لتتداخل كلها وتتمحور حول فكرة الديني والمقدس . هناك دراسات غنية جداً في هذا المجال للباحث السوري الرائد في مجاله والمتخصص في الأسطورة الأستاذ فراس السواح أعدت قراءة معظمعها بالإضافة إلى كتابات أخرى بالعربية مفيدة لكنها لا تتصف بذات التماسك المنهجي . وكنت أرغب الاستفادة من دراسات أخرى بالفرنسية رائدة في هذا المجال ككتابات ميرسيا إيلياد ومؤلفات فرويد ويونغ ، لأنهي به القسم الأول وليكون مقدمة للانتقال إلى القسم الثاني والذي تخيلت بأنه يجب أن يكون : " الفلسفات الشرقية " ، كل هذا قبل اليونان وقبل أرسطو وأفلاطون وقبل الإسلام والفلسفات الإسلامية وقبل الوصول إلى الصوفية التي هي بنظري النقطة التي اكتملت بها هذه الدائرة . .. لكنني وجدت نفسي أبدأ من مكان آخر قريب جداً زمنياً ، وربما كان هذا بسبب إلحاح الواقع ، أو بسبب أن طموحي اكبر من حجمي بكثير . المهم أننا هنا ، وها أنا قد عرضت وجهة نظري موجزة وهي تقول أشياء كثيرة لأن هذه النقطة التي نقف عليها اليوم هي نقطة تماس بين دائرتين ، وتقع على الخط الزمني الذي يجمع بينهما ، ويمكن ان تتحرك بنا ذهاباً وإياباً ، إلى الخلف وإلى الأمام ، لكننا لا يمكن ان ننتمي إلى المجموعتين إلا إذا بقينا عند هذه النقطة وهذا قاتل ! فكيف العمل ؟

*ضياء
3 - يوليو - 2008
العودة إلى الأصول...التفكير في منطق الكون    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
عندما طرحتٌ أهمية البدء من وضع منظومتي الفلسفة والدين داخل سياق التشكل والتطور التاريخي كان هدفي من ذلك إبراز الدور التاريخي في رسم معالم التميز والخصوصية التي تسم التفكير الفلسفي والتفكير الديني كلا على حدة. أعتبر أن الفلسفة ليست مجرد معارف وتصورات ومفاهيم، بل هي طريقة في التفكير تشكلت من داخل الإنتاج الفلسفي...كما أن الدين ليس نصوصا وفتاوى بل هو رؤية عقلية تشكلت عبر الاحتكاك بتلك النصوص.
      ما الذي يميز الرؤيتين؟ مثل هذا السؤال لا يمكن مقاربته في اعتباري الشخصي إلا من خلال العودة إلى التاريخ. وبالدرجة الأولى تاريخ الفلسفة. ولكن لا تاريخ الأفكار الفلسفية الخالصة، بل تاريخ الطريقة التي امتزج فيها الإبداع الفلسفي مع طريقة التفكير، أي تاريخ الكيفية التي توحد فيها العقل واللغة، المضمون والأسلوب، الفلسفة والتفلسف.
 
العودة إلى الأصول
 
شكل التفكير النظري الفلسفي مع اليونان لحظة انعطاف في تاريخ العقل الإنساني الذي كان, إلى حدود تلك اللحظة, خاضعا لهيمنة التفكير الأسطوري في علاقته النظرية والوجودية بالكون والطبيعة؛ لذلك بدأ أفق التفكير في البحث عن منطق للكون قبل التفكير في منطق العقل الإنساني.
مع بداية القرن السادس قبل الميلاد، دشن فلاسفة ملطية (طاليس وأناكسيمندر وأناكسيمانس) طريقة جديدة في التفكير في الطبيعة تقوم على تفسير الطبيعة بالطبيعة، حيث تشكل كل الموجودات، الآلهة والعالم والإنسان، كونا موحدا ومتجانسا كمظاهر للطبيعة نفسها، كما أن الطرق والكيفيات التي تشكلت وانتظمت بواسطتها هذه الطبيعة يمكن الوصول إليها العقل الإنساني، والتعبير عنها باللغة. لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن الأشياء والظواهر يجب أن تخضع لمبدأ واحد أو محدد يبرر وجودها ويمكن الإنسان من فهمها وتفسيرها وقياسها والتعبير عنها في خطاب فلسفي واضح ومفهوم من طرف الجميع.
إذا كان فلاسفة ملطية قد أرجعوا أشياء الوجود إلى عناصر طبيعية، فإن المدرسة الفيثاغورية ستُدخل عنصرا جديدا في التفكير في الكون، هو عنصر الرياضيات، حيث اعتبر  فيثاغور أن الأشياء كلها أعداد. فمن أجل  فهم الكون  والعالم لابد من معرفة وتبين العدد في الأشياء. وهذه المعرفة هي التي تحقق السيطرة على العالم. وقد أصبحت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. والإعجاب بالرياضيات ـ عند فيثاغور ـ يجد تفسيره في مبدأين:
 أولهما وجودي؛ فإذا كان الانسجام أو التناغم بين الأشياء يقتضي وجود نسب محددة فيما بينها، فذلك يدل على أن الأشياء تحاكي الأعداد باعتبارها ماهيات مستقلة ومنطقية في ذاتها وأعم من الموجودات، وبالتالي لها خصائص جوهرية (أعداد كاملة ومتحابة...).
وثانيهما معرفي؛ فإذا كانت خصائص الأعداد القابلة للقياس هي التي تثير إعجاب الذكاء الإنساني، وتحفزه لتعقلها وتأملها، فذلك يقتضي التوسل بالبرهان باعتباره روح الرياضيات، من حيث أنه استدلال استنباطي دقيق قائم على البديهيات؛ ولعل ذلك هو السبب الذي جعل فيثاغور، وتلامذته، ينزعجون من غرابة بعض الأعداد التي لا تقبل القياس المضبوط والصياغة المنطقية، معتبرين ذلك فضيحة عقلية، لأن العقل يجب أن يكون حدسيا في معرفته، منطقيا في تصوراته واستدلالاته، وواضحا في لغته.
وينتج عن المبدأين السابقين أن العدد عقلاني في الواقع، منطقي في ذاته؛ وهو بذلك يشكل مجالا يندرج ضمنه كل شيء في اللوغوس. وبالتالي ستكون الرياضيات هي نموذج الانسجام الأنطلوجي، ومثال اليقين العقلي؛ فإذا كانت الأشياء المادية ناقصة ومتغيرة وزائلة، فإن الأعداد الرياضية هي المعقول الحقيقي الكامل والخالد؛ وتلك فكرة استأنفها أفلاطون، ومازالت سائدة لحد الآن.
إذا كان فيثاغور قد انزعج من التناقض، وعانق فكرة الانسجام، فإن هيرقليطس سيعتبر أن أساس العالم هو التآلف والتوازن بين الأضداد؛ إذ خلف صراع الأضداد الخاضع لحساب مضبوط، يوجد تناغم يشكل جوهر العالم؛ ذلك هو قانون العالم الذي أطلق عليه هيراقبيطس اسم اللوغوس Logos  كقوة ناظمة لصيرورة الظواهر، أو كعقل كلي كوني محايث للطبيعة. وعلى العقل الإنساني، الذي هو جزء منه البحث عنه والاحتذاء، وتجسيده في خطاب واضح وصادق. لذلك فالخطاب الصادق هو الذي يدرك اللوغوس ويتطابق معه. ومن لا يدركه لا يعرف ما يقول، ولا يفهم ما يقال؛ ومن هنا تكون الخطابات الكاذبة في مواجهة دائمة مع الخطاب الصادق. أما الذي يتكلم بالعقل فهو الذي يعمل من أجل فهم الأشياء أو برازها كما هي.
مع هيرقليطس تحققت وحدة اللوغوس، وحدة الواقع والخطاب في عقلهما (يشير العقل هنا إلى خاصية الفاعلية، أي كون الفاعل يقوم بفعل العقل والتنظيم والتنسيق أو إدراكهما) ومعقوليتهما (تشير المعقولية إلى خاصية المفعولية، أي كون الفاعل قابلا لأن يدرِِك ويفهم ويفسر نظامه وخطابه). ومع هيرقليطس ارتفع الصراع والتباين  بين تصور موضوعي للعقل يكون العالم  بموجبه معقولا وقابلا للتعبير عنه في خطاب منطقي، وتصور ذاتي يكون العقل بموجبه خطابا بشريا كاشفا وصريحا.
على خلاف هيرقليطس سيؤكد  بارمنيديس، بشكل قوي، على الوحدة العضوية بين الفكر والوجود الثابت والواحد، فاليقين العقلي هو المتعلق فقط بإدراك ذلك الوجود، لأن مبادئ العقل مطابقة تماما لوحدة وتجانس الوجود؛ أي أن خطاب العقل ليس مجرد حديث منطوق، بل هو تجل وجودي لحقيقة الوجود؛ أما الخطاب الذي يتحدث عن الكثرة والتغير والتعدد فهو مجرد وهم وظن. إن تصور بارمنيدس يقصي كل نشاط عقلي لا يخضع لمبادئ المنطق الضامنة لليقين والقائمة في الوجود. ويدل ذلك على أن وحدة وتجانس وثبات الوجود خصائص مؤسسة لوحدة وثبات مبادئ العقل، ( وهي المبادئ التي سيبلورها أرسطو فيما بعد ).
مجمل القول، أنه مع هؤلاء الفلاسفة الثلاث، فيثاغور وهيرقليطس وبارمنيدس، تأسس نموذج في التفكير يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق"، الأدوات الأساسية التي يتوسل بها العقل الإنساني في إدراكه لنظام العالم:  ففيثاغور جعل من انسجام العدد الطريقة المثالية في التفكير في العالم،  وهيرقليطس جعل من صدق الخطاب الوسيلة المثلى للتعبير عن جوهر العالم، وبارمنيدس طابق بين ثبات منطق العقل وثبات نظام الوجود. فكانوا بذلك مؤسسين لتصور فلسفي يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق" أطرا مؤسسة للنشاط العقلي الإنساني. لكن الأفق الذي دشنه هؤلاء، مع أسلافهم الملطيين، كان يسير من الإنسان إلى الكون والطبيعة، دون أن يكون العقل أو الخطاب الإنساني موضوعا للتفكير. ولذلك لما غالا هؤلاء في هذه النزعة المبجلة والتقديسية للطبيعة تمردت الروح اليونانية من خلال ظهور السوفسطائية، التي حولت الشراع والانتباه نحو الطبيعة الداخلية. وهو الاهتمام الذي تمثل بشكل واضح مع  سقراط.
      
 
 
*وحيد
6 - يوليو - 2008
 1  2  3  4  5