البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0    قيّم
التقييم :
( من قبل 26 أعضاء )

رأي الوراق :

 عبدالرؤوف النويهى 
5 - مايو - 2007
عشقتُ أدب الدكتور/ طه حسين ،وسعيتُ فى قراءة كل إبداعاته المتنوعة  ، قد نختلف ونتفق فى مدى تأثيره فى مسيرة الأدب العربى ،ولن أنسى_فى لقاء معه _ ما قاله الدكتور / محمد النويهى (أن الدكتور / طه حسين هو أبرز من وعى الشعر العربى فى مختلف عصوره ، وهو الذى مهَد الطريق لمن يجىء بعده ، وفضله على الأجيال لا يُنسى )0
 
 وكثيرا ما أجهدت نفسى ، وطال بى الجهد للعثور على أعماله الأولى ، والتى أثارت الجدل والجدال والنقاش المدوىَ آنذاك ، ومن أعماله المثيرة للجدل حتى الآن ،دراسته الرائدة (فى الشعر الجاهلى )والتى هوجم بسببها وقُدَم  للمحاكمة والتحقيق معه وتم حفظ التحقيق ،بدراسة شافية عميقة ،كتبها رئيس نيابة مصر وقتئذ  _محمد نور 0
 
ومنذ سنوات ،تجرأت  مجلة القاهرة  برئاسة الدكتور غالى شكرى ،والتى توقفت  ، فى نشر كتاب (فى الشعر الجاهلى ) فى طبعته الأولى ، قبل أن يُرغم الدكتور / طه حسين ، على الحذف والتعديل لبعض  طروحاته النقدية وتغيير اسم الكتاب إلى  (فى الأدب الجاهلى )0
 
وسأحاول تقديم هذا الكتاب فى طبعته الأولى سنة 1926م
 
  ربما يُثير  _من جديد _نقاشاً جاداً ،وحواراً راقياً ، وفكراً ناضجاً 0
 
 1  2  3  4 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (11)    كن أول من يقيّم
 
كثر الهجاء إذن واشتد بين قريش والأنصار لما كثرت الحرب واشتدت . وأنت تعلم مقدار حظ العرب من العصبية وحرصهم على الثأر للدماء المسفوكة ، وجدّهم في الدفاع عن الأعراض المنتهكة . فليس غريبا أن تبلغ الضغينة بين هذين الحيين من أهل الحجاز أقصى ما كانت تستطيع أن تبلغه .

ولقد مضت قريش في جهادها بالسنان واللسان والأنفس والأموال ، وأعانها من أعانها من العرب واليهود ، ولكنها لم توفق . وأمست ذات يوم وإذا خيل النبي قد أظلـّت مكة ، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان فإذا هو بين اثنين : إما أن يمضي في المقاومة فتفنى مكة ، وإما أن يصانع ويصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرة أخرى . أسلم أبو سفيان وأسلمت معه قريش ، وتمت للنبي هذه الوحدة العربية ، وألقي الرماد على هذه النار التي كانت متأججة بين قريش والأنصار ، وأصبح الناس جميعا في ظاهر الأمر إخوانا مؤتلفين في الدين .

ولعل النبي لو عمّر بعد فتح مكة زمنا طويلا لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن ، وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخرى ، ولكنه توفى بعد الفتح بقليل ، ولم يضع قاعدة للخلافة ، ولا دستورا لهذه الامة التي جمعها بعد فرقة . فأي غرابة في أن تعود هذه الضغائن إلى الظهور ، وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها ، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد !

وفي الحق أن النبي لم يكد يدع هذه الدنيا حتى اختلف المهاجرون من قريش والأنصار من الأوس والخزرج في الخلافة أين تكون ? ولمن تكون ? وكاد الأمر يفسد بين الفريقين لولا بقية من دين وحزم نفر من قريش ، ولولا أن القوة المادية كانت إذ ذاك إلى قريش . فما هي إلا أن أذعنت الأنصار وقبلوا أن تخرج منهم الإمارة إلى قريش . وظهر أن الأمر قد استقر بين الفريقين ، وأنهم قد أجمعوا على ذلك لا يخالفهم فيه إلا سعد بن عُبادة الأنصاري الذي أبى أن يبايع أبا بكر ، وأن يبايع عمر ، وأن يصلي بصلاة المسلمين ، وأن يحج بحجهم . وظل يمثل المعارضة قوي الشكيمة ماضي العزيمة ، حتى قتل غيلة في بعض أسفاره . قتله الجن فيما يزعم الرواة . وانصرفت قوة قريش والأنصار إلى ما كان من انتقاض العرب على المسلمين أيام أبي بكر ، وإلى ما كان من الفتوح أيام عمر . ولكن المقيمين من أولئك وهؤلاء في مكة والمدينة لم يكونوا يستطيعون أن ينسوا تلك الخصومة العنيفة التي كانت بينهم أيام النبي ، ولا تلك الدماء التي سفكت في الغزوات .

وليس من شك في أن حزم عمر قد حال بين المهاجرين والأنصار ، أو بعبارة أصح : بين قريش والأنصار وبين الفتنة . فالرواة يحدثوننا أن عمر نهى عن رواية الشعر الذي تهاجى به المسلمون والمشركون أيام النبي . وهذه الرواية نفسها تثبت رواية أخرى ، وهي أن قريشا والأنصار تذاكروا ما كان قد هجى به بعضهم بعضا أيام النبي ؛ وكانوا حراصا على روايته يجدون في ذلك من اللذة والشماتة ما لا يشعر به إلا صاحب العصبية القوية إذا وتر أو انتصر .

وقد ذكر الرواة أن عمر مر ذات يوم فإذا حسان في نفر من المسلمين ينشدهم شعرا في مسجد النبي ؛ فأخذ بإذنه وقال : أرغاء كرغاء البعير ? قال حسان : إليك عني يا عمر ، فوالله كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك فيرضى ؛ فمضى عمر وتركه . وفقه هذه الرواية يسير لمن يلاحظ ما قدّمنا من أن الأنصار كانوا موتورين ، وأن عصبيتهم كانت لا تطمئن إلى انصراف الأمر عنهم ، فكانوا يتعزّون بنصرهم للنبي وانتصافهم من قريش وما كان لهم من البلاء قبل موت النبي وما أفادوا بأيديهم وألسنتهم من مجد .

وكان عمر قرشِياً تكره عصبيته أن تـُزدرى قريش ، وتنكر ما أصابها من هزيمة ، وما أشيع عنها من مكر . وكان فوق هذا كله أميرا حازما يريد أن يضبط أمور الرعية ، وأن يؤسس ملك المسلمين على شيء غير العصبية . وقد وفق بعض التوفيق ، ولكنه لم يظفر بكل ما كان يريد .

*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور / طه حسين (12)    كن أول من يقيّم
 
تحدّث الرواة أن عبد الله بن الزّبعرى وضرار بن الخطاب قدِما المدينة أيام عمر فذهبا إلى أبي أحمد بن جحش ، وكان رجلا ضريرا حسن الحديث يألفه الناس ويتحدثون عنده ، قالا جئناك لتدعوا لنا حسان بن ثابت لينشدنا وننشده ؛ قال : هو ما تريدان ، وأرسل إلى حسان فجاء ؛ قال : هذان أخواك قد أقبلا من مكة يريدان أن يسمعاك ويُسمعا لك ؛ قال حسان : إن شئتما فابدءا وإن شئتما بدأت ؛ قالا : بل نبدأ ، فأخذا ينشدانه مما قالت قريش في الأنصار حتى فار وأخذ يغلي كالمرجل ، فلما فرغا استوى كل منهما إلى راحلته ومضيا إلى مكة . وذهب حسان مغضبا إلى عمر وقص عليه الخبر ؛ قال عمر : سأردهما عليك إن شاء الله . ثم أرسل من ردّهما ؛ حتى إذا كانا بين يدي عمر ومعه نفر من أصحاب النبي ، قال لحسان : أنشدهما ما شئت ؛ فأنشدهما حتى اشتفى . وقال عمر بعد ذلك - فيما يحدثنا صاحب الأغاني - : قد كنتُ نهيتكم عن رواية هذا الشعر لأنه يوقظ الضغائن ، فأما إذا أبوا فاكتبوه . وسواء أقال عمر هذا أم لم يقله ، فقد كان الأنصار يكتبون هجاءهم لقريش ويحرصون على أن لا يضيع .

قال ابن سلام : وقد نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية ، فاستكثرت منه في الإسلام . وليس من شك عندي في أنها استكثرت بنوع خاص من هذا الشعر الذي يُهجى فيه الأنصار .

ولما قتل عمر وانتهت الخلافة بعد المشقة إلى عثمان ، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخرى ، فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب ، بل أصبحت في بني أمية خاصة . واشتدت عصبية قريش ، واشتدت عصبية الأمويين ، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب ، وقد هدأت حركة الفتح ، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض . وكان من نتائج ذلك ما تعلم من قتل عثمان وافتراق المسلمين وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية بعد تلك الفتن والحروب .

في ذلك الوقت تغيرت خطة الخليفة السياسية أو بعبارة أدق : فشلت هذه الخطة التي كان يختطها عمر ، وهي منع العرب أن يتذاكروا ما كان بينهم من الضغائن قبل الإسلام . وعاد العرب إلى شر مما كانوا فيه في جاهليتهم من التنافس والتفاخر في جميع الأمصار الإسلامية . ويكفي أن أقص عليك ما كان من تنافس الشعراء من الأنصار وغيرهم عند معاوية ويزيد بن معاوية ، لتعلم إلى أي حد عاد العرب في ذلك الوقت إلى عصبيتهم القديمة .

ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبرنا بأن عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية نكاية في بني أمية . فأما معاوية فاصطنع الحلم كعادته ، وقال لعبد الرحمن : فأين أنت من أختها هند ! وأما يزيد فقد كان صورة لجده أبي سفيان ، كان رجل عصبية وقوة وفتك وسخط على الإسلام وما سنه للناس من سنن ، فأغرى كعب بن جعيْل بهجاء الانصار ؛ فاستعفاه وقال : أتريد أن تردني كافرا بعد إسلام ? فأغرى الأخطل وكان نصرانيا فأجابه وهجا الأنصار هجاءً مقذعا مشهورا .

قلت أن يزيد كان صورة صادقة لجده أبي سفيان ، يؤثر العصبية على كل شيء . وأنت لا تنكر أن يزيد صاحب وقعة الحرّة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة ، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر ، والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة . ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرّة إنه قد قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدراً ، أي من الذين أذلوا قريشاً .

ولستُ في حاجة أن أقص عليك هذه القصة الأخرى التي تمثل لنا عمرو بن العاص وقد ضاق ذرعا بالأنصار حتى كره اسمهم هذا ، وطلب إلى معاوية أن يمحوه ، واضطر النعمان بن بشير وهو الأنصاري الوحيد الذي شايع بني أمية إلى أن يقول :

يا  سعدُ لاتجب الدعاء فما iiلنا نسبٌ نجيب به سوى الأنصارِ
نـسـبٌ تـخيّره الإله iiلقومنا أثـقِـل  به نسبا على iiالكفارِ
إن  الـذيـن ثووا ببدرٍ iiمنكمُ يـوم  الـقليبِ هُمُ وقودُ النارِ

وقد سمع معاوية هذا الشعر فلام عمْرا على تسرعه ليس غير . فلم يكن معاوية أقل بغضا للأنصار وتعصبا لقريش من مشيره عمرو ، أو ولي عهده يزيد . ولكن أصحاب هذه العصبية القرشية كانوا يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا شديدا ، فكان منهم المسرف كيزيد ، المقتصد كمعاوية ، وكام منهم من يتجاوز الاقتصاد في العصبية إلى شيء يشبه العطف على الأنصار والرثاء لهم . ولعل الزبير بن العوام كان من هؤلاء العاطفين على الأنصار الراثين لهم الحافظين لعهدهم والراعين لوصية النبي فيهم ؛ فقد يحدثنا الرواة أنه مر بنفر من المسلمين فإذا فيهم حسان ينشدهم ، وهم غير حافلين بما يقول ؛ فلامهم على ذلك وذكرهم موقع شعر حسان من النبي ؛ وأثر ذلك في نفس حسان فقال يمدحه ? وأحب أن تلتفت إلى أول هذا الشعر ، فهو حسن الدلالة على ما أريد أن أثبته من دخول الحزن على نفوس الانصار لهذا الموقف الجديد الذي وقفته منهم قريش ? :

أقـام  عـلـى عهد النبي iiوهديه حـواريّـه والـقولُ بالفعل iiيعدلُ
أقـام  عـلـى مـنهاجه iiوطريقه يـوالـي ولي الحق والحقُّ iiأعدلُ
هو الفارس المشهور والبطل iiالذي يـصـول  إذا ما كان يوم iiمحجّلُ
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشّها بـأبيضٍ  سباقٍ إلى الموتِ iiيرفلُ
وإن  امـرأ كـانـت صفيّة ُ iiأمّه ومـن أسـد فـي بـيتها iiالمرفّلُ
لـه  مـن رسول الله قربى قريبة ومـن نـصرة الإسلام مجدٌ مؤثلُ
لـكـم  كـربة ذبّ الزبير iiبسيفه عن المصطفى والله يعطي iiفيجزلُ
فـمـا مـثـله فيهم ولا كان iiقبله ولـيـس يكون الدّهر ما دام يذبُلُ
ثـنـاؤك خـير من فعال iiمعاشر وفـعـلـكُ  يابن الهاشمية أفضلُ


فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي وحزنه عليه وأسفه على ما فات الأنصار من موالاة النبي لهم وإنصافهم إياهم . ولكن بقية هذه الأبيات تدعو إلى شيء من الاستطراد لا بأس به ؛ لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيرا ؛ فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قد قصد بها إلى الإلحاح في مدح الزبير وإحصاء مآثره . وقد يظهر أن في آخرها ضعفا لا يلائم قوة أولها .

*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (13)    كن أول من يقيّم
 
وقد روى هذه القصة نفر من آل الزبير ومن أحفاد عبد الله بن الزبير بالدقة . أفتستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدّت هذه الأبيات وطوّلتها وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلى ما كانت تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير على منافسيه أو على منافسي ابنه عبد الله بنوع خاص .

واستطراد آخر لا بأس به ، لأنه يثبت ما نحن فيه أيضا ؛ فقد ذكرت لك ما كان من هجاء الأخطل للأنصار . وهم يتحدثون ? كما رأيت ? أن النعمان بن بشير غضب لهذا الهجاء وأنشد بين يدي معاوية أبياتا نرويها لك ، فسترى فيها مثل ما رأيت في أبيات حسان من أثر هذه العصبية التي تضيف إلى الشعراء ما لم يقولوا . وقد كان النعمان بن بشير في الأنصار يتعصب لقريش ولبني أمية ، أو قل يمالئهم التماسا للنفع عندهم . وقد تحدثوا أنه كان الأنصاري الوحيد الذي شهد صِفـِّين مع معاوية ، كما كان الزبير من هذه القلة القرشية التي كانت تعطف على الأنصار ذكراً لعهد النبي ، أو احتفاظاً بمودة الأنصار ليوم الحاجة . قال النعمان بن بشير لمعاوية :

معاويَ إلا تعطنا الحقّ iiتعترف لحى الأزد مشدودا عليها العمائمُ
أيـشتـمنا عبدُ الأراقم ضَلّة وماذا الذي تجدي عليك الأراقمُ
فـما ليَ ثأرٌ دون قطع iiلسانه فدونك من تُرضيه عنك الدراهمُ
وراعِ  رويدا لا تسُمنا iiدنيّة لعلك في غِبِّ الحوادث نادمُ
مـتى  تلقَ منا عصبة خزرجية أو الأوسَ يوما تخترمك المخارمُ
وتلقاك  خيلٌ كالقطا مستطيرة شماطيط أرسالٌ عليها الشكائمُ
يسوّمها العَمران عمرو بن عامر وعِـمرانُ حتى تستباح iiالمحارمُ
ويبدو  من الخوْد العزيزة iiحجلها وتبيضّ من هول السيوف المقادمُ
فتطلب شعْب الصدع بعد التئامه فـتـغـريه فالآن والأمر iiسالمُ
وإلا  فـثـوبـي لأمة iiتُبّعيّة تواريثُ آبائي وأبيضُ صارمُ
وأسـمـرُ  خطيٌّ كأنّ iiكعوبه نوى القسْب فيها لهْذميٌّ خُثارمُ
فإن كنتَ لم تشهد ببدر وقيعة أذلت قريشا والأنوفُ iiرواغم
فسائل بنا حيّيْ لؤيّ بن iiغالب وأنت بما يخفى من الأمر عالمُ
ألمْ  تتبدّر يوم بدر iiسيوفنا وليلك عما ناب قومكَ قاتمُ
ضربناكُمُ حتى تفرّق جمعكم وطارت أكفٌ منكُمُ iiوجماجمُ
وعادت على البيت الحرام عرائس وأنـت عـلى خوف عليك iiالتمائمُ
وعـضّت قريش بالأنامل iiبِغضَة ومن قبل ما عضّت عليك الأداهمُ
فـكنا لها في كل أمر iiنكيدهُ مكان الشجا والأمرُ فيه تفاقمُ
فما  إن رمى رامٍ فأوهى صفاتنا ولا ضامنا يوما من الدّهر ضائمُ
وإني لأغضي عن أمور كثيرة سترقى  بها يوما إليك iiالسلالمُ
أصانعُ  فيها عبدَ شمسٍ iiوإنني لتلك التي في النفس مني أكاتمُ
فما أنت والأمر الذي لستَ أهلهُ ولـكن وليّ الحق والأمرِ iiهاشمُ
إليهم  يصير الأمرُ بعد شتاته فمن لك بالأمر الذي هو لازمُ
بهم شرّع الله الهدى فاهتدى بهم ومـنـهـم  له هادٍ إمامٌ iiوخاتمُ

فظاهر جدا أن هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير قد حملت على النعمان بن بشير حملا ، حملها عليه الشيعة . ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم فاضطغنوا على قريش مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلى تأييد الحزب المناوئ لبني أمية ، فانضمّوا إلى علي ، فلسنا نشك في أن النعمان بن بشير لم يكن هاشمي المذهب ولا علويّ الرأي ، إنما كان أمويا أو بعبارة أصح : سُفيانيا . فلما أحس انتقال الأمر من آل أبي سفيان إلى مروان بن الحكم تحوّل عن الأمويين إلى إبن الزبير وقتل في ذلك .

فأنت ترى إلى أي حد كانت العصبية قد انتهت بقريش والأنصار . وأنت ترى تأثيرها في الشعر والشعراء . وأن ترى من هذين الاستطرادين كيف استغلت العصبية الزبيرية والهاشمية شعر حسان وشعر النعمان بن بشير لمناهضة خصومها . ولكنني لم أفرغ بعدُ من أمر هذه العصبية بين قريش والأنصار وتأثيرها في الشعر والشعراء ، ولا أريد أن أدع هذه العصبية دون أن أذكر ما كان بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم أخي الخليفة مروان من هذا النضال العنيف الذي لم تبق لنا منه إلا آثار ضئيلة .

والرواة يختلفون في أصل هذه المهاجاة بين هذين الرجلين . وهم مضطرون إلى أن يختلفوا ؛ فقد دخلت العصبية في الرواية أيضا . أما الأنصار فكانوا يتحدثون أن هذين الرجلين كانا صديقين ؛ ولكن عبد الرحمن بن حسان الأنصاري كان يحب امرأة صاحبه القرشيّ ويختلف إليها ؛ فبلغ ذلك صاحبه فراسل امرأة عبد الرحمن بن حسان ؛ وأنبأت هذه زوجها فاحتال حتى حمل امرأة صاحبه على أن تزوره في بيته ؛ وأخفاها في إحدى الحجر ؛ واحتالت امرأته حتى حملت القرشيّ على أن يزورها ؛ فلما استقر به المقام عندها أقبل زوجها فأرادت أن تخفيه فأدخلته في إحدى الحجر ، فإذا هو يرى امرأته ؛ ففسد الأمر بين الصديقين . وأما قريش فكانت تروي القصة نفسها ، ولكنها تعكسها وتظهر صاحبها مظهر الوفي لصديقه بأنه كانت تأتيه رسائل امرأة عبد الرحمن بن حسان فلا يجيبها إلى ما كانت تريد رعاية لحرمة الصديق .

وليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بينهما ، وأن ما يرويه صاحب الأغاني عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء :

كان الصديقان يتصيّدان بأكلب لهما ، فقال القرشيّ لصاحبه :

ازجـر  كلابك إنها iiقَلَطِيّةٌ بُقْعٌ ومثلُ كلابكم لم تصطدِ


فرد عليه حسان :

من كان يأكل من فريسة صيده فـالـتمرُ يغنينا عن iiالمتصيّدِ
إنـا أنـاسٌ ريِّـقـون iiوأمكم كـكـلابكم في الولغ والمتردّدِ
حـزنـاكُمُ للضّبّ iiتحترشونهُ والـريـفُ  يمنعكم بكل iiمهنّدِ


وعظم الشر بين الصديقين منذ ذلك اليوم .
ولعل عبد الرحمن بن حسان قد أحسن تصوير نفسية الأنصار حين قال :

صار  الذليلُ عزيزا والعزيزُ iiبه ذلّ  وصـار فروع الناس أذنابا
إنـي  لـملتمس حتى يبين iiلكم فـيـكم  متى كنتمُ للناس iiأربابا
وفارقوا طلعكم ثم انظروا وسلوا عـنـا  وعنكم قديم العلم أنسابا
*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (14)    كن أول من يقيّم
 
على أن الأمر تجاوز هذين الشاعرين ، فاستعان القرشي بشعراء من مضر وربيعة . ثم تجاوز الأمر الشعر والشعراء وانتهى إلى معاوية ، فأرسل إلى سعيد بن العاصي ، وكان واليه على المدينة ، يأمره بأن يضرب كلا من الشاعرين مائة سوط ، وكان سعيد عطوفا على الأنصار في أيام معاوية كما كان الزبير عطوفا عليهم أيام عمر ؛ وكانت بين سعيد وعبد الرحمن بن حسان مودّة فكره أن يضربه ، وكره أيضا أن يضرب القرشي فعطل أمر معاوية . غير أنه لم يلبث أن ترك ولاية المدينة لمروان بن الحكم الذي أسرع فتعصّب لأخيه وضرب عبد الرحمن بن حسان مائة سوط . هنا ذكر عبد الرحمن بن حسان أن للأنصار سفيرا في الشأم هو النعمان بن بشير فكتب إليه :

ليت  شعري أغائب أنت iiبالشأ م خـلـيـلـي أم راقد iiنعمانُ
أيّـة  ًمـا تكن فقد يرجع iiالغا ئـب يـومـا ويوقظ iiالوسنانُ
إن  عـمْـراً وعـامراً iiأبوينا وحـراما قدما على العهد كانوا
إنـهـم مـانعوك أم قلة iiالكت تـابِ  أم أنت عاتب iiغضبانُ
أم جـفاء أم أعوزتك iiالقراطي س  أم أمـري به عليك iiهوانُ
يـوم  أنبئت أنّ ساقيَ iiرُضّت وأتـتـكـم بـذلـك iiالركبانُ
ثـم قالوا إن ابن عمّك في iiبل وى  أمـورٍ أتـى بها الحدثانُ
فنسيت  الأرحام والودّ iiوالصح بـة  فـيـما أتت به iiالأزمانُ
إنـمـا الـرمـحُ فاعلمنّ iiقناة ٌ أو كبعضِ العيدانِ لولا السنانُ

قالوا : فدخل النعمان بن بشير على معاوية ، فذكر له أن سعيدا عطّل أمره ، وأن مروان أنفذه في الأنصاري وحده ؛ قال معاوية : فتريد ماذا ? قال النعمان : أريد أن تعزم على مروان ليُمضين أمرك في الرجلين جميعاً . ويروى أن النعمان قال في ذلك هذه الأبيات :

يـابـن أبـي سـفيان ما iiمثلُنا جـارَ  عـلـيـه ملك أو iiأمير
أذكـر بـنـا مـقـدم iiأفراسنا بـالـحـنْو  إذا أنت إلينا iiفقير
واذكـر  غـداة السّاعديّ iiالذي آثـركـم بـالأمـر فيها iiبشير
فـاحـذر عـليهم مثل بدر وقد مـرّ بـكـم يـومٌ ببدرٍ iiعسير
إن ابـن حـسّـان لـه iiثـائر فـاعـطه الحق تصحّ iiالصدور
ومـثـل أيـام لـنـا iiشـتتت مـلـكا  لكم أمرك فيها iiصغير
أمـا  تـرى الأزد iiوأشـياعها تـجـولُ خزرا كاظمات iiتزير
يـصـول حـولي منهمُ iiمعشر إن صلتُ صالوا وهمُ لي نصير
يـأبـى  لـنا الضيمُ فلا نُعتَلى عـزٌ مـنـيـعٌ وعـديد iiكثير
وعـنـصـرٌ في غزِّ iiجُرثومة عـاديّـة  تنقلُ عنها iiالصخور

وانتهى أمر معاوية إلى مروان ، فضرب أخاه خمسين سوطا ، واستعفى عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفا . ولكنه أخذ يذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حدّ الحرّ مائة صوت وضرب أخاه حدّ العبد خمسين ، فشقـّت هذه المقالة على عبد الرحمن بن الحكم وأقبل على أخيه فطلب إليه أن يتم عليه المائة ففعل . واتصل الهجاء بين الرجلين .

ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابا خاصا ضخما في هذه العصبية بين قريش والأنصار ، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية ، لا نقول في المدينة ومكة ودمشق ، بل نقول في مصر وأفريقيا والأندلس . ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرا مستقلا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام ، وفي الشعر الذي انتحله الفريقان على شعرائهما في الجاهلية . هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار ، فكيف إذا تجاوزها إلى الخصومة بين القبائل الأخرى ! ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة على أهل مكة والمدينة ، ولكنها تجاوزتهم إلى العرب كافة ، فتعصّبت العدنانية على اليمانية ؛ وتعصّبت مضر على بقية عدنان ؛ وتعصّبت ربيعة على مضر ؛ وانقسمت مضر نفسها فكانت فيها العصبية القيسيّة والتميمية والقرشية . وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغـْلِب وعصبيّة بكر . وقل مثل ذلك في اليمن ؛ فقد كانت للأزد عصبيّتها ، ولحمْيَر عصبيّتها ، ولقضاعة عصبيّتها .

وكانت كل هذه العصبيات تتشعّب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها ؛ فلها شكل في الشأم ، وآخر في العراق ، وثالث في خراسان ، ورابع في الأندلس . وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أميّة ؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات ، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق . قوّوا العصبيّة ثم عجزوا عن ضبطها ، فأدالت منهم ، بل أدالت من العرب للفرس .

وإذا كان هذا تأثير العصبيّة في الحياة السياسية وقد رأيت طرفا يسيرا من تأثيرها في الشعر والشعراء ، فأنت تستطيع أن تتصوّر هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف ، تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم ، وعلى أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعا مؤثلا بعيد العهد . وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي ، لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعد ، وإنما كانت ترويه حفظا . فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردّة ثم الفتوح ثم الفتن ، قتل من الرواة والحفـّاظ خلقٌ كثير . ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أميّة وراجعت شعرها ، فإذا أكثره قد ضاع ، وإذا أقلّه قد بقي . وهي بعد في حاجة إلى الشعر تقدّمه وقودا لهذه العصبية المضطرمة . فاستكثرت من الشعر وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال ونحلتها شعراءها القدماء .

وليس هذا شيئا نفرضه نحن أو نستنبطه استنباطا ، وإنما هو شيء كان يعتقده القدماء أنفسهم . وقد حدّثنا به محمد بن سلاَم في كتابه "طبقات الشعراء" . وهو يحدّثنا بأكثر من هذا ؛ يحدّثنا بأن قريشا كانت أقل العرب شعراً في الجاهليّة ، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام . وابن سلاّم يحدثنا عن يونس بن حبيب أنه نقل عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما بقي لكم من شعر الجاهلية إلا أقلّه ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير .

ولابن سلاّم مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع ، لا باس بأن نلم به إلمامة قصيرة . فهو يرى أن طَرَفة بن العبد وعبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدّهم تقدّما . وهو يرى أن الرواة الصحيحين لم يحفظوا لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر . فهو يقول : إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدّم ؛ وإذن فقد قالا شعرا كثيرا ولكنه ضاع ، ولم يبق منه إلا هذا القليل . وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يُروى لهذين الشاعرين إلا قصائد بقدر عشر فأضافوا إليهما ما لم يقولا ، وحُمل عليهما كما يقول ابن سلاّم حمل كثير .

ولكن ابن سلاّم لا يقف عند هذا الحد ، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن اسحاق وغيره من أصحاب السِّيَر من الشعر يضيفونه إلى عادٍ وثمود وغيرهم ، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق . وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تثبت أن الله قد أباد عاداً وثمود ولم يبق منهم باقية !

وسنعرض بعد قليل لهذا النحو من شعر عاد وثمود وغير عاد وثمود . ولكننا إنما ذكرناه الآن لنبين كيف كان القدماء يتبيّنون كما نتبين ويحسّون كما نحس أن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين أكثره منحول ، لأسباب منها السياسي ومنها غير السياسي . كان القدماء يتبيّنون هذا . ولكن مناهجهم في النقد كانت أضعف من مناهجنا ؛ فكانوا يبدؤون ثم يقصرون عن الغاية . ومن هنا زعم ابن سلاّم أنه يستطيع أن يروي لنا شيئا من أوّليّة الشعر العربي . فروى أبياتا تنسب لجذيمة الأبرش ، وأخرى تنسب لزهير بن جناب ، ونحو هذا . وسترى أننا نحن لا نستطيع أن نقبل هذا الشعر ، كما أن ابن سلاّم لم يستطع أن يقبل شعر عاد وثمود .

ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك ، وهي أن العصبيّة وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين . وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة . وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاءً كثيرا . فابن سلاّم يحدّثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينتحله الرواة في سهولة ، ولكنهم يجدون مشقة وعسرا في تمييز الشعر الذي ينتحله العرب أنفسهم . ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها ، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمّى جاهليا أن يشك في صحّته كلما رأى شيئا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق . ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبيّة التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبيّة قد لعبت - كما يقولون - دورا في الحياة السياسية للمسلمين .



*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور / طه حسين (15)    كن أول من يقيّم
 
                                               (3)    
                                    الدين وانتحال الشعر

ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر وانتحاله وإضافته إلى الجاهليين . لا نقول في العصور المتأخرة وحدها . بل فيها وفي العصر الأموي أيضا . وربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلى أيام الخلفاء الراشدين أيضا . ولو أن لدينا من سعة الوقت وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع للهونا وألهينا القارئ بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية أدبية قيمة . وهو أن نضع تاريخا لهذا الانتحال المتأثر بالدين .

فنحن نرى أنه تشكل أشكالا مختلفة دعت إليها الظروف المختلفة التي أحاطت بالحياة الدينية للعرب خاصة وللمسلمين عامة . فكان هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي ؛ وكان هذا النوع موجها إلى عامة الناس . وأنت تستطيع أن تحمل على هذا كل ما يروى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدا لبعثة النبي وكل ما يتصل به من هذه الأخبار والأساطير التي تروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهّانهم وأحبار اليهود ورهبان النصارى كانوا ينتظرون بعثة نبي عربي يخرج من قريش أو من مكة . وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع . وأنت تستطيع أن تحمل على هذا لونا آخر من الشعر المنتحل لم يضف إلى الجاهليين من عرب الإنس وإنما أضيف إلى الجاهليين من عرب الجن . فقد يظهر أن الأمة العربية لم تكن أمة من الناس الذين ينتسبون إلى آدم ليس غير ، وإنما كان بإزاء هذه الأمة الإنسية أمة أخرى من الجن كانت تحيا حياة الإنسية وتخضع لما تخضع له من المؤثرات . وتحس مثلما تحس ، وتتوقع مثل ما تتوقع . وكانت تقول الشعر ، وكان شعرها أجود من شعر الإنس ، بل كان شعراؤها هم الذين يلهمون شعراء الإنس فأنت تعرف قصة عبيد وهبيد . وأنت تعرف أن الأعراب والرواة قد لهوا بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها . وفي القرآن سورة تسمى "سورة الجن" أنبأت بأن الجن استمعوا للنبي وهو يتلو القرآن فلانت قلوبهم وآمنوا بالله وبرسوله ، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلى الدين الجديد . وهذه الصورة تنبئ أيضا بأن الجن كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع . ثم يهبطون وقد ألموا إلماما يختلف قوة وضعفا بأسرار الغيب ؛ فلما قارب زمن النبوة حيل بينهم وبين استراق السمع فرُجموا بهذه الشهب وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض حينا . فلم يكد القصاص والرواة يقرؤون هذه السورة وما يشبهها من الآيات التي فيها حديث عن الجن حتى ذهبوا في تأويلها كل مذهب واستغلوها استغلالا لا حد له ، وأنطقوا الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع ، ووضعوا على النبي نفسه أحاديث لم يكن بدّ منها لتأويل آيات القرآن على النحو الذي يريدونه ويقصدون إليه .

وأعجب من هذا أن السياسة نفسها قد اتخذت الجن أداة من أدواتها وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي نفسه . فقد أشرنا في هذا الفصل السابق إلى ما كان من قتل سعد بن عبادة ، ذلك الأنصاريّ الذي أبى أن يذعن بالخلافة لقريش ، وقلنا أنهم تحدثوا أن الجن قتلته . وهم لم يكتفوا بهذا الحديث ، وإنما رووا شعرا قالته الجن تفتخر فيه بقتل سعد بن عبادة هذا :

قد  قتلنا سيد iiالخز رج سعد بن iiعبادة
ورمـيناهُ  iiبسهمي ن فلم نخطئ فؤاده


وكذلك قالت الجن شعرا رثت عمر بن الخطاب (1) :

أبـعـد قـتيل بالمدينة iiأظلمتْ له  الأرض تهتز العضاهُ iiبأسوقِ
جزى الله خيرا من إمامٍ iiوباركت يـد الله فـي ذلك الأديم iiالممزقِ
فمن يسع أو يركبْ جناحي نعامةٍ ليدرك  ما حاولت بالأمس iiيُسْبَقِ
قـضيتَ أموراً ثم غادرتَ بعدها بـوائـقَ  فـي أكمامها لم iiتُفتقِ
وما  كنتُ أخشى أن تكون iiوفاته بكفّيْ سَبَنْتَى أزرق العين iiمُطرق

والعجب أن أصحاب الرواية مقتنعون بأن هذا الكلام من شعر الجن . وهم يتحدثون في شيء من الانكار والسخرية بأن الناس قد أضافوا هذا الشعر إلى الشماخ بن ضرار .

ولنعد إلى ما نحن فيه فقد أظهرناك على نحو من انتحال الشعر على الجن والإنس باسم الدين . والغرض من هذا الانتحال - فيما نرجح - إنما هو إرضاء حاجات العامة الذي يريدون المعجزة في كل شيء ، ولا يكرهون أن يقال لهم إن من دلائل صدق النبي في رسالته إنه كان منتظرا قبل أن يجيء بدهرٍ طويل ، تحدّثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس وأحبار اليهود ورهبان النصارى .

وكما أن القصاص المنتحلين قد اعتمدوا على الآيات الذي ذكرت فيها الجن ليخترعوا ما اخترعوا من شعر الجن وأخبارهم المتصلة بالدين ، فهم قد اعتمدوا على القرآن أيضا فيما رووا وانتحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الأحبار والرهبان . فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . وإذاً يجب أن نخترع القصص والأساطير وما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي ويدعون الناس إلى الإيمان به حتى قبل أن يظِل الناس زمانه .

ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش . فلأمرٍ ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش ، وقريش صفوة مضر ، ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها . وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلى عبدالله وعبدالمطلب وهاشم وعبدمناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة . وأنت تعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القصيدة للشماخ الذبياني في رثاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ر) وقيل بل هي من شعر أخيه المزرد، وتنسب أيضا إلى حسان بن ثابت (ر) والسَبَنْتَى في البيت الأخير: النمر ومؤنثه السبنتاة، وجمعها السبانت ...... (الوراق)
*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (16)    كن أول من يقيّم
 
وهنا تتظاهر العواطف الدينية والعواطف السياسية على انتحال الشعر . فقد أرادت الظروف أن تكون الخلافة والملك في قريش رهط النبي ، وأن تختلف قريش حول هذا الملك ، فيستقر حينا في بني أمية وينتقل منهم إلى بني هاشم رهط النبي الأدنين . ويشتد التنافس بين أولئك وهؤلاء ويتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي . فأما في أيام بني أمية فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لأمية من مجد في الجاهلية . وأما في أيام العباسيين فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لبني هشام من مجد في الجاهلية . وتشتد الخصومة بين قصاص هذين الحزبين السياسيين ، وتكثر الروايات والأخبار والأشعار .

ثم لا يقتصر الأمر على هذين الصنوين من بني عبد مناف ؛ فالارستقراطية القرشية كلها طموحة إلى المجد حريصة على أن يكون لها حظ منه في قديمها كما أن لها حظا منه في حديثها . وإذاً فالبطون القرشية على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار وتغري القصاص وغير القصاص بانتحالها . ولا أصل لهذا كله إلا أن قريشا رهط النبي من ناحية ، وأن الملك قد استقر فيها من ناحية أخرى . فانظر إلى تعاون العواطف الدينية والسياسية على انتحال الشعر أيام بني أمية وبني العباس .

ولست في حاجة إلى أن أضرب لك الأمثال . فأنت تستطيع أن تنظر في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السير والتاريخ لترى من هذا كله الشيء الكثير . وإنما أضرب لك مثلا واحدا يوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث على انتحال الشعر منافسة للأسرة المالكة ، أموية كانت أو هاشمية . وهذه القصة التي سأرويها تمس رهط بني مخزوم من قريش ، وهي تعطيك مثلا صادقا قويا لحرص قريش على انتحال الشعر لا تتحرج في ذلك ولا ترعى فيه صدقا ولا دينا .

تحدث صاحب الأغاني بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال : قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وجئته أطلب منه مغرما : يا خال هذه أربعة آلاف درهم وانشد هذه الأبيات الأربعة وقل سمعت حسّانا ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقلت أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله ، ولكن إن شئت أن أقول سمعت عائشة تنشدها فعلت ؛ فقال : لا ، إلا أن تقول سمعت حسّانا ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ؛ فأبى عليّ وأبيتُ عليه ؛ فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال . فأرسل إليّ فقال قل أبياتا تمدح بها هشاما ? يعني ابن المغيرة ? وبني أمية ؛ فقلت سمِّهم لي ؛ فسمّاهم ، وقال اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك ؛ فقلت :

ألا لــلـه قـومٌ و لدت  أختُ بني iiسهم
هـشـامٌ  وأبو iiعبدِ مـنافٍ مِدرهُ الخصم
وذو الرمحين iiأشباك عـلى  القوة والحزم
فـهـذان  iiيـذودان وذا  من كَثبٍ iiيرمي
أسـودٌ تزهي iiالأقرا ن  مـنّاعون iiللهضم
وهـم يـوم عكاظٍ م نعوا الناس من الهزم
وهم من ولدوا iiأشبوا بسر الحسَبِ iiالضخم
فإن أحلف وبيت iiالل ه  لا أحلف على iiإثم
لـما  من أخوة iiتبني قصور  الشأم iiوالرّدْم
بأزكى من بني iiرَيط ة  أو أوزنَ في الحلم


قال : ثم جئت فقلت : هذه قالها أبي ؛ فقال لا ، ولكن قل قالها ابن الزبعرى ؛ قال فهي إلى الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعرى .

فانظر إلى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كيف أراد صاحبه على أن يكذب وينتحل الشعر على حسّان ؛ ثم لا يكفيه هذا الانتحال حتى يذيع صاحبه أنه سمع حسّانا ينشد هذا الشعر بين يدي النبي ، كل ذلك بأربعة آلاف درهم . ولكن صاحبنا كره أن يكذب على النبي بهذا المقدار ، واستباح أن يكذب على عائشة . وعبد الرحمن لا يرضيه إلا الكذب على النبي ؛ فاختصما . وكلاهما شديد الحاجة إلى صاحبه ، هذا يريد شعرا لشاعر معروف ، والآخر يريد المال ؛ فيتفقان آخر الأمر على أن ينحل الشعر عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش . ومثل هذا كثير .

نحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وهو هذا الذي يلجأ إليه القصاص ما يجدونه مكتوبا في القرآن من أخبار الأمم القديمة البائدة كعاد وثمود ومن إليهم . فالرواة يضيفون إليهم شعرا كثيرا . وقد كفانا ابن سلاّم نقده وتحليله حين جد في طبقات الشعراء في إثبات أن هذا الشعر وما يشبهه مما يضاف إلى تبّع وحِميَر موضوعٌ منتحل ، وضعه ابن اسحق وما إليه من أصحاب القصص . وابن اسحاق ومن إليه من أصحاب القصص لا يكتفون بالشعر يضيفونه إلى عادٍ وثمود وتبّع وحِميَر وإنما هم يضيفون الشعر إلى آدم نفسه ، فهم يزعمون أنه رثى هابيل حين قتله أخوه قابيل . ونظن أن من الإطالة والإملال أن نقف عند هذا النحو من السخف .

ونحو آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر ، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة . فأرادوا هم أو الموالي أو أولئك وهؤلاء أن يدرسوا القرآن درسا لغويا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه . ولأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب . فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها . وأنت توافقني في غير مشقة على أن من العسير كما قدمتُ في الكتاب الأول أن نطمئن إلى كل هذا الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون على ألفاظ القرآن ومعانيه . وقد عرفت رأينا في ذلك وفي قصة عبدالله بن عباس ونافع بن الأزرق ؛ فلا حاجة إلى أن نعيد القول فيه . وإنما نعيد شيئا واحدا هو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكا ولا ريبا وهو لذلك أوثق مصدر للغة العربية فهو القرآن . وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن .

*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور / طه حسين (17)    كن أول من يقيّم
 
ولستُ أفهم كيف يمكن أن يتسرب الشك إلى عالم جاد في عربية القرآن واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه على ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب ! وإنما هناك مسألة أخرى وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقوا في كثير من الأحيان على فهم القرآن وتأويل نصوصه ، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير . وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع .

وهنا نوع جديد من تأثير الدين في انتحال الشعر . فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالِم وشهرته ورأي الناس فيه وثقة الأمراء والخلفاء بعلمه . ومن هنا كان هؤلاء العلماء حِراصا على أن يظهروا دائما مظهر المنتصرين في خصوماتهم الموفـّقين إلى الحق والصواب فيما يذهبون إليه من رأي . وأي شيء يتيح لهم هذا مثل الاستشهاد ؛ فاستشهدوا بشعر الجاهليين على كل شيء ، وأصبحت قراءة الكتب الأدبية واللغوية وكتب التفسير والمقالات تترك في نفسك أثرا قويا وصورة قريبة لهذا الشعر العربي الجاهلي ، حتى ليخيل إليك أن أحد هؤلاء العلماء على اختلاف ما كان ينظر فيه من فروع العلم لم يكن عليه إلا أن يمد يده إذا احتاج فيظفر بما شاء الله من كلام العرب قبل الإسلام ، كأن كلام العرب قبل الإسلام قد وعى كل شيء وأحصى كل شيء ، هذا وهم مجمعون على أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظا فظاظا . أفترى إلى هؤلاء الجهال الغلاظ يستشهد بجهلهم وغلظتهم على ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية ! فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين . وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين على شعر الجاهليين . وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة ليثبت أن كرسي الله الذي وسع السموات والأرض هو علمه ؛ وهذا الشطر هو قول الشاعر (المجهول طبعا) : "ولا بكرسي علم الله مخلوق" .

وكذب أصحاب العلم على الجاهليين كثير لا سبيل إلى إحصائه أو استقصائه . فهو ليس مقصورا على رجال الدين وأصحاب التأويل والمقالات ورجال اللغة وأهل الأدب ، وإنما هو يجاوزهم إلى غيرهم من الذين قالوا في العلم مهما يكن الموضوع الذي تناولوه .

لأمر ما كان البدع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يردّ كل شيء إلى العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم . وإذا كان الأمر كذلك فليس لانتحال الشعر على الجاهليين حد . وأنت إذا نظرت في كتاب الحيوان للجاحظ رأيت من هذا الانتحال ما يقنعك ويرضيك .

ولكني لا أريد أن أبعد عما أنا فيه من تأثير العواطف والمنافع الدينية في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين . وقد رأينا إلى الآن فنونا من هذا التأثير ؛ ولكننا لم نصل بعد إلى أعظم هذه الفنون كلها خطرا وأبعدها أثرا وأشدها عبثا بعقول القدماء والمحدثين ، وهو هذا النوع الذي ظهر عندما استؤنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى ، ولا سيما اليهود والنصارى . هذا الجدل الذي قوى بين النبي وخصومه ، ثم هدأ بعد أن تم انتصار النبي على اليهود والوثنيين في بلاد العرب ، وانقطع أو كاد ينقطع أيام الخلفاء الراشدين؛ لأن الكلمة في أيام هؤلاء الخلفاء لم تكن للحجة ولا للسان ، وإنما كانت لهذا السيف الذي أزال سلطان الفرس واقتطع من دولة الروم الشأم وفلسطين ومصر وقسما من أفريقيا الشمالية . فلما انتهت هذه الفتوح واستقر العرب في الأمصار واتصلت الأسباب بينهم وبين المغلوبين من النصارى وغير النصارى استؤنف هذا الجدال وأخذ صورة أقرب إلى النضال منها إلى أي شيء آخر . وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من غرابة نحب أن نشير إلى بعضها في شيء من الإيجاز .

أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي ، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل . فليس غريبا أن نجد قبل الإسلام قوما يدينون بالإسلام أخذوه من هذه الكتب السماوية التي أوحيت قبل القرآن . والقرآن يحدثنا عن هذه الكتب ، فهو يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى . وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئا آخر هو صحف إبراهيم . ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينا آخر هو ملة إبراهيم ، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح . وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله ، وكان القرآن قد وقف من أولئك وهؤلاء موقف من ينكر عليهم صحة ما يزعمون ، فطعن في صحة ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل واتهمهم بالتحريف والتغيير ، ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويله ، فقد أخذ المسلمون يرددون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى .

وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم . ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان . ولم يحتفظ بدين إبراهيم إلا أفراد قليلون يظهرون من حين لحين . هؤلاء الأفراد يتحدثون فنجد من أحاديثهم ما يشبه الإسلام . وتأويل ذلك يسير ؛ فهم أتباع إبراهيم ، ودين إبراهيم هو الإسلام . وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضا ؛ فأحاديث هؤلاء الناس قد وضعت لهم وحملت عليهم حملا بعد الإسلام ، لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة . وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تضاف إلى الجاهليين والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن من الحديث شبه قوي أو ضعيف .

وهنا نصل إلى مسألة عني بها الباحثون عن تاريخ القرآن من الفرنج والمستشرقين خاصة ، وهي تأثير المصادر العربية الخالصة في القرآن . فقد كان هؤلاء الباحثون يرون أن القرآن تأثر باليهودية والنصرانية ومذاهب أخرى بين بين كانت شائعة في البلاد العربية وما جاورها . ولكنهم رأوا أن يضيفوا إلى هذه المصادر مصدرا عربيا خالصا ؛ والتمسوا هذا المصدر من شعر العرب الجاهليين ، ولاسيما الذين كانوا يتمنعون منهم . وزعم الأستاذ (كليمان هوار) - في فصل طويل نشرته له المجلة الآسيوية سنة 1804 - إنه قد ظفر من ذلك بشيء قيم واستكشف مصدرا جديدا من مصادر القرآن ، هذا الشيء القيم وهذا المصدر الجديد هو شعر أمية بن أبي الصلت . وقد طال الأستاذ (هوار) في هذا البحث وقارن بين هذا الشعر الذين يُنسب إلى أمية بن أبي الصلت وبين آيات من القرآن . وانتهى من هذه المقارنة إلى نتيجتين :

(الأولى) أن هذا الشعر الذي ينسب لأمية بن أبي الصلت صحيح :

لأن هناك فروقا بين ما جاء فيه وما جاء في القرآن من تفصيل بعض القصص ، ولو كان منتحلا لكانت المطابقة تامة بينه وبين القرآن . وإذا كان هذا الشعر صحيحا ، فيجب في رأي الأستاذ (هوار) أن يكون النبي قد استعان به قليلا أو كثيرا في نظم القرآن .

(الثانية) إن صحة هذا الشعر واستعانة النبي به في نظم القرآن قد حملتا المسلمين على محاربة شعر أمية بن أبي الصلت ومحوه ليستأثر القرآن بالجدة وليصح أن النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء . وعلى هذا النحو استطاع الأستاذ (هوار) أو خيّل إليه أنه استطاع أن يثبت أن هناك شعرا جاهليا صحيحا ، وأن هذا الشعر الجاهلي قد كان له أثر في القرآن . مع أني من أشد الناس إعجابا بالأستاذ (هوار) وبطائفة من أصحابه المستشرقين وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث ، فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل الذي أشرت إليه آنفا دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم . وليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون ، فأنا لا أؤرخ القرآن ، وأنا لا أذود عنه ولا أتعرض للوحي وما يتصل به ، ولا للصلة بين القرآن وما كان يتحدث به اليهود والنصارى . كل ذلك لا يعنيني الآن ، وإنما الذي يعنيني هو شعر أمية بن أبي الصلت وأمثاله من الشعراء .
*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (18)    كن أول من يقيّم
 
والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله أنهم يشكـّون في صحة السيرة نفسها ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود ، فلا يرون في السيرة مصدرا تاريخيا صحيحا ، وإنما هي عندهم كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعا : طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها . هم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويغلون في هذا الموقف ؛ ولكنهم يقفون من أمية بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن ؛ مع إن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة . فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون النحو الآخر ? أيمكن أن يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات ? أما أنا فلستُ مستشرقا ولستُ رجلا من رجال الدين . وإنما أريد أن أقف من شعر أمية بن أبي الصلت نفس الموقف العلمي الذي وقفته من شعر الجاهليين جميعا . وحسبي أن شعر أمية بن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا عن طريق الرواية والحفظ لا شك في صحته كما شككت في صحة شعر امرئ القيس والأعشى وزهير . وإن لم يكن لهم من النبي موقف أمية بن أبي الصلت .

ثم إن هذا الموقف نفسه يحملني على أن أرتاب الارتياب كله في شعر أمية بن أبي الصلت ؛ فقد وقف أمية من النبي موقف خصومة : هجا أصحابه وأيد مخالفيه ورثى أهل بدر من المشركين . وكان هذا وحده يكفي لينهي عن رواية شعره ، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هجى فيه النبي وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم وبين مخالفيهم من العرب الوثنيين واليهود . وليس يمكن أن يكون من الحق في شيء أن النبي نهى عن رواية شعر أمية لينفرد بالعلم والوحي بأخبار الغيب . فما كان شعر أمية بن أبي الصلت إلا شعرا كغيره من الشعر لا يستطيع أن ينهض للقرآن كما لم يستطع غيره من الشعر أن ينهض للقرآن . وما كان علم أمية بن أبي الصلت بأمور الدين إلا كعلم أحبار اليهود ورهبان النصارى . وقد ثبت النبي لأولئك وهؤلاء واستطاع أن يغلبهم على عقول العرب بالحجة مرة وبالسيف مرة أخرى . فأمر النبي مع أمية بن أبي الصلت كأمره مع هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين هجوا وناهضوا وألبوا عليه .

ومن هنا تستطيع أن تفهم ما يروى من أن النبي أنشد شيئا من شعر أمية فيه دين وتحنـّف فقال : " آمن لسانه وكفر قلبه " . آمن لسانه لأنه كان يدعوا إلى مثل ما كان يدعوا إليه النبي ؛ وكفر قلبه لأنه كان يظاهر المشركين على صاحب هذا الدين الذي كان يدعوا إليه . فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين أيدوا النبي ووادعوه ، حتى إذا خافوه على سلطانهم السياسي والاقتصادي والديني ظاهروا عليه المشركين من قريش .

ليس إذاً شعر أمية بن أبي الصلت بـِدْعا في شعر المتحنفين من العرب أو المتنصرين والمتهودين منهم . وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه ؛ إلا ما كان منه هجاءً للنبي وأصحابه ونعياً على الإسلام ؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أهمل حتى ضاع .

ولكن في شعر أمية بن أبي الصلت أخباراً وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة والصّيْح . ويرى الأستاذ (هوار) أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل على صحة هذا الشعر من جهة ، وعلى أن النبي قد استقى من أخباره من جهة أخرى .

ولستُ أدري قيمة هذا النحو من البحث . فمن الذي زعم أن ما جاء في القرآن من الأخبار كان كله مجهولا قبل أن يجيء به القرآن ? ومن الذي يستطيع أن ينكر أن كثيرا من القصص القرآني كان معروفا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى وبعضه عند العرب أنفسهم ، وكان من اليسير أن يعرفه النبي ، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي من المتصلين بأهل الكتاب . ثم كان النبي وأمية متعاصرين . فلِم يكون النبي هو الذي أخذ عن أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ عن النبي ? ثم من الذي يستطيع أن يقول إن من ينتحل الشعر ليحاكي القرآن ملزم أن يلائم بين شعره وبين نصوص القرآن ? أليس المعقول أن يخالف بينهما ما استطاع ليخفي الانتحال ويوهم أن شعر صحيح لا تكلف فيه ولا تعمّل ? بلى !

ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يضاف إلى أمية بن أبي الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله إنما انتحل انتحالا . انتحله المسلمون ليثبتوا - كما قدمنا - أن للإسلام قِدَمه وسابقته في البلاد العربية . ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يضاف إلى هؤلاء الشعراء والمتحنفين إلا مع شيء من الاحتياط والشك غير قليل .

هذا شأن المسلمين . فأما غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى فقد نظروا فإذا لهم في حياة الأمة العربية قبل الإسلام قديم . وفي الحق أن اليهود قد استعمروا جزءاً غير قليل من بلاد الحجاز في المدينة وحولها وعلى طريق الشام . وفي الحق أيضا أن اليهودية قد جاوزت الحجاز إلى اليمن . ويظهر أنها استقرت حيناً عند سراة اليمن وأشرافها . وأنها أثرت بوجه ما في الخصومة التي كانت بين أهل اليمن وبين الحبشة ، وهم نصارى . ثم في الحق أن اليهودية قد استتبعت حركة اضطهاد للنصارى في نجران ذكرها القرآن في سورة البروج .

كل هذا حق لا شك فيه . وكل هذا ظاهر في أخبار العرب وأساطيرهم ، وهو ظاهر في القرآن بنوع خاص ؛ فليس قليلا ما يمس اليهود من سور القرآن وآياته . وأنت تعلم ما كان بين النبي واليهود من خصومة انتهت بإجلاء اليهود عن بلاد العرب أيام عمر بن الخطاب . وكان اليهود قد تعربوا حقا ، وكان كثير من العرب قد تهوّدوا . وليس من شك عندي في أن الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول الدين الجديد وتأييد صاحبه .

هذه حالة اليهود . فأما النصارى فقد انتشرت دياناتهم انتشارا قويا في بعض بلاد العرب فيما يلي الشام حيث كان الغسانيون الخاضعون لسلطان الروم ، وفيما يلي العراق حيث كان المناذرة الخاضعون لسلطان الفرس ، وفي نجران من بلاد اليمن التي كانت على اتصال بالحبش وهم نصارى .

ويظهر أن قبائل من العرب البادين تنصرت قبل الإسلام بأزمات تختلف طولا وقصرا . فنحن نعلم مثلا أن تغلب كانت نصرانية وأنها أثارت مسألة من مسائل الفقه . فالقاعدة أنه لا يقبل من العربي إلا الإسلام أو السيف ؛ فأما الجزية فتقبل من غير العرب ولكن تغلب قبلت منها الجزية ، قبلها عمر فيما يقول الفقهاء .

تغلغلت النصرانية إذاً كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب . وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لانتهى الأمر بالعرب إلى اعتناق إحدى هاتين الديانتين . ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الدينين والذي استتبع دينا أقل ما يوصف به أنه ملائم ملاءمة تامة لطبيعة الأمة العربية .

مهما يكن من شيء ، فليس من المعقول أن ينتشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام . وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب على أن ينتحلوا الشعر ويضيفوه إلى عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر فالأمر كذلك غي اليهود والنصارى : تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين ، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضا ، فانتحلوا كما انتحل غيرهم ، ونظموا شعرا أضافوه إلى السموءل بن عادياء وإلى عديّ بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى .

والرواة القدماء أنفسهم يحسون شيئا من هذا فهم يجدون فيما ينسب إلى عديّ بن زيد من الشعر سهولة وليناً لا يلائمان العصر الجاهلي ، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة .

ونحن نجد مثل هذه السهولة في شعر اليهود ، في شعر السموءل بنوع خاص . ولا نستطيع أن نعللها بمثل ما عُللت به في شعر عديّ . فقد كان السموءل - إن صحت الأخبار - يعيش عيشة خشنة أقرب إلى حياة السادة البادية منها إلى حياة أصحاب الحضر . ويحدثنا صاحب الأغاني بأن وُلد السموءل انتحلوا قصيدة قافية أضافوها إلى امرئ القيس وزعموا أنه مدح بها السموءل حين أودعه سلاحه في طريقه إلى قسطنطينية . ونرجح نحن أن وُلد السموءل هم الذين انتحلوا هذه القصيدة الرائية التي تضاف للأعشى والتي يقال أنه مدح بها شرحبيل بن السموءل في قصته المشهورة مع الكلبي .

فأنت ترى أن للعواطف الدينية على اختلافها وتنوع أغراضها مثل ما للعواطف السياسية من التأثير في انتحال الشعر ولإضافته إلى الجاهليين .

وإذا كان من الحق أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء السياسية ، فمن الحق أيضا أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء الدينية .

وأكبر الظن أن الشعر الذي يسمى جاهليا مقسم بين السياسة والدين ، ذهبت هذه بشطر منه وذهب هذا بالشطر الآخر .

ولكن أسباب الانتحال ليست مقصورة على السياسة والدين بل هي تجاوزتهما إلى أشياء أخرى .

*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (19)    كن أول من يقيّم
 
                                                            ( 4 )                     
                          القصص وانتحال الشعر

من هذه الأشياء شيء ليس دينا ولا سياسة ؛ ولكنه يتصل بالدين وبالسياسة اتصالا قويا ، نريد به القصص الذي أشرنا إليه غير مرة فيما قدمنا من القول .
فالقصص في نفسه ليس من السياسة ولا من الدين ، وإنما هو فن من فنون الأدب العربي توسط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية . وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين . وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية ، أزهر أيام بني أمية وصدرا من أيام بني العباس ، حتى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب واستطاع الناس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلى مجالس القصاص ، ضعف أمر هذا الفن وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية شيئا فشيئا حتى ابتذل وانصرف عنه الناس .

وهذا الفن الأدبي تناول الحياة العربية والإسلامية كلها من ناحية خيالية لم يقدرها الذين درسوا تاريخ الآداب العربية قدرها ، لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء ، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه " تاريخ آداب العرب " . نقول إن هذا الفن قد تناول الحياة العربية والإسلامية من ناحية خيالية خالصة . ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عُنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة لوصلوا إلى نتائج قيمة ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب . فمهما تكن الأسباب التي دعت إلى نشأة فن القصص عند المسلمين ، فقد نشأ هذا الفن ؛ وكانت منزلته عند المسلمين هي بعينها منزلة الشعر القصصي عند قدماء اليونان . وكانت الصلة بينه وبين الجماعات هي بعينها الصلة بين الشعر القصصي اليوناني وجماعات اليونان القدماء .

وليس من شك عندنا في أن هؤلاء القصاص من المسلمين قد تركوا آثارا قصصية لا تقل جمالا وروعة وحسن موقع في النفس عن "الإلياذة" و "الأوديسا" . وكل ما بين القصص الإسلامي واليوناني من الفرق هو أن الأول لم يكن شعرا كله وإنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلى حين بينما كان الثاني كله شعرا ، وأن الأول لم يكن يلقيه صاحبه على أنغام الأدوات الموسيقية بينما كان القاص اليوناني يعتمد على الأداة الموسيقية اعتمادا ما ، وأن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان ؛ فبينما كان اليونان يقدّسون "الإلياذة" و "الأوديسا" ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن ، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا .

وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث . وكان هذا كله أدنى إلى الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرّب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومُثله العليا . فليس غريبا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجدّ من المسلمين .

كان قصّاص المسلمين يتحدّثون إلى الناس من مساجد الأمصار فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتـّصل بالنبوات ، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا . وكان الناس كلِفين بهؤلاء القصاص مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث . وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية ، فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلوها استغلالا شديدا ، وأصبح القصص أداة سياسية كالشعر .

وليس من شك في أن العناية بدرس هذا الفن ستنتهي إلى مثل ما انتهت إليه العناية بدرس الشعر من أن الأحزاب السياسية على اختلافها كانت تصطنع القصاص ينشرون لها الدعوة في طبقات الشعب على اختلافها ، كما كانت تصطنع الشعراء يناضلون عنها ويذودون عن آرائها وزعمائها . ونحن نعرف من سيرة ابن اسحاق أنه كان هاشمي النزعة والهوى ، وأنه لقي في ذلك عناءً من الأمويين في آخر عهدهم بالسلطان ، وأنه ظفر بحسن المنزلة عند العباسيين في أوّل عهدهم بالملك .

والتعمق في درس حياة القصاص الذين كانوا يقصّون في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها من الأمصار يظهرنا من غير شك على الصِّلات التي كانت تصل بين هؤلاء القصّاص وبين الأحزاب السياسية .

غير أن القصص لم يتأثر بالسياسة وحدها ، وإنما تأثر بالدين أيضا . وقد رأيت في الفصل الماضي مُثـُلا توضح هذا التأثر .

وتأثر القصص بشيء آخر غير السياسة والدين وهو روح الشعب الذي كان يُتحدث إليه . ومن هنا عني عناية شديدة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور . ومن هنا اجتـُهد في تفسير هذه الأساطير وإكمال الناقص منها وتوضيح الغامض . فنحن نستطيع أن نقول إن هذا القصص كان يستمد قوته وثروته من مصادر مختلفة ، أهمها أربعة :

(الأول) مصدر عربي هو القرآن وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات ، وما كانت تتحدث به العرب في الأمصار من أخبارها وأساطيرها وما كانت تروي من شعر ، وما كان يتحدث به الرواة من سيرة النبي والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم .

(الثاني) مصدر يهودي نصراني ، وهو ما كان يأخذه القصّاص عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك ، وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا وأخذوا يضعون الأحاديث ويدسونها مخلصين أو غير مخلصين .

(الثالث) مصدر فارسي ، وهو هذا الذي كان يستقيه القصّاص في العراق خاصة من الفرس مما يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها .

ثم المصدر الرابع مصدر مختلط هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشام من الأنباط والسريان ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط الذين كانوا منبثين في هذه الأقطار والذين لم تكن لهم سيادة ولا وجود سياسي ظاهر .

كل هذه المصادر كانت تمد القصّاص . فكنتَ ترى في قصصهم ألوانا من القول وفنونا من الحديث قد لا تعجب العالِم المحقق لاضطرابها وظهور سلطان الخيال عليها ؛ ولكن لها جمالا أدبيا فنيا رائعا يعجب به من يستطيع أن يقدر التئام هذه الأهواء المختلفة التي تتصل بشعوب مختلفة وأجيال متباينة من الناس . ويعجب به بنوع خاص الذين يحاولون أن يتبينوا فيه نفسية الشعوب والأجيال التي كانت تلهم هؤلاء القصّاص .

مهما يكن من شيء ، فإن هذه المصادر كلها كانت تطلق ألسنة القصّاص بما كانوا يتحدثون به إلى سامعيهم في الأمصار . وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلى حين . ويكفي أن تنظر في "ألف ليلة وليلة" وفي قصة عنترة وما يشبهها ، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر ، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكون عماداً له ودعامة . وإذن فقد كان القصّاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حدّ لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه . وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون .

وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصّاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص ، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها ، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها ، ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض ؛ فقد يحدثنا ابن سلاّم أن ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروى من غثاء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله . فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله . فمن هؤلاء القوم ? .

أليس من الحق لنا أن نتصوّر أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب ، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين ، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس . وكان مثلهم في هذا مثل القاص الفرنسي المعروف (ألكسندر دوما) الكبير . وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبث فيما بقي لنا من آثار القصّاص . فلديك في سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر ، وبعضها حول غزوة أحد ، وبعضها في غير هاتين الغزوتين من المواقف والوقائع ، وأضيف بعضه إلى حمزة ، وبعضه إلى عليّ ، وبعضه إلى حسّان ، وبعضه إلى كعب بن مالك ، وأضيف بعضه إلى نفر من شعراء قريش ، وإلى نفر من قريش لم يكونوا شعراء قط ، وإلى نفر آخرين من غير قريش . وليش غير سيرة ابن هشام أقل منها حظا في هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين مرة وإلى المخضرمين مرة أخرى .

وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سببا في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به ، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعا ، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة ، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته ، يكفي أن يصرف همه إلى القول فإذا هو ينساق إليه انسياقا . كان القدماء يعتقدون هذا وما يزال المحدثون يرونه . وعذر أولئك وهؤلاء أن لديهم كثرة فاحشة من الشعر تضاف إلى ناس منهم المعروف ومنهم غير المعروف ، منهم الحضري ومنهم البدوي . فأما العلماء والمحققون منهم فقد استطاعوا أن ينفوا من هذا الشعر مقدارا قليلا أو كثيرا لم يستطيعوا أن يقبلوه ولا أن يطمئنوا إليه . ولكنهم بعد الحذف والنفي والنقد والتمحيص نظروا فإذا لديهم مقادير ضخمة تضاف إلى ناس منهم المعروف ومنهم المجهول ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي . فأي شيء أيسر من أن يعتقدوا أن العربي شاعر بفطرته ، وأنه يكفي أن يكون الرجل عربيا ليقول الشعر متى شاء وكيف شاء .

ولكن رأيا كهذا لا يلائم طبيعة الأشياء . فنحن نستطيع أن نؤمن بأن الأمم تتفاوت حظوظها من الشعر ، فبعضها أشعر من بعض ، وبعضها أكثر شعراء من بعضها الآخر . ولكن لا نستطيع أن نفهم أن يكون جيل من الناس شاعرا كله ، أو أن تكون أمة من الأمم شاعرة كلها رجالا ونساءً وشبانا وشيبا وولدانا أيضا . ولدينا نصوص قديمة تدلنا على أن العرب لم يكونوا جميعا شعراء . فكثيرا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلى شيء . وقد طلب إلى النبي في بعض المواقف التي احتاج المسلمون فيها إلى الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرا يرد به على شعراء قريش فأبى النبي أن يأذن له ، لأنه لم يكن من ذلك في شيء ، وأذن لحسّان .

وما نظن أننا في حاجة إلى أن نقيم الأدلة نبسط البراهين على أن العرب لم يكونوا كلهم شعراء . وإنما سبيلنا أن نوضح أن كثرة هذا الشعر هي التي خيّلت إلى القدماء والمحدثين أن لفظ العربي مرادف للفظ الشعر . فإذا أضفت إلى ما قدمنا أنك تجد كثيرا من الشعر يضاف إلى قائل غير معروف بل غير مسمى ، فتراهم يقولن مرة قال الشاعر ، وأخرى قال الأول ، وثالثة قال الآخر ، ورابعة قال رجل من بني فلان ، وخامسة قال أعرابي وهلم جرا ? نقول إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء .

والحق أن العرب كانوا كغيرهم من الأمم ذات الفصاحة واللسن والأذهان القوية يكثر فيهم الشعر دون أن يعم كافتهم ، وأن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل أو إلى قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالا بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص .

كثرة هذا الشعر الذي احتاج إليه القصّاص لتزدان به قصصهم من ناحية وليسيغها القراء والسامعون من ناحية أخرى خدعت فريقا من العلماء ، فقبلوها على أنها صدرت من العرب حقا . وقد فطن بعض العلماء إلى ما في هذا الشعر من تكلف حينا ومن سخف وإسفاف حينا آخر ، وفطن إلى أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين يُنسب إليهم . ومن هؤلاء العلماء محمد بن سلاّم الذي أنكر ? كما رأيت ? ما يضيفه ابن إسحاق إلى عاد وثمود وحِمْير وتبّع ، وأنكر كثير مما رواه ابن إسحاق في السيرة من شعر الرجال والنساء سواء منهم من عُرف بالشعر ومن لم يقل شعرا قط . وآخرون غير ابن سلاّم أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصّاصون ؛ نذكر منهم ابن هشام الذي يروي لنا في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق ، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة . قال : وأكثر أهل العلم بالشعر أو بعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه .

ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر خـُدعوا أيضا ؛ فلم يكن صناع الشعر جميعا ضِعافا ولا محمّقين ، بل كان منهم ذوي البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف ، فكان يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه ، وكان فطِنا يجتهد في إخفاء صنعته ويوفق من ذلك إلى الشيء الكثير . وابن سلاّم نفسه يحدثنا بأنه إذا سهل على العلماء النقاد أن يعرفوا ما تكلفه الضعفاء من المنتحلين ، فمن العسير عليهم أن يميزوا ما كان يتكلفه العرب أنفسهم ، وقد رأيت أن العرب أنفسهم كانوا يتكلفون ويضعون ويكذبون ، فيسرفون في هذا كله .

ولعل من أوضح الأمثلة لانخداع ابن سلاّم عن هذا الشعر المنتحل هذه الطائفة التي رواها على أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح ، والتي يضاف بعضها إلى جذيمة الأبرش ، وبعضها إلى زهير بن جناب ، وبعضها إلى العنبر بن تميم ، وبعضها إلى مالك وسعد ابني زيد مناة بن تميم ، وبعضها إلى أعصر بن سعد بن قيس عيْلان . وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلف بيّن الصنعة . واضح جداً أن راويا من الرواة أو قاصا من القصّاص تكلفه ليفسر مثلا من الأمثال أو أسطورة من الأساطير أو لفظا غريبا أو ليلذ القارئ أو السامع ليس غير . ولنضرب لذلك مثلا هذين البيتين الذين يضافان إلى أعصر بن سعد بن قيس عيْلان ، وهما :

قالت عميرة ما لرأسك بعد iiما نـفد  الزمان أتى بلون iiمنكر
أعُـمَيْرَ إنّ أباكِ شيّبَ iiرأسَه كَرُّ الليالي واختلاف الأعصر

قال ابن سلاّم وغيره من العلماء والرواة : إن هذا الرجل إنما سمّي "أعصر" لهذا البيت الأخير . قال ابن سلاّم : وبعض الناس يسميه "يعصر" وليس بشيء .

وابن سلاّم نفسه يحدثنا أن معدّاً كان يعيش في العصر الذي كان يعيش فيه موسى بن عمران ، أي قبل المسيح بقرون عدّة أي قبل الإسلام بأكثر من عشرة قرون ، فإذا لاحظنا أن "أعصر" هذا هو ابن سعد بن قيس عيْلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ ، رأينا أنه إن عاش فقد عاش في زمن متقدم جدا أي قبل الإسلام بعشرة قرون على أقل تقدير .

أفتظن أن هذين البيتين اللذين قرأتهما آنفا يمكن أن يكونا قد قيلا قبل الإسلام بألف سنة ! ونحن لا نعرف اللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون أو أربعة قرون ، ونحن نجد مشقة غير قليلة في فهم الشعر العربي الصحيح الذي قيل أيام النبي أو بعد النبي ، ولا نجد شيئا من العسر في فهم هذا الكلام الذي إن صح رأي ابن سلاّم فقد قيل قبل النبي بأكثر من عشرة قرون .

أليس واضحا جليا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا اسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أوُجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد .

وقل مثل هذا فيما يضيفه ابن سلاّم إلى مالك وسعد ابنيْ زيد مناة بن تميم . فنحن لا نعرف مَنْ سعدٌ ومَنْ مالك ومَنْ زيد مناة ومَنْ تميم . وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط . ولكن رأي الرواة والقصاص مثلا تستعمله العرب وهو : "ما هكذا تورد يا سعد الإبل" .. وهم في حاجة إلى تفسير الأمثال ؛ والشعوب نفسها في حاجة إلى تفسير الأمثال أيضا . ومن هنا اخترعت هذه القصة التي نطق فيها سعد ومالك بما يضاف إليهما من الرجز .

وقل مثل هذا فيما يضاف للعنبر بن تميم وهو :

               قد رابني من دلوِيَ اضطرابها
               والنأي في بهراء واغترابها
               إلاّ تجئ ملأى يجئ قِرابها

فالأمر عندنا لا يتجاوز تفسير هذا البيت الأخير الذي كان يجري مجرى المثل فيما يظهر . وقل مثل هذا في هذا الشعر الذي يضاف إلى جذيمة الأبرش ، وفي كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزّباء وابن اخته عمرو بن عديّ ووزيره قـَصير .

فليس لهذا كله إلا أصل واحد هو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم كقولهم "لا يطاع لقصير أمر" . وقولهم : "لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفه" ، وقولهم : "شب عمرو على الطوق" . أو ذكر فيها ما يتصل بهؤلاء الناس في هذه القصص التي كانت شائعة عند هؤلاء الأخلاط من سكان العراق والجزيرة والشأم وما يتصل بها من بوادي العرب ، كفرس جذيمة التي كانت تسمى "العصا" والبرج الذي بناه قصير على العصا بعد أن نفقت وكان يسمّى "برج العصا" ، ودم جذيمة الذي جمعته الزّباء في طست من الذهب ، وجـِمال عمرو بن عديّ التي احتال قصير في إدخالها تدْمر وعليها الرجال في الغرائر .

وتستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم والتفسير في كل هذه الحكايات والأساطير التي تتصل بالأسماء والأمثال والأمكنة وما إليها وما ينشد فيها من الشعر .

ولكن القدماء لم يذهبوا هذا المذهب ؛ وإنما قبلوا هذه الأخبار والأشعار على علاتها ورووها على أنها صحيحة لأنهم سمعوها من رواة كانوا يعتقدون أنهم ثقات مصححون . ومن هنا روى ابن سلاّم وغيره أبياتا لجذيمة على أنها من أقدم الشعر العربي وهي التي تبتدئ بهذا البيت :

ربما  أوفيتُ في iiعلمٍ ترفعنْ ثوبي شمالاتُ

وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلا شديدا ويرون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو أخبار المعمّرين الذين مدّت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس . وقد رويت حول هؤلاء المعمّرين أخبار وأشعار قبلها العلماء الثقات في القرن الثالث للهجرة كأبي حاتم السجستاني وابن سلاّم نفسه ، وهو يروي لنا في كتاب الطبقات هذا الشعر المتكلف السخيف الذي يضاف إلى أحد هؤلاء المعمّرين وهو المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد الذي بقي بقاءً طويلا حتى قال :

ولقد  سئمت من الحياة iiوطولها وازددت  من عدد السنين iiمئينا
مائة  أتت من بعدها مئتان iiلي وازددت من عدد الشهور سنينا
هـل مـا بقي إلا كما قد iiفاتنا يـومٌ يـكـرُّ ولـيلة ٌ iiتحدونا

ويروي لنا ابن سلاّم شعرا آخر ليس أقل من هذا الشعر سخفا ولا تكلفا ولا انتحالا يضيفه إلى دُوَيْد بن زيد بن نهد حين حضره الموت :

الـيـومَ يبنى لدُوَيْد iiبيته لـو كان للدهر بلىً أبليته
أو كان قربي واحداً iiكفيته يا رُبَّ نهْبٍ صالحٍ حويته
ورُبَّ  غـيْلٍ حسن لويته ومِـعصمٍ  مخضّبٍ iiثنيته


فأنت ترى أن ابن سلاّم على ما أظهر من الشك فيما كان يروي ابن إسحاق من شعر عاد وثمود وتبّع وحِمْير ، قد انخدع عما كان يرويه ابن إسحاق وغير ابن إسحاق من القصّاص من الشعر يضيفونه إلى القدماء من حاضرة العرب وباديتهم .

والرواة أشد انخداعا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالا شديدا ، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها "أيام العرب" أو "أيام الناس" . فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب ثم رأوها تقص مفصلة مطوّلة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جدّ من الأمر ، ورووه وفسّروه وفسّروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب ؛ مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدّمناه . فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصي لهذه الحياة العربية القديمة ، ذكره العرب بعد أن استقروا في الأمصار فزادوا فيه ونمّوه وزينوه بالشعر ؛ كما ذكر اليونان قديمهم فأنشأوا فيه "الإلياذة" و "الأوديسا" وغيرهما من قصائد الشعر القصصي التي لم يكن يكد يبلغها الإحصاء . فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفساد وهذه "الأيام" الكثيرة التي وضعت فيها الكتب ونظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر ? إن استقامة نظريتنا ? إلا توسيعا وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدّثون بها بعد الإسلام .

ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين إن مؤرّخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك ? إن لم يقف موقف الإنكار الصريح ? أمام هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ، والذي هو في حقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء أو شرح لمثل من الأمثال .

كل ما يُروى عن عاد وثمود وطسْم وجَديس وجُرهُم والعماليق موضوع لا أصل له . وكل ما يُروى عن تبّع وحِمْير وشعراء اليمن في العصور القديمة ، وأخبار الكهان ، وما يتصل بسيْل العرم وتفرّق العرب بعده موضوع لا أصل له .

وكل ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعا . والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك .

وكل ما يُروى من هذه الأخبار والأشعار التي تتصل بما كان بين بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعا . وكثرته المطلقة موضوعة من غير شك .

ولسنا نذكر شعر آدم وما يشبهه فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين .

*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (20)    كن أول من يقيّم
 
                                                (5)
                        الشعوبية وانتحال الشعر

والشعوبية ما رأيك فيهم وفيما يمكنِ أن يكون لهم من الأثر القوي في إنتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين ? أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد انتحلوا أخباراً وأشعاراً كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين . ولم يقف أمرهم عند إنتحال الأخبار والأشعار ، بل هم قد أضطروا خصومهم ومناظريهم إلى الانتحال والإسراف فيه . وأنت تعلم أن أصل هذه الفرقة إنما هو هذا الحقد الذي أضمره الفرس المغلوبون للعرب الغالبين ، وأنت تعلم أن هذه الخصومة قد أخذت مظاهر مختلفة منذ تم الفتح للعرب ، وأحدثت آثاراً مختلفة بعيدة في حياة المسلمين الدينية والسياسية والأدبية . ولكنا لا نريد أن نتجاوز في هذا الفصل تأثير الشعوبية في الحياة الأدبية وحدها وفي انتحال الشعر على الجاهليين بنوع خاص .

لم يكد ينتصف القرن الأوّل للهجرة حتى كان فريق من سبي الفرس قد أستغرب وأتقن العربية وأستوطن الأقطار العربية الخالصة ، وأخذ يكون له فيها نسل وذرية ، وأخذ هذا الشباب الفارسي الناشئ يتكلم العربية كما يتكلمها العرب أنفسهم . وما هي إلا أن أخذ هذا الشباب يحاول نظم الشعر العربي على نحو ما كان ينظمه شعراء العرب . ثم لم يقف أمرهم عند نظم الشعر بل تجاوزه إلى أن شاركوا العرب في أغراضهم الشعرية السياسية . فكان من هؤلاء الموالي شعراء يتعصّبون للأحزاب العربية السياسية ويناضلون عنها .

وهذا الموقف السياسي الذي وقفه الموالي الأحزاب يسّر الأمر عليهم تيسيراً شديداً . فقد كان أحدهم لا يكاد تأييده لحزب من هذه الأحزاب حتى يفرح به هذا الحزب ويعطف عليه ويجزل له الصِّلات ويذهب في تشجيعه كل مذهب ، على نحو ما تفعل الأحزاب السياسية الآن بالصحف التي تقف منها مواقف التأييد ، تقبل عليها وتمنحها المعونة لا تبالي في ذلك بشيء ، لأنها لا تريد إلا نشر الدعوة ، ولأنها لا تريد إلا الفوز . ومن إبتغى الفوز وحده كان خليقا ألا يحقق في اختيار الوسائل وتدبرالعواقب .

وكذلك كانت تفعل الأحزاب العربية أيام بني أمية . كان هذا المولى يعلن تأييده للأمويين في قصيدة من الشعر فما أسرع ما يضمه الأمويون إليهم لا يعنيهم أكان مخلصاً لهم أو مبتغياً للحظوة والزلفى .

وكذلك كان يفعل حزب آل الزبير وحزب الهاشميين . وكذلك كانت الخصومة بين الأحزاب العربية للمغلوبين الموتورين من الموالي أن يتدخّلوا في السياسة العربية وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبي .

كان بني أمية يشجعون أبا العباس الأعمى ، وكان آل الزبير يشجعون إسماعيل بن يسار ، وكان هذان الشاعران يستبيحان لأنفسهما هجو أشراف قريش خاصة والعرب عامة في سبيل التأييد لآل مروان وآل حرب وآل الزبير .

ولم يكن هؤلاء الموالي مخلصين للعرب حقاً ، إنما كانوا يستغلّون هذه الخصومة السياسية بين الأحزاب ليعيشوا من جهة وليخرجوا من حياة الرق أو حياة الولاء إلى حياة تشبه حياة الأحرار والسادة من جهة أخرى ، ثم ليشفوا ما في صدورهم من غل وينّفسوا عن أنفسهم ما كانوا يضمرون من ضغينة من جهة ثالثة .

ولعل إسماعيل بن يسار أظهر مثل هذه الطائفة من الشعراء الموالي . الذين كانوا يبغضون العرب ويزدرونهم ويستغلون ما بينهم من الخصومات السياسية لحاجاتهم ولذاتهم وأهوائهم . قالوا : كان إسماعيل بن يسار زبيري الهوى ، فلما ظفر آل مروان بآل الزبير أصبح إسماعيل مروانياً وقبله بنو أمية ، فأستأذن ذات يوم على الوليد بن عبدالملك فأخّره ساعة حتى إذا أذن له دخل عليه يبكي ، فلما سأله عن بكائه هذا قال : أخرتني وأنت تعلم مروانيتي ومروانية أبي ؛ فأخذ الوليد يهوّن عليه ويعتذر إليه وهو لا يزداد إلا إغراقاً في البكاء ، حتى وصله الوليد فأحسن صلته ، فلما خرج تبعه بعض من حضر فسأله عن هذه . المروانية التي إدعاها : وما هي ومتى كانت ? فأجاب : إن هذه المروانية هي بغضنا لآل مروان وهي التي حملت أباه يساراً وهو يموت على أن يتقرّب إلى الله بلعن مروان بن الحكم ، وهي التي تحمل أمه على أن تلعن آل مروان مكان ما تتقرّب به من التسبيح .

ولكن آل مروان كانوا في حاجة إلى إصطناع هؤلاء الشعراء يذودون عنهم ويناضلون بني هاشم خاصة ؛ فقد علمت منزلة بني هاشم في نفوس الموالي والفرس .

والرواة يحدّثوننا بأن حب بني أمية لشاعرهم أبي العباس الأعمى لم يكن له حدّ ؛ فقد كانت صلات بني أمية ترسل إليه في مكة . وحج عبدالملك مرة فدخل عليه هذا الشاعر وأنشده شعرا هجا به أبن الزبير ، فخلف عبدالملك على من في المجلس من قرابته ومن قريش ليكسونّه كل واحد منهم ؛ قالوا فألقيت عليه الحلل والثياب حتى كادت تخفيه ، ونهض فجلس عليها بقية مجلسه مع عبدالملك .

ولم تكن سيرة الهاشميين مع أنصارهم من الموالي أقل من سيرة الأمويين والزبيريين . وكانت النتيجة لهذا كله أن استباح هؤلاء الموالي لأنفسهم هجو العرب أوّلا ثم ذكر قديمهم والافتخار بالفرس ثانيا . وهجاء العرب أيام بني أمية ؛ ولكنك تجد من ذلك طرفاً مجزئاً مغنياً في الأغاني وغيره من كتب الأدب .

أما العصر العباسي فيكفي أن تقرأ هذه القصيدة التي قالها أبو نواس يهجو فيها العرب وقريشا ، والتي يقال إن الرشيد أطال حبسه فيها .

وهم يحدّثوننا أن الجرأة بلغت بإسماعيل بن يسار أن أنشد فخره بالفرس بين يدي هشام بن عبدالملك ؛ فغضب عليه الخليفة وأمر به فألقي في بركة كانت بين يديه ولم يخرج إلا وقد أشرف على الموت .

نسوق هذا كله لنعطيك صورة من حقد الفرس على العرب وما كان له من أثر في الحياة الأدبية لهؤلاء الشعراء .

وقد وصلنا إلى ما كنا نريد من تأثير هذه الشعوبية في انتحال الشعر ، فيكفي أن يحاول الشاعر من الموالي الإفتخار على العرب ليفكر في أن يثبت أن العرب أنفسهم كانوا قبل أن يتيح لهم الإسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس وتقدّمهم ، ويقولون في ذلك الشعر يتقّربون به إليهم ويبتغون به المثوبة عندهم ، ولا سيما إذا كانت الحوادث التاريخية والأساطير تعين على ذلك وتدني منه .

ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الفرس قد سيطروا قبل الإسلام على العراق وأخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب ! ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الفرس قد أرسلوا جيشاً أحتل اليمن وأخرج منه الحبشة ! ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنه قد كانت بين الفرس والعرب وقائع ، وأن ملوك الحيرة كانوا أتباعاً للفرس يوفدون إليهم من حين إلى حين أشراف البادية العربية ? وإذا كان هذا كله حقا فلم لا يستغله الموالي ? ولم لا يعتزون به على العرب المتغلبين الذين يزدرونهم ويتخذونهم رقيقا وخدما ?

الحق أن الموالي لم يقّصروا في هذا ، فهم أنطقوا العرب بكثير من نثر الكلام وشعره ، فيه مدح للفرس وثناء عليهم وتقرّب منهم . وهم زعموا لنا الأعشى زار كسرى ومدحه وظفر بجوائزه . وهم أضافوا عديّ بن زيد ولقيط يَعْمُر وغيرهما من إياد والعباد كثيراً من الشعر فيه الإشادة بملوك الفرس وسلطانهم وجيوشهم . وهم أنطقوا شاعراً من شعراء الطائف بأبيات رواها الثقات من الرواة على أنها صحيحة لا شك فيها ، وهي أبيات تضاف إلى أبي الصلت بن ربيعة ، وهو أبو أمية بن أبي الصلت المعروف . وقد يكون من الخير أن نروي هذه الأبيات وهي :

لله  درُّهُمُ من عصبة خرجوا ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
بـيضاً  مرزابةً غُراً iiجحاجحة أُسدا ترّبب في الغَيْضات أشبالا
لا يرمَضُون إذا حرّت مغافرهم ولا  ترى منهمُُ في الطعن مَيَّالا
منْ مثلُ كسرى وسابور الجنود iiله أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
فاشرب  هنيئا عليك التاجُ iiمرتفعا في رأس غُمْدانَ داراً منك مْحِلالا
والتطَّ بالمسك إذ شالت نعامتهم وأسبل  اليوم في بُرديك iiإسبالا
تلك المكارم لا قَعْبان من لبنٍ شـيبا  بماء فعادا بعدُ iiأبوالا
والشعر في مدح سيف بن ذي يزن . وقد زاد ابن قتيبة في أوّله هذه الأبيات وهي أبلغ في الدلالة على ما نريد أن ندل عليه وهي :

لن يطلب الوتر أمثال ابن ذي يزَنٍ لـجـج  في البحر للأعداء أحوالا
أتى هِرَقْلَ وقد شالت iiنَعامته فلم يجد عنده القولَ الذي قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد تاسعةٍ مـن السنين ، لقد أبعدتَ iiإيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم إنك  عمري لقد أسرعتَ iiقلقالا

فانظر إليه كيف قدّم الفرس على الروم في أوّل الشعر وعلى العرب في سائره ! ولو أن العرب غلبوا الروم بعد الإسلام وأزالوا سلطانهم كما أزالوا سلطان الفرس وأخضعوهم لمثل ما أخضعوا له الفرس لكان للروم مع العرب شأن يشبه شأن الفرس معهم . ولكن العرب لم يقوّضوا سلطان الروم وإنما أقتطعوا طائفة من أقاليمهم وظلت دولتهم قائمة .

ومن الخير أن نروى أبيتاً قالها إسماعيل بن يسار في الفخر بالفرس ، فسترى بينها وبين الشعر الذي يضاف إلى أبي الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة . قال :

إني وجدّك ما عُودي بذي iiخَوَرٍ عند الحِفَاظ ولا حَوْضي بمهدوم
أصلي كريمُ ومجدي لا يُقاس به ولـي لسانُ كحدّ السيف iiمسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب من  كل قرم بتاج الملك iiمعموم
حـجاحج سادة بُلْج مرازبة جرد عِتاق مساميح مطاعيم
مَنْ مثلُ كسرى وسابور الجنود معَاً والـهـرمـزان لـفخرٍ أو لتعظيم
أُسد الكتّائب يوم الرَّوع إن زحفوا وهـم  أذلُّوا ملوك الترك iiوالروم
يمشون في حلق الماذي iiسابغةً مشي الضراغمة الأُسد اللهاميم
هناك إن تسألي تُنْبَى بأنَّ لنا جُرْثومةً قَهَرت عِزّ الجراثيم

على هذا النحو من انتحال الموالي للشعر والأخبار يضيفونها إلى العرب ذكراً لمآثر الفرس ، وما كان لهم من سلطان ومجد في الجاهلية . كان العرب مضطرين إلى أن يجيبوا بلون من الانتحال يشبه هذا اللون ، فيه تغليب للعرب على الفرس ، وفيه إثبات لأن ملك الفرس في الجاهلية وتسلطهم على العرب لم يكن من شأنه أن يذل هؤلاء أو أن يقّدم عليهم أولئك .

ومن هنا مواقف هذه الوفود التي تتحدّث أمام كسرى مجامد العرب وعزّتها ومنعتها وإبائها للضيم . ومن هنا هذه المواقف التي تضاف إلى ملوك الحيرة والتي تظهر هؤلاء الملوك أحياناً عصاة مناهضين للملك الأعظم . ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التي كانت للعرب على الفرس والتي تحدّث النبيّ عن بعضها وهو يوم ذي قار .

فأنت ترى أن الشعوبية في مظهرها السياسي الأول قد حملت الفرس على أنتحال الأشعار والأخبار وأكرهت العرب على أن يلقوا الأنتحال بمثله .

على أن هذه الشعوبية لم تلبث أن أستحالت بعد سقوط الأمويين وقيام سلطان الفرس على يد العباسيين إلى خلاف له صورة عليمة أدبية أقرب إلى البحث والجدل في أنواع العلم منها إلى ما كان معروفاً من الخصومة السياسية بين الغالب والمغلوب . وكان هذا النحو من الشعوبية أخصب من النوع السابق وأبلغ في حمل العرب والفرس على الانتحال والإسراف فيه .

ولعلك تلاحظ أن الكثرة المطلقة من العلماء الذين أنصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي ، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضاً ؛ وكانت غايتهم قد أستحالت من إثبات سابقة الفرس في الملك والسلطان إلى ترويج هذا السلطان الذي كسبوه أيام بني العباس وإقامة الأدلة الناهضة على أن الأمر قد ردّ إلى أهله وعلى أن هؤلاء العرب الذين حيل بينهم وبين السيادة الفعلية ليسوا ولم يكونوا أهلا لهذه السيادة . ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب أزدراء ونعى عليهم وغضٍّ من أقدارهم .

فأما أبو عُبّيْدة مَعْمَر بن المُثَنىَّ الذي يرجع العرب إليه فيما يرون من لغة وأدب ، فقد كان أشدّ الناس بغضا للعرب وأزدراءً لهم ؛ وهو الذي وضع كتابا لا نعرف الآن إلا إسمه وهو " مثالب العرب " . وأما غير أبي عبيدة من علماء الموالي ومتكلميهم وفلاسفتهم فقد كانوا يمضون في أزدراء العرب إلى غير حدّ : ينالونهم في حروبهم ، ينالونهم في شعرهم ، ينالونهم في خطابتهم ، وينالونهم في دينهم أيضاً. فليست الزندقة إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية ؛ وليس تفضيل النار على الطين وإبليس على آدم إلا مظهراً من مظاهر الشعوبية الفارسيّة التي كانت تفضّل المجوسية على الإسلام .

وأنت تجد في " البيان والتبين " كلاما كثيراً تستبين منه إلى أيّ حدّ كان الفرس يعجبون بآثار الأمم الأعجمية ويقدّمونها على آثار العرب ، فهم يعجبون بخطب الفرس وسياستهم ، وعلم الهند وحكمتها ، ومنطق اليونان وفلسفتهم ؛ وهم ينكرون على العرب أن يكون لهم شيء يقارب هذا . والجاحظ ينفق لكل هذه المفاخر الأعجمية وأن يأتوا بخير منها .

ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالي : هذا الكتاب الذي كتبه الجاحظ في البيان والتبين وهو "كتاب العصـا". وأصل هذا الكتاب كما تعلم أن الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة ، وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة ، وكانوا يعيبون على العرب إتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون . فكتب الجاحظ كتاب العصا ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم ، وأن أتخاذ الخطيب العربي للعصا لا يغضّ من فنه الخطابي . أليست العصا محمودة في القرآن والسنـة وفي التوراة وفي أحاديث القدماء ? ومن هنا مضى الجاحظ في تعداد فضائل العصا حتى أنفق في ذلك سفراً ضخماً .

والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالردّ على الشعوبية ، ومهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من هذا الأنتحال الذي كانوا يضطرون إليه إضطراراً ليسكتوا خصومهم من الشعوبية . فليس من اليسير أن نصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة ويضيفه إلى الجاهليين صحيح . ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتدّ بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب . كانت الشعوبية ينتحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع أقدارهم .

ونوع آخر من الانتحال دعت إليه الشعوبية ، تجده بنوع خاص في كتاب الحيوان للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحوبها أصحابها نحو الأدب . ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدّثة . فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به .

ومن هنا لا تكاد تجد شيئاً من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب الحيوان إلا وقد قالت العرب شيئاً قليلاً أو كثيراً طويلاً أو قصيراً ، واضحاً أو غامضاً . يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء وسابقة في كل شيء ، هم مضطرون إلى ذلك إضطراراً ليثبتوا ما يفقدون من السلطان السياسي ، وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رءوسها .

وأنا استطيع أن أمضي في تفصيل هذه الآثار المختلفة التي تركتها الشعوبية في الأدب العربي وفي الأنتحال بنوع خاص ؛ ولكني لم أكتب هذا الكتاب إلا لألمّ إلماماً بكل هذه الأسباب التي تحمل على الشك في قيمة ما يضاف إلى الجاهليين من الشعر . وأحسبني قد ألمت بالشعوبية وتأثيرها في ذلك إلماماً كافياً .

*عبدالرؤوف النويهى
5 - مايو - 2007
 1  2  3  4