اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو جديد : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس .
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
|