قصة دمرداش كن أول من يقيّم
قال المقريزي في (السلوك ) في حوادث سنة (725): وفيها بلغ السلطان عن دمرداش بن جوبان متملك الروم ما أغضبه، فكتب يشكوه إلى أبيه جوبان، فأنكر عليه فعله، فاعتذر عما وقع منه، وبلغ جوبان ذلك إلى السلطان، فجهز إلى دمرداش تشريفاً وهدية، وكتب إليه يستميله. ... وفي يوم السبت العشرين من رمضان: قدم الأمير سيف الدين بكمش الجمدار الظاهري والأمير بدر الدين بيليك السيفي السلاري المعروف بأبي غدة من بلاد أزبك بهدية، ومعهما كتابه، وهو يسأل أن يجهز له كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول، وكتاب شرح السنة والبحر للروياني في الفقه، وعدة كتب طلبها، فجهزت له. قال في حوادث سنة (728): وفي سابع ربيع الأول. قدم دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون. وسبب ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا لما ملك أقبل على اللهو، فتحكم الأمير جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولده دمشق خواجا بالأردو، وبعث ابنه دمرداش إلى مملكة الروم. فانحصر أبو سعيد إلى أن تحرك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعة، فسار جوبان لحربه في عسكر كبير، فما هو إلا أن بعد عن الأردو قليلاً حتى رجع العدو عن خراسان، وقصد جوبان العود. وكان قد قبض بوسعيد على دمشق خواجا، وقتله بظاهر مدينة السلطانية، في شوال من السنة الماضية، وأتبع به إخوته ونهب أتباعهم، وسفك أكثر دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكر مع جوبان بما وقع، وأمرهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضر إلى الأردو، وعرفه شوقه إليه، ودس مع الرسول إليه عدة ملطفات إلى أمراء الروم بالقبض عليه أو قتله، وعرفهم ما وقع. وكان دمرداش قد ملك بلاد الروم جميعها وجبال ابن قرمان، وأقام على كل دربند جماعة تحفظه، فلا يمر أحد إلا ويعلم به خوفاً على نفسه من السلطان الملك الناصر أن يبعث إليه فداويا يقتله، بسبب ما حصل بينهما من المواحشة التي اقتضت انحصار السلطان منه، وأنه منع التجار وغيرهم من حمل المماليك إلى مصر، وإذا سمع بأحد من جهة صاحب مصر أخرق به. فشرع السلطان يخادعه على عادته، ويهاديه ويترضاه، وهو لا يلتفت إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمره حتى بعث ينكر عليه، فأمسك عما كان فيه قليلاً، ولبس تشريف السلطان، وقبل هديته وبعث عوضها، وهو مع هذا شديد التحرز. فلما قدمت رسل أبي سعيد بطلبه فتشهم الموكلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش. فلما وقف دمرداش عليهما لم يزل يعاقب الرسل إلى أن اعترفوا بأن أبا سعيد قتل دمشق خواجا وإخواته ومن يلوذ بهم، ونهب أموالهم، وبعث بقتل جوبان. فقتل دمرداش الرسل، وبعث إلى الأمراء أصحاب الملطفات فقتلهم أيضاً، وكتب إلى السلطان الملك الناصر يرغب في طاعته، ويستأذنه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائباً عنه بها. فسر السلطان بذلك. وكان قد ورد على السلطان كتاب المجد السلامي من الشرق بقتل دمشق خواجا واخوته، وكتاب أبي سعيد بقتل جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرة الثلج وقوة الشتاء. فكتب السلطان الناصر جواب دمرداش يعده بمواعيد كثيرة، ويرغبه في الحضور. فتحير دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجه إلى مصر فلا يدري ما يتفق له. ثم قوي عنده المسير إلى مصر، وأعلم أمراءه أن عسكر مصر سار ليأخذ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه الملك الناصر يأمره أن يكون نائبه، فمشى عليهم ذلك وسرهم. وأخذ دمرداش يجهز أمره، وحصن أولاده وأهله في قلعة منيعة، وبعث معهم أمواله، ثم ركب بعساكره حتى قارب بهسنا، فجمع من معه وأعلمهم أنه يريد مصر، وخيرهم بين العود إلى بلادهم وبين المسير معه، فعادوا إلا من يختص به. وسار دمرداش إلى بهسنا في نحو ثلاثمائة فارس، فتلقاه نائبها، ومازال حتى قدم دمشق يوم الأحد خامس عشرى صفر، فركب الأمير تنكز إلى لقائه، وأنزله بالميدان، وقام له بما يجب، وجهزه إلى مصر بعد ما قدم بين يديه البريد بخبره. فبعث إليه السلطان بالأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير، ومعه المهمندار بجميع الآلات الملوكية من الخيام والدهليز والبيوتات كلها إلى غزة، فلقوه بها وأقام فيها يومين وسافر إلى القاهرة، فركب الأمراء إلى لقائه، وخرج السلطان إلى بر الجيزة، ورسم أن يعدي النيل إليه. فلما قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأمير طايربغا وأحضره إلى السلطان بالجيزة، فقبل الأرض ثلاث مرات. فترحب السلطان به وأجلسه بالقرب منه، وباسطه وطيب خاطره، وسأله عن أحواله، وألبسه تشريفاً عظيماً، وركب معه للصيد، وعدى به النيل إلى القلعة، وأسكنه بها في بيت الجاولي ورتب له جميع ما يحتاج إليه، ورسم للأمير طوغان أن يدخل صحبة طعامه بكرة وعشيا. وفي عاشره: قدم دمرداش مائة إكديش وثمانين بختيا وخمسة مماليك وخمس بقج فيها الثياب الفاخرة، منها بقجة بها قباء أطلس مرصع بعدة جواهر ثمينة، فلم يقبل السلطان غير القباء وإكديشاً واحداً وقطار بخات ورد البقيه إليه ليتقوى بها. وتقدم السلطان إلى الوزير أن يرتب لدمرداش ما يليق به، وطلب إلى الحاجب أن يجلسه في الميمنة تحت الأمير سيف الدين آل ملك الجوكندار. فشق عليه ذلك، إلى أن بعث السلطان إليه الأمير بدر الدين جنكلي يعتذر إليه أنه ما جهل قدره، ولكن الشهيد والد السلطان له مماليك كبار قد ربوا السلطان، فهو يريد تعظيم قدرهم، "فلهذا أجلسك بجانبهم؟ فطاب خاطره. واجتمع دمرداش بالسلطان وفاوضه في أمر بلاد الروم، وأن يجهز إليها عسكراً. فأشار السلطان بالمهلة حتى يرد البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، وكتب إلى ابن قرمان أن ينزل على القلعة التي فيها أولاد دمرداش وحواصله ويرسلهم مكرمين إلى مصر. فاستأذن دمرداش في عود من قدم معه إلى بلادهم، فأذن له في ذلك، فسار كثير منهم. وأنعم السلطان على دمرداش بأمرة سنجر الجمقدار، بحكم إخراجه إلى الشام. وفي يوم الإثنين حادي عشره: ركب دمرداش بالقماش الإسلامي على هيئة الأمراء. وفي تاسع عشره: قدم الأمير شاهنشاه ابن عم جوبان، فخلع عليه، وأنزل عند دمرداش. وفي ثامن عشريه: وصل طلب دمرداش وثقله، فأنزلوا بدار الضيافة، وهم نحو ستمائة فارس. وفي يوم الأحد أول ربيع الآخر: عرض السلطان أصحاب دمرداش، وفرق أكثرهم على الأمراء، واختار نحو التسعين منهم العود إلى بلادهم، فعادوا. وفيه قدمت رسل أبي سعيد بكتابه، وفيه بعد السلام والاستيحاش وذكر الود إعلام السلطان بأمر جوبان وتحكمه وقلة امتثاله الأمر، وأنه قصد قتله والتحكم بمفرده، فلما تحقق ذلك لديه بعثه إلى خراسان، وسير بالقبض عليه، وهو يأخذ رأي السلطان في ذلك، وقد سير أبو سعيد مع رسله هدية فقبلت. وسألهم السلطان عن دمرداش، فذكروا أنهم لم يعرفوا خبره حتى قدموا دمشق، فبعثهم إليه فلم يعبأ بهم. وفي يوم الثلاثاء عاشره: توجه السلطان إلى الوجه البحري ومعه دمرداش، وحسن له الفخر ناظر الجيش والأمير بكتمر الساقي زيارة الشيخ محمد المرشد فتوقف في زيارته ثم عزم عليها. فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن كاشف الغربية بطلب جميع العربان وتقديمهم الخيل والهجن، وأن يجهز الإقامات. واستناب السلطان في غيبته الأمير قجليس. وفي تاسع شوال: بعث السلطان الأمير سيف الدين أروج مملوك قبجق إلى أبي سعيد يشفع في دمرداش، ومعه الرسل بهدية جليلة، فساروا في تاسع جمادى الأولى. وفي يوم السبت عاشر رجب: عاد أطوجي من بلاد أزبك ملك القبجاق بتقادم جليلة، فأنزل بالميدان، وأنعم عليه وعلى جماعته بشيء كثير. وفي خامس عشريه: عقد نكاح ابنة السلطان على الأمير سيف الدين طغاي تمر العمري الناصر وأعفي الأمراء من حمل الشموع وغيرها، وأنعم عليه من الخزانة بأربعة ألاف دينار عوضاً عن ذلك. وفيه عاد جواب ابن قرمان بأنه ركب إلى القلعة التي فيها أهل دمرداش، وعرفهم أنه حضر. بمرسوم السلطان، وبعث إليهم بكتاب دمرداش أنهم يقدمون عليه بمصر، فردوا جوابه: "لا حاجة لنا في مصر". وذكر ابن قرمان أن هذا بمباطنة دمرداش لهم، وحط عليه بأنه سفك دماء كثرة، وقتل من المسلمين عالماً عظيماً، وأنه جسور وما قصد بدخوله مصر إلا طمعاً في ملكها. وبعث ابن قرمان الكتاب صحبة نجم الدين إسحاق الرومي (؟) أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقتل والده، وأنه قدم ليطالبه بدم أبيه. فلما وقف السلطان على الكتاب تغير، وطلب دمرداش وأعلمه بما فيه. وجمع السلطان بينه وبين إسحاق، فتحاققا بحضرة الأمراء، فظهر أن كلا منهما قتل لصاحبه قتيلاً، فكتب جواب ابن قرمان معه وأعيد. وقد تبين للسلطان خبث نية دمرداش، فقبضه وأمسك من معه من الأعيان، وهم محمود شاهنشاه وعدة أخر في يوم الخميس العشرين من شعبان، واعتقل دمرداش ببرج السباع من القلعة، وفرق البقية في الأبراج، وفرقت مماليكه على الأمراء، ورتب له ما يكفيه. وكان للقبض على دمرداش أسباب: منها أنه كان له بالروم مائة ألف رأس من الغنم، فلما وصلت قطيا أطلق منها للأمير بكتمر الساقي عشرين ألفاً، ولقوصون وبقية الأمراء كل واحد شيئاً حتى فرق الجميع، فلم يعجب السلطان ذلك. ودخل دمرداش يوماً الحمام فأعطي الحمامي ألف درهم، والحارس ثلاثمائة، فزاد حنق السلطان منه. ثم أخذ دمرداش يوقع في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمالاً، فما حمل السلطان هذا منه. وفي شوال في تاسع عشريه: عقد نكاح الخاتون طلباي الواصلة من بلاد أزبك على الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، بعدما طلقها السلطان وانقضت عدتها. وفي ذي الحجة سافر الأمير سيف الدين أيتمش إلى بوسعيد برسالة تتضمن ما قام به السلطان مع دمرداش بن جوبان، وكان قد وصل إلى الأبواب السلطانية في يوم الأربعاء حادي عشر شهر رمضان رسل من عند أبي سعيد، وهم ثلاثة نفر، والمشار إليه منهم أياجي أمير جندار الملك أبي سعيد. فلما مثلوا بين يدي السلطان، وكلهم الإنعام بالتشاريف على عادة أمثالهم، أرسلهم السلطان إلى دمرداش في معتقله، صحبة الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، فاجتمعوا به وتحدثوا معه. وقيل كان مضمون رسالتهم طلب دمرداش من السلطان، وأنه إذا سلم إليهم أرسل الملك أبو سعيد في مقابلة ذلك الأمير شمس الدين سنقر المنصوري. فمال السلطان إلى ذلك، ورسم للأمير أيتمش المحمدي أن يتوجه إلى الملك أبي سعيد برسالة السلطان لتقرير الحال في ذلك، وتوجه طلب دمرداش في يوم الإثنين سادس عشر شهر رمضان، ثم عدل السلطان عن هذا الأمر، وترجح عنده أنه لا يرسله إلى الملك أبي سعيد. فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال: من هذه السنة أخرج دمرداش من معتقله بالبرج، وفتح باب السر من جهة القرافة وأخرج منه وهو مقيد مغلول، وشاهده رسل الملك أبي سعيد وهو على هذه الحال. ثم خنق دمرداش، وشاهده الرسل بعد موته، وقطع رأسه وسلخ وصبر وحشي وأرسل السلطان الرأس إلى أبي سعيد، ودفن الجسد بمكان قتله. |