ليالي تييمور (سقوط دمشق) 803هـ كن أول من يقيّم
وفي يوم السبت خامس عشره: نودي في القاهرة ومصر أن الأمير يلبغا السالمي أمر أن نساء النصارى يلبسن أزراراً زرقاً. ونساء اليهود يلبسن أزراراً صفراً. وأن النصارى واليهود لا يدخلون الحمامات إلا وفي أعناقهم أجراس وكتب على بترك النصارى بذلك إشهاداً، بعد أن جرت بينه وبينه عدة محاورات، حتى أشهد عليه بالتزام ذلك، إلزامه سائر النصارى بديار مصر، وألزم سائر مدولبي الحمامات ألا يمكنوا يهودياً ولا نصرانياً من الدخول بغير جرس في عنقه، فقام الأمير تمراز في معارضته. وفي يوم السبت: هذا نزل تمرلنك إلى قطا =قطنا= فملأت جيوشه الأرض، وركب طائفة منهم إلى العسكر وقاتلوهم، فخرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشره إلى =قبة= يلبغا، فكانت وقعة انكسرت ميسرة العسكر، وانهزم أولاد الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران، وجرح جماعة، وحمل تمر حملة منكرة، ليأخذ بها دمشق، فدفعته عساكر السلطان. وفي عشرينه: نادي الأمير تمراز بالقاهرة من كانت له ظلامة فعلية ببيت الأمير وأن اليهود والنصارى على حالهم، كما كانوا في أيام الملك الظاهر. فبطل ما أمر به السالمي. وفيه أمر السالمي أن يضرب دنانير الذهب محررة الوزن، على أن كل دينار مثقال، سواء عزم على إبطال المعاملة بالدنانير الأفرنتية المشخصة، فضرب الدينار السالمي، وتعامل الناس به عدداً، ونقش عليه السكة الإسلامية. وفي ثاني عشرينه: قدم البريد من السلطان أنه دخل دمشق يوم الخميس سادسه، وأقام بقلعتها إلى يوم السبت ثامنه، ثم خرج إلى مخيمه ظاهر المدينة عند قبة يلبغا. فحضر جاليش تمرلنك وقت الظهر من جهة جبل الثلج، وهو نحو ألف فارس، فسار إليهم مائة فارس من عساكر السلطان، وكسروهم وقتلوا منهم جماعة، وأنه حضر في تلك الليلة عدة من التمرية للطاعة، وأخبروا بنزول تمر على البقاع العزيزي فلتكونوا على حذر، فإن تمر كثير الحيل والمكر فدقت البشائر بقلعة الجبل ثلاثة أيام. وفي خامس عشرينه: قدم البريد من السلطان، فاستدعي الأمير تمراز شيخ الإسلام البلقيني وولده جلال الدين عبد الرحمن قاضي العسكر، ومن تأخر بالقاهرة من الأعيان، وقرئ عليهم كتاب السلطان بأنه قدم إلى دمشق في سادسه، وواقع طائفة من العسكر في ثامنه، أصحاب تمرلنك، وأن مرزه شاه بن تمر، وصهره نور الدين قتلا. وقتل قرايلك بن طرالي التركماني، وأن السلطان حسين بهادر -رأس ميسرة تمرلنك وابن بنته- حضر إلى الطاعة في ثالث عشره، ومعه جماعة كبيرة، فخلع عليه، وأركب فرساً بسرج وكنبوش من ذهب، وأنزل دار الضيافة بدمشق، وأن تمر نازل تحت جبل الثلج، وقد أرسل في طلب الصلح مراراً، فلم نجبه لأنه بقي في قبضتنا، ونحن نطاول معه الأمر حتى يرسل إلينا الأمراء المقبوض عليهم، وما أخذه من حلب وغيرها. وأن الأمير نعير دخل في الطاعة، وقدم إلى عذراء وضمير. وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ توجه إلى الأغوار، وجمع خلقاً كثيراً، منهم عيسى بن فضل أمير آل علي، وبني مهدي، وعرب حارثة، وابن القان، والغزاوي، فصدفوا من التمرية زيادة على ألفي فارس، فقاتلوهم وقتلوا أكثرهم، وأخذوا منهم ذهباً ولؤلؤاً كبيراً. وأنه قد مات من أصحاب تمر بالبرد أكثر من ثلاثة آلاف نفس. وقرئ أيضاً كتاب آخر بأن الأمير يلبغا السالمي لا يحكم إلا فيما يتعلق بالاستادارية خاصة، ولا يحكم في شيء مما كان يحكم فيه بين الأخصام مما يتعلق بالأمور الشرعية، وما يتعلق بالأمراء والحجاب، وأن الحاكم في هذه الأشياء الأمير تمراز نائب الغيبة. وسبب هذا أن السالمي -لما مات قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي في تاسع عشر ربيع الآخر- كتب إلى السلطان يسأل في الإذن له بالتحدث في الأحكام الشرعية، فأجيب إلى ذلك، وكتب إليه به، فأقام له نقيباً كنقباء القضاة، وحكم بين الناس، في الأمور الشرعية، فشق هذا على تمراز، وكاتب السلطان في إبطال هذا، فكتب إليه بذلك. ولما قرئ على من حضر، نودي بالقاهرة ومصر أن من وقف ليلبغا السالمي في شكوى عوقب، ومن كانت له ظلامة أو شكوى أو أخذ منه السالمي شيء، فعليه بالأمير الكبير تمراز. ودقت البشائر أيضاً بالقلعة. وفي سابع عشرينه: استدعي الأمير تمراز شمس الدين محمد البرقي الحنفي -أحد موقعي قضاة الحنفية- وتحدث معه في أمر السالمي، فكتب محضراً بقوادح في السالمي، وكتب فيه جماعة. وبلغ ذلك السالمي، وكان قد خرج من القاهرة، فحضر يوم الأحد سلخه إلى عند الأمير تمراز، وتفاوضا مفاوضة كبيرة، آلت إلى أن أصلح بينهما الأمير مبارك شاه الحاجب، والأمير بيسق أمير أخور. وعاد السالمي إلى منزله، وطلب البرقي وضربه عريا ضرباً مبرحاً، وأمر به أن يشهر كذلك، فقام الناس وشفعوا فيه حتى رده من الباب، وطلب جماعة من اليهود والنصارى وضربهم، وشهرهم، ونادي عليهم هذا جزاء من يخالف الشرع الشريف. وطلب دوادار وإلى القاهرة، وضربه لكونه نادى بما تقدم ذكره في حقه، فهرب الوالي إلى بيت تمراز واحتمي به، خوفا على نفسه. شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: في أوله خلع الأمير تمراز على ناصر الدين محمد بن ليلى بولاية مصر. فلما حضر إلى السالمي نزع عنه الخلعة وضربه عرياناً، وشهره وهو ينادي عليه هذا جزاء من يلي من عند غير الأستادار، ومن يلي بالبراطيل، فأدركه أحد مماليك تمراز وسار به إليه. فلما رآه مضروباً اشتد حنقه، وعزم على الركوب للحرب، فما زال به من حضر حتى أمسك عن إقامة الحرب. واشتدت العداوة بينهما. وفيه قدم من أخبر باختلاف الأمراء على السلطان، وعوده إلى مصر، فكثر خوض الناس في الحديث، وكان من خبر السلطان أن تمرلنك بعث إليه وإلى الأمراء في طلب الصلح، وإرسال أطلمش من أصحابه، وأنه يبعث من عنده من الأمراء والمماليك، فلم يجب إلى ذلك. وكانت الحرب بين أصحاب تمر وطائفة من عساكر السلطان في يوم السبت ثامن جمادى الأولى كما تقدم. ثم كانت الحرب ثانياً في يوم الثلاثاء حادي عاشره. وفي كل ذلك يبعث تمرلنك في طلب الصلح فلا يجاب. وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: اختفي من الأمراء والمماليك السلطانية جماعة منهم الأمير سودن الطيار، والأمير قاني باي العلاي، وجمق أحد الأمراء. ومن الخاصكية يشبك العثماني، وقمج الحافظي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي في آخرين. فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء. وأتاهم الخبر بأن الجماعة قد توجهوا إلى القاهرة، ليسلطوا الشيخ لاجين الجركسي، فركب الأمراء في أخر ليلة الجمعة حادي عشرينه، وأخذوا السلطان، وخرجوا بغتة من غير أن يعي والد على ولده. وساروا على عقبة دمر، يريدون مصر من جهة الساحل، ومروا بصفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم إلى غزة. وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة. فأدرك السلطان الأمراء الذين اختفوا بدمشق: سودن الطار، وقاني باي ومن معهما بغزة. فما أمكن إلا مجاملتهم، وأقام بغزة ثلاثة أيام، وتوجه إلى القاهرة، بعدما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية. فقدم إلى القاهرة يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة، وأعلم بوصول السلطان إلى غزة، فارتجت البلد، وكادت عقول الناس أن تختل. وشرع كل أحد يبيع ما عنده، ويستعد للهروب من مصر. فلما كان يوم الخميس خامسه، قدم السلطان إلى قلعة الجبل، ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونحو الألف من المماليك السلطانية، ونائب دمشق الأمير تغري بردى، وحاجب الحجاب بها الأمير باشا باي، وغالب أمرائها، ونائب صفد، ونائب غزة، وهم في أسوأ حال، ليس مع الأمير سوى مملوك أو مملوكين فقط، وفيهم من هو بمفرده، ليس معه من يخدمه. وذهبت أموالهم وخيولهم وجمالهم وسلاحهم، وسائر ما كان معه، مما لو قوم لبلغت قيمته عشرات آلاف ألف دينار. وشوهد كثير من المماليك لما قدم وهو عريان. وكان الأمير يلبغا السالمي قد تلقي السلطان بالكسوة له، وللخليفة، وسائر الأمراء. وأما دمشق فإن الناس بها أصبحوا يوم الجمعة بعد هزيمة السلطان، ورأيهم محاربة تمرلنك، فركبوا أسوار المدينة ونادوا بالجهاد، وزحف عليهم أصحاب تمر، فقاتلوهم من فوق السور، وردوهم عنه، وأخذوا منهم عدة من خيولهم. وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رءوسهم إلى المدينة، فقدم رجلان من قبل تمر، وصاحا بمن على السور: أن الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلاً عاقلاً حتى نحدثه في ذلك. فوقع اختيار الناس على إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، فأرخى من السور، واجتمع بتمرلنك وعاد إلى دمشق، وقد خدعه تمرلنك، وتلطف معه في القول، وقال: هذه بلدة الأنبياء، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عن أولادي. فقام ابن مفلح في الثناء على تمر قياماً عظيماً، وشرع يخذل الناس عن القتال، ويكفهم عنه، فمال معه طائفة من الناس، وخالفته طائفة، وقالت: لا نرجع عن القتال. وباتوا ليلة السبت على ذلك، وأصبحوا وقد غلب رأي ابن مفلح، فعزم على إتمام الصلح، وأن من خالف ذلك قتل. وفي الوقت، قدم رسول تمر إلى سور المدينة في طلب الطقزات، وهي عادة تمر إذا أخذ مدينة صلحاً أن يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المآكل والمشارب والدواب والملابس تسعة، يسمون ذلك طقزات، فإن التسعة بلغتهم يقال لها طقز. فبادر ابن مفلح واستدعي من القضاة والفقهاء والتجار حمل ذلك، فشرعوا فيه حتى كمل وساروا به إلى باب النصر ليخرجوه إلى تمرلنك، فمنعهم نائب القلعة من ذلك، وهددهم بحريق المدينة عليهم. فلم يلتفتوا إلى قوله، وتركوا باب النصر، ومضوا إلى جهة أخرى من جهات البلد. وأرخوا الطقزات من السور، وتدلي ابن مفلح ومعه كثير من الأعيان وغيرهم، وساروا إلى مخيم تمرلنك، وباتوا به ليلة الأحد. ثم عادوا بكرة الأحد وقد استقر تمر منهم بجماعة في عدة وظائف، ما بين قضاة قضاة، ووزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، ومعهم فرمان، وهو ورقة فيها تسعة أسطر، تتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم، وأهليهم خاصة. فقري على منبر جامع بني أمية، وفتح من أبواب المدينة باب الصغير فقط، وقدم أمير من أمراء تمرلنك، فجلس به ليحفظ البلد ممن يعبر إليها وأكثر ابن مفلح ومن كان معه من ذكر محاسن تمرلنك وبث فضائله، ودعا العامة إلى طاعته، وموالاته، وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر جمعه وهو ألف ألف دينار، ففرض ذلك على الناس كلهم، وقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم. فلما كمل المال، حمله ابن مفلح وأصحابه إلى تمر، ووضعوه بين يديه. فلما عاينه غضب غضباً شديداً، و لم يرض به، وأمر بابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فاخرجوا، ووكل بهم. ثم ألزموا بحمل ألف تومان، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب، إلا أن سعر الدينار عندهم يختلف، فتكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار، فالتزموا بها، وعادوا إلى البلد، وفرضوه على الناس، فجبوا أجرة مساكن دمشق كلها عن ثلاثة أشهر، وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى، وحر وعبد، وصغير وكبير بعشرة دراهم. وألزم مباشر كل وقف من سائر الأوقاف بمال، فأخذ من أوقاف جامع بني أمية ألف درهم، ومن بقية أوقاف الجوامع والمساجد والمدارس والمشاهد والربط والزوايا شيء معلوم، بحسب ما اتفق، فنزل بالناس في استخراج هذا بلاء عظيم. وعوقب كثير منهم بالضرب، وشغل كل أحد بما هو فيه، فغلت الأسعار، وعز وجود الأقوات، وبلغ المسد من القمح -وهو أربعة أقداح- إلى أربعين درهماً فضة. وتعطلت الجمعة والجماعة من دمشق كلها، فلم تقم بها جمعة إلا مرتين، الأولى في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة، ودعا الخطب فيها بجامع بني أمية للسلطان محمود، ولولي عهده ابن الأمير تيمور كركان، ثم شغل الناس بعدها عن الدين والدنيا بما هم فيه. وذلك أنه نزل شاه الملك -أحد أمراء تمر- بجامع بني أمية، ومعه أتباعه، وادعى أنه نائب دمشق، وجمع كل ما كان في الجامع من البسط والحصر، وستر بها شرفات الجامع، وصلى الناس الجمعة في شمالي الجامع، وهم قليل. وشاهدوا أصحاب شاه ملك يلعبون في الجامع بالكعاب، ويضربون بالطنابير. ثم بعد الجمعتين منعوا من إقامة في الجمعة بالجامع، فصلى طائفة الجمعة بعد ذلك بالخانقاه السميساطية، فتعطلت سائر الجوامع والمساجد من إعلان الأذان، وإقامة الصلاة. وبطلت الأسواق كلها، فلم بيع شيء إلا ما كان مما يورد ثمنه في الجباية المقررة. وزاد بالناس البلاء أن أصحاب تمر لا يأخذون إلا الدراهم والدنانير لا غير، وردوا الفلوس، فانحطت وصار ما كان بخمسة دراهم لا يحسب الناس فيه فيما بينهم غير درهم واحد. هذا ونائب القلعة ممتنع بها، وقد حاصره تمر، فخرب ما بين القلعة والجامع بالحريق وغيره. ثم إن النائب سلم بعد تسعة وعشرين يوماً. فلما تكامل حصول المال الذي هو بحسابهم ألف تومان، حمل إلى تمر، فقال لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا، إنما هو ثلاثة آلاف دينار. وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر أنكم قد عجزتم. وكان تمر لما خرجت إليه الطقزات، وفرض للجباية الأولى التي هي ألف ألف دينار، قرر مع ابن مفلح وأصحابه أن ذلك على أهل البلد، وأن الذي تركه العسكر المصري من المال والسلاح والدواب وغير ذلك لا يعتد به لهم، وإنما هو لتمر. فخرج الناس إليه بأموال أهل مصر. وبدا منهم في حق بعضهم بعضاً من المرافعات أنواع قبيحة، حتى صارت كلها إليه. فلما علم أنه قد استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من التجار وغيرهم إلى دمشق خوفاً منه. وكان قد خرج من دمشق عالم عظيم، فتسارعوا إلى حمل ذلك إليه، وجروا على عادتهم في النميمة بمن عنده من ذلك شيء، حتى أتوا على الجميع. فلما صار إليه ذلك كله ألزمهم أن يخرجوا إليه سائر ما في المدينة من الخيل والبغال والحمير والجمال، فاخرج إليه جميع ما كان في المدينة من الدواب، حتى لم يبق بها شيء من ذلك. ثم ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع آلات السلاح، جليلها وحقيرها، فتتبعوا ذلك، ودل بعضهم على بعض، حتى لم يبق بها من آلات القتال وأنواع السلاح شيء. ثم بعد حمل الفريضتين ورميه ابن مفلح ومن معه بالعجز عن الاستخراج، قبض على أصحاب ابن مفلح، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه. وقسم البلد بينهم، فساروا إليها، ونزل كل أمير في قسمه، وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فكان الرجل يوقف على باب داره في أزرى هيئة، ويلزم بما لا يقدر عليه من المال، فإذا توقف في إحضاره عذب بأنواع العذاب من الضرب وعصر الأعضاء، والمشي على النار، وتعليقه منكوشاً، وربطه بيديه ورجليه، وغم أنفه بخرقة فيها تراب ناعم، حتى تكاد نفسه تخرج، فيخلى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة. ومع هذا كله تؤخذ نساوه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذب امرأته وهي توطأ، وابنته وهي تفض بكارتها، وولده وهو يلاط به، فيصير هو يصرخ مما به من ألم العذاب، وابنته وولده يصرخون من ألم إزالة البكارة، وإتيان الصبي، وكل هذا نهاراً وليلاً، من غير احتشام ولا تستر. ثم إذا قضوا وطرهم من المرأة، والبنت والصبي، طالبوهم بالمال، وأفاضوا عليهم أنواع العقوبات، وأفخاذهم مضرجة بالدماء. وفيهم من يعذب بأن يشد رأس من يعاقبه بحبل ويلويه حتى يغوص في الرأس، وفيهم من يضع الحبل على كتفي المعذب ويديره من تحت إبطه، ويلويه بعصا حتى ينخلع الكتفين. وفيهم من يربط إبهام اليدين من وراء الظهر ويلقي المعذب على ظهره، ويذر في منخريه رماداً سحيقاً، ثم يعلقه بإبهام يديه في سقف الدار، ويشعل النار تحته. وربما سقط في النار فسحبوه منها، وألقوه حتى يفيق، فيعذب أو يموت، فيترك. واستمر هذا البلاء مدة تسعة عشر يوماً، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين رجب، فهلك فيها بالعقوبة ومن الجوع خلق لا يدخل عددهم تحت حصر. فلما علموا أنه لم يبق في المدينة شيء له قدر، خرجوا إلى تمرلنك، فأنعم بالبلد على أتباع الأمراء، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رحب، ومعهم سيوف مشهورة، وهم مشاة، فنهبوا ما بقي من الأثاث وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربطين في الحبال. ثم طرحوا النار في المنازل، وكان يوماً عاصف الريح، فعم الحريق البلد كلها، وصار لهب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار ثلاثة أيام، آخرها يوم الجمعة. وأصبح تمر يوم السبت ثالث رجب راحلاً بالأموال والسبايا والأسري، بعدما أقام على دمشق ثمانين يوماً، وقد احترقت كلها، وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق، وزالت أبوابه، وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق، ومدارسها، ومشاهدها، وسائر دورها، وقياسرها، وأسواقها، وحماماتها، وصارت أطلالاً بالية، ورسوماً خالية، قد أقفرت من الساكن، وامتلأت أرضها بجثث القتلى، ولم يبق بها دابة تدب، إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف، فيهم من مات، وفيهم من يجود بنفسه. |