اتفاقية آمد (ذو القعدة: 836هـ) كن أول من يقيّم
كنت قد نشرت في موضوع بعنوان (يوم أحرقت دمشق) ما حكاه ابن حجة الحموي من قصة فتوح دياربكر في رجب عام (816) أيام الملك المؤيد شيخ المحمودي وكما كلف ابن حجة الحموي بكتابة وقائع تلك الحرب الشعواء، فقد صدر الأمر بتكليف الحافظ ابن حجر العسقلاني بقراءة نص هذه الرحلة في الجامع الأزهر وجامع السلطان المؤيد شيخ، ويستوقفنا في النص التالي أن الحافظ ابن حجر كان أيضا في صحبة الملك برسباي في هذه حملته على آمد، كما يذكر في (إنباء الغمر) تحت عنوان (السفرة الشمالية) وسأنشرها في التعليق اللاحق، وقد صارت هذه الوقعة تاريخا يؤرخ به، فترى السخاوي في (الضوء اللامع) يقول غير مرة: (سنة آمد) قال المقريزي (ت 845) في حوادث (836) وفي ثامن عشرينه (أي ذي الحجة): برز السلطان من دمشق يريد القاهرة. وكان من خبره أنه سار من حلب في حادي عشرين رمضان، ونزل البيرة في خامس عشرينه، وقد ترك الأثقال والقضاة ونحوهم بحلب، فعدى الفرات بالمقاتلة في يومين، ودخل الرها في سلخه، وسار من الغد، فنزل على آمد في ثامن شوال، ومعه من المماليك السلطانية والأمراء ومماليكهم ونواب البلاد الشامية بأتباعهم، ومن انضم إليهم من التركمان، ومن عرب كلاب، ما يقارب عددهم عشرة آلاف، والمجازف يقول ما لا يعلم، فأناخ عليها، وقد خرج قرا يلك منها إلى أرقنين وترك بآمد ولده، فترامى الفريقان بالنشاب، ثم زحف السلطان بمن معه في يوم السبت عاشره من بكرة النهار إلى ضحاه وعاد فلم يقع زحف بعد ذلك، وقتل في هذا الزحف مراد بك بن قرا يلك بسهم، وقتل حمزة الخازندار نائب آمد وجماعة، وجرح من أهل آمد ومن العسكر كثير، وقبض على جماعة من أهل آمد، فقتل بعضهم وترك بعضهم في الحديد، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر، وصار يقتل من خرج من الغلمان ونحوهم لأخذ القمح ونحوه، ومنع الميرة عن العسكر. فقدم في يوم الاثنين ثاني عشره صاحب أكل - واسمه دولات شاه- فخلع عليه، وأنزل في العسكر، ثم قدم الملك الأشرف أحمد بن سليمان ابن غازي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله، صاحب حصن كيفا، باستدعاء، حتى قارب العسكر، فخرج عليه عدة من العسكر قرا يلك، فقتلوه وقتلوا معه قاصد السلطان المتوجه إليه، فاشتد ذلك على السلطان وبعث في إحضار قاتليه جماعه من العربان والتركمان، فأحضروا من جماعة قرا يلك عشرين رجلاً، ثم توجهوا ثانية فأحضروا ثلاثين رجلاً وسطوا تجاه قلعة آمد ثم توجهوا ثالثاً فأحضروا واحداً وعشرين رجلاً، منهم قرا محمد أحد أمراء قرا يلك، ومنهم صاحب ماردين فوسط قرا محمد ومعه عشرون رجلاً. فاتفق أن واحداً منهم انفلت من وثاقه، فمر يعدو والعسكر تنظره، فما أحد رماه بسهم، ولا قام في طلبه حتى نجا، وطلع القلعة. وفي أثناء ذلك سار الأمير شار قطلوا نائب الشام، ومعه عدة من التركمان والعرب وغيرهم لقتال قرا يلك، فكانت بينهم وقعة، قتل وجرح فيها من التركمان والعرب وأصحاب قرا يلك جماعة، وتأخر شار قطلو عن لقائه، فبعث قرا يلك بقرا أحمد بن عمه، وبكاتب سره بكتبه يترامى على نواب الشام في الصلح، فما زالوا بالسلطان حتى أجاب إلى ذلك، وبعث إليه شرف الدين أبا بكر الأشقر نائب كاتب السر، حتى عقد الصلح معه، وحلفه على الطاعة، وجهز إليه كاملية حرير مخمل بفرو سمور، وقباء حرير بوجهين وعليه طراز عرض ذراع ونصف وربع، وثلاثون قطعة قماش سكندري، وسيف بسقط ذهب، وفرس بقماش ذهب، وخلع على قصاده. فقدم قاصداً اسكندر بن قرا يوسف صاحب توريز وعراق العجم بأنه قادم إلى الخدمة السلطانية، فأجيب بالشكر، وأنه قد وقع الصلح مع قرا يلك. وكان الذي وقع الصلح عليه أن قرا يلك لا يتعرض إلى شيء من أطراف المملكة من الرحبة، وإلى دوركي، وأن يسهل طرق الحجاج والتجار ونحوهم من المسافرين، ولا يتعرض لحصن كيفا ولا لرعيتها وحكامها، ولا لدولات شاه حاكم أكل وقلاعه، وأن يضرب السكة، ويقيم الخطبة للسلطان بديار بكر، وأن يمتثل ما يرد عليه من مراسيم السلطان. ثم قدم الملك شرف الدين يحيى بن الأشرف صاحب كيفا - وقد استقر في سلطنة الحصن أخوه الملك الصالح صلاح الدين خليل بن الملك الأشرف - بتقدمة أخيه، فخلع عليه، وجهز للصالح خلعة وسيف. ثم رحل السلطان ومن معه عن آمد، بعد الإقامة عليها خمسة وثلاثين يوماً، في ثالث عشر ذي القعدة، وقد غلت عندهم الأسعار، فبلغ الأردب الشعير نحو دينارين ونصف، وأنه كان يعطي فيه اثنان وسبعون درهماً مؤيدية، عن كل مؤيدي سبعة دراهم ونصف من الفلوس، نقد القاهرة، ويصرف دينار بثلاثين مؤيدياً فضة، وبلغ القمح كل أربعة أقداح بدرهمين فضة، وبلغ القدح الواحد من الملح خمسة عشر درهماً فضة، وبلغ الرطل من الزيت ومن السرج بثلاثين درهماً فضة، ونهب من ضواحي آمد غلال لا تحصى، منها زيادة على مائتي ألف أردب بمقتضى المحاسبة، سوى ما انتهبه العسكر، وخرب ما هنالك من الضياع، وأخذت أخشابها، وقطعت أشجارها، ونهب ما فيها، وفعل بأهلها ما لا يمكن وصفه، فلما وصل السلطان من آمد إلى الرها أقر الأمير أينال الأجرود نائب غزة بالرها، وقواه بنحو خمسة آلاف دينار وشعير وبشماط وأرز وزيت وصابون وسلاح كثير، وولي عوضه نيابة غزة الأمير جانبك الحمزاوي، وقدمه إليها، ثم رحل، فقدم حلب في خامس عشرينه، وسار منها في خامس ذي الحجة، ودخل دمشق في تاسع عشره. وكانت سفرة مشقة زائدة الضرر، عديمة النفع، أنفق السلطان فيها من المال الناض خمسمائة ألف دينار، وتلف له من سلاح والخيل والجمال وغير ذلك. وأنفق الأمراء والعساكر بمصر والشام، وتلف لهم من الآلات والدواب والقماش ما تبلغ قيمته مئات قناطير من ذهب، وتلف لأهل آمد وذهب مال عظيم جداً وقتل خلق كثير، ونفق من دواب العسكر زياده على عشرة آلاف، ما بين جمل وفرس، ولم يبلغ أحد غرضاً من الأغراض، ولا سكنت فتنه. وإني لأخشى أن يكون الأمر في هذه الكائنة كما قيل: لا تحقرن سُبَيباً كم جر شراً سُبَيْبُ و لله عاقبة الأمور. |