(7/3): الصغيران كن أول من يقيّم
3- السحاب الأحمر / الصغيران : - (( ... وفي تلك الساعة كانت الأرض قد عريت إلا من أواخر الناس وطوارق الليل ، وبقية من يقظة النهار تحبو في الطرق ذاهبة إلى مضاجعها ، فبينا أمد عيني ، وأديرهما في مفتتح الطريق ومنقطعه ؛ إذ انتفضت انتفاضة الذعر ، ووثبت رجة القلب بجسمي كله كما تثب اللسعة بملسوعها ؛= ذلك حين أبصرت الطفلين . صغيران ضلا من أهلهما في هذا الليل ، يمشيان على حيد الطريق في ذلة وانكسار ، وتحسب أقدامهما من البطء والتخاذل لا تمشي بل تتزحزح قليلاً قليلاً ، فكأنهما واقفان ، أكبرهما طفلة تعد عمرها على خمس أصابعها ، والآخر طفل يبلغ ثلاث سنوات ، ينحدران في أمواج الليل وقد نزل بهما من الهم في البحث عن بيتهما = ما ينـزل مثله بمن تطوح به الأقدار إذا ركب البحر المظلم ليكشف عن أرض جديدة . تتبين الخوف في عيونهما الصغيرة وتراه يفيض منهما على من حولهما ، حتى ليحسب كلاهما أن المنازل عن يمينه وشماله أطفال مذعورة . ويتلفتان كما تتلفت الشاة الضالة من قطيعها ، لا يتحرك في دمها بالغريزة إلا خوف الذئب . ويتسحبان معًا وراء الأشعة المنبثة في الطرق ، كأن أضواء المصابيح هي طريق قلبيهما الصغيرين . منقطعان في ظلام الليل ، وليس على الأرض أهنأ من ليل الطفل النائم ، فهل يكون فيها أشقى من ليل طفل ضائع ؟! ، نامت أحلامهما ، واستيقظت أعينهما للحقائق المظلمة الفظيعة ، وضاعا من البيت ، ويحسبان أن البيت هو الضائع منهما ، طفلان في وزن مثقالين من الإنسانية ، ولكنهما يحملان وزن قناطير من الرعب . يا من لا إله إلا هو!، من سواك لهاتين النملتين في جنح هذا الليل الذي يشبه نقطة من غضبك ؟!، لقد أخرجتهما في هذا الضياع مخرج أصغر موعظة للعين تنبه أكبر حقيقة في القلب ، وعرضت منها للإنسانية صورة = لو وفق مخلوق عبقري فرسمها = لجذب إليها كل أحزان النفس . صورة الحب يمشي متساندًا إلى صدر الرحمة في طريق المصادفة المجهولة من أوله إلى آخره ، وعليهما ذل اليتم من الأهل ، ومسكنة الضياع من الناس ، وظلام الطبيعة وكآبتها . رأيت الطفلة وقد تنبهت فيها لأخيها الصغير غريزة أم كاملة ، فهي تشد على يده بيديها معًا ، كأنها مذ علمت أنها ضائعة تحاول أن يطمئن أخوها أنه معها ، ولن يضيع وإنه معها ! ، فيا لرحمة الله ! . وقد أسندت منكبه إلى صدرها ، وهي تمشي فلا أدري إن كان ذلك لتحمل عنه بعض تعبه فلا يتساقط ، أو ليكون بها أكبر من جسمه الضئيل فلا يخاف ، أو لأنها حين لم تستطع أن تفهمه ما في قلبها بلغة اللسان أفاضته على جسمه بلغة اللمس ، أو لا هذا ولا ذاك ؛ إنما هي تستمد من رجولته الصغيرة حمايةً لأنوثتها بوحي الطبيعة التي رسخت فيها . أما الطفل فمستذل خاشع ، لو ترجمت نظراته لكانت هذه عبارتها : اللهم إن هذا العمر يوم بعد يوم ، فأنقذنا من بلاء يومنا . ولما وقفا بإزائنا كان هذا الصغير يقلب في وجوه الناس نظراتٍ يتيمةً ترتد على قلبه آلامًا لا رحمة فيها ، إذ يشهد وجوهًا كثيرة ليس لها ذلك الشكل الإنساني المحبوب الذي لا يعرفه الطفل من كل خلق الله إلا في اثنين : أمه وأبيه . وما أسرع ما تناهض الناس وأطافوا بهما ، وما أسرع ما لاذ المسكين بأخته ، واستمسك بها ، كأن وسائل الرحمة تخيف كما تخيف أسلحة الجراح ، أو كأن الأصل في هذا الإنسان هو العدوان على أخيه وظلمه واجتياحه ، فكل حركة إنسانية مشكوك فيها حتى يقع أثرها ، لأن الإنسان نفسه ستار منسدل على نيته ، وهذه النية آلة الأطماع ، فلا تزال في يد الكذب دائمًا لا يدعها الصدق إلا فيما لا ينفع ! . وكان الطفل المسكين في جملة النظر إليه خلقًا من الحب المؤلم الذي يلهب الدم ، يرسل من عينيه الدعجاوين سحر المذلة الفاتنة ، تلك المذلة التي أعرفها أقوى ما في الحب إذا تذللت الحبيبة في نظرة ضارعة ترسلها لمحبها المفتون ، فلا تبقي في رأسه رأيًا ، ولا في قلبه نيةً ، وتذل له ليذل هو لا غير ، كأن أحب العز في أحب الذل . ونظر إلي أنا أول رمقة ، فذكرت أطفالي ، فتزلزل قلبي ، وأحسست أن دمي استحال إلى بارود وقع فيه الشرر . وهؤلاء الأطفال الصغار هم إنسانية على حدة ، فكل أب هو أب هذه الإنسانية كلها ، ولن يطيق من كان له طفل أن يرى صغيرًا ضائعًا في الطريق يستهدي الناس إلى أهله ويبكي عليهم ، أو طفلاً جائعًا يعرض على الناس وجهه المنكسر ويستعطفهم بصوته المريض أن يطعموه ، أو طفلاً يتيمًا قد ثكل أهله ، وضاق بقسوة أوليائه ، فانطرح في ناحيةٍ يبكي ويتفجَّع ، ويسأل من يعرفون الموت : أين أبي ؟ ، أين أمي ؟ . هؤلاء جميعًا ليس بينهم وبين قلوب الآباء والأمهات حجابٌ ، إذ ليس فيهم من الناس إلا اضطرارهم إلى الناس ، فهم الإنسانية الرضيعة التي خلق من أجلها القلب الإنسانـي في شكل ثدْيٍ )) . |