اختيارات رائعة كن أول من يقيّم
أحيي أستاذنا أجمل تحية، وأشد على يديه الكريمتين؛ معجبا أيما إعجاب بما اختاره لنا من لزوميات المعري، التي تبين وبصدق ما ذكره أستاذنا من القول: أما موضوع هذه المختارات فهي تحكي معاناة أبي العلاء في بحثه عن الحق، وبهذا يكون أستاذنا زهير قد أتى على أنصع الأدلة، التي كنا بحاجتها في ملف " الزندقة والإلحاد " في الوراق، لكي ننفي تهمة الزندقة التي ألصقت بالمعري ، إما زورا ، وإما جهالة وتنطعا، أو تسرعا وسوء فهم. ولقد كنت نويت تكثير مشاركاتي في الملف المذكور، وأعددت لذلك بعض العدة مما سيظهر شيء منه في مشاركتي هذه؛ قاصدا إلى ما ِقصده أستاذنا؛ ولكنني لما طالعت هذا الملف المفيد الرائع، أحجمت عما كنت نويته. ففي ملف أستاذنا هذا من الإيجاز المعبر بدقة عن فكر المعري ما يكفي وزيادة فوق ما كنت أنوي المشاركة به. على أنني أود أن أذكر قولا، وأعلق عليه، قاله المرحوم الرافعي في " إعجاز القرءان والبلاغة النبوية" ، وذلك بعد أن نفى تهمة معارضة القرءان التي اتهموا بها المعري، قال: "...وما نشك في أنه كان يستسر بهنات مما يضعف اعتقاده ولكن أمر القرءان أمر على حدة، فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة.". هذه التي دعاها الرافعي بالهَنات، ليته بينها ليريحنا من عناء استنتاجها، وحتى نستنير بصائب نظرته ودقة أحكامه ؛ إلا أن الهنات التي ذكرها ، ولم يشك في أن أبا العلاء كان يخفيها في نفسه، لا بد واستنتجها الرافعي استنتاجا من أدب أبي العلاء وفكره وفلسفته وأخباره، مما حفلت به الكتب التراثية الأدبية والتاريخية. فتلك الهَنات لم تكن ظاهرة واضحة ، وإلا ما كان ليقول" يستسرها ". والداعي الذي دعا الرافعي إلى الاستنتاج لا بد وأن كان منهج الشك لدى أبي العلاء، بل والارتياب أحيانا، الذي اتبعه المعري في برهة أو أكثر من برهات عمره المديد . وهذا الشك عند أبي العلاء لم يكن شك الجاحد المماري في الحق؛ وإنما هو شك الباحث عنه بما يقتنع به قلبه منه. والشك لدى أبي العلاء كان يتراوح أحيانا بين الظن والحيرة ، وأحيانا ينقلب إلى ارتياب ؛ وفقا لما يمليه عليه عقله من فهم، ثم كان ينقلب إلى يقين في بعضه، بعد روية وحسن تفكير ؛ مدعوما بنفس خيرة شفافة، وفطرة سليمة، تنشد الحقيقة بصدق وسلامة نية. وهذا اليقين الذي أعنيه هو الإيمان بالله تعالى وبما جاءت به الرسل الكرام من لدنه جل وعلا. وهو، أي الشك، وإن كان محمودا أحيانا في غير المعتقدات، فليس بمحمود فيها، بطبيعة الحال، عند المؤمنين، وهذا مما يمكن أن يعد من هنات المعري التي ذكرها الرافعي، ومما جعل من حملوا على أبي العلاء يطغون في حملتهم. فأبو العلاء المعري لم يكن يسلم بشيء من العلم النابع من التقليد وإن كان في المعتقدات، إلا بعد أن يعرضه على عقله. قال في (اللزوميات): الـناسُ يَطغَونَ في دُنياهُمُ أَشَراً لَولا المَخافَةُ ما زَكّوا وَلا سَجِدوا فـي كُلِّ أَمرِكَ تَقليدٌ رَضيتَ به حَـتّـى مَقالُكَ رَبِّيَ واحِدٌ أَحَدُ فهو بهذا يعد، وبجدارة، عند من يضعون العقل في منزلة سامية قدام النص، مستنيرا فكريا إلى أبعد حدود الاستنارة، وباحثا عن الحق بوساطة الشك فيما يؤمن به الناس إيمانا موروثا. والمعري لهذا،فر من التقليد وكأن التقليد هو المجذوم يفر منه الناس فرارهم من الآساد، كما جاء في الخبر النبوي ، واتهم الناس أيضا بالجهل وبالكذب والاختلاق. قال المعري ، وقد ذكر هذا أستاذنا زهير: لَقَد صَدِئَت أَفهامُ قَومٍ فَهَل لَها صِقالٌ وَيَحتاجُ الحُسامُ إِلى الصَقلِ وَكَم غَرَّتِ الدُنيا بَنيها وَساءَني مَعَ الناسِ مَينٌ في الأَحاديثِ وَالنَقلِ سَأَتبَعُ مَن يَدعو إِلى الخَيرِ جاهِداً وَأَرحَلُ عَنها ما إِمامي سِوى عَقلي أما الشك في التراث مما يتعلق بفروع الدين دون أصوله، مما حفلت به الكتب التي دونها العلماء في الفقه والتفسير وغيرهما من العلوم، فقد نزع المعري في بعضه إلى الريبة والتهمة ، واتهم الفقهاء بالتخبط والضلال. قال (اللزوميات): وَكَم مِن فَقيهٍ خابِطٍ في ضَلالَةٍ وَحِجَّتُهُ فيها الكِتابُ المُنَزَّلُ وقال: وَيَنفُرُ عَقلي مُغضَباً إِن تَرَكتُهُ سُدىً وَاِتَّبَعتُ الشافِعيّ وَمالِكا وهذا يذكرني بكتاب المعري المفقود (تظلم السور) ،وكان هذا الكتاب موضوعا لمسابقة من مسابقات الوراق عرفنا الكتاب عن طريقها، والذي جعل المعري ينعى فيه على المفسرين والفقهاء ما فعلوه بسور القرءان على ألسنة السور والآيات نفسها. أما تهمة الإلحاد يلصقونها بالمعري وهو القائل ( إضافة متواضعة لما ذكره أستاذنا في مختاراته من دعوة المعري إلى استئصال الملاحدة): أَمّا المُجاوِرُ فَاِرعَهُ وَتَوَقَّهُ وَاِستَعفِ رَبَّكَ مِن جِوارِ المُلحِدِ لَيسَ الَّذي جَحَدَ المَليكَ وَقَد بَدَت آياتُهُ بِأَخٍ لِمَن لَم يَجحَدِ وَأَرى التَوَحُّدَ في حَياتِكَ نِعمَةً فَإِن اِستَطَعتَ بُلوغَه فَتَوَحَّدِ فهو اتهام يبدو في غير محله أبدا. يبقى علي التعرض لأبيات المعري وقد وردت في (اللزوميات): قُلتُم لَنا خالِقٌ حَكيمٌ قُلنا صَدَقتُم كَذا نَقولُ زَعَمتُموهُ بِلا مكانٍ وَلا زَمانٍ أَلا فَقولوا هَذا كَلامٌ لَهُ خَبيءٌ مَعناهُ لَيسَت لَنا عُقولُ هذه الأبيات تنبئ عما ذهب إليه في وقت من الأوقات من خطأ في تصور المكان والزمان وعلاقتهما بالله تعالى ، مما جعل ابن الجوزي يقول (المنتظم): " انظر إلى حماقة هذا الجاهل، أنكر أن يكون الخالق موجوداً لا في زمان، ولا في مكان،ونسي أنه أوجدهما. وإنما ذكرت هذا من أشعاره ليستدل بها على كفره، فلعنه الله." . والأبيات المذكورة تعني عندي أن أبا العلاء كان في مرحلة البحث الدقيق في الصفات الإلهية، وبدا حينها كبعض علماء الطبيعيات المؤمنين بما تطاله الحواس وحسب ، أو بدا كالمجسمة تقريبا. هو يؤمن بان الخالق حكيم، فحكمته تتجلى فيما خلق؛ ولكنه يحار في العلاقة بين تصوره للزمان والمكان، وبين ذلك والطبيعة الإلهية . ولا يستغرب هذا كثيرا من باحث يقع في الحيرة بين الطبيعة وما وراءها. ولكن هذه الحال لم تدم لدى المعري طويلا ، ويتبين ذلك من العديد من أشعاره. ولعل سائلا يسأل: ولماذا الاهتمام إلى هذا الحد بتبرئة المعري مما اتهم به؟ والجواب: ليس مقصودنا المعري الإنسان لذاته؛ وإنما مقصودنا فكره وهو يبحث عن الحق، ففي هذا فائدة جلّى لجيلنا ولكل الأجيال. والباحث عن الحق بصدق يجب أن يكون محل الإعجاب والتقدير، ولن يغمطه الله تعالى حقه من الهداية بطبيعة الحال. أما الذين اتهموا المعري، فمنهم ، لو لم ترد قصة أبينا إبراهيم عليه السلام، في القرءان، لقالوا إنما كان إبراهيم ملحدا ، أو كان شاكا ، أو ، وفي ألين الأقوال ، كان حائرا، ويقال إنه ربما تاب وأذعن. فإبراهيم أشار للشمس وهي بازغة وقال : هذا ربي... وأخيرا، أعتذر من أستاذنا على مقاطعة ملفه من قبل أن ينهيه ، فلم أطق صبرا على بيان ما بنفسي من إعجاب بالمعري وبملف أستاذنا. وإن رغب أستاذنا في وضع مشاركتي هذه في آخر ملفه بعد ان ينهيه، فهذا يعود له. |