البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التربية و التعليم

 موضوع النقاش : اخترتُ لك ، وأنتظرُ اختيارك.    قيّم
التقييم :
( من قبل 64 أعضاء )

رأي الوراق :

 د يحيى 
11 - مايو - 2010
                    اتفاق الشرائع مع القوانين وافتراقهما
السرقة محرمة في الشرع ، ومحرمة في القانون ، فمن ترك السرقة ، ممكن تقول : يخاف من السجن ، والمسؤولية ، ولك أن تقول : يخاف من الله ، ما الحقيقة ؟ الله أعلم ، لكن الذي يغضُّ بصره عن محارم الله ، يقيناً يخاف من الله ، لأنه ليس في الأرض كلها تشريعٌ أو قانونٌ ، يأمرُ بغض البصر ، إذن هنا افترقت الشريعة عن القانون .
الصيام ، بإمكانك أن تدخل البيت في أيام الصيف الحارة ، وأن تدخل الحمام بعيداً عن نظر أولادك وزوجتك ، وأن تشرب الماء النمير البارد ، من العداد رأساً ، ولا يدري بك أحد ، إذن الصيام عبادة الإخلاص ، ما دمت تمتنع عن أن تشرب قطرة ماء ، إذن أنت تُراقب الله عزَّ وجل .
يعني حكم العِبادات أحياناً ، من أجل أن تعلم أنك تحب الله ، من أجل أن تعلم أنك تعلم أن الله يُراقبك ، من أجل أن ترتفع معنوياتك ، من أجل أن تُحس أنك في رضي الله عزَّ وجل ، إذن لا تستغرب ، أنه يا أخي ما هذه الحياة ، كلها صراع ، نفسي تميل ، وفي الطريق نساءٌ كاسياتٌ عاريات ، والله يأمرني أن أغض بصري ، وضع غير طبيعي ، لا هذا هو الطبيعي ، لأنه خلقك للجنة ، وثمن الجنة ضبط الشهوات ، لأنه خلقكَ لحياةٍ أبدية لا تنتهي  وأن ثمن هذه الجنة :
 
( سورة النازعات )
 
فأنا أتمنى دائماً أن أوضح لإخواننا الشباب ، كما أنه ليس في الإسلام حرمان  ليس فيه تفلُّت ، الله قال :
 
( سورة الحديد : آية " 27 " )
 
هم كتبوها على أنفسهم ، هم اجتهدوا فأخطؤوا ، والدليل أنهم أخطأوا :
( سورة الحديد : آية " 27 " )
 
لم يتمكنوا ، لأنها خلاف الفطرة ، الترهُّب ، الرهبنة ، خلاف فطرة الإنسان   لذلك القصص التي تروى ، عن الرهبان في انحرافاتهم الجنسية ، لا تعدُّ ولا تحصى ، لأنهم ألزموا أنفسهم ، ما لا ينبغي أن يكون ، ما كتبناها علينا ، والدليل أنهم :
( سورة الحديد : آية " 27 " )
 
فالإسلام دين الفطرة ، فكما أن الإسلام ، ما كلفك ما لا تطيق ، كذلك ما أطلقك  إلى حيث تريد ، في منهج ، يعني تقريباً ، طريق ، الطريق عريض ، لك حرية الحركة في حدود هذا الطريق ، لكن بعد الطريق هناك ممنوعات .
فأجمل حياة يعيشها ، حياة القيم ، حياة المنهج ، حياة الدستور ، أنظر إلى السيارة أروع ما تكون وهي على الطريق المعبَّد ، لأن هذا الطريق صنع لهم ، وهي صنعت له ، فإذا سارت على الطريق المعبدَّ ، تجدها كلها مرتاحة ، لا يوجد أصوات أبداً ، أما إذا نزلت إلى الطريق الوعر ، تحس أن هذه الطريق ليست لهذه السيارة ، وهذه المركبة ليست لهذا   الطريق .
أردت من هذه المقدمة ، أن نربط الجزئيات بالكليات ، لا أن نبقى في هذه حرام  لماذا حرام ؟ أنت تعيش في مجتمع ، هناك أناس ليس لديهم وازع ديني إطلاقاً ، أما آتاهم الله منطقاً ، عندهم عقل ، فإذا ملكت الحجَّة ، بالمناسبة :
" ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، لو اتخذه لعلمه ".
 
( سورة الأنعام : أية " 83 " )
 
يعني يوجد قوة للمؤمن ، قد تكون غير مادَّية ، قد يكون مؤمن ، يعني  من أقل المراتب في المجتمع ، قد يكون موظف ، صغير جداً ، ضارب آلة كاتبة ، حاجب قد يكون  لكن قوته نابعةٌ من حجته ، لما ربنا قال :
 
( سورة الأنعام : أية " 83 " )
 
لكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب ، قوةٌ ، يجوز حاجب في دائرة ، يناقش المدير العام المتفلت ، الذي عقيدته فاسدة ، هذا الحاجب ، أقوى منه في المناقشة ، المؤمن ، يعلّم لماذا يغضُّ بصره ؟ يعلَّم لماذا يصوم ؟ يعلّم لماذا يصدق ؟ يعلّم لماذا يتكلَّم بالحق ؟ فنحن نريد مؤمن متمكِّن ، لا أريد مؤمن يطبِّق الإسلام إلى حين ، لو أنَّك عرفت الأمر الشرعي  من دون حيثيات ، من دون أن تربطه بالكلّيات ، من دون عقيدة صحيحة ، يمكن _أن تنطبق الأمرّ ، لكن مقاومتك هشة ، هشة ، يعني أدنى ضغط ، أو أدنى إغراء ، تجد مقاومتك قد انهارت ، لذلك كلّ إنسان يربي ، كل إنسان يبني إخوانه بناء ، إذا بنى النفوس بناء صحيح  بناء علمي ، بناء منطقي ، على أساس من العقيدة الصحيحة ، تجد هذا الأخ قوياً ، أي قوي في دينه ، أينما ذهب مستقيم ، الملاحظ لما ينبني إنسان بناء هش ، أو يبنى بناء نصِّي غير تعليلي .
يعني أنت عندما تعرف أن هذا الأمر مربوط ، بهذه العقيدة الصحيحة ، مربوط بهذه الكلِّية ، أي أنت مؤمن بخالق الكون ، أنت مخلوق للجنّة ، والجنّة ثمنها ، ضبط الشهوات الشهوات أودعت فيك لترقى بها إلى الله ، أودعت فيك ، هذا الذي أتمنى أن يكون واضحاً للكل.
 11  12  13  14  15 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
أجمل قصة للكون (1)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
أجمل قصة للكون·
 
 مقدمة
من أين جئنا؟ وما نحن؟ وإلى أين نمضي؟ تلكم هي حقاً الأسئلة الوحيدة التي تستحق عناء طرحها! لماذا نحيا، ولماذا وجد العالم ولماذا نحن هنا؟ كان الدين أو الإيمان أو المعتقد هو وحده حتى الآن الذي يقدم حلاً على هذه الإجابات. أما اليوم فقد كوّن العلم رأيه الخاص أيضاً الذي يعتبر ربما أحد أهم مكتسبات القرن العشرين، بل وربما المفتاح الحقيقي لفهم طريقنا المستقبلي وتحولنا النفسي والروحي. والحق أن العلم يعيد اليوم بناء أخلاقنا وأفكارنا وحياتنا وسلوكنا ونفسانيتنا وحضارتنا بل وروحانيتنا. ذلك أن العلم بات بملك منذ الآن سرداً كاملاً لأصولنا الكونية: لقد أعاد العلم بناء تاريخ الكون.
ما هو الشيء الخارق الذي اكتشفه العلم؟ إنه المغامرة نفسها المستمرة منذ 15 مليار سنة والتي توحّد الكون والحياة والإنسان مثل فصول ملحمة طويلة. إنه التطور نفسه الذي يدفع باتجاه تعقيد متنام منذ الإنفجار العظيم إلى الذكاء: الجسيمات الأولى فالذرات فالجزيئات فالنجوم فالخلايا فالعضويات فالكائنات الحية وصولاً إلى هذه الكائنات العجيبة التي هي نحن... إنها السلسلة ذاتها التي تدفعها الحركة عينها. نحن سليلو البشريات الأولى والكائنات الأولى بل والنجوم والمجرات. إن العناصر التي أسست أجسامنا هي نفسها التي كانت قد تفاعلت في باطن النجوم منذ أزمنة سحيقة! نحن حقاً أطفال النجوم كما يقول هوبرت ريفز!
لا شك أن هذه الفكرة تزعجنا بالتأكيد، فهي تعارض اليقينيات القديمة وتسلخ الأحكام المسبقة. لكن تقدمنا في المعرفة عبر الأجيال لم يكن إلا ليعيدنا إلى موقعنا الصحيح في الكون. كنا نعتقد أننا موجودون في مركز العالم، وجاء غاليليو وكوبرنيكوس وغيرهما ليرشدوننا: فنحن نسكن في الواقع كوكباً عادياً ككواكب كثيرة في الكون، ويقع في طرف مجرة متواضعة مثلها مجرات لا تحصى. فليس من سبب خارق يدعو الإله ليهتم بهذه الكرة الصغيرة اهتماماً خاصاً. كنا نعتقد بسبب هذا الإهتمام المفترض إننا كائنات فريدة بمعزل عن الأنواع الحية الأخرى. لكن للأسف! فقد وضعنا داروين على الشجرة المشتركة للتطور الحيواني. وعلينا في الواقع أن نبتلع مرة أخرة كبرياءنا القائم في غير محله: فنحن في الواقع لسنا آخر ما سينتجه التطور والنتظيم الكونيان!
قد يتساءل أحدهم قائلاً: «أين الله في هذا كله؟» إن بعض الاكتشافات تتلاقى أحياناً مع يقينيات حميمة، لكن الكثير منها ينقض ويقوض يقينيات حميمة أخرى أكثر من الأولى بكثير، والحق إن المعتقدات القائمة على مفاهيم كونية قديمة قد تم دحضها من وجهة نظر العلم. ولهذا فلن نخلط بين النوعين: فالعلم والدين لا يحكمان المجال نفسه. فالأول يتعلم، أما الثاني فيعلّم. الشك هو محرك الأول، في حين أن الإيمان واليقين هما لحمة الآخر. ومع ذلك فإن العلم لا يتجنب الأسئلة الميتافيزيقية، ولهذا فإننا نصادف خلال قصة العلم عن الكون، بعض الأساطير القديمة والرؤى الروحية وحتى سنلتقي بآدم وحواء في السافانا الأفريقية! لكنهما أقدم بكثير من آدم وحواء اللذين تحدثنا عنهما كتب الأولين، ويختلفان عنهما اختلافات جذرية. إنما العلم يحيي المناقشات ولا يقتلها، ويفتح الباب واسعاً دون إشراطات ليختار كل ما يناسبه على ضوء معطيات باتت أكثر تجانساً ومنطقية ووضوحاً وإنسانية بل وروحية .
تبدأ قصتنا عن الكون مع ما يسمى بالإنفجار الكبير منذ نحو 15 مليار سنة..لكننا سنرى إن مفهوم البداية يوصلنا إلى قلب النقاشات الميتافيزيائية القائمة في العقل البشري منذ عصور، بل ويطرح مسألة الزمن الشائكة. ومنذ هذه البداية تتراكب المادة المتوهجة تحت تأثير قوى مذهلة لا تزال تسهر على مصائرنا. فمن أين جاءت هذه القوى؟ ولماذا هي ثابتة في حين أن كل شيء يتغير من حولها؟ إنها توجه التطور الكوني وتولد مع ابتراد الكون النجوم والمجرات. فما هي هذه القوى؟ ومن أين تتولد هذه الحركة المتنامية نحو التعقيد والتي لا تقاوم؟ وهل هذه القوى سابقة للكون؟
ومنذ 5 مليارات سنة، وعلى كوكب جميل واعد على طرف مجرة عادية في الكون السحيق، تابعت المادة عملها الجنوني في التركيبات. فعلى سطح الأرض، وفي بوتقات جديدة، انطلقت خيمياء أخرى! فالجزيئات ارتبطت في بنى قابلة للتكاثر وولَدت قطرات غريبة ثم أولى الخلايا التي تجمعت في متعضيات راحت تتنوع وتتكاثر وتعمر الكوكب، وتطلق التطور الحيواني وتفرض قوة الحياة. لا شك أنه ليس من السهل بعد قرون من الأفكار الخاطئة حول ولادة الحياة قبول أن الحياة ولدت من الجماد. فقد اعتُبر العالم الحي لعدة قرون عالماً معقداً جداً ومتنوعاً جداً بل وذكياً جداً بحيث يصعب أن يظهر دون دفعة صغيرة من التيسير الإلهي. أما اليوم فالمسألة أصبحت محسومة: إن العالم الحي ناتج من تطور المادة نفسه، وهو ليس ثمرة الصدفة مع ذلك. فكيف تم المرور إذاً من الجماد إلى الحي؟ وكيف اختَرع التطورُ التناسلَ والجنسَ والموتَ بشكل متلازم؟
ومنذ نحو بضعة ملايين سنة، وفي مشهد جميل من السافانا الجافة، احتل التحول الأخير للكائن الحي المسرح كله. هوذا الإنسان الحق! إنه حيوان وثديي وفقاري، ورئيسي بالإضافة إلى ذلك. لقد بات من المؤكد من الآن فصاعداً أننا كلنا سليلو أنواع الأوسترالوبيثكوس والهوموإركتوس الإفريقية. فنحن أبناء هذا الكائن القديم الذي انتصب فيما مضى في إفريقيا وللمرة الأولى في تاريخ الحياة. ولكن لماذا قام بذلك، وأية غريزة حرضته على الانتصاب؟ منذ أكثر من قرن ونحن نعرف بالتأكيد قصة تطورنا البشري ونحاول مع ذلك قبوله بصعوبة. لكن علم الأصول والبدايات تفجر خلال السنوات الأخيرة هذه، واهتزت بشدة شجرة أنسابنا: فقد سقطت عنها حتى بعض الأنواع الشعرانية. ونحن اليوم نملك أخيراً وحدة زمانية ومكانية لنقدم هذا الفصل الثالث من مسرحية التطور الكوني بشكل وافي الحبكة، ألا وهو فصل الملهاة البشرية، وقصة هذا الكائن الذي ولد من تطور الكون وراح يطرح الأسئلة. وكما لو كان هذا الانسان قد استلم النوبة من المادة فقد استغرق بدوره نحو بضعة ملايين سنة ليتطور ويخترع أشياء أكثر فأكثر تعقيداً: الأداة والصيد والحرب والعلم والفن والحب، وهذه النزعة الغريبة للتساؤل حول نفسه الذي لا ينفك يتأكله. فكيف اكتشف هذه الابتكارات وكيف نما دماغه وتطور بلا توقف؟ وما مصير أسلافنا الذين لم يؤاتهم النجاح؟
 
الكون
عندما نستحضر بداية الكون فلا بد أن نصطدم بالمصطلح. فكلمة بداية أو «أصل» الكون تشير بالنسبة لنا إلى حدث قائم في الزمان. لكننا لا نستطيع اعتبار بداية الكون مثل أي حدث شخصي، فهو بداية كل بداية. ويشبه تساؤلنا عن البداية الأولى أولئك الذين كانوا يتساءلون عما كان يفعله الله قبل أن يخلق العالم. وكان الجواب الشعبي إنه «كان يحضر الجحيم للذين سيطرحون على أنفسهم هذا السؤال!» وكان القديس أغسطينوس صاحب رؤيا نفاذة عندما كان يجيب بأن ليس لهذا السؤال معنى، إذ أن الخلق لم يكن فقط خلقاً للمادة بل وللزمان أيضاً. وهذا هو منظور العلم الحديث حيث لا انفصال بين المكان والزمان والمادة.
إن اعتبارنا لوجود أصل للكون قائم على ملاحظتنا لتطور الكون وتاريخه. وتثبت النظريات الحديثة أن تاريخ الكون يرجع إلى ما بين 10 و 15 مليار سنة. وكان الكون في بداياته غير منظم ولا توجد فيه مجرات ولا نجوم ولا حتى جزيئات وذرات. فلم يكن سوى عجينة من المادة ليس لها شكل محدد وتصل درجة حرارتها إلى مليارات مليارات الدرجات. وهذا ما دعي بالإنفجار الكبير. إن مفاهيمنا للزمان والفضاء والطاقة والحرارة تختلف كلياً عند هذه البدايات، حتى أننا لا نعرف أبداً ما كان يوجد قبل ذلك. ونحن لا نستطيع التأكيدبالتالي إذا كان ثمة شيء ما على الإطلاق قبل هذه البداية أم لا. وهكذا يمكن اعتبار الانفجار العظيم بداية تعرفنا على مفهومي المكان والزمان.
إن صورة الهباء البدئي تتلاقى بشكل عجيب مع الكثير من الأساطير التي تتحدث عن خلق العالم، وغالباً ما يمثَّل هذا الشواش أو الفوضى بالمياه أو بمحيط مغمور بالظلام. لكن البداية في علم الكونيات الحديث ترتبط بالحراة والنور أكثر منها بالبرودة والظلمة.
لقد تمكن العلماء بفضل تطور التلسكوبات خلال السنوات الماضية من رؤية ماضي الكون. إن سرعة الضوء تعتبر ضئيلة بالنسبة لاتساع الكون، وهو يقطع ملايين السنوات الضوئية حتى يصل إلينا من المجرات البعيدة. وهذا يعني أننا لا نستطيع أبداً رؤية الحالة الراهنة للكون. وكلما رجعنا في الماضي أكثر يصبح الكون عاتماً أكثر. وإلى ما وراء حد معين لا يعود الضوء قادراً على الوصول إلينا. ويوافق هذا الأفق فترة كانت درجة الحرارة فيها نحو 3000 درجة. ووفق الساعة الإتفاقية للانفجار الكبير كان عمر الكون قد بلغ نحو 300000 سنة.
وترتكز نظرية الانفجار العظيم مثل كل نظرية علمية على مجموعة من الأرصاد، كما وعلى منظومة رياضية هي النسبية العامة لأينشتاين. فقد استنتج إدوين هبل عام 1930 إن المجرات تتباعد عن بعضها بعضاً بسرعات تتناسب مع المسافات بينها. ويشير هذا التوسع إلى ابتراد تدريجي للكون. وتؤكد الأرصاد هذا الإبتراد، إذ كلما أوغلنا أكثر في ماضي الكون، أي نظرنا أبعد فأبعد فيه، أصبح الكون أكثر كثافة وحرارة، حتى نصل إلى لحظة كانت تصل فيها الحرارة والكثافة إلى قيم هائلة منذ نحو 15 مليار سنة، وهذا ما ندعوه بالإنفجار الكبير. لكن توسع الكون لا يعني مطلقاً إنه كان أصغر مما هو عليه الآن، بل يمكننا القول إن الكون كان لانهائياً وتوسع في لانهائيته. ومن البراهين الأخرى على الإنفجار العظيم عمر الكون نفسه الذي يقاس من خلال حركة المجرات أو أعمار النجوم أو أعمار الذرات. وفي كافة الحالات نجد أعماراً تتقارب من 15 مليار سنة. وتعتمد قياسات عمر الكون على أحافير فيزيائية مثل الإشعاع الاحفوري الذي بقي من الضوء الهائل في بدايات الكون عندما كانت درجات الحرارة عالية جداً. إن الأساسيات التي تبنى عليها النظريات الحديثة في التطور الكوني اليوم هي أن الكون ليس سكونياً، وأنه لم يخلق كاملاً وعلى صورة منتهية، وأنه يبترد ويقل كثافة. وبشكل خاص فإن المادة تنتظم فيه تدريجياً. وهذا يعني أن صيرورة ديناميكية خلاقة لا تزال تخلق كوننا من البسيط إلى المعقد.
كان الكون يتكون إذن في بدايته من جسيمات أولية هي الإلكترونات والفوتونات والكواركات والنيوترينوات، إضافة إلى الغرافيتونات والغليونات. وهكذا تجمعت هذه البنى الأولية في تشكيلات أكثر تعقيداً. فالكواركات مثلاً تجمعت في بروتونات ونيوترونات. وتم ذلك خلال الأجزاء الأربعين الأولى من الألف من الثانية، وهي اللحظة التي نزلت فيها الحرارة إلى 1012 درجة. أما الذي حرض الكون على الانتظام من حالة الهباء الأولى هذه فكانت القوى الأساسية الأربعة، وهي التي أشرفت فيما بعد على تجميع الذرات والجزيئات والبنى السماوية الكبرى. فالقوى النووية تربط النوى الذرية؛ والكهرمغنطيسية تؤمن التحام الذرات؛ وقوة الجاذبية تنظم الحركات الكونية على مستوى النجوم والمجرات؛ أما القوة الضعيفة فتتدخل على مستوى النيوترينوات. لكن الحرارة كانت تفكك كل شيء في اللحظات الأولى وتمنع تشكيل البنى، ولهذا كان يجب أن يبترد الكون قليلاً لتولد أولى البنى المركبة. أما لماذا وجدت هذه القوى أصلاً فأمر لا تفسير له حتى الآن. إننا نعلم اليوم أن هذه القوى موجودة هي نفسها في كل مكان، وأنها لم تتغير أبداً منذ الإنفجار العظيم وحتى الآن. وإضافة إلى أن هذه القوانين لا تتغير فأن أشكالها الجبرية وقيمها العددية تبدو بشكل خاص مضبوطة تماماً. فلو كانت هذه القوى مختلفة بدرجة طفيفة جداً لما كان الكون خرج أبداً من شواشه البدئي. وهذا يعني بشكل من الأشكال أن التعقيد والحياة والوعي كانوا في حالة كمون منذ اللحظات الأولى للكون.
كذا فقد عملت القوة النووية الشديدة على تجميع الكواركات ثلاثا ثلاثاً لتشكيل النويات. وبعد فترة بسيطة حرضت القوة النووية الشديدة هذه البنى لتشكل بدورها تجمعات من بروتونين ونيوترونين فظهرت أول نواة ذرية. وقد هبطت درجة الحرارة عندها إلى 10 مليارات درجة مئوية وكان عمر الكون قد بلغ دقيقة واحدة. وقد ابترد الكون بعد دقائقه الأولى، فكبح من جديد نشاط القوة النووية، وكان تركيب الكون حينئذ 75 % من نوى الهيدروجين و25 % من نوى الهليوم. ولم يحدث شيء من ثم على المستوى التنظيمي لعدة مئات آلاف من السنين. والحق أن التعقيد لا يتقدم بخطى منتظمة. وعندما هبطت الحرارة تحت 3000 درجة دخلت القوة الكهرمغنطيسية. فوضعت الإلكترونات في مدارات حول النوى وخلقت بذلك أولى ذرات الهيدروجين والهليوم. وأدى اختفاء الإلكترونات الحرة إلى جعل الكون شفافاً. فلم تعد الفوتونات تتأثر بالمادة الكونية وتاهت في الفضاء وتحللت تدريجياً إلى طاقة. وهي لا تزال موجودة اليوم بعد أن شاخت مشكلة الإشعاع الأحفوري الكوني. ومر التطور الكوني بعد ذلك باستراحة ثانية لينطلق من جديد بعد مائة مليون سنة. وكانت الجاذبية هي بطلة هذه المرحلة. فبتأثيرها بدأت المادة التي كانت منتظمة التوزع بالتجمع. وهكذا ولدت نوى المجرات. وهكذا لم يعد الكون يظهر بشكل حساء متجانس، بل أصبح فضاء شاسعاً وقليل الكثافة تسبح فيه الجزر المجرية الرائعة. وتكاثفت المادة في قلب هذه المجرات بتأثير الجاذبية لتشكل النجوم. وحرَّض ذلك إزدياداً في درجات الحرارة فأفلتت النجوم من الابتراد العام الذي استمر حولها. فسخنت النجوم وأطلقت الطاقة وبدأت باللمعان. واستنفد أضخمها الذي تساوي كتلته خمسين ضعف كتلة الشمس وقوده الذري في ثلاثة أو أربعة ملايين سنة. وعاشت النجوم الأقل ضخامة مليارات السنين. إن الجاذبية تفسر أيضاً دوران الأجرام حول بعضها. لقد فسر نيوتن دوران القمر حول الأرض، ونعرف اليوم أن الشموس لا تقع على بعضها أيضاً بسبب دورانها حول المجرات. أما المجرات فيكمن عدم وقوعها على بعضها في توسع الكون العام. ويميل العلماء إلى أن الكون سيستمر في التوسع حتى يبترد ويتحول إلى طاقة ميتة.
كان يمكن للكون أن يبقى بعد نحو مليار سنة على هذه الحال: صحراء لانهائية مع جزر موزعة هنا وهناك من المجرات ذات النجوم. لكنه انطلق في مرحلة تطورية جديدة. وكانت النجوم هي التي استعادت شعلة المسيرة. ففي حين كان الكون يتابع ابتراده كانت النجوم تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في درجات الحرارة. إن محرض التسخين هو انكماش النجم بتأثير ثقله الخاص. وعندما تبلغ درجة الحرارة 10 ملايين درجة تستيقظ القوة النووية من جديد. وكما في الإنفجار العظيم تندمج البروتونات لتشكل الهليوم. وعندما ينفذ الهيدروجين يتحول الهليوم إلى وقود النجم. وعندها تبدأ اندماجات لم تكن معروفة سابقاً في الكون، فتتجمع ثلاث ذرات هليوم في ذرة كربون وأربع ذرات هليوم في ذرة أكسجين. وهكذا أمتلأ مركز النجوم خلال ملايين السنين التالية بنوى الكربون والأكسجين. ويستمر النجم خلال ذلك بالإنكماش، فينهار قلبه على نفسه في حين يتمدد غلافه بسرعة متحولاً إلى عملاق أحمر. وعندما ترتفع درجة حرارته أكثر من ذلك فإنه يولد نوى ذرات أثقل من الحديد والزنك والنحاس والذهب وحتى اليورانيوم. لقد أنتجت النجوم عناصر الطبيعة. ومع انهيار النجم على نفسه تدخل نوى الذرات في تماس مع بعضها وترتد مما يحرض موجة صدم هائلة تؤدي إلى انفجار النجم. وذلك ما نسميه بالمستعر الفائق الذي يضيء السماء مثل مليار شمس. وعندها تُقذف المواد الثمينة التي أنتجها النجم في باطنه طيلة مراحل وجوده إلى الفضاء. هكذا تموت النجوم الكبيرة، أما الأصغر كشمسنا فتموت بهدوء أكثر. وتهيم الذرات المنقذفة في الفضاء ما بين النجمي وتمتزج بالسحابات الكبيرة المتناثرة في الفضاء. ويصبح الفضاء بالتالي مختبراً حقيقياً للكيمياء. فبتأثير القوة الكهرمنغنطيسية تتوضع الإلكترونات حول النوى الذرية لتشكيل الذرات التي تتحد بدورها في جزيئات. ونجد بينها الماء والأمونياك والكحول الأتيلي. إنها الذرات نفسها التي ستتحد على الأرض فيما بعد لتشكل العضويات الحية. نحن مجبولون حقاً من غبار النجوم كما يقول هوبرت ريفز!
لقد عملت قوة الجاذبية على تجميع السحب ما بين النجمية لتولد منها نجوماً جديدة. ومن بقايا هذه السحب تشكلت مجموعات كوكبية كالمجموعة الشمسية. وقد اشتملت هذه الكواكب على الذرات التي ولدتها النجوم الميتة. وخلال عشرات مليارات السنين اختلطت أجيال النجوم في الكون من الفتي إلى الهرم. ويتشكل وسطياً حتى الآن ثلاثة نجوم في السنة في مجرتنا. وهكذا، وُلد على طرف مجرة حلزونية هي درب التبانة نجم يهمنا بشكل خاص في قصتنا، هو شمسنا، منذ 4,5 مليار سنة. إنها نجم متوسط تماماً في مجرتنا. ويشبهها نحو مليار نجم فيها تماماً. وكانت شمسنا عندما ولدت أكبر بكثير مما هي عليه الآن. لقد تم قياس عمر القمر بدقة وكذلك عمر بعض النيازك، وتبين أن القيم متقاربة جداً وتساوي 4,6 مليار سنة. فقد ظهرت الشمس مع كواكبها في الوقت نفسه، وكان عمر مجرتنا عندها نحو ثمانية مليارات سنة. لقد تجمع الغبار الكوني حول النجوم الوليدة ليشكل أقراصاً تشبه حلقات زحل. وقد تكاثفت هذه الأقراص شيئاً فشيئاً لتشكل بنى صخرية ذات حجوم متزايدة باستمرار. وبنتيجة تصادمها تشكلت كتل كبيرة هائلة ذات حرارة عالية. وقد تطلب الأمر وقتاً طويلاً لتبديدها بحسب حجم الأجسام. ولا تزال الأرض تحفظ في قلبها نار جمر تحرض حركات الحمل الحراري للحجارة التي لا تزال سائلة. وهذه الظاهرات التي تعود إلى تشكل الكوكب هي سبب إنزياحات القارات وثوران البراكين والهزات الأرضية. لكن هذا اللاإستقرار الجيولوجي ثمين جداً لأنه يؤدي إلى تغيرات المناخ التي تلعب دوراً هاماً في تطور الكائنات الحية.
لقد لعب الماء السائل دوراً أساسياً في تتمة التطور الكوني. فكوكبنا هو الوحيد الذي يحوي ماء سائلاً في مجموعتنا الشمسية. وكان المريخ يحوي هذا الماء أيضاً منذ مليار سنة، لكن جاذبيته لم تكن كافية للحفاظ على الغلاف الجوي والدفيئة الكافية لتطور الحياة عليه. أما الزهرة فكانت بدايتها تشبه الأرض كثيراً. وعلى الرغم من أنها تحوي الكمية نفسها من غاز الفحم، لكن وجود الماء على سطح الأرض ساعد على انحلال الكربون في المحيطات، بينما لعب قرب الزهرة من الشمس دوراً أساسياً في تشكيل دفيئة حارة جداً أدت إلى تطوره بشكل مختلف تماماً عن الأرض. لقد لعب الماء السائل دوراً جوهرياً في ظهور التعقيد الكوني. كذلك لعب الكربون دوراً هاماً جداً. فهو الذرة المثالية من أجل بناء الجزيئات. فهو يملك ما يشبه الخطافات الأربعة التي تلعب دور المفصل بين العديد من الذرات. كما أن الروابط التي يخلقها مرنة بدرجة كافية للعبة الربط والتفكيك السريعتين والضروريتين لظاهرة الحياة. ولهذا فمن المرجح أن تكون ظاهرة الحياة في الكون قائمة بشكل أساسي على وجود الماء والكربون. وهما متوفران بكثرة في أرجاء الكون اللانهائي.
لم تكن درجة حرارة الأرض ملائمة لظهور الحياة في بداية تشكلها. إضافة إلى ذلك كان قذف النيازك والمذنبات فائق العنف. وقد حملت المذنبات إلى سطح الأرض خلال المليار سنة الأولى كميات كبيرة من الجزيئات المعقدة إضافة إلى الماء. وهكذا أصبح التطور الكوني جاهزاً لبدء مرحلة جديدة وحاسمة على سطح كوكب لا يشكل سوى هباءة في محيط الكون الرهيب. إن جزءاً بسيطاً جداً من بروتونات بداية التاريخ شكل الذرات الثقيلة. وعدد صغير جداً من الجزيئات البسيطة انتظم في جزيئات معقدة، وقسم ضئيل فقط من هذه الجزئيات المعقدة سيشارك في بنى الحياة.
الحياة
إن فكرة الاستمرارية بين تطور المادة وتطور الحياة هي فكرة حديثة. فالحياة قادرة على التكاثر والتطور أما المادة فجامدة وغير قادرة على التناسل. إلا أنه لم يكن معروفاً في الماضي أن الجزيئات مكونة من ذرات، ولا أن الخلايا مكونة من جزيئات. ولذلك كان يتم تفسير ظهور الحياة على الأرض من خلال صدفة خارقة أو من خلال إرادة الإله. وتلك في الواقع طريقة لإخفاء الجهل. فقد أثبت العلماء منذ عدة سنوات فقط إن الحياة نتجت من تطور المادة الطويل نفسه. ومسيرة الكائن الحي ترجع إلى التاريخ الطويل من صيروة التعقيد في الكون منذ الإنفجار الكبير. لقد تحدث جاك مونو عن «الضرورة»: ففي ظروف معطاة تولِّد القوانين التي تنظم المادة منظومات أكثر فأكثر تعقيداً. وهكذا يكون ظهور عضوية حية محتملاً جداً على مدى الزمان الطويل. وهذا يعني أن الحياة ليست حكراً على الأرض فقط، بل هي ظاهرة شائعة في الكون. فلكل كوكب في الكون فيه ماء ويوجد على بعد أمثلٍ عن نجم حار إمكانية مراكمة جزئيات معقدة وكريات صغيرة تتبادل المواد الكيميائية مع وسطها. وهكذا، من ضرورة إلى ضرورة يصل التطور الكيميائي إلى الكائنات الحية الأولية. وهكذا فقد تم التغلب على الفكرة التي كانت سائدة بأن الحي ولد بنتيجة مصادفة أشبه بالمعجزة. لقد توقف باستور عند فكرة أن الحي يولد تلقائياً من المادة، في حين نعرف اليوم أن الساكن يولد الحي تدريجياً (وليس تلقائياً) عبر مليارات السنين. وكان داروين هو الذي أدخل مفهوم الزمن الضروري لتطور الحياة. وقد تم إثبات أن الحياة هي سليلة المادة في المختبر. فنحن نعرف الآن المراحل كلها التي قادت الجزيئات على الأرض البدئية إلى مرحلة الكائنات الحية الأولى، ويمكن إعادة إنتاجها جزئياً في المختبرات!
لقد كسر البيوكيميائي السوفييتي ألكسندر أوبارين والإنكليزي جون هالدين الحلقة المفرغة بين المادة والحي عندما تحدثا عن الظروف البدئية على الأرض. فالجو لم يكن يحوي الآزوت والأكسجين، بل مزيجاً غير مضياف للحياة من الهيدروجين والميتان والأمونياك وبخار الماء، لكنه كان ملائماً لظهور الحياة.
 
 
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
قصة الكون (2)    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
. وفي الخمسينات استعاد الفرنسي تلار دو شاردان السابق لعصره أيضاً فكرة تطور المادة التي وضعها داروين، وتحدث عن «ما قبل حياة»، وهي مرحلة انتقالية بين الجامد والحي كان يمكن أن تنتج خلال حقب الأرض البدئية. وقد جاء الإثبات المخبري على يد ستانلي ميلر عام 1952. فقد وضع في حوجلة غازات الأرض البدئية، الميتان والأمونياك والهيدروجين وبخار الماء مع قليل من غاز الفحم، وماثل المحيط بماء الحوجلة وسخنه ليعطي الطاقة، وحرض الشرارات في الحوجلة عوضاً عن البرق لمدة أسبوع. وعندها ظهرت مادة حمراء برتقالية في قعر حوجلته! وكانت تشتمل على حموض أمينية، الجزيئات التي تكون مركبات الحياة الأولى! والحق إن الأرض كانت على بعد كاف من الشمس لتلقي أشعتها تحت الحمراء وفوق البنفسجية القابلة لإطلاق التفاعلات الكيميائية، وعلى درجة كافية من البعد كي لا تحترق النواتج المصنعة. وهكذا ينشأ توازن عبر لعبة الولادة والموت. فظهور الحياة على الأرض لم يكن بنتيجة مصادفة سعيدة بل في الواقع لأن أولى مركبات الحياة الأرضية تكيفت مع الحرارة وكيفتها على الأرض بالتالي مع مرور الوقت بحيث تكون في أفضل مستوى ملائم لبقائها وتكاثرها.
إنه نوع من الانتظام الذاتي. ففي فجر الأرض، منذ نحو أربعة مليارات سنة، كان كوكبنا يملك نواة من السيليكات وقشرة من الكربون وغلافاً جوياً من مزيج غازي من الميتان والأمونياك والهيدروجين وبخار الماء وغاز الكربون. وتحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية الشمسية والبروق تكسرت هذه الجزيئات وتحللت وسقطت على شكل عناصر أكثر تعقيداً على الكوكب. إنها أولى الجزيئات التي نسميها «عضوية». وقد أمطرت هذه الجزيئات العضوية خلال أكثر من 500 مليون سنة، مع الزخات الناجمة عن تكاثف بخار الماء في طبقات الجو الباردة. ومنذ ذلك الحين تحددت صفتان أساسيتان للعالم الحي: تركيبه الكيميائي ومصدر طاقته أي الشمس.
لقد اكتشف علماء الفيزياء الفلكية وجود جزيئات عضوية في كل مكان تقريباً في الكون. فمنذ خمس عشرة سنة تعرفوا على سبعين منها؛ فهذه الظاهرة لم تكن استثنائية في الكون. وفي المطر الكوني الذي روى الأرض في فجر تشكلها كان ثمة حموض أمينية وحموض دسمة وطلائع الشحوم. ويبدو أن جزيئين هما حمض النمليك وحمض السيانيد لعبا دوراً هاماً في تلك المرحلة: فعند تعرض هذين الحمضين للأشعة فوق البنفسجية فإنهما يولدان إثنين من «الأسس» الأربعة التي ستشكل فيما بعد الحمض الريبي النووي DNA حامل الوراثة. ولم يولد الغلاف الجوي للأرض هذه الجزيئات المعقدة فقط بل وحماها أيضاً بتشكيل غطاء لها. وكانت هذه الجزيئات ستضيع لو بقيت معلقة في الهواء الطلق. وفيما بعد استفادت الخلايا الأولى على العكس من الشمس لتنتج الأكسجين، وأعطى الأكسجين الأوزون في طبقة الجو العليا فحماها بدوره من الأشعة فوق البنفسجية. وهكذا أمنت الحياة بقاءها واستمرارها.
تشبه قصتنا حتى الآن لعبة تجميع المكعبات، وتشكيل سلاسل عملاقة من الجزيئات. لكن متى بُعثت الحياة وكيف؟ لقد لعبت البحيرات الشاطئية والمستنقعات دور البيئة الملائمة لذلك. فهي أماكن جافة وحارة في النهار ورطبة وباردة في الليل. وفي هذه الأماكن يوجد الطين والكوارتز اللذان ستقع سلاسل الجزيئات في فخهما فيتحد بعضها ببعضها الآخر. فالطين يعمل عمل مغنطيس صغير بالنسبة للأسس التي تشكلت منها أولى الحموض النووية. فأيوناته أي ذراته التي فقدت إلكتروناتها تجذب المادة من حولها وتحرضها على التفاعل. وأدى ذلك إلى ظاهرة جديدة. فبعض الذرات محب للماء ولهذا فهو يجذبه، في حين أن بعضها الآخر كاره للماء وهو بالتالي يبتعد عنه. وهكذا فقد تجمعت البروتينات الوليدة في البحيرات الشاطئية على بعضها مما جعلها على تماس مع الماء الخارجي أو بمعزل عنه داخلياً. وهكذا انغلقت على نفسها. وظهرت في ذلك الوقت كريات كالأغشية في المحيطات. وكانت هذه المرة الأولى التي يظهر فيها شيء ما منغلق على نفسه، له داخل وخارج كما كان يقول تلار دو شاردان. وفي هذه البنى تشكلت أوساط معزولة عن الوسط الخارجي وحبست في داخلها المواد الكيميائية التي شكلت خلائط خاصة بها وحدها. ففي بعض الأحيان يفجر الخليط الكيميائي الداخلي الغشاء فتتبدد الجزيئات في المحيط، وفي أحيان أخرى يساهم هذا الخليط على العكس في تدعيم غشائه ويؤمن بذلك استمرار المنظومة. ومع الإنتقاء الطبيعي بقيت القطرات التي كانت تملك وسطاً كيميائياً داخلياً متكيفاً مع البيئة. وكان للقطرات التي تستطيع إنتاج الطاقة أفضلية على القطرات الأخرى لأنها تسمح لها بالنمو. وكان بعضها يستخدم لنموه مواد من الخارج تمر عبر غشائه: إنها بواكير تفاعلات التخمر. أما بعضها الآخر الذي حفظ المواد الملونة أي الخضاب أو الجزيئات القادرة على أسر الضوء، فكان يحول الفوتونات الشمسية إلى إلكترونات. وبذلك فقد تفوقت على القطرات الأخرى لأنه مع افتقار المحيط الخارجي بالمواد كانت هذه القطرات مستقلة ذاتياً عنه.
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
قصة الكون (3).    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
وكانت المرحلة الحاسمة التالية التي اجتازتها الحياة في بدايتها هي خيار البقاء عبر التكاثر. لقد تم البرهان حديثاً أن الحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين RNA يملك خاصة عجيبة: فهو يستطيع التكاثر ذاتياً. فإذا انقسمت قطرة إلى قطرتين وكانت الثانية تملك نسخة من الحمض الرسول فسيمكنه بناء غشاء مطابق ومنظومة مطابقة. وتلكم منظومة التكاثر الذاتي في حالتها البدائية. ويمكن القول إن هذه القطرات التي استطاعت البقاء على حياتها كانت أولى أشكال الحياة هذه. فالعضوية الحية هي عموماً المنظومة القادرة على تأمين انحفاظها الخاص، وتدبير نفسها بنفسها والتكاثر. وقد استطاعت هذه القطرات الحية أن تحول الـ RNA إلى DNA الأكثر استقراراً. ومن خلال تراكيب سلاسل البروتينات والـ DNA وصلت الطبيعة إلى طور المورثات. وهكذا انتشرت قطرات الـ DNA هذه في الأرض بسرعة هائلة. وخلال سنوات قليلة انقسمت الخلايا وفق متتالية أسية ليصل عددها إلى كميات هائلة. ولم يكن ثمة شيء على الأرض حينها يستطيع مقاومتها أو تدميرها. أما اليوم فإن ظهور نمط جديد للحياة على الأرض بالطريقة نفسها سيقابل بالتدمير الفوري من قبل الكائنات الحية الحالية. لقد وصلت الطبيعة إلى هذه المرحلة دون قصد وعن طريق الاختبار والحذف والانتقاء عبر ملايين السنين.
لقد تطورت بعض القطرات وفق آليات التخمر. فحررت في البداية كميات كبيرة من الميتان وغاز الفحم اللذين انحلا في المحيطات. ولا تزال هذه الآلية موجودة اليوم: في أجواف المجترات مثلاً حيث تقوم البكتريا بالتخمير بغياب الأكسجين. لكن التطور كان سيسلك طريقاً أكثر فاعلية. ذلك أن التركيب الضوئي والتنفس كانا على وشك الظهور. ويرتكز الأول على اليخضور، والثاني على الهيموغلوبين. وقد حدث عندها افتراق بين هذين الصنفين. فمن جهة القطرات التي تصنع الطاقة مباشرة، وذلك عن طريق الضوء الشمسي الراشح في المحيطات وغاز الكربون الذي تحرره الخمائر (هذا هو التركيب الضوئي)؛ ومن جهة أخرى القطرات التي تمتص المواد الغنية بالطاقة والأكسجين الذي يطرحه غيرها (وهذا هو التنفس)، ويكون عليها بالتالي الانتقال من أجل إيجاد غذائها. ذلك هو الإفتراق بين البكتريا المستقبلية والعوالق المستقبلية، بين العالم الحيواني والعالم النباتي.
وتقد تابعت هذه القطرات تطورها فتزودت بنوى. ووفق النظرية الحديثة جداً فقد عاشت أنواع الخلايا متكافلة مع بعضها. واكتملت هذه العضويات فيما بعد باكتساب سوط أو هدب يسمح لها بالانتقال. وهذه الخلايا ذات النوى والمتحركة كانت خلايا قناصة تملك في أغشيتها فتحة وأهداباً هزازة تجتذب البكتريا والعوالق ثم تلفظ فضلاتها. لقد عرفت الطبيعة كافة أشكال التطورات الممكنة الأخرى للخلايا. لكن الحياة أقصت كافة السبل غير القابلة للتكيف. وقد لعب الزمن دوره هذه المرة أيضاً. فهو يتقلص أو يتمدد تبعاً لمراحل التطور. إنه ظهور جزيء تفاعلي جداً يركز الزمان ـ المكان: فهو يستطيع اجتياح بيئته الخاصة والتخلص في وقت قصير جداً من الجزيئات الأخرى التي استغرقت آلاف السنين لتتطور. إن الدراسات الحديثة وفهم آليات التطور هذه فتح الباب عريضاً أمام باحثين يعملون حالياً في مختبراتهم على تطوير ما يسمونه بالحياة الصنعية، في محاولات لإعادة تمثل احتمالات تطور الخلايا الأولى. إنها متتالية من التفاعلات التي تقود إلى تفاعلات لاعكوسة وإلى خصائص جديدة. هكذا بني التاريخ الذي نوجد اليوم عند نهايته. ويؤكد جويل دو روني أن المصادفة لا تلعب هنا أي دور. فإذا بدت هذه القصة خارقة فلأننا موجودون هنا لنحكيها. لقد كان هناك ملايين من قصص الجنود الذين انتهوا بشكل مأساوي، لكن أحداً لم يخبر بقصصهم لأنهم لم يعودوا موجودين ببساطة. وكم وكم من المحاولات النادرة توصلت إليها الحياة ولم تستمر ولا نعرف عنها شيئاً اليوم. إن تاريخنا هو السرد الوحيد الذي نستطيع إعادة تشكيله،ولهذا فهو يبدو خارقاً إلى هذا الحد.
عند هذا الحد من قصتنا كانت تعمر الأرض خلايا تحيا بسلام  في المحيطات. وكان يمكن لهذا النمط من الحياة أن يستمر. فما الذي بعث التطور الحيوي من جديد باتجاه التعقيد؟ لقد سممت هذه الخلايا نفسها بالفضلات التي كانت تطرحها. وكان لا بد لها من التجمع لأسباب كثيرة والعيش في تجمعات متكافلة لتقاوم افتقار البيئة أو فسادها أو القناصة إلخ. وهكذا أدت الحياة الجماعية إلى ولادة أولى أشكال متعددات الخلايا البسيطة. إنها أولى العضويات البحرية من ديدان واسفنجيات وغيرها. لقد تم هذا التطور خلال عدة مئات آلاف السنين فقط، وبعدها بدأ التطور يتسارع. وشيئاً فشيئاً تصبح القصة مألوفة لنا أكثر فأكثر؛ فلدينا منذ الآن كائنات نعرف سلالاتها أو أحافيرها. وكان التطور التالي بالتأكيد هو الجنس. لقد نمت شجرة الحياة وتفرعت في ثلاثة فروع رئيسية هي: فرع الفطريات والسرخسيات والطحالب والنباتات الزهرية؛ وفرع الديدان والرخويات والقشريات والعنكبوتيات والحشرات؛ وفرع الأسماك والزواحف وحبليات الظهر ثم الطيور والضفدعيات والثدييات...لقد ولد الجنس وفق إحدى النظريات من الكائنات التي تأكل أفراد نوعها. فعندما تأكل الخلايا بعضها بعضاً يمكن أن تندمج فيها مورثات أنواع أخرى. وكانت هذه الظاهرة موجودة عند البكتريا. ومع ازدياد تعقيد العضويات أصبحت مزودة بخلايا متخصصة بالتكاثر، هي الخلايا الإنتاشية التي يحتوي كل منها على نصف خلايا مورثات عضويته، وهكذا تعمم الجنس.
وبفضل الجنس أمكن للطبيعة أن تخلط مورثاتها، وهكذا انفجر التنوع. وبدأت مغامرة التطور البيولوجي الكبرى. وقد شهدت عدداً لا يحصى من التجارب المخفقة والأنواع التي لم تستمر. وكانت الظاهرة الهامة الثانية التي اندرجت في بنية العضوية هي آلية الزمن، أي الشيخوخة والهرم والموت. والموت هام بمقدار التكاثر نفسه. فهو يعيد الذرات والجزيئات إلى دورة الطبيعة وبفضله تتمكن الحياة من التجدد. وبعد أن عرف الكائن الحي الجنس والموت بدأ يطور قدراته. فباستخدام السكريات أغنى استقلابه وطور عضلاته مما سمح له بالحركة والعمل والسباحة والطيران والركض وإعمار العالم. وفي الوقت نفسه عملت اللواقط التي هي الحواس على تنسيق نشاطات العضوية. وهكذا ظهرت ثلاثة تطورات كبرى حديدة: النظام المناعي الذي يؤمن الحماية ضد الطفيليات والفيروسات؛ والنظام الهرموني الذي يسمح بالسيطرة على الإيقاعات البيولوجية والتناسل الجنسي؛ والنظام العصبي الذي يحكم الإتصالات الداخلية. وقد ظهرت هذه المنظومات الثلاث ما أن خرجت الحيوانات من الماء.
كان الذي دفع إولى الكائنات المائية إلى اليابسة هو المنافسة الشديدة على الغذاء. ولهذا كان ثمة نوع غامر باتجاه اليابسة للحصول على غذائه ثم العودة إلى المياه لوضع البيوض فيها. وعلى مر الأجيال جازفت سلالات هذا النوع بالبقاء أكثر على اليابسة بفضل خياشيمها القادرة على التقاط الأكسجين؛ بل وأيضاً بفضل دموعها، إذ كان عليها المحافظة على عينيها رطبة للرؤية في الهواء. وكان أنسال هذا النوع هم الضفدعيات والبرمائيات. والحق أننا ما كنا لنكون لولا دموع هذه السمكة.
وقد يسر الهواء الطلق الحركة والاتصال والتطور. ومع ظهور الهيكل العظمي أصبحت الحيوانات أقدر على التغلب على الجاذبية. وسمح لها اختراع العضلات بالتخلي عن كونها عجائن من الهلام الرخو مثل الديدان، بل وبممارسة ضغط آلي على بيئتها، وبتحمل وزن الشحوم الحامية لها والدماغ. وهكذا فقد تنوع كل شيء: الاستقلاب ومنظومات الحركة والأشكال...وبشكل مواز تم خلال هذا الوقت عند النبات انتقاء منظومات لأسر الطاقة الشمسية بواسطة الأوراق ولنقل الطاقة بواسطة النسغ. وعلى الرغم من بساطة الحياة النباتية الظاهرية لكنها تطورت وفق أنظمة معقدة تظهر بخاصة في نظامها التكاثري.
وقد شهد تطور الحياة تسارعاً ثابتاً، لكنه مر أيضاً بفترات انقراض كبير وبطرق مسدودة. فمنذ مائتي مليون سنة كانت الديناصورات تسود الأرض بأنواعها الصغيرة والكبيرة والعاشبة واللاحمة والراكضة والطائرة والبرمائية. وقد انقرضت بسبب نيزك هائل قطره خمسة كيلومترات سقط في خليج المكسيك منذ نحو 65 مليون سنة. وكانت الصدمة عنيفة إلى حد أنها ارتدت من الجانب الآخر للكوكب وحرضت تفجر الصهارة. وأدى ذلك إلى حريق عالمي مما حرر غاز الفحم والغبار فتغطت الأرض بحجاب شاسع. وتعتم الكوكب ونجم عن ذلك برد رهيب رافقه بعد ذلك على الأرجح أثر للدفيئة أدى إلى التسخين. وكان عدد الأنواع الذي نجا ضئيلاً، ومنها الليموريات. وهي أنواع متحركة ومتكيفة جداً ومزودة بيدين ممسكتين. وقد لجأت إلى تجويفات الصخور واحتمت بها وولدت السلالات التي أدت إلى ظهور الثدييات. واكتسبت هذه الأخيرة ميزة جديدة لتؤمن بقاء نسلها. وهي حمل البيضة في داخلها.
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
قصة الكون (4).    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
 
كان الدماغ عبر هذه المرحلة الطويلة من تطور الأنواع الحيوانية يتطور ويكتمل عبر مراحل متتالية، من الأسماك إلى الفقاريات فالطيور والزواحف فالبرمائيات وأخيراً الإنسان. ففي البداية كان الدماغ الأكثر بدائية، أي دماغ الزواحف الذي كان ينظم الغرائز الأساسية للجوع والعطش والجنس والخوف إلخ. وفي المرحلة الثانية نجد عند الطيور الدماغ المتوسط الذي يقود إلى آلية جماعية، مثل العناية بالفراخ وبناء العش والبحث عن غذاء والمشاركة والغناء. ثم تظهر المرحلة الثالثة عند الرئيسيات وبخاصة عند الإنسان: فالقشرة الدماغية التي تُدخل معطيات مجردة مثل الوعي والذكاء.
والحق أن نمو المنظومة العصبية يخضع هو أيضاً للتطور الدارويني. فالأعصاب البصرية لطفل مثلاً لا تقترن إذا كان هذا الأخير مغموراً في الظلمة دائماً. فثمة إذن بطريقة معينة انتقاء لا يحفظ سوى النطاقات الملائمة للفرد. وبالتالي فإن التعلم يعني الإقصاء. والتطور الدماغي يعني مزيداً من القدرة على الإقصاء والنمو عمودياً في سلم التطور. يعتبر ستيفن غولد أن كل حدث مهما كان تافهاً يؤثر في مجرى التاريخ. ومن هذا المنظور فالانسان كائن محظوظ إلى حد بعيد حتى الآن. وتقع عليه الآن مسؤولية المحافظة على ما منحه إياه التطور عبر ملايين السنين. فلو لم تختف الديناصورات ولم تختبئ الليموريات في أوكارها ثم تخرج منها لتعطي فرعاً متميزاً يقود إلينا لما كنا هنا. ليس ثمة صدفة ولا قصد في هذه القصة. إن الغائية التي غالباً ما زُرِعت في لاشعورنا تخفي عنا رؤية الحقيقة التي باتت واضحة تماماً، وهي أن التعقيد يزداد، وأننا حلقة في سلسلة تطور لانهائي.
الإنسان
«إذا كان صحيحاً أن الإنسان أتى من قرد، فلنصلّ لكي لا يذاع هذا الأمر‍!» هكذا هتفت سيدة إنكليزية عام 1860 عندما اكتشفت نظرية التطور لشخص يدعى داروين. ويبدو أن طلبها هذا لم يستجاب، فقد ذاع اليوم هذا الأمر وانتشر. ومع ذلك فلا تزال عوائق كثير تمنع انتشار هذه الأفكار الجديدة، وبخاصة المورايث الفلسفية والعقائدية. وذلك ناجم غالباً عن التباس في فهم معنى كوننا جئنا من القردة، إذ يعتقد الناس عموماً أن ذلك يعني الشيمبانزي مثلاً. والحق أن الإنسان جاء من نوع كان السلف المشترك للذريتين، سلالة القردة العليا في إفريقيا من جهة، وسلالة أشباه البشريات من جهة أخرى. فالإنسان ليس قرداً بالتالي إلا من منظور ترتيبه في التصنيف الحيواني. وكانت خصوصيته تحديداً أنه نجح في تخطي هذا الشرط البسيط. والحق اننا لا نستطيع تجاهل نسبنا، فنحن نحمله في جسمنا ومورثاتنا. ولا بد لنا من جهة أخرى من التأكيد على أن العلماء طوروا طرق بحثهم بدرجات فائقة بحيث يستطيعون مثلاً من خلال دراسة مينا سن بواسطة المجهر الإلكتروني رؤية حزات دقيقة تكشف عن الطريقة التي نمت بها السن، وهي تعطي مؤشرات حول نمو الفرد. وبالمقابل، فقد عثر العلماء على الأحافير في الترتيب المعاكس لقِدمها. وهكذا فقد اقتنعوا شيئاً فشيئاً بأن الإنسان أقدم بكثير مما كان يُظن.
ولا يمكن تحديد أصل واحد للإنسان كما كان يريد أن يفعل أصحاب الرؤى! وبالأحرى يستنتج العلماء تطوراً طويلاً للتسلسل الحيواني تظهر خلاله الصفات المختلفة في مواقعها. وضمن هذا المنظور يمكن إرجاع البدايات الأولى إلى نهاية العصر الطباشيري منذ سبعين مليون سنة. إنه فجر الحقب الثالث عندما كانت آخر الديناصورات في طريق الانقراض. لقد عانت البيئة عندها من تغيرات عميقة. وفي ذلك الحقب كانت أفريقيا عبارة عن جزيرة. وقد ظهرت على قارة كانت تجمع أوروبا وأميركا الشمالية وغرينلندا حيوانات صغيرة: إنها أولى القردة سليلة آكلات الحشرات. وقد بدأت تتكاثر في وسط نبات جديد تماماً هو أولى النباتات الزهرية. وكان بالتالي عصر أولى الثمار. وكانت القردة هي أول من استهلكها. وأدى ذلك إلى تغيرات تشريحية هامة على مر الزمن في بنية هذه الأنواع. وقد سمي أقدم هذه الرئيسيات البرغاتوريوس. ولم يكن حجمه ليزيد عن فأر. وبعد أن انتشر هذا النوع في العالم كله ظهرت منه منذ حوالي 35 مليون سنة أوائل أسلاف القردة وأشباه البشريات. إنها الرئيسيات العليا. وقد أدى تغير المناخ والجفاف الذي طرأ إلى ظهور عدة أنواع منها وأهمها قرد مصر كما سمي، وقد حقق إنجازات هامة على صعيد الرؤية والحياة المشتركة. ثم كان بعده البروكونسول الذي وصل حجم دماغه إلى 150 سم3. وقد شهد هذا النوع حدثاً هاماً. فمنذ 17 مليون سنة التقت الصفيحة القارية الإفريقية العربية بالصفيحة الأوروبية الآسيوية. وعبر هذا القرد بالتالي إلى أوروبا وآسيا وأعطى سلالات عديدة منها الرامابيثكوس الذي اعتقد لفترة طويلة أنه ينتمي إلى فصيلتنا، لكن هذا الاعتقاد خاطئ اليوم. فقد تبين أن أقرب إلى قرد الأورانج أوتان. وبالمقابل بينت الدراسات المخبرية على أسنان أحد الأنواع الأخرى التي ظهرت في أفريقيا أنها هي القريبة من البشر. ومع ذلك فقد أثبت العلماء أن الفارق بين الإنسان والشيمبانزي لا يتجاوز 1 % فقط.
إن البحث عن حلقة ضائعة بين الانسان والقرد كما كان شائعاً حتى وقت قريب أمر خاطئ تماماً. فهو يفترض وجود قرابة بين إنسان اليوم وقرد اليوم. إن ما يبحث عنه العلماء بالضبط هو السلف المشترك للبشر والقردة الكبيرة. ويتفق العلماء أن هذا الانشعاب حدث منذ نحو سبعة ملايين سنة. فقد انخسف وادي ريفت وصعدت بعض أطرافه لتشكل جداراً حقيقياً أمام الحيوانات. وقد شق هذا الانهدام إفريقيا الشرقية كلها حتى البحر الأحمر والأردن وانتهى إلى البحر المتوسط. وكان طوله الكلي 6000 كلم وعمقه أكثر من 4000 كلم. وأدى ذلك إلى تغير المناخ، فاستمرت الأمطار تهطل في الغرب، وراحت تتناقص شيئاً فشيئاً في الشرق. فأسلافنا الذين ظلوا في الغرب تابعوا حياتهم الشجرية. لكن الذين وجدوا أنفسهم معزولين في الشرق واجهوا السافنا ثم السهوب. وأدى ذلك إلى تطورين مختلفين عبر الأجيال. فأعطت أجيال الغرب القردة الحاليين، وأعطت أجيال الشرق أشباه البشر ثم الإنسان. إن كل ما يمزينا، من وضعية الوقوف وغذائنا المتنوع ونمو دماغنا واختراع أدواتنا قد نجم عن تكيف مع وسط أكثر جفافاً. تلكم الآلية التقليدية للانتقاء الطبيعي. فمجموعة صغيرة من الأسلاف كانت تملك مواصفات مورثية تشكل مزايا من اجل الاستمرار أفضل في هذه البيئة الجديدة أصبحت شيئاً فشيئاً هي الأغلبية السائدة في الجماعة. ومن هذه الميزات المورثية ربما كان النمو المختلف للحوض الذي سمح لهم بالانتصاب بسهولة أكبر، الأمر الذي مكنهم من رؤية طرائدهم والمدافعة عن صغارهم وعن أنفسهم بشكل أفضل. وقد ولد الكائن الذي انتصب فيضاً من الأنواع الجديدة، وهي ترجع كما قلنا إلى نحو 7 ملايين سنة. إنهم الأوسترالوبيثكوس أو أشباه البشريات. ومرة أخرى تدخل الانتقاء الطبيعي لصالح أحد الأنواع الذي أدى لظهور البشريات الأولى.
ومنذ نحو ثلاثة ملايين سنة كانت البشريات الأولى قد ظهرت وكانت تعيش في الوقت نفسه مع أنواع الأوسترالوبيثكوس الأخرى. ولم تستطع أنواع أشباه الإنسان هذه تجاوز عشها البيئي. وعندما أصبح نوعهم أقل خصوبة انقرضوا بعد عدة مئات من آلاف السنين. وفرضت البشريات الأولى نفسها. فهي أكبر حجماً وأكثر انتصاباً، إضافة إلى أنها كانت تتغذى بكل شيء تقريباً. وكان هذا الكائن انتهازياً جداً ومزوداً بأدوات أكثر فأكثر فاعلية. ومن أشهر أنواع الهومو الإركتوس أي المنتصب والهابيليس أي الماهر والسابيان أي العارف. ولكن يمكن القول إن النوع الإنساني كان قد بدأ تطوره معها.
وكان هؤلاء البشر محبين للاستكشاف إضافة إلى حاجتهم الدائمة للصيد وملاحقة الطرائد. وكانوا مدهشين جداً عندما بدؤوا يرمون بالحجارة. وكانوا يعيشون دون شك في مجموعات صغيرة من عشرين إلى ثلاثين شخصاً. وكانت المجموعة كلما كبرت انقسمت من جديد وابتعدت مشكلة جماعة أخرى. وكان ذلك عاملاً حاسماً في إعمار الكوكب. ونجد آثار الحجارة المنحوتة التي تركوها في معظم أنحاء العالم تقريباً. ومن خلال هذه الحجارة نستطيع غالباً معرفة الأنواع التي ارتحلت وتطورت. ويمكن القول بشكل أساسي إن نوع الإركتوس لعب دوراً كبيراً في تطوير التقنيات، وفي اختراع النار منذ نحو 500000 سنة. ومع اختراعه لتقنيات دقيقة في النحت اختفى الهومو إركتوس منذ نحو 300000 ألف سنة تاركاً المجال للهومو سابيان ليحتل الساحة. وقد ظهر منه نوع في أوروبا هو نياندرتال تعايش مع نوع آخر للسابيان هو كرومانيون الذي تطور في آسيا وأفريقيا. ويعتقد العلماء عموماً أن كرومانيون تغلب على نياندرتال بلطف إمكانياته ومرونته. وهذا هو الإنسان الذي أدى إلى ظهورنا نحن مباشرة.
 خاتمة
التطور مستمر حتى الآن. لكنه الآن تقني واجتماعي بشكل خاص. ولعله في العمق نفسي وروحي. ونحن اليوم نحمل شئنا أم أبينا مشعل التطور. إننا عند منعطف حاسم للتاريخ أشبه بظهور الحياة. فما الذي يتهيأ للظهور من خلالنا؟ وبعد المرحلة الكونية ثم الكيميائية ثم البيولوجية، ها نحن ندشن الفصل الرابع الذي على الإنسانية أن تلعبه إنما مع وعي للمصير والتحولات التي ستنجم عن كافة تدخلاتنا مهما كانت بسيطة. وكما يقول جويل دو روني فنحن في طريقنا إلى اختراع نمط جديد للحياة. إنها عضوية كوكبية هائلة تشتمل على العالم الحي كله وكافة ما أنتجه التطور البشري. وفي هذا التطور تمثل اختراعاتنا مكافئات للطفرات، ونحن نتقدم بسرعة أكبر بكثير من التقدم الدارويني؛ ونجتذب لصالحنا اليوم مصادر الطاقة والمعلومات والمواد ونرمي بالفضلات في البيئة مما يؤدي في كل مرة إلى فقر المنظومة التي تسندنا. والحل لا يكمن في إيجاد محميات، ولا في الإرتحال بعيداً عن الأرض نفسها، بل في إيجاد توازن حقيقي بين التكنولوجيا والأرض وحاجاتنا.
وعلينا من جهة أخرى ألا ننسى أن جسمنا يتغير ببطء شديد ولكن بسرعة كبيرة قياساً إلى سرعة تطور البشريات السابقة لنا. وخلال فترة قادمة إنما نحضر لولادة كائن أكثر كمالاً منا. وهذا يعني أكثر كفاءة وقدرات. كذلك فإن انطلاق الإنسان إلى الفضاء والذي بات وشيكاً أمر لا يجب أن يغيب عن بالنا أبداً. فهو يعني يقيناً أن بيولوجية الإنسان وثقافته ستتغيران على حد سواء. وربما نكون مقبلين على إعمار الكون القريب بكائنات ستختلف اختلافات كبيرة عنا خلال أوقات قصيرة.
إن قدرتنا اليوم على سرد هذه القصة للكون والحياة والإنسان تشير إلى مقدار تقدمنا المعرفي والتقني. وعلينا أن نغتبط لذلك بقد ما نشعر بمسؤولية هذه المعرفة.

 

· قُدّم هذا البحث ضمن إطار محاضرات الجمعية الكونية السورية، 1998. وهو يرتكز بشكل أساسي على ترجمتي لكتاب «أجمل تاريخ للكون»، تأليف هوبرت ريفز وغيره، وصدر عن دار أكاديميا، 1998، بيروت
 
 
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
توبة في مَرقَص !!!!!!    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
توبة في مرقص
الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله)
دخلت أحد مساجد مدينة (حلب) فوجدت شاباً يصلي فقلت -سبحان الله- إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً يشرب الخمر ويفعل الزنا ويأكل الربا وهو عاقّ لوالديه وقد طرداه من البيت فما الذي جاء به إلى المسجد… فاقتربتُ منه وسألته: أنت فلان؟!! قال: نعم… قلت: الحمد لله على هدايتك… أخبرني كيف هداك الله؟؟ قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص… قلت مستغرباً… في مرقص؟!! قال: نعم… في مَرقص!! قلت: كيف ذلك؟!! قال: هذه هي القصة… فأخذ يرويها فقال:
كان في حارتنا مسجد صغير… يؤم الناس في شيخ كبير السن… وذات يوم التَفَتَ الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟!… ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه؟!!… فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي… قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟!!… ردّ عليه أحد المصلين: المرقص صالة كبيرة فيها خشبة مرتفعة تصعد عليها الفتيات عاريات أو شبه عاريات يرقصنَ والناس حولهنَ ينظرون إليهن… فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟ قالوا: نعم… قال: لا حول وقوة إلا بالله… هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس… قالوا له: يا شيخ… أين أنت… تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟! قال: نعم… حاولوا أن يثنوه عن عزمه وأخبروه أنهم سَيُواجَهون بالسخرية والاستهزاء وسينالهم الأذى فقال: وهل نحن خير محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص… وعندما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون؟!! قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص… تعجب صاحب المرقص… وأخذ يمعن النظر فيهم ورفض السماح لهم… فأخذوا يساومونه ليأذن لهم حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي.
وافق صاحب المرقص… وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي..
قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص… بدأ الرقص من إحدى الفتيات… ولما انتهت أسدل الستار ثم فتح… فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي فبدأ بالبسملة وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة وتملكهم العجب وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية… فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم أخذوا يسخرون منه ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء وهو لا يبالي بهم… واستمر في نصحه ووعظه حتى قام أحد الحضور وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.
قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل… تلا علينا آيات من القرآن الكريم وأحاديث نبوية وقصصاً لتوبة بعض الصالحين وكان مما قاله: أيها الناس… إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيراً… فأين ذهبت لذة المعصية. لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ستسألون عنها يوم القيامة وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى… أيها الناس… هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم فكيف بنار جهنم… بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان…
قال: فبكى الناس جميعاً… وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه وكانت توبتهم على يده حتى صاحبُ المرقص تاب وندم على ما كان منه.
*د يحيى
14 - يونيو - 2010
د/ وهبة الزحيلي ومصادر التشريع غير المقبولة في الإسلام    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
مصادر التشريع غير المقبولة في الإسلام ـــ د. وهبة الزحيلي

إن مصادر التشريع أو استنباط الأحكام الشرعية من حلال أو حرام بلغت فيما يمكن جمعه من أصول أئمة المذاهب الفقهية نيفاً وأربعين دليلاً أو مصدراً، وما عدا تلك المصادر لا يقر الإسلام أي مصدر لا يستند إلى الشريعة أو إلى الوحي الإلهي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فهي في تقدير الشرع مصادر موهومة غير موثوقة لكثرة الخطأ فيها، أو لعدم صلاحيتها للديمومة والبقاء، أو لعدم شمولها وعمومها، أو لتأثر التشريع بناء عليها بأهواء الواضعين ومصالحهم الخاصة، أو بسبب الإخلال أو العبث أو الغض من جانب المصلحة العامة التي ينبغي أن يقوم عليها كل تشريع، ويمكن الجزم برفض هذه المصادر إجمالاً بما نص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة ذات مدلول واحد، منها:‏

1-(وإذا تتلى عليه آياتنا بيِّنات، قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتَّبعُ إلا ما يُوحى إليَّ، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم( (سورة يونس: 15).‏

2-(والنجم إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى( (سورة النجم: 1-4).‏

3-(أفلم يدَّبروا القول، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون، أم يقولون به جِنَّة، بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون، ولو اتَّبع الحقُ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، بل أتيناهم بذكرهم، فهم عن ذكرهم معرضون( (سورة المؤمنون: 68-71).‏

سلطة التشريع العليا في نظام الإسلام:‏

لا خلاف بين المسلمين في أن مصدر جميع الأحكام التشريعية من أوامر ونواه هو الله تعالى، لا يشاركه فيه أحد من الناس، فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محددة، وطريق التعرف عليها ما أنزل الله في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد (. وفي ذلك ضمان وثيق لحرية الإنسان والحفاظ على كرامته ومصالحه وعدم استبداد أحد من الناس بمقدراته وأحواله. أما إعطاء سلطة التشريع والأمر لأحد من الناس، فهو إشراك في ربوبية الله، ومنازعة في سلطانه المطلق وهيمنته الشاملة، وطريق يؤدي إلى الاستبداد والطغيان والظلم والتعسف، وإهدار حرية الإنسان، والإضرار بمصالحه الخاصة التي لا تصطدم مع المصالح العامة، والعبث بأحوال الناس، والأخذ بهم إلى طريق الهاوية والضلال والضياع والفساد، كما حصل فعلاً في عصر الجاهلية حينما كان يسيطر على الناس في ترتيب أوضاعهم وتنظيم أمورهم وإحداث عقائدهم: الوثنية وعبادة الأصنام، لذا قال النبي (: "رأيت عمرو بن لُحي يجر قصبه- أي أمعاءه- في النار" لأنه أول من بحر البحيرة، وسيب السائبة(1)، وسن للعرب عبادة الأصنام، وغيَّر دين إسماعيل عليه السلام.‏

وقد أورد القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على استقلال الله تعالى بسلطة التشريع وإنشاء الأحكام الشرعية، مثل قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله(( الأنعام: 57) (إن الأمر كله لله( (آل عمران: 154) (فالحكم لله العلي الكبير( (غافر: 12) (وهو خير الحاكمين( (يونس: 109) (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق( (المائدة: 48) كل هذه النصوص ونحوها تدل على أن السيادة أو الحاكمية لله، بمعنى إنشاء أو وضع الأحكام، وليس للبشر سلطة التشريع بالمعنى الحقيقي، وإنما يقتصر دور المجتهدين أو المشرعين بالمعنى المجازي على التنظيم والترتيب والتفصيل في إطار التشريع الإلهي، ويكون لهم الحق في الكشف عن أحكام الله وإبانتها للناس، وتعريفهم بضوابطها وقيودها وتوضيح غاياتها، وافتائهم بما يستجد من القضايا والمسائل في ضوء الروح العامة للشريعة، بالاهتداء بمقاصد الشريعة ومنهجها في رعاية المصالح العامة، ودرء المفاسد والمضار وأنواع الأذى عن الناس، والحرص على تحقيق أصول خمسة وإيجادها وبقائها، والمحافظة عليها من الاعتداء والأضرار، وتلك الأصول: هي الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال.‏

استخلاف الأمة في تنفيذ الشريعة:‏

ينحصر دور الناس في تنفيذ أحكام الشريعة والإذعان لها واحترامها وتطبيقها، فالبشر وكلاء عن الله في تبليغ أحكامه وتعليمها وتقريرها، ورعاية تطبيقها، وفهم مدلولاتها، والسير في فلكها، والتزام منهجها، والتجديد محصور بمراعاة الأعراف والمصالح الطارئة عن طريق الاجتهاد فيما تدل عليه النصوص، أو تهدف إليه من تحقيق غايات، أو تحد من حدود يلزم السير في نطاقها، وتنظم الحياة في محورها. والأحكام تفهم بمعنى أوسع من حرفية النص، وفهمها بعللها ومعانيها، كما فهمها الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم.‏

والأدلة كثيرة على أن الناس وكلاء أو خلفاء عن الله تعالى في الأرض، منها قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة: 30) وإذ ورد النص القرآني دالاً على استخلاف بعض الرسل والأنبياء كأحسن مثال، فإن البشر أيضاً من بعدهم هم خلفاء الأرض، قال تعالى: (وإذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح( (الأعراف: 69) (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( (يونس: 14) ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم( (الأنعام: 165).‏

وما على الخليفة أو الوكيل إلا أن ينفذ أوامر المستخلف له: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: 58) (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( (النساء: 59).‏

وقد حددت هذه الآية الأخيرة مصادر التشريع في الإسلام، التي تستقي في النهاية من مصدر واحد: وهو الوحي الإلهي، وهذه المصادر هي:‏

أولاً: القرآن الكريم، وتطبيق ما جاء فيه محقق لطاعة الله تعالى.‏

ثانياً: السنة النبوية الصحيحة المبينة لما جاء من عند الله تعالى، والعمل بها محقق طاعة الرسول (.‏

ثالثاً: الاجتهاد الجماعي أو إجماع ذوي الفكر المختصين في النظر في شؤون الناس ومصالحهم العامة، وإدراك قضاياهم الدينية أو الدنيوية، من الحكام والأمراء والعلماء ورؤساء الجند، وخبراء السياسة والاقتصاد، والإجماع لا بد له من مستند شرعي نصي أو مصلحي يمثل إرادة الأمة العامة.‏

رابعاً: الاجتهاد الفردي من قبل العلماء المجتهدين: وهم المؤمنون بالله ورسوله، العارفون بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها على مدلولاتها، وتشمل طرق استنباط القواعد والأحكام والأنظمة لديهم عدة أصول، كالقياس والاستحسان والاستصلاح، والعرف والعادة، وسد الذرائع، وقول الصحابي، والاستصحاب.‏

فإن برز اختلاف بين الناس أو بين المجتهدين المتخصصين، عرض الأمر على القواعد العامة والمبادئ التشريعية وروح التشريع المعلومة من القرآن والسنة، على ألا يتعارض الرأي المقول به مع النصوص المحكمة أو الأدلة القطعية، وهذا تطبيق لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً( (النساء: 59).‏

ويتحدد الذين يفصلون في النزاع في صورة هيئة تحكيم أو محكمة دستورية عليا، يختارهم أولو الأمر، بالنيابة عن الأمة من العلماء المختصين في موضوع النزاع، ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة، كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم بعض الخلفاء الراشدين وهو عمر بن الخطاب للترشح لمنصب الخلافة، وإتمام البيعة للمرشح من سائر الناس.‏

ويؤخذ في التصويت برأي الأكثرية أو الأغلبية، عملاً برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر المجتهدين حجة، وإن لم يكن إجماعاً؛ لقول النبي (: "يد الله مع الجماعة" "عليكم بالجماعة" "عليكم بالسواد الأعظم". هذا ما لم يتبين للإمام الأعظم رجحان رأي الأقلية بدليل أوضح أو لمصلحة أنسب، وإلا اتبع رأي أهل الشورى وهو معنى "العزم" في آية (وشاورهم في الأمر( (آل عمران: 159) أي مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم، كما قال النبي (: وقال لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".‏

صاحب الحق في التشريع:‏

اتضح لنا فيما بيناه أن لا حقَّ لأحد سوى الله في التشريع بالمعنى الحقيقي، سواء أكان حاكماً، أو طائفة معينة، أو الأمة نفسها؛ لأن إعطاء أحدهم صلاحية التشريع يجعله متأثراً بالمصالح والأهواء الخاصة وترك مصلحة الأمة العليا، بدليل ما أكده القرآن الكريم على ترك الاختصاص التشريعي الأصلي لله ولرسوله، قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيرَة من أمرهم((الأحزاب: 36) "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلِّمواً تسليماً"(النساء: 65) "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"(النور: 63).‏

والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول الأعظم (، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم، أو عرض له قضاء عام أو خاص، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من سنة رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.‏

وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة، وأقرهم على هذه الخطة المسلمون. وقد وضع النبي ( لأمته هذه الخطة، حينما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضياً بالإٍسلام إلى اليمن، فقال له الرسول: كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو- أي لا أقصر في الاجتهاد- فضرب رسول الله ( على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله. وروى الإمام مالك عن علي، قال: قلت: "يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: اجمعوا العالِمين- أو العابدين- فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد".‏

لكن الأمة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها، هي التي تختار أولي "الحل والعقد" حسبما تقتضي تطورات الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فتكون إرادتها ممثلة، بواسطة هؤلاء العلماء المتخصصين الذين اختارتهم، وقيدتهم بمبادئ الإسلام وأحكامه، وبالمصالح العامة فيما لا نص ولا إجماع فيه من الأمور الدنيوية والقضايا الاجتماعية المتجددة أو المتطورة.‏

وهذا يعني أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيجب الرجوع إلى تشريعه أمراً ونهياً، وأما السيادة العملية فهي للأمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد، وحينئذ يجتمع هؤلاء في مكان مخصص لهم، بدلاً من الاجتماع في المسجد، كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس الأمة في الأنظمة الحديثة لمناقشة شؤون المواطنين، بشرط مراعاة أحكام التشريع الإسلامي وأسسه فيما يصدرون من قوانين.‏

وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيراً أو قاضياً، فله الأخذ باجتهاده فيما لم يصادم إجماع المجتهدين، ويكون رأيه حينئذ ملزماً بصفته صاحب سلطة.‏

ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الاجتهاد باستجماع شرائطه المقررة أصولياً، وأهمها معرفة اللغة العربية- لغة القرآن والسنة، وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعية، وفهم مقاصد الشريعة، ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للاجتهاد، حتى تعرفه الأمة وترشحه لتمثيلها.‏

ومجال الاجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أي البداهة كوجوب الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم جرائم الزنا والسرقة والتلصص (المحاربة أو قطع الطرق)، وشرب المسكرات، والقتل، وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقطع وقصاص ونحوها، وتحريم الزواج بالمحارم.‏

وأما ما يصح فيه الاجتهاد فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع. وبه يتبين أن التشريعات الصادرة بمقتضى الأنظمة الحديثة التي لا تخالف الإسلام من قبل اللجان المشرعة، لا تخالف قواعد الاجتهاد في الفقه الإسلامي، مثل إصدار قوانين تنظيم أجور العمال، والنقابات، وعقود التنقيب عن النفط والمعادن، وقوانين التأمينات الاجتماعية، وتنظيم استثمارات الأراضي الموات الزراعية، والصيد، والثروة الشجرية الحراجية، وتنظيم عقود التعهدات والمقاولات العامة، ونظام المزاد العلني للمناقصات ونحوها.‏

والخلاصة: أن الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مقصور على استمداد الأحكام الشرعية من مصدرها الإلهي، فهو دستور الأمة، والحاكم المجتهد هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزماً باعتماده، لا الأغلبية، على عكس حال السلطة التشريعية في الدول الحاضرة، فإن لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد، وتأخذ في ذلك بمبدأ الأغلبية.‏

المصادر غير الشرعية:‏

بناء على ما تقدم لا يقر الإسلام الأخذ بأي مصدر لا يستند إلى الشريعة، أو إلى الوحي بصفة مباشرة أو غير مباشرة. وأهم المصادر غير المعترف بها شرعاً هي ما يأتي:‏

1-التشريع أو العقل: يطلق التشريع عند فقهاء القانون الوضعي على معنيين: أحدهما عام والآخر خاص. أما التشريع بالمعنى العام: فهو وضع القواعد القانونية اللازمة لحكم العلاقات الاجتماعية بين الناس، بصرف النظر عن كون تلك القواعد قد نتجت عن مصدر من مصادر القاعدة القانونية، أو عن تفسير للقواعد القائمة.‏

أما التشريع بالمعنى الخاص: فهو تعبير عن إرادة السلطة العامة، قصد به وضع القواعد القانونية، وإلزام الناس باحترامها، وهذا المعنى الخاص بكل دولة أكثر شيوعاً من المعنى العام؛ إذ هو المقصود من لفظ التشريع عند إطلاقه، والسلطة العامة التي تمارس التشريع قد تكون أفراداً كما في الملكيات المطلقة، وقد تكون مجلساً أو مجالس نيابة تنوب عن الشعب في وضع التشريع، كما في أغلب نظم الحكومات، وقد تكون أوسع من ذلك، بل قد تكون الشعب نفسه عند وضع القانون الأساسي للدولة، وهو الدستور.‏

وأياً ما كان الأمر، فإن هذه السلطة تعتمد في وضع القانون على نتاج العقل البشري وتفكيره، كما هو واضح من التعريف، إذ ينص على أن التشريع تعبير عن إرادة السلطة العامة التي هي فرد أو أفراد من الناس، وإذاً فإن التشريع قائم على نتاج العقل، بل هو مرادف له.‏

والعقل المجرد عن الاعتماد على الشرع الإلهي لا يعتبر مصدراً من مصادر الفقه الإسلامي عند فقهاء الشريعة الإسلامية؛ لأنه لا يحقق العدالة والمثالية المطلوبتين في القانون، إذ أن العقول البشرية تتفاوت في إدراكها للأمور، وتختلف مقاييس الخير والشر في نظرها، ويقصر إدراكها لحقائق الأشياء الغامضة، ولا تستطيع كشف ما يجيء به المستقبل من أحداث، كما أنها ليست معصومة من الاندفاع وراء الشهوات والثروات.‏

ثم إن نتاج العقول لا يقوم على أساس الدين والأخلاق، فأضحت القوانين التي هي من صنع البشر قاصرة دائماً عن تحقيق العدالة والمصلحة والاستقرار، وآية ذلك كثرة تغييرها وتبديلها أو تعديلها وإصلاح الناقص فيها، بعد زمن قصير من سنِّها أو إنشائها.‏

وعدم اعتبار العقل (المحض، بدون الهداية الإلهية) مصدراً من مصادر الأحكام في الفقه الإسلامي أمر أجمع عليه فقهاء الشريعة الإسلامية، فتراهم يقررون –كما بينا- أنه "لا حاكم إلا الله رب العالمين" ولم يشذ منهم أحد، حتى فقهاء المعتزلة الذين يقولون: إن العقل يدرك في بعض الأفعال حسناً يجعلها مأموراً بها، ويترتب على فعلها الثواب، كالصدق والمروءة والعفو والعدل، ويدرك في بعض الأفعال قبحاً يجعلها منهياً عنها، ويترتب على فعلها العقاب، كالكذب والقتل والظلم وغيرها.‏

ذلك أن المعتزلة يقولون: إن العقل لا ينشئ هذه الأحكام، ولا يضعها، وإنما المنشئ لها هو الله رب العالمين. وعمل العقل مقصور على معرفة حكم الله تعالى في هذه الأشياء بواسطة إدراك صفات الحسن والقبح الذاتية. فإذا أدرك ما فيها من حسن، أدرك حكم الله فيها، فيتعين عليه فعلها. وإذا أدرك ما فيها من قبح أدرك حكم الله فيها، فيتعين عليه تركها. ولا يتعدى عمل العقل معرفة الحكم وإدراكه. أما واضع الحكم ذاته ومنشئه فهو الله رب العالمين.‏

ومع هذا، فإن أهل السنة قد أبطلوا رأي المعتزلة هذا؛ لأن التجربة الجاهلية بين العرب التي سبقت الإسلام والتي اعتمدوا فيها على وحي عقولهم تعطي الدليل القاطع على خطأ الاعتماد على العقل وحده.‏

وأما الشيعة الذين اعتمدوا العقل مصدراً رابعاً للاجتهاد، فإنهم حصروه عندهم بامتثال التكليف الشرعي.‏

ولم يكن للاعتماد على العقل بصفة كونه مصدراً للأحكام من حلال وحرام أي وجود في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام ولا في العصور التالية. أما في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن ما جاء في الكتاب الكريم من تشريعات وأحكام تفصيلية أو مجملية، كان وحياً صرفاً من الله تعالى: بدليل قوله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين( (الشعراء: 192-195) وكذلك ما جاء في السنة من أحكام، فإنه وحي أيضاً، كما ترشد إليه الآية القرآنية: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين( (الحاقة: 44-47) والذي كان للفكر والعقل في إبان تنزل الوحي هو مجرد تطلع وتأمل وترقب وانتظار لنزول الوحي من الرسول نفسه أو من بعد الصحابة، مثل نزول آيات كفارة الظهار لمعالجة أمل خولة بنت ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أي حرمها بتشبيهها بإحدى محارمه كأمه وأخته: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير"(الآيات: 1-4 من سورة المجادلة) ومثل نزول آيات اللعان (الأيمان الخمسة بين الزوجين عند اتهام الزوج امرأته بالزنا، أو لنفي نسب ولد): (والذي يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين( (سورة النور: 6-10) نزلت حينما قذف هلال بن أمية امرأته عند النبي ( بشَرِيك بن سحماء. ومثل نزول آية تحريم الخمر تحريماً قاطعاً وهي: "إنما الخمر والميسر.." (المائدة: 90-91) في المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تحريم الخمر، نزلت لقول عمر الذي نزل القرآن مؤيداً لرأيه في بضع وثلاثين مسألة: "اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً".‏

وللحد من دور العقل وتساؤل الناس أسئلة ضارة بمصلحة الجماعة في عصر الوحي والرسالة، نهى القرآن الكريم عن السؤال عن أشياء، هل هي حرام أم مباحة: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدَ لكم، عفا الله عنها، والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم، ثم أصبحوا بها كافرين( (المائدة: 101-102) أي أن الأصل في الأشياء غير المنصوص عليها هو الإباحة، حماية للمصلحة العامة، ومنعاً من الأثقال والتشديد على الناس، و أخذاً بيسر الإسلام وسماحته، ويكون دور العقل البشري فيما سكت عنه الشرع أو عفا الله عنه، فهو مجال تحريك العقل وإعمال الفكر، خصوصاً في أمور الدنيا وتنظيم أوضاعها، لقوله ( -فيما رواه مسلم عن عائشة- "أنتم أعلم بأمر دنياكم" والقاعدة العامة في المعفو عنه هو الإباحة حتى يكون المنع أو الحظر.‏

وأما بعد عصر الرسول ( فإن عمل المجتهدين لا يعدو أن يكون كشفاً للأحكام وإظهاراً لها، بتفهم النصوص وتطبيقها، والقياس عليها، والاجتهاد في استخراج الأحكام الشرعية منها، وليس فيه وضع وأحداث، أو ابتكار واختراع للأحكام من عند أنفسهم، أو إنشاء لها بواسطة عقولهم وأفكارهم؛ لأنهم يستندون إلى الكتاب والسنة في كشف هذه الأحكام وبيانها، ولا يعتمدون على غيرهما بتاتاً، سواء أكان الاجتهاد جماعياً أم فردياً. غاية الأمر أن الحكم إذا أجمع عليه المجتهدون كان ملزماً للأمة، ولا يسوغ الاجتهاد فيه بعدئذ. وإن كان الحكم قد ثبت باجتهاد فردي، فليس ملزماً لسائر المجتهدين، وإنما هو ملزم للمجتهد الذي رآه، ولكل من استفتاه من المقلدين. لكن لم يهمل الله عقول هذه الأمة، فترك لها حرية الاجتهاد، والبحث عن الحكم الأصلح فيما لا نص عليه، عن طريق القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ومراعاة الأعراف والعادات، في ضوء هدي الشريعة، وانطلاقاً من مبادئها، وتحركاً في أفق ومدار غاياتها الكبرى، وإطار مقاصدها التشريعية العامة لتنظيم حياة الفرد والجماعة، أي أن الدين لا يكون إلا من عند الله إما بنص قرآني أو حديث نبوي، وأما الاجتهاد فيما لا نص فيه فهو وضع بشري يسير في فلك الهداية الإلهية. وبه يظهر أن سلطة التشريع الأولى في الإسلام هي لله رب العالمين، وللرسول عليه السلام، باعتبار أنه رسول ومبلِّغ وحي الله إلى سائر الناس وليست هناك سلطة تشريعية في الإسلام لأحد من الناس فرداً كان أو جماعة، لما بيناه سابقاً، ويكون إطلاق اسم التشريع على عمل المجتهدين، وإطلاق اسم المشرِّع على المجتهد أو ولي الأمر إطلاقاً مجازياً، لا حقيقياً. ويمكن أن يقوم مقام سلطة التشريع في الإسلام مجلس تخطيط أعلى يعتمد على الشورى.‏

2-التفويض أو العصمة:‏

التفويض: إحالة الحكم إلى النبي أو العالم في المسائل والوقائع بما يشاء من غير دليل يستند إليه، ويكون حكمه صواباً موافقاً حكم الله تعالى، لإلهامه الله له ولم يقل بهذا المصدر إلا طائفة من الشيعة الأمامية، ولذلك يدّعون العصمة لأئمتهم؛ لأنهم مفوضون بالحكم من قبل الله تعالى، وهو قد ألهمهم إياه، فيكون قولهم صواباً موافقاً لحكم الله تعالى.‏

لكن أهل السنة على اختلاف مذاهبهم ينكرون هذا التفويض، ولا يعدونه حجة ومصدراً للأحكام؛ لأن الأحكام إنما تتلقى من الله تعالى بواسطة أمين وحيه: جبريل عليه السلام. فهناك تلازم بين النبوة والعصمة، ولا عصمة لغير نبي بالدليل النقلي والعقلي.‏

أما الإلهام: فيحتمل أن يكون من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من الشيطان، كما يدل لذلك قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم( (الأنعام: 121) ويحتمل أن يكون من وسوسة النفس وتحديثها، كما يرشد إليه قول الله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان، ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد( (سورة ق: 16) ومع هذه الاحتمالات لا يكون الإلهام حجة.‏

ومن هذا القبيل ما يراه بعض الصوفية من أن الإلهام أو المكاشفة حجة يجب العمل به للمعنى الذي قدمناه، وهذا باطل كسابقه؛ إذ لا حجة في الإلهام أو المكاشفة؛ لأن صاحب الرسالة (النبي محمد () نفسه لا يقول إلا عن وحي: "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" (النجم:3-4) فالأمة أولى بألا تقول إلا عن دليل وبرهان شرعي، وأما الحكم جزافاً أو بالهوى والطبيعة، فهو عمل أهل البدعة والضلال.‏

وربما كان التنديد في القرآن بشعر الشعراء المغالين، وكراهية إنشاد الشعر الفاسد إنما هو بسبب الاعتماد على مجرد الإلهام الشيطاني الخالي عن القيود والضوابط الشرعية أو العقلية السليمة، فقال تعالى: ( هل أنبئكم على من تنزَّل الشياطين، تنزل على كل أفَّاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون. والشعراء يتَّبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعدما ظُلِمُوا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون( (الشعراء: 221-227).‏
*د يحيى
14 - يونيو - 2010
التكملة في الموقع التالي:    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
http://www.dahsha.com/viewarticle.php?id=26451
*د يحيى
14 - يونيو - 2010
ترويحة تسبيح وتمجيد وتعظيم وتحميد لله رب العالمين    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
 
 
*د يحيى
14 - يونيو - 2010
أسلوب ( شتان ما)    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
 لشتان ما بين اليزيدين في الندى        يزيد سليم والأغر ابن حاتم
البيت لربيعة الرقي من قصيدة مدح بها يزيد بن حاتم المهلبي.
الخزانة: 6/275، 287 هارون، والمفصل: 163، وابن يعيش: 4/37 ،68.
وفي التخمير: 2/280 "قال الأصمعي: لا يقال: شتان ما بينهما؛ لأنك إذا جعلت "ما" مزيدة، لم يبق في الكلام ل(شتان) فاعل، وإن جعلته بمعنى "الذي" كنت قد جعلت كما (علم) يقتضي شيئين. ولم يستبعده بعض العلماء عن القياس؛ لأن الفاعل من حيث المعنى شيئان...".
وفي المسائل العسكريات:28:
" فأما قولك " شتان ما بينهما" فالقياس لا يمنعه إذا جعلت "ما" بمنزلة الذي، وجعلت "بين" صلة ؛ لأن "ما" لإبهامها قد تقع على الكثرة ...".
وانظر شذور الذهب: 404 وتعليق المرحوم محيي الدين عبد الحميد.
وقال الفارسي في المسائل العسكريات: 29:
" إلا أن الأصمعي طعن في فصاحة هذا الشاعر، وذهب إلى أنه محتج بقوله، ورأيت أبا عمر قد أنشد هذا البيت على وجه القبول له، والاستشهاد به، وقد طعن الأصمعي على غير شاعرقد احتج بهم كذي الرمة، والكميت فيكون هذا أيضاً مثلهم ".
وانظر كتاب "فعل، وأفعل" للأصمعي: 507، وهو منشور ضمن العدد الرابع لسنة 1401هـ من مجلة البحث العلمي في كلية الشريعة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
هذا،'' ويستشهد بشعرالمولدين في المعاني، كما يستشهد بشعر العرب في الألفاظ" المزهر: 1/59.
 واعلم أن استشهاد ابن جني بشعر المولدين واضح في الخصائص والمنصف.
انظر الخصائص:1/24، 25، 26، 30، 40، والمنصف: 2/198.
*د يحيى
17 - يونيو - 2010
وصية الله عز وجل    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
وصية الله – سبحانه – للإنسان:
" وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" {46/15}
" أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ"
 {46/16}
" يقول الحق جلّ جلاله: { ووصينا الإِنسانَ } بأن يُحسن { بوالديه حُسناً } وقرأ أهل الكوفة
{ إحساناً } وهما مصدران، وقرئ: " حَسَناً " بفتح الحاء والسين، أي: يفعل بهما فعلاً حَسَناً، أو: وصينا إيصاءً حَسَاناً، { حملته أُمه كُرْهاً ووضعته كُرهاً } أي: حملته بكُرْهٍ ومشقة، ووضعته كذلك، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها، فإن الإحسان إليها أوجب، وأحق من الأب، ونصبهما على الحال، أي: حملته كارهة، أو: ذات كُره، وفيه لغتان؛ الفتح والضم، وقيل: بالفتح مصدر، وبالضم اسمه. { وحَمْلُه وفِصَالُه } أي: ومدةُ حمله وفصاله، وهو الفطام. وقرأ يعقوبُ: " وفصله " وهما لغتان كالفَطْم والفطام، { ثلاثون شهراً } لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية، وفيه دليل على أن أقل مدة ستةُ أشهر؛ لأنه إذ حُط منه لفطام حولان، لقوله تعالى:حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }[البقرة: 233] يبقى للحمل ستة، قيل: ولعل تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما، وارتباطِ النسب والرضاع بهما.
{ حتى إِذا بلغ أشُدَّه } أي: اكتهل، واستحكم عقله وقوته، وانتهت قامته وشبابه، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين، وقال زيد بن أسلم: الحلم، وقال قتادة: ستة وثلاثون سنة، وهو الراجح، وقال الحسن: قيام الحجة عليه. { وبلغ أربعين سنة } وهو نهاية الأشدّ، وتمام العقل، وكمال الاستواء.
قيل: لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين، قال ابن عطية: وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته، وفي الحديث
" إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب، فيقول: بأبي وَجْهٌ لايُفلح " هـ. ومن حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: " مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا لثالث: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يُحب، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشفع في أهل بيته، وناداه منادٍ من السماء: هذا أسير الله في أرضه " وهذا في العبد المقبل على الله. والله تعالى أعلم. وقُرئ: " حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه ".
{ قال ربِّ أوزعني } أي: ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ } من الهداية والتوحيد، والاستقامة على الدين، { وعلى والديَّ } كذلك، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه، { وأنْ أعمل صالحاً ترضاه } التنكير للتفخيم والتكثير، قيل: هو الصلوات الخمس، والعموم أحسن، { وأَصْلِحْ لي في ذُريتي } أي: واجعل الصلاة سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، أو: اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم، { إِني تُبتُ إِليك } من كل ذنب، { وإِني من المسلمين } الذين أخلصوا لك أنفسهم، وانقادوا إليك بكليتهم. قال عليّ رضي الله عنه: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره، وأوصاه الله بهما. هـ. فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه " أم الخير " وأولاده: عبد الرحمن، وابنه عتيق، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة. قال ابن عباس: أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. هـ.
قال ابن عطية: معنى الآية: هكذا ينبغي للإنسان أن يكون، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع، وقول مَن قال: إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح. هـ. قلت: كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي، فيُخبر عنه كأنه واقع، ومنه:
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَآءِيلَ }[الأحقاف: 10] ووَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }[فصلت:6، 7] وهذه الآية في إسلام إبي قحافة. والله تعالى أعلم.
{ أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } من الطاعات، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة، فإن يَنقلِب حينئذ طاعة، وضمّن " يتقبل " معنى يتجاوز، فعدّاه بعَن؛ إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول، لولا عفوُ الله وتجاوزه عن عامله، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه، فلولا حلمه تعالى ورأفته ما كان عملٌ أهلاً للقبول. { ويتجاوز عن سيائتهم } فيغفر لهم، { في } جملة { أصحاب الجنة } كقولك: أكرمني الأمير في نار من أصحابه، أي: أكرمني في جملة مَن أكرمهم، ونظمني في سِلكِهمْ ومحله: نصب على الحال، أي: كائنين في أصحاب الجنة، ومعدودين فيهم، { وَعْدَ الصِّدق } أي: وعدهم وعداً صدقاً، فهو مصدر مؤكد، لأن قوله: { يتقبل ويتجاوز } وعد من الله تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز، { الذي كانوا يُوعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام.
الإشارة: لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد وصّى الله تعالى بالإحسان إليهما، وفي الحقيقة: ما ثمَّ إلا تربيةُ الحق، ظهرت في تجلِّي الوالدين، قذف الرأفة في قلوبهما، حتى قاما بتربية الولد، فالإحسان إليها إحسان إلى الله تعالى في الحقيقة. وقال الورتجبي: وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه، لأنهما أسباب وجوده، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته، وأنوارُ ربوبيته، فحُرمتهما حرمة الأصل، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته.
قال بعضهم: أوصى اللّهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين، وفّقه بركةُ ذلك، لحِفظِ حرمات الله، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس. قال القشيري: وشر خصال الولد: التبرُّم بطول حياتهما، والتأذي بما يجب من حقهما، وعن قريب يموت الأصل، وقد يبقى النسل، ولا بد ان يتبعَ الأصل. هـ. أي: فيعق إن عقّ أصله، ويبر إن بر، وفي الحديث:
" برُّوا آباءَكُمء تبركمْ أبناؤكم " ثم قال: ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا:
رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية
   
لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا
 " وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ" {46/17}
"ثم ذكر وبال عقوقهما، فقال: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ }.قلت: { والذي قال } مبتدأ، وخبره: { أولئك الذين حقَّ عليهم القول } ، والمراد بـ " الذي قال " الجنس، ولذلك جمع الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: { والذي قال لوالديه } عند دعوتهما إلى الإيمان: { أُفًّ لكما } وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجُّره، وقَنَطِه، واللام لبيان المؤفّف، كما في " هيتَ لك " وفيه أربعون لغة، مبسوطة في محلها، أي: هذا التأفيف لكما خاصة، أو لأجلكما دون غيركما.
وعن الحسن: نزلت في الكافر العاقّ لوالديه، المكذِّب بالبعث، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، قبل إسلامه. وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، وقالت: والله ما نزل في آل أبي بكر شيئاً من القرآن، سوى براءتي، ويُبطل ذلك قطعاً: قوله تعالى: { أولئك الذين حق عليهم القول } لأنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم، وكان من فضلاء الصحابة، وحضر فتوحَ الشام، وكان له هناك غناء عظيم، وكان يسرد الصيامَ. قال السدي: ما رأيت أعبد منه.هـ. وقال ابن عباس: نزلت في ابنٍ لأبي بكر، ولم يسمه، ويرده ما تقدّم عن عائشة، ويدل على العموم: قوله تعالى: { أولئك الذين حقّ عليهم القول } ، ولو أراد واحداً لقال: حق عليه القول.
ثم قال لهما: { أَتعدانِني أن أُخْرَج } أي: أُبعث وأُخرج من الأرض، { وقد خَلَت القرونُ من قبلي } ولم يُبعث أحد منهم، { وهما يستغيثانِ اللّهَ } يسألانه أن يُغيثه ويُوقفه للإيمان، أو يقولان: الغِياث بالله منك، ومن قولك، وهو استعظام لقوله، ويقولان له: { وَيْلكَ } دعاء عليه بالثبور والهلاك، والمراد به: الحث والتحريضُ على الإيمان، لا حقيقة الهلاك، { آمِنْ } بالله وبالبعث.
 { إِنَّ وعدَ الله } بالبعث والحساب { حَقٌّ } لا مرية فيه، وأضاف الوعد إليه - تعالى - تحقيقاً للحق، وتنبيهاً على خطئه، { فيقول } مكذّباً لهما: { ما هذا } الذي تسميانه وعْد اللّهِ { إلا أساطيرُ الأولين } أباطيلهم التي سطروها في كتبهم، من غير أن يكون له حقيقة.
{ أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ } وهو قوله تعالى لإبليس:
لأَمَّلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ }[الأعراف: 18] كما يُنبئ عنه قوله تعالى: { في أمم قد خلت مِن قبلهم من الجن والإنس } أي: في جملة أمم قد مضت، { إِنهم كانوا خاسرين } حيث ضيّعوا فطرتهم الأصلية، الجارية مجرى رؤوس أموالهم، باتباعهم الشيطان، وتقليداً بآبائهم الضالين.
{ ولكلٍّ } من الفريقين المذكورين، الأبرار والفجار، { درجاتٌ مما عملوا } أي: منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، ويقال في جانب الجنة: درجات، وفي جانب النار: دركات، فغلب هنا جانب الخير.
قال الطيبي: ولكلٍّ من الجنسين المذكورين درجاتٌ، والظاهر أن أحد الجنسين ما دلّ عليه قوله:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ }[الأحقاف: 13]، والآخر قوله: { والذي قال لوالديه أُف لكما } ثم غلب الدرجات على الدركات، لأنه لمّا ذكر الفريق الأول، ووصفَهم بثباتٍ في القول، واستقامةٍ في الفعْل، وعقَّب ذلك بذكر فريقِ الكافرين، ووصفهم بعقوق الوالدين، وبإنكارهم البعثَ، وجعل العقوقَ أصلاً في الاعتبار، وكرر في القِسم الأول الجزاء، وهو ذكر الجنة مراراً ثلاثاً، وأفْردَ ذكر النار، وأخّره، وذكرَ ما يجمعُهما، وهو قوله: { ولكلٍّ درجات } غلّب الدرجات على الدركات لذلك، وفيه ألا شيء أعظم من التوحيد والثبات عليه، وبر الوالدين والإحسان إليهما، ولا شيء أفحش من عقوق الوالدين، وإنكار الحشر، وفي إيقاع إنكار الحشر مقابلاً لإثبات التوحيد الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة الله في إيجاد العالم.
{ ولنُوفيهم أعمالهم } وقرأ المكي والبصري بالغيب، أي: وليوفيهم الله جزاء أعمالهم، { وهم لا يُظلمون } بنقص ثواب الأولين، وزيادة عقاب الآخرين، واللام متعلقة بمحذوف، أي: وليوفيهم أعمالهم، ولا يظلمهم حقوقهم، فعل ما فعل من ترتيب الدرجات أو الدركات.
الإشارة: عقوق الأساتيذ أقبح من عقوق الوالدين، كما أن برهما أوكد؛ لأن الشيخ أخرجك من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة بالله، والوالدان أخرجاك إلى دار التعب، مُعرض لأمرين، إما السلامة أو العطب، والمراد بالشيخ هنا شيخ التربية، لا شيخ التعليم، فلا يقدّم حقه على حق الوالدين، هذا ومَن يَسّر اللّهُ عليه الجمع بين بِر الوالدين والشيخ فهو كمال الكمال. وبالله التوفيق.
ثم ذكر جزاء العاق المنكر للبعث، فقال: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ }."
 ( ابن عجيبة).
*د يحيى
17 - يونيو - 2010
 11  12  13  14  15