البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التربية و التعليم

 موضوع النقاش : اخترتُ لك ، وأنتظرُ اختيارك.    قيّم
التقييم :
( من قبل 64 أعضاء )

رأي الوراق :

 د يحيى 
11 - مايو - 2010
                    اتفاق الشرائع مع القوانين وافتراقهما
السرقة محرمة في الشرع ، ومحرمة في القانون ، فمن ترك السرقة ، ممكن تقول : يخاف من السجن ، والمسؤولية ، ولك أن تقول : يخاف من الله ، ما الحقيقة ؟ الله أعلم ، لكن الذي يغضُّ بصره عن محارم الله ، يقيناً يخاف من الله ، لأنه ليس في الأرض كلها تشريعٌ أو قانونٌ ، يأمرُ بغض البصر ، إذن هنا افترقت الشريعة عن القانون .
الصيام ، بإمكانك أن تدخل البيت في أيام الصيف الحارة ، وأن تدخل الحمام بعيداً عن نظر أولادك وزوجتك ، وأن تشرب الماء النمير البارد ، من العداد رأساً ، ولا يدري بك أحد ، إذن الصيام عبادة الإخلاص ، ما دمت تمتنع عن أن تشرب قطرة ماء ، إذن أنت تُراقب الله عزَّ وجل .
يعني حكم العِبادات أحياناً ، من أجل أن تعلم أنك تحب الله ، من أجل أن تعلم أنك تعلم أن الله يُراقبك ، من أجل أن ترتفع معنوياتك ، من أجل أن تُحس أنك في رضي الله عزَّ وجل ، إذن لا تستغرب ، أنه يا أخي ما هذه الحياة ، كلها صراع ، نفسي تميل ، وفي الطريق نساءٌ كاسياتٌ عاريات ، والله يأمرني أن أغض بصري ، وضع غير طبيعي ، لا هذا هو الطبيعي ، لأنه خلقك للجنة ، وثمن الجنة ضبط الشهوات ، لأنه خلقكَ لحياةٍ أبدية لا تنتهي  وأن ثمن هذه الجنة :
 
( سورة النازعات )
 
فأنا أتمنى دائماً أن أوضح لإخواننا الشباب ، كما أنه ليس في الإسلام حرمان  ليس فيه تفلُّت ، الله قال :
 
( سورة الحديد : آية " 27 " )
 
هم كتبوها على أنفسهم ، هم اجتهدوا فأخطؤوا ، والدليل أنهم أخطأوا :
( سورة الحديد : آية " 27 " )
 
لم يتمكنوا ، لأنها خلاف الفطرة ، الترهُّب ، الرهبنة ، خلاف فطرة الإنسان   لذلك القصص التي تروى ، عن الرهبان في انحرافاتهم الجنسية ، لا تعدُّ ولا تحصى ، لأنهم ألزموا أنفسهم ، ما لا ينبغي أن يكون ، ما كتبناها علينا ، والدليل أنهم :
( سورة الحديد : آية " 27 " )
 
فالإسلام دين الفطرة ، فكما أن الإسلام ، ما كلفك ما لا تطيق ، كذلك ما أطلقك  إلى حيث تريد ، في منهج ، يعني تقريباً ، طريق ، الطريق عريض ، لك حرية الحركة في حدود هذا الطريق ، لكن بعد الطريق هناك ممنوعات .
فأجمل حياة يعيشها ، حياة القيم ، حياة المنهج ، حياة الدستور ، أنظر إلى السيارة أروع ما تكون وهي على الطريق المعبَّد ، لأن هذا الطريق صنع لهم ، وهي صنعت له ، فإذا سارت على الطريق المعبدَّ ، تجدها كلها مرتاحة ، لا يوجد أصوات أبداً ، أما إذا نزلت إلى الطريق الوعر ، تحس أن هذه الطريق ليست لهذه السيارة ، وهذه المركبة ليست لهذا   الطريق .
أردت من هذه المقدمة ، أن نربط الجزئيات بالكليات ، لا أن نبقى في هذه حرام  لماذا حرام ؟ أنت تعيش في مجتمع ، هناك أناس ليس لديهم وازع ديني إطلاقاً ، أما آتاهم الله منطقاً ، عندهم عقل ، فإذا ملكت الحجَّة ، بالمناسبة :
" ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، لو اتخذه لعلمه ".
 
( سورة الأنعام : أية " 83 " )
 
يعني يوجد قوة للمؤمن ، قد تكون غير مادَّية ، قد يكون مؤمن ، يعني  من أقل المراتب في المجتمع ، قد يكون موظف ، صغير جداً ، ضارب آلة كاتبة ، حاجب قد يكون  لكن قوته نابعةٌ من حجته ، لما ربنا قال :
 
( سورة الأنعام : أية " 83 " )
 
لكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب ، قوةٌ ، يجوز حاجب في دائرة ، يناقش المدير العام المتفلت ، الذي عقيدته فاسدة ، هذا الحاجب ، أقوى منه في المناقشة ، المؤمن ، يعلّم لماذا يغضُّ بصره ؟ يعلَّم لماذا يصوم ؟ يعلّم لماذا يصدق ؟ يعلّم لماذا يتكلَّم بالحق ؟ فنحن نريد مؤمن متمكِّن ، لا أريد مؤمن يطبِّق الإسلام إلى حين ، لو أنَّك عرفت الأمر الشرعي  من دون حيثيات ، من دون أن تربطه بالكلّيات ، من دون عقيدة صحيحة ، يمكن _أن تنطبق الأمرّ ، لكن مقاومتك هشة ، هشة ، يعني أدنى ضغط ، أو أدنى إغراء ، تجد مقاومتك قد انهارت ، لذلك كلّ إنسان يربي ، كل إنسان يبني إخوانه بناء ، إذا بنى النفوس بناء صحيح  بناء علمي ، بناء منطقي ، على أساس من العقيدة الصحيحة ، تجد هذا الأخ قوياً ، أي قوي في دينه ، أينما ذهب مستقيم ، الملاحظ لما ينبني إنسان بناء هش ، أو يبنى بناء نصِّي غير تعليلي .
يعني أنت عندما تعرف أن هذا الأمر مربوط ، بهذه العقيدة الصحيحة ، مربوط بهذه الكلِّية ، أي أنت مؤمن بخالق الكون ، أنت مخلوق للجنّة ، والجنّة ثمنها ، ضبط الشهوات الشهوات أودعت فيك لترقى بها إلى الله ، أودعت فيك ، هذا الذي أتمنى أن يكون واضحاً للكل.
 10  11  12  13  14 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تتمة القول في ( مهيم)    ( من قبل 12 أعضاء )    قيّم
 
                            مَهْيَم
وجدت هذه الكلمة في:
أساس البلاغة للزمخشري ، ومقاييس اللغة لابن فارس، وغريب الحديث للخطابي البستي أبي سليمان 1/551 ،  وفيه( أنه، صلى الله عليه وسلم، ذكر الدجّال وفتنته ، ثم خرج لحاجته ، فانتحب القوم حتى ارتفعت أصواتهم ، فأخذ بلجَبَتيْ الباب ، فقال:
 ( مهيم)؟ .[ في اللسان/ لجب/ وفي حديث الدَّجَّال: فأَخذ بلَجَبَتَيِ البابِ فقال: (مَهْيَمْ)؛ قال أَبو موسى: هكذا رُوِيَ، والصواب بالفاءِ.
وقال ابن الأَثير في ترجمة لجف: ويروى بالباءِ، وهو وَهَمٌ]
.
وفيه : (مهيم): كلمة استفهام واستخبار.
وفي تاج العروس للزَّبِيدي : " قوله كلمة استفهام؛ أي مع المستفهم عنه مع بعده" ، وفي المصباح المنير : ( مهيم): ما أمرك؟ ما أنت الذي فيه؟
 
أما كلمة ( مُهَيِّم) ، فهي تصغير ( مُهَوِّم) من : هَيَم، هو اسم فاعل من هيّمه الحب ؛ أي صيّره هائماً.
فإن كان من : هَوَمَ ، فالمعنى : نام نوماً خفيفاً.
[انظر شرح شافية ابن الحاجب ، والمفصّل في صنعة الإعراب للزمخشري ، ومفتاح العلوم    للسّكّاكي ، واللباب في علل البناء والإعراب للعُكبَري ، وهمِع الهوامع ، والكتاب لسيبويه].
*د يحيى
10 - يونيو - 2010
معلومة جديدة عليَّ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
عَوِجَ (القاموس المحيط)
عَوِجَ، كفَرِحَ، والاسمُ: كعِنَبٍ، أو يُقالُ في منْتَصِبٍ كالحائِطِ والعَصا: فيه عَوَجٌ، محرَّكةً، وفي نحوِ الأرضِ والدِّين، كعِنَبٍ.
وقد اعْوَجَّ اعْوِجاجاً، وعَوَّجْتُه فَتَعَوَّجَ.
والأَعْوَجُ: السَّيِّئُ الخُلُقِ، وبلا لامٍ: فرَسٌ لبَنِي هلالٍ، تُنْسَبُ إليه الأَعْوَجِيَّاتُ، كان لِكِنْدَةَ، فأَخَذَتْهُ سُلَيْمٌ، ثم صار إلى بني هلالٍ، أو صارَ إليهم من بني آكِلِ المُرارِ، وفَرَسٌ لِغَنِيِّ بنِ أَعْصُرَ.
والعَوْجاءُ: الضَّامِرَةُ من الإِبِلِ، وهَضْبَةٌ تُناوِحُ جَبَلَيْ طَيِّئٍ، وفَرَسُ عامِرِ بنِ جُوَيْنٍ الطائِيّ، واسمٌ لِمواضِعَ، والقَوْسُ.
وعاجَ عَوْجاً ومَعاجاً: أقامَ، لازِمٌ مُتَعَدٍّ، ووقَفَ، ورجَعَ، وعَطَفَ رَأْسَ البَعيرِ بالزِّمامِ.
وعاجِ، مَبْنِيَّةً بالكسر: زَجْرٌ للناقةِ.
والعاجُ: الذَّبْلُ، والناقةُ اللَّيِّنَةُ الأَعْطافِ، وعَظْمُ الفيلِ، ومن خَواصِّه أنّه إن بُخِّرَ به الزَّرْعُ أو الشجرُ لم يَقْرَبْهُ دودٌ، وشارِبَتُهُ كُلَّ يومٍ دِرْهَمَين بماءٍ وعَسَلٍ إن جُومِعَتْ بعدَ سَبْعةِ أيَّام حَبِلَتْ، وصاحِبُهُ، وبائِعُهُ: عَوَّاجٌ.
وذُو عاجٍ: وادٍ.
وعَوَّجَهُ تَعْويجاً: رَكَّبَهُ فيه.
وعُوجُ
بنُ عُوقٍ، بضمِّهما: رجُلٌ وُلِدَ في مَنْزِلِ آدَمَ، فعاشَ إلى زَمَنِ موسى، وذُكِرَ من عِظَمِ خَلْقِهِ شَنَاعَةٌ.
*د يحيى
11 - يونيو - 2010
سفينة سيدنا نوح عليه السلام (1)    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
 
الفلك المشحون
 
 
تردَّد اسم نوح في عدد كبير من السور، وهو في الميراث الإسلامي "أول رسول بعث إلى أهل الأرض". وردت قصة الطوفان بشكل مختزل في القرآن من دون تحديد لزمنه، وتركَّز الحديث فيها على سجال نوح مع قومه طوال "ألف سنة إلا خمسين عامًا" (العنكبوت، 15). في شرحهم هذه القصة، ذكر أهل التفسير كمًّا هائلاً من الروايات والأخبار، وتطرَّقوا إلى أصغر التفاصيل في عرض وقائع الحوادث التي عاشها نوح في رحلته الطويلة. استعاد المصورون هذه الحوادث في مرحلة لاحقة، وباتت صورة نوح وسط عائلته في الفلك نموذجًا إيقونوغرافيًا يتكرر في الكثير من الكتب المزوَّقة.
نوح في الفلك، "مجمع التواريخ"، مخطوط عربي من إنتاج عام 1314، تبريز، مجموعة ناصر خليلي الخاصة، لندن.
نوح مشرفًا على بناء الفلك، "قصص الأنبياء"، 1574 - 1576، سرايا توبكابي، اسطنبول.
ذُكر نوح في ثلاثة وأربعين موضعًا من القرآن الكريم. تردَّد اسم هذا النبي في آيات وردت في ثمان وعشرين سورة، وجاءت قصته في ستٍّ من هذه السور، وهي الأعراف (59-64)، هود (25-49)، المؤمنون (23-30)، الشعراء (105-122)، القمر (9-15)، ونوح (1-28). تتكرَّر القصة في هذه الآيات مع اختلاف في اللفظ، وتقارب بخطوطها العريضة الرواية التي وردت مفصَّلة في سفر التكوين، مع تباين في بعض النقاط. بخلاف رواية العهد القديم، ترد القصة بشكل "مجرَّد" في القرآن، وتتمحور بشكل رئيسي حول السجال الطويل بين النبي وقومه. أُرسل نوح لهداية قومه الذي انصرف عن عبادة الله واتخذ أصنامًا يعبدها من دون الخالق. جاء في سورة نوح، عن قومه: "وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا" (23). وتفسيره بحسب الطبري: "كان هؤلاء نفرًا من بني آدم فيما ذُكر عن آلهة القوم التي كانوا يعبدونها". وقيل: "كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوَّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم". وقيل: "هذه أسماء أصنام قوم نوح". وقيل: "كانت آلهة يعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك"، وقيل أيضًا: "هي آلهة كانت تكون باليمن".
ألواح ودسر
لا يحدِّد النص القرآني تاريخ مبعث نوح، واختلفت الأحاديث في مقدار عمره يوم بُعث، والشائع حديثٌ ورد في صحيح البخاري مرفوعًا إلى ابن عباس، وفيه: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام". والقرن عبارة تعني مئة عام، كما تعني جيلاً من الناس، على ما أشار ابن كثير. فعلى هذا يكون بين نوح وآدم ألف سنة أو "ألوف من السنين، والله أعلم". دعا نوح قومه إلى إفراد العبادة للخالق وحده لا شريك له، "فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" (الأعراف، 59)، وثابر على هذه الدعوة ليلاً ونهارًا، وسرًّا وإجهارًا، تارة بالترغيب، وطورًا بالترهيب، لكنهم سخروا منه، وكذبوه، واتهموه بالجنون، و"جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا" (نوح، 7). على الرغم من ذلك، استمرَّ الرسول في دعوته "ألف سنة إلا خمسين عامًا" (العنكبوت، 15)، ولم يتبعه إلا نفر قليل، فيئس من إيمان قومه، وقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا" (نوح، 26-27). "وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" (هود، 36)، وتفسيره بحسب الطبري: "فلا تستِكنْ ولا تحزن بما كانوا يفعلون، فإني مهلكهم ومنقذك منهم ومَن اتبعك".
 
الفلك المشحون، "قصص الأنبياء"، 1577، مكتبة نيويورك.
 
إبحار الشيطان في ظهر الفلك، "قصص الأنبياء"، 1575، سرايا توبكابي، اسطنبول.
قال الله لرسوله: "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" (هود، 37)، والفلك هو السفينة، ونقل الطبري عن ابن عباس أن نوح "لـم يَعلَـم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر"، أي صدر الطائر. أطاع نوح الأمر، وراح يصنع الفلك، "وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" (هود، 38). وفي حين عني العهد القديم بوصف كيفية صناعة السفينة، اكتفى النص القرآني بالإشارة إلى صناعة الفلك "بأعيننا ووحينا"، وهو في سورة القمر "ذات ألواح ودسر" (13)، والدسار "المسمار الذي تشدُّ به السفينة"، كما قال الطبري، ونُقل عن الضحاك قوله: "أما الألواح، فجانبا السفينة، وأما الدّسُر، فطرفاها وأصلاها"، وقال آخرون "بل الدّسُر أضلاع السفينة". في المقابل، تذخر كتب التفسير بالروايات التي تسهب في وصف الفلك. ينقل الطبري عن "أهل التوراة" أن الله أمر نوح
أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يصنعه أزور (أي مقوَّسًا)، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا وعرضه خمسين ذراعًا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلاً ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كوًا، ففعل نوح كما أمره الله عز وجل.
وعن
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
سفينة نوح (2)    ( من قبل 5 أعضاء )    قيّم
 
وعن ابن عباس: أمر الله نوح
أن يغرس شجرة فغرسها، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم أمره بقطعها من بعد ما غرسها بأربعين سنة، فيتخذ منها سفينة، كما قال الله له، فقطعها وجعل يعملها.
وعن سلمان الفارسي:
عمل نوح السفينة أربعمائة سنة، وأنتب الساج أربعين سنة، حتى كان طوله ثلاثمائة ذراع، والذراع إلى المنكب.
وعن قتادة:
ذُكر لنا أن طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها.
أم الصبي
أتمَّ نوح عدَّته، وحلَّ موعد الطوفان حين "فار التنور"، كما جاء في سورة هود (40)، وسورة المؤمنون (27). وقد "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك" بحسب الطبري، "فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض، وفار التنور، وهو وجه الأرض"، وقال آخرون: "هو تنوير الصبح"، والشائع أنه "التنور الذي يُختبز فيه"، وفي حديث يُنسب الى الحسن: "كان تنورًا من حجارة كان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك". فار التنور، وقال الله لرسوله في سورة هود: "احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل" (40)، وفي سورة المؤمنون: "فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" (المؤمنون، 27). يُجمع المفسرون على أن الزوجين هما كل "اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكرًا وأنثى"، أي "ذكر وأنثى من كل صنف". واختلفت الآراء في الذي استثناه الله من أهل نوح الذين ظلموا: "بعض نساء نوح". وقيل: "هي امرأته كانت من الغابرين في العذاب"، تبعًا لما ورد في سورة التحريم (10). وقيل: "بل هو ابنه الذي غرق"، وقد ورد ذكر هذه الحادثة في سورة هود: "ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين" (هود، 42-43).
 
نوح وسط الطوفان، منمنمة عثمانية، "زبدة التواريخ"، 1583، المتحف التركي الإسلامي، اسطنبول.
 
نوح وسط أسرته، قصص الأنبياء"، القرن السادس عشر، مكتبة نيويورك.
حاول نوح أن يستشفع في ابنه، "فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين" (هود، 45-47). في تفسير هذه الآيات، نقل المفسرون قول الرسول: "لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي". وفي حديث يصفه ابن كثير بالغريب:
لمَّا فار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغث ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيدها، حتى ذهب به الماء، فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي.
لا يذكر القرآن اسم الإبن الذي غرق، وهو في قصص الأنبياء كنعان، "والعرب تسمِّيه يام"، بحسب الطبري. يخالف هذا التعريف ما ورد في سفر التكوين حيث كنعان هو ابن حام، وحام هو أحد أبناء نوح الثلاثة، وهو من كشف عورة أبيه بعدما شرب الأخير مسكرًا صنعه من نبات الكرمة التي زرعها بعد الطوفان، فسكر، فسخر منه حام، ولما استفاق نوح وعرف ما فعله ابنه، غضب وقال: "ملعون كنعان، عبدًا يكون لعبيد اخوته" (تكوين 9، 25).
الفرقة الناجية
اختلفت الأقوال في عدد الذين حملهم نوح معه في الفلك، فقال بعضهم في ذلك: "كانوا ثمانية أنفس، نوح وامرأته وثلاثة بنيه، ونساؤهم". وقيل أيضًا: "نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه". وقال آخرون: "بل كانوا سبعة أنفس، نوح، وثلاث كنائن له، وثلاثة بنين". وقال آخرون: "كانوا عشرة سوى نسائهم". وقيل: "بل كانوا ثمانين نفسًا". والصواب بحسب رأي الطبري أنهم قلة فحسب. ويقول أهل الأخبار إنهم كانوا في طابق السفينة الأوسط، وكان الطير في الطابق الأعلى، والسباع في الأسفل. جمع الطبري طائفة من الأخبار العجيبة في وصف هذه الحمولة، فنقل عن ابن عباس:
كان أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذرة، وآخر ما حمل الحمار، فلما أدخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس لعنه الله بذنبه فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك، ادخل، فينهض فلا يستطيع، حتى قال نوح، ويحك، ادخل وإن كان الشيطان معك. قال كلمة زلت عن لسانه، فلما قالها نوح، خلى الشيطان سبيله (أي سبيل الحمار)، فدخل ودخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك عليَّ يا عدو الله؟ قال: ألم تقل: ادخل وإن كان الشيطان معك. قال: أخرج عني يا عدو الله، فقال: ما لك بد من أن تحملني، فكان، فيما يزعمون، في ظهر الفلك.
وفي رواية أخرى
لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرةُ الناس (أي البراز)، أُمر أن يمسح ذنب الفيل، فمسحه فخرج منه خنزيران، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في الفلك، فلما آذته، أمر أن يأمر الأسد يعطس، فعطس فخرج من منخريه هرَّان يأكلان عنه الفأر.
قوس الأمان
تردَّد وصف الطوفان بشكل مقتضب في النص القرآني. جاء في سورة القمر: "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر. وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر" (11-14). وفي سورة هود: "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي" (44). وفي رواية أوردها الطبري:
صار الماء نصفين: نصف من السماء ونصف من الأرض، وارتفع الماء على أطول جبل في الأرض خمس عشرة ذراعًا، فسارت بهم السفينة، فطافت بهم الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء، حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعًا، ورُفع البيت الذي بناه آدم عليه السلام، رُفع من الغرق، وهو البيت المعمور، والحجر الأسود على أبي قبيس، فلما دارت بالحرم ذهبت في الأرض تسير بهم، حتى انتهت إلى الجودي، وهو جبل بالحضيض من أرض الموصل فاستقرت بعد ستة أشهر لتمام السبع، فقيل بعد السبعة الأشهر.
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
سفينة نوح (3)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
وجاء في حديث يُنسب الى الرسول:
وفي أول يوم من رجب، ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستة أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرًا لله عز وجل.
وفقًا لرواية سفر التكوين، دخل نوح الفلك مع امرأته وبنيه الثلاثة ونسائهم، وكان معه زوج من كل نوع من الطيور ومن البهائم النجسة، وسبعة أزواج من البهائم والطيور الطاهرة. وبعد سبعة أيام، طافت الارض واستمر هطول المطر طوال أربعين يومًا وليلة، فغرق كل من كان على الارض من الكائنات الحية. توقف المطر بعد الأربعين يومًا وليلة، وابتدأ انحسار المياه، فأطلق نوح غرابًا، ثم حمامة عادت إليه لأنها لم تجد موطئا لرجلها، فأطلقها من جديد بعد سبعة أيام، فعادت إليه وفي فمها ورقة زيتون، فانتظر سبعة أيام أخرى، ثم أطلقها مرة أخرى، فلم ترجع إليه، فأدرك أن الماء قد انحسر. خرج نوح من الفلك مع عائلته والحيوانات التي كانت معه بعد أن دعاه الله الى ذلك، وبنى مذبحًا للرب، وقدَّم فوقه بعض الحيوانات الطاهرة، "فتنسم الله رائحة الرضا"، وقرر ألا يلعن الأرض مرة أخرى بسبب الإنسان، وجعل قوس القزح علامة لوعده. يتردَّد صدى هذه الأحداث في بعض الروايات التي نقلها مفسرو القرآن. في رواية ذكرها الطبري، قام عيسى بن مريم بإحياء حام بن نوح من الموت بإذن الله، وسأله: "كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟"، فأجابه: "بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت، فطوقها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون من أنس وأمان، فمن ثمن تألف البيوت". تتكرر الرواية في حديث لابن عباس نقله ابن كثير، وفيه:
كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يومًا، وإن الله وجَّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يومًا، ثم وجَّهها إلى الجودي فاستقرت عليه، فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسمَّاها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها العربية، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم.
في سرده لقصة نوح، استعاد ابن كثير رواية سفر التكوين، ونقل عن أهل الكتاب
أن الله كلَّم نوحًا قائلاً له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكثروا في الأرض. فخرجوا، وابتنى نوح مذبحًا لله عز وجل، وأخذ من جميع الدواب الحلال، والطير الحلال فذبحها قربانًا إلى الله عز وجل، وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض، وجعل تذكارًا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي روى عن ابن عباس أنه أمان من الغرق.
السيرة التشكيلية
يحفل فن الكتاب الإسلامي بالمنمنمات التي تصوِّر نوح في الفلك المشحون، وأقدم هذه الصور منمنمة تزيِّن وجه الصفحة الخامسة والأربعين من مخطوط مجمع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الهمذاني، وهذا المخطوط من إنتاج عام 1314 في تبريز، وهو من مجموعة ناصر خليلي الخاصة. لا تخلو نسخة من نسخ قصص الأنبياء المزوَّقة من منمنمة تصوِّر نوح وعائلته في السفينة في صياغة تشكيلية تختزل رهافة الرسم الفارسي في عصره الذهبي. في نسخة من محفوظات توبكابي، أُنجزت بين عام 1574 وعام 1576، يظهر نوح وهو يشرف على أعمال بناء الفلك في منمنمة فريدة تحتل وجه الصفحة الرابعة والعشرين، ويظهر ثانيةً في صورة تقليدية وسط أسرته في السفينة على ظهر الصفحة الخامسة والعشرين. يتكرر المشهد في نسخة أخرى من محفوظات توبكابي تعود إلى الحقبة نفسها: على ظهر الورقة الخامسة والأربعين، يجلس نوح أبناءه ونساءهن في مركب يطفو فوق مياه فضية باتت رمادية بفعل مرور الزمن، ويظهر في طرف الصورة رجل ملتحٍ ذو بشرة داكنة، وهو الشيطان الذي دخل السفينة بعدما تشبث بذنب الحمار، "فكان، فيما يزعمون، في ظهر الفلك"، على ما جاء في رواية الطبري. في نسخة من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية أُنجزت في قزوين عام 1595، يظهر نوح واقفًا بين أربعة رجال في منمنمة تقع على ظهر الورقة العشرين. ينظر الرسول متأسفًا إلى ابنه الذي رفض أن يتبعه، "فكان من المغرقين" (هود، 43).
 
عوج بن عوق أمام سفينة نوح، "تاريخ حافظ أبرو"، هرات، 1425-1433، سرايا توبكابي.
 
سفينة نوح، منمنمة عثمانية، "سير الأنبياء"، أواخر القرن السادس عشر، سرايا توبكابي، أسطنبول.
تطالعنا صور أخرى لنوح في بعض المؤلفات التاريخية، ومنها منمنمة تزيِّن صفحة من نسخة لـ زبدة التواريخ تعود إلى عام 1583، وهي من محفوظات المتحف التركي الإسلامي في اسطنبول، ومنمنمة بريشة الـ"نقاشي باشا" لطفي عبد الله نقع عليها في الجزء الأول من مجموعة سير الأنبياء التي تعود إلى عهد السلطان مراد الثالث، أواخر القرن السادس عشر. يتغير المشهد في نسخة من تاريخ حافظ أبرو أنجزت في النصف الأول من القرن الخامس عشر، وهي من محفوظات توبكابي. على وجه الورقة الثالثة والعشرين، يقف عملاق عظيم وسط مياه الطوفان، محاولاً منع سفينة نوح من التقدُّم، والعملاق هو عوج بن عوق كما تقول الكتابة الممهورة على أعلى صدره، وتعريفه في لسان العرب: "رجل ذَكَر من عظم خلقه شناعة، وذُكر أنه كان ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى". حكى الثعلبي في عرائس المجالس نقلاً عن ابن عباس:
استوت السفينة على الجودي، وقد باد ما على وجه الأرض من الكفار كل شيء فيه الروح والأشجار، فلم يبق شيء من الحيوانات إلا نوح ومن ومعه في الفلك، وإلا عوج بن عوق، فلذلك قوله تعالى: "وقيل بعدًا للقوم الظالمين"، أي هلاكًا. كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، فقال لنوح: احملني معك. فقال: أُخرج يا عدو الله فإني لم أُؤمر بحملك. وطبق الله الماء على الأرض والجبال، وما بلغ ركبتي عوج بن عوق. فلما استوت السفينة على الجودي، "قيل يا أرض ابلعي ماءك"، أي انشقي، "ويا سماء أقلعي"، أي أحبسي ماءك، "وغيضَ الماء"، أي ذهب ونقص، فصار ما نزل من السماء هذه البحور التي في الأرض، لأنها آخر ما بقي في الأرض من مياه الطوفان.
الأب الثاني
جاء في العهد القديم أن الطوفان عمَّ كل الأرض، أما القرآن الكريم فلم يقطع بذلك. تقول الرواية التوراتية إنَّ فلك نوح حطَّ فوق جبال أرارات بعدما خلت الأرض من كل ما هو حي، مما يعني أنَّ نوحًا هو الأب الثاني للبشر بعد آدم. في المقابل، يقول القرآن إنَّ السفينة "استوت على الجودي"، وأنزل الله على نوح: "اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" (هود، 48). جاء في سورة الصافات: "ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون، ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين". ونقل الطبري عن قتادة: "فالناس كلهم من ذرية نوح". وعن ابن عباس: "لم يبق إلا ذرية نوح". في الميراث الشيعي، روى الصافي في تفسيره، عن الصادق:
نزل نوح بالموصل من السفينة مع الثمانين وبنوا مدينة الثمانين، وكانت لنوح بنت ركبت معه السفينة فتناسل الناس منها،
وذلك قول النبي محمد: "نوح أحد الأبوين".
*** *** ***
النهار
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
من واجبنا (1)    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
 
رحيل المفكر محمد عابد الجابري
 
محمد عابد الجابري: الفكر في لوائح الكتب الأكثر مبيعًا - إبراهيم العريس
كان محمد عابد الجابري، المفكر المغربي الراحل عن عمر ناهز الخامسة والسبعين، واحدًا من أشهر المفكرين النهضويين العرب خلال العقود الأخيرة. بل لعله كان المفكر العربي الوحيد الذي صارت كتبه كلها، ومنذ بدايات نشر سلسلته الفكرية نقد العقل العربي، الأكثر مبيعًا في أي لائحة من هذا النوع. في هذا الإطار كان ظاهرة يصعب تفسيرها: لماذا يقبل القراء العرب، وربما بعشرات الألوف، على قراءة أعماله؟ ولماذا يشتري نسخًا من هذه الأعمال قراء من الصعب القول إنهم، كلهم، يقرأون ما يشترون. في الوقت نفسه عرف بكونه الأكثر مشرقية بين كتَّاب المغرب العربي، في فترة ازدهرت فيها الكتابات الفكرية المغربية متغلبة على المشرقية، لاسيما بعد هزيمة حزيران (يونيو)، وفي سياق النجاح الكبير الذي افتتحه مواطنه عبدالله العروي بكتابه الأيديولوجية العربية المعاصرة. وربما اعتبر كثيرون من القراء المشارقة أن اليقين الفكري والمنهجي الذي جاء به الجابري في كتاباته، هو تعويض عن الارتجاج الذي أحدثه العروي.
ففي كتابات العروي كان السؤال يطغى، أما لدى الجابري فاليقين لمن يحب أن يطمئن إلى تاريخه. من هنا كان الجابري المولود عام 1935 والدارس، خصوصًا في دمشق والرباط، مثيرًا للسجال، لاسيما في المغرب، حيث يؤدي الرواج إلى شتى ضروب الشك. وهكذا في وقت راحت كتبه الكثيرة، بدءًا من العصبية والدولة أطروحته للدكتوراه حول ابن خلدون (1971) وحتى أعماله الأخيرة، لاسيما منها ما دار حول فلسفة العلوم ومعرفة القرآن الكريم، مرورًا برباعيته حول نقد الفكر العربي، تفتن قراء المشرق، لاسيما أنصاف المثقفين منهم، فيما راح السجال يكبر حول صوابية آرائه في المغرب. وأخيرًا حين بدأ انتقاده في المشرق، تمحور أول الأمر حول عصبيته المغربية وتأكيداته بأن الفكر العقلاني العربي انتهى في المشرق مع الغزالي وابن سينا ليتواصل فقط في المغرب بعد الأندلس.
كان ثمة الكثير مما يمكن الموافقة عليه في المتن الجابري، ولكن، كان ثمة الكثير مما يمكن مخالفته، أو اعتباره من قبيل البديهيات التي لا تطرب سوى أنصاف العارفين. وفي هذا السياق لم يكن غريبًا أن يساجله جورج طرابيشي في سلسلة كتب حملت عنوانًا رئيسًا هو نقد نقد الفكر العربي، وفيها تناول طرابيشي بالبحث الدقيق عددًا من يقينيات الجابري، لاسيما قسمة العقل إلى عقل عربي وآخر غربي، وامتدادية الفكر اليوناني وما إلى ذلك. والغريب في الأمر هنا هو أن الجابري الذي كثيرًا ما أنفق وقتًا لمساجلة مناوئيه، المغاربة والمشارقة (ومنهم فتحي التريكي وعلي حرب)، تصرف دائمًا كأن أجزاء كتاب طرابيشي غير موجودة، وكان حادًا في تجاهله إلى درجة أنه ذات يوم فيما كان كاتب هذه السطور يحاوره في مقابلة نشرت لاحقًا في إحدى الصحف اللبنانية، نظر باستغراب إلى محاوره حين سأله عن رأيه في سجال جورج طرابيشي له ولأعماله. بدا عليه أنه لم يسمع بهذا الاسم!
كان الجابري تنويريًا ونهضويًا وغزير الإنتاج، كما كان – حتمًا – قوميًا عربيًا من النمط الشعبي. لكنه لم يكن مساجلاً جيدًا بالتأكيد. غير أن هذا كله سينسى وتبقى منه كتب شيقة ممتعة حاملة كل أنواع اليقين والمواعظ. أهمها على الإطلاق كتابه الأول عن ابن خلدون. ترى من قال يومًا إن العرب هم دائمًا أهل البدايات الجيدة؟
الحياة، 4-5-2010
* * *
بين العلمانية والسلفية - ياسين تملالي
رحل محمد عابد الجابري بعد رحلة طويلة نجح خلالها في خلع هالة القدسية عن الموروث الفلسفي واللاهوتي العربي ووضعه في دائرة الضوء النقدي. لم يبتدع الجابري الدراسة النقدية للتراث. هي من مكوِّنات الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين، مع أعمال مثل في الشعر الجاهلي لطه حسين والإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق. لكن هذا التوجُّه النقدي أخذ منحىً مختلفًا في السبعينيات والثمانينيات، بفضل أعمال الجابري ومنجزات باحثين آخرين.
زاوج المنحى الجديد بين الحس النقدي والرغبة في اكتشاف «خصوصيات الفكر العربي»، نائيًا عن وهم تمثيل الحركات الفلسفية الأوروبية الحديثة. يمكن تلخيصُ مشروع الجابري في هذه الكلمات التي نقرأها في التراث والحداثة:
ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة «العالمية» كفاعلين لا كمجرد منفعلين.
هنا، يدافع الراحل عن ضرورة «حداثة عربية» خاصة، منتقدًا المشاريع السلفية والليبرالية والماركسية التقليدية للاندماج في العالم المعاصر.
تبدو «وسطية» الجابري محاولةً للتموضع بمعزل عن الصراعات الدائرة بين التيارات العلمانية والتيار الديني بعد انحسار المد «التقدمي» في العالم العربي. محاولةٌ جاءت تؤدي دور الحَكَم بين اليسار الماركسي المتراجع واليمين الإسلامي الصاعد. وتجلَّت هذه الوسطية في جرأة دراسته للنص القرآني من ناحية، وفي رفض العلمنة من ناحية أخرى.
ويلاحظ أن الجابري برر استحالة تطبيق نظام علماني في العالم العربي بنفس تبريرات الإسلاميين. فهو مثلهم كان يرى «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة». وقد عدَّ كثيرٌ من العلمانيين العرب هذا الموقف تنازلاً إراديًا للحركة الإسلامية.
ورغم أن مشروع الجابري لرصد تكوين العقل العربي كان قطيعة نسبية مع ماضي الفكر الليبرالي في المنطقة العربية، فإنه بقي مطبوعًا بطابعه المثالي ذاته. قلما كان هذا الفكر يعد التراث نتاج ظروف تاريخية أدى فيها الاقتصاد دورًا حيويًا. وهو حتى إن ألقى عليه هذه النظرة المادية، فإنه كان يعدُّ «النهضة» أساسًا عملية «تراكم فكري» سيقدَّرُ لها يومًا أن تغيِّر الواقع السياسي والاقتصادي.
صحيح أن في استخدام مصطلح «العقل المستقيل» لوصف جزء من الإنتاج الفكري واللاهوتي العربي تنويهًا بتباين هذا الإنتاج وتنوعه، لكن ألا تشير عبارةُ «العقل العربي» في حدِّ ذاتها إلى أن موضوعها معطى ثابت عبر العصور؟ ألا يعني ذلك افتراض تمايز جوهري بين «عقل عربي» وعقل آخر «غربي» يختلف عنه جذريًا؟ أما الدعوة إلى بناء «حداثة عربية فعَّالة لا منفعلة»، فتحمل في طياتها الإيمان بأنَّ بلورة فكر حداثي هي أولى مراحل الحدثنة العربية، وهو ما يفترض للفكر استقلاليةً كبيرةً عن سياقه التاريخي ودورًا جوهريًا في تغييره.
الأخبار، 4-5-2010
* * *
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
من واجبنا (2)    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
الشعر والشاعر٭
 
 
كلنا يتكلم عن الشعر بعضنا يؤلهه، والآخر يعشقه، والثالث يقرضه، والرابع يقتات ويتنفس به. هذا يشحذ ذاكرته بالمعلقات والخاليات واللاميات، يرددها في وحدته ويتلوها على مسمع أصحابه. وذاك يكتب القصيدة بعد القصيدة ويستعد لأن ينشر درر أفكاره في "ديوان" ولا ديوان أبي الطيب. والآخر، الذي لم يعلمه أبواه "ألف. باء" يصنف على "المعنى والقرادي والمرصود" أو يتغنَّى بذاك "الموَّال" أو هذا البيت من العتابا. كلنا يعشق الشعر – فصيحًا كان أم عاميًا – ولا بدع فنحن من سلالة قوم "هم إذا مات منهم شاعر قام شاعر".
كلنا نتكلم عن الشعر كأننا نعرف ما هو الشعر كما نعرف ما هو الخبز والماء والثوم والبصل. ولو اجتمعت زمرة من عشاق الشعر بيننا لتتحدث عن الشعر لوجدتها مبلبلة الألسن.
هذا يعني بالشعر كلامًا موزونًا مقفَّى، وذاك بيتًا واحدًا من القصيدة، والآخر لا يحسب شعرًا كل ما يقدر القارئ على فهمه دون أن يلجأ إلى القاموس.
إن جهلنا معنى الشعر الحقيقي ومنزلته في عالم الأدب قد أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن من وفرة "النظامين" وقلة الشعراء، وغنانا بالقصائد وفقرنا بالشعر. إن الذين حاولوا أن يعرِّفوا الشعر بعبارة أو أكثر لجيشٌ غفير. لكن ليس بينهم من اهتدى إلى تعريف يشمل الشعر من كل وجوهه، لأن الشعر غير محدود.
"موال"، لا ندري في قلب من اختمر ولسان من نطق به أولاً، يردِّده آباؤنا ونلحنه نحن بعد مئات من السنين. وبيت من "العتابا"، بليت عظام قائله من أجيال، يخترق سكينة وحدتنا ويحرك ألسنتنا فتخفق قلوبنا إما حزنًا وإما فرحًا، ويحتلس من أعيننا دمعة أو دموعًا أو يبسط على أوجهنا ابتسامة اللذة والسعادة. قصيدة أنشأها منذ عشرات من القرون بدويٌّ يدعى أمرأ القيس أو عنترة أو المهلهل أو قيسا العامري نطالعها اليوم فنعجب بها ونطرب وتهتز عواطفنا. نحفظ أبياتًا مختلفة من قصائد مختلفة ونرددها بين الآونة والأخرى كأنها من بنات أفكارنا أو مستودعات قلوبنا. نسعة وراء غاية ما ولا ننالها فننشد:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه            تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
أو نصادف في الطريق صديقا سوَّد اليأس قلبه وبدل النور في عينيه ظلاما، خانه دهره فأصبح يمقت يومه ويخاف غده، فنعزيه بقولنا:
ولاتبيتنَّ إلاَّ خــاليَّ البال               دع التقادير تجري في أعنتِّها
يغيِّر الله من حال إلى
حال               ما بين طرفة عين وانتباهتها
أو نسمع غبيًّا يفاخر بأجداده وأجداد أجداده فنذكره بقول الشاعر:
إنما أصل الفتى ما قد حصل             لا تقل أصلي وفصلي أبدًا
ولو وقفنا لنعدد الأبيات التي تناقلتها الألسن فأصبحت جزءًا من حياة الشعب اليومية لضاق بنا المقام.
ولماذا نردِّد هذا البيت أو تلك القصيدة أو ذاك "الموال" ونترك جبالاً من القصائد التي لو قرأناها مرة لشكرنا ربنا على نجاتنا بالسلامة؟
لأن هذه الأبيات والقصائد و"الموالات" إما تفسر لنا الحياة بتعبيرها عن حالات نفسية نشعر بها ونعجز عن سكبها في قالب من الكلام. وإما تنقش في مخيلتنا صورة نحب أن نتمتع بجمالها كما نحب أن ننظر إلى وجه جميل وبدر تام وشمس تغرب وزهرة في المرج تنحني مع مرِّ النسيم. نحبُّ كذلك موسيقى اللفظ وسلالة التركيب وفصاحة التعبير، كما نحبُّ أن نصغي إلى تموجات الأثير التي ترسلها أوتار كمنجة إذ يلامسها القوس من يد أستاذ ماهر. كلنا – لأسف الكثيرين بيننا – لم نخلق شعراء ولم نعط موهبة ترجمة القلوب والأرواح والطبيعة. لذاك كثيرًا ما نضطر أن نعبر عن عواطفنا وأفكارنا وإحساساتنا بألسنة الغير. كلنا لسنا موسيقيين ومصورين لذاك نضطر من وقت إلى آخر أن ندع الآخرين يقومون بسدِّ حاجاتنا الموسيقية والفنية إجمالاً – إذا كنا نشعر بمثل هذه الحاجات على الإطلاق.
عبثًا حاول تولستوي وسواه أن يحطوا من مقام الشعر وينزلوه عن مملكته الإلهية إلى مملكة النسيان والخمول. عبثًا ندَّدوا به فعظموا آفاته وصغروا محاسنه ونهوا عن صرف الوقت في قرضه. ما دام الإنسان إنسانًا، ما دام فيه ميل فطري إلى الغناء إن كان في الحزن أو الطرب، وما دامت اللغة واسطة لتصوير أفكاره والتعبير عن عواطفه وآماله، فسيبقى الشعر حاجة من حاجاته الروحية، لأنه في الشعر يجسِّم أحلامه عن الجمال والعدل والحق والخير. وفيه يرسم الحياة التي تعشقها روحه ولا تراها عيناه ولا تسمعها أذناه حواليه بين أقذار العالم ودأبه اليومي وهمومه الصغيرة ومشاكله الكبيرة.
إذن – تسألونني – هل الشعر خيال فقط وتصوير ما ليس كائنا كأنه كائن؟
أهي خيال أو وهم إذن؟
كلا فليست وهمًا ولا خيالاً بل حقيقة محسوسة. أنتم لم تبدعوا الربوة ولا الغابة ولا اختلفتم البحر ولا الشمس ولا الفضاء ولا الجدول. كل ذلك رأيتموه وشعرتم بوجوده. ولكنكم قد قابلتهم وميزتم، ونبذتم واخترتم ثم رتبتم ما اخترتموه في نسبة معلومة كانت نتيجتها الصورة التي رسمتها لكم المخيلة. جرى ذاك كله وأنتم لم تغيروا حقيقة الموجودات. لم "تخلقوا" شيئًا إنما أخذتم ما وجدتموه في الطبيعة فطرحتم منهم وزدتم عليه، وبدلتم في ترتيبه حتى حصلتم على ما طلبته وأحبته أنفسكم.
وهكذا يفعل الشاعر. إذا سمعتموه يتغزل بجيل ذهبي، بجيل لا أثر فيه للظلم والبغض والفقر والحسد والنزاع والموت، بجيل يسود فيه الحب والعدل والإخاء والمساواة وهلم جرا – فلا تنعتوه بالجنون والكذب والوهم. هو لم يخلق الحب ولم يوجد العدل ولا سبَّب الفقر ولا قال للموت كن فكان. هو وجد هذه الصفات والأحوال في العالم عند زيارته هذا العالم. لكن روحه التي تعشق وتنفر من القبيح قد وضعت هذه الصفات في نسبة جديدة غير التي نراها سائدة في حياتنا اليومية. وتغير النسبة هو اختلاق الشاعر الذي ندعوه "خيالاً" لكن خيال الشاعر حقيقة. والشاعر الذي يستحق أن يدعى شاعرًا لا يكتب ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية ويختمر به قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة في حياته ولو كانت عينه المادية أحيانًا قاصرة عن رؤيته. ذاك لا يعني أن الشاعر يقدر أن يدعو الأسود أبيض والأحمر أصفر – أي أن يعري الأشياء الحقيقية عن مميزاتها الطبيعية ويعطيها صفات من عنده داعيًا ذاك "خيالاً".
كلا. وهذا كل الفرق بين الشاعر والشعرور. الشاعر لا يصف إلا ما يدركه بحواسِّه الجسدية أو يلامسه بروحه. لسانه يتكلم من فضلة قلبه. أما الشعرور فيحاول أن يقنعنا أنَّه حلم أحلامًا نحن نعلم علم اليقين أنها لم تمر له برأس لا في النوم ولا في اليقظة، ويصف لنا عواطف لم يشعر بمثلها لا بشر ولا جنٌّ ولا ملاك من أول وجود هذا العالم حتى اليوم. لذاك تهزنا أشعار الأول فنحفظها ونرددها، وتضحكنا "قصائد" الثاني فنضرب بها عرض الحائط.
وما هي الغاية من الشعر؟
قوم يقولون: إن غاية الشعر محصورة فيه ولا يجب أن تتعداه (الفن لأجل الفن)، وآخرون: إن الشعر يجب أن يكون خادمًا لحاجات الإنسانية وإنه زخرفة لا ثمن لها إذا قصر عن هذه المهمة. ولهذين المذهبين تاريخ طويل لا نقدر أن نأتي به هنا، ولا غاية لنا أن نبحث في حسنات كل منهما وسيئاته. إنما نكتفي أن نقول إن الشاعر لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه، ينظم ما يطلبون منه فقط ويفوه بما يروقهم سماعه. وإذا كان هذا ما يعنيه أصحاب المذهب الأول فلا شكَّ أنهم مصيبون. لكننا نعتقد في الوقت نفسه أن الشاعر لا يجب أن يطبق عينيه ويصم أذنيه عن حاجات الحياة وينظم ما توحيه إليه نفسه فقط سواء كان لخير العالم أو لويله. وما دام الشاعر يستمد غذاء لقريحته من الحياة فهو لا يقدر – حتى لو حاول ذلك – إلا أن يعكس أشعة تلك الحياة في أشعاره فيندِّد هنا ويمدح ويكرز هنالك. لذاك يقال إن الشاعر ابن زمانه، وذاك صحيح في أكثر الأحوال إن لم يكن في كلها.
والآن بعد أن بحثنا، ولو سطحيًا، في الشعر لنقف ونسأل: من هو الشاعر؟ الشاعر نبي وفيلسوف ومصور وموسيقي وكاهن، لأنه يرى بعينيه الروحية مالا يراه كل بشر. ومصور، لأنه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وموسيقي، لأنه يسمع أصواتًا متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة. العالم كله عنده ليس سوى آلة موسيقية عظيمة تنقر على أوتارها أصابع الجمال وتنقل ألحانها نسمات الحكمة الأبدية. هو يسمع موسيقى في ترنيمة العصفور وولولة العاصفة، وزئير اللجَّة وخرير الساقية. ولثغ الطفل وهذيان الشيخ. فالحياة كلها عنده ليس سوى ترنيمة – محزنة أو مطربة يسمعها كيفما انقلب. لذاك يعبِّر عنها بعبارات موزونة رنانة. الوزن والتناسب في الطبيعة أخوان لا ينفصلان وبغيرهما "لم يكن شيء مما كوِّن".
والشاعر الذي تعانق روحه روح الكون يدرك هذه الحقيقة أكثر من سواه.
لذاك نراه يصوغ أفكاره وعواطفه في كلام موزون منتظم. الوزن ضروري بروي واحد يلزمها في كل القصيدة. عندنا اليوم جمهور من الشعراء يكرزون "بالشعر المطلق" ولكن سواء وافقنا "والت هويتمان" وأتباعه أم لا فلا مناص لنا من الاعتراف بأن القافية العربية السائدة إلى اليوم ليست سوى قيد من حديد نربط به قرائح شعرائنا – وقد حان بتحطيمه من زمان. وأخيرًا، الشاعر كاهن لأنه يخدم إلهًا هو الحقيقة والجمال. هذا الإله يظهر له في أزياء مختلفة وأحوال متنوعة. لكنه يعرفه أينما رأه ويقدم لنا تسابيح حيثما أحست روحه بوجوده. يراه في الزهرة الذاوية والزهرة الناضرة. يراه في حمرة وجنة الفتاة وفي اصفرار وجه الميت. يراه في السماء الزرقاء والسماء المتلبِّدة بالغيوم، في ضجة النهار وسكينة الليل. وبالاختصار، إن روح الشاعر تسمع دقات أنباض الحياة وقلبه يردد صداها ولسانه يتكلم "بفضلة قلبه" تتأثر نفسه من مشهد يراه أو نغمة يسمعها فتتولد في رأسه أفكار ترافقه في الحلم واليقظة فتمتلك كل جارحة من جوارحه حتى تصبح حملاً يطلب التخلص منه. وهنا يرى نفسه مدفوعًا إلى القلم ليفسح مجالاً لكل ما يجيش في صدره من الانفعالات وفي رأسه من التصورات، ولا يستريح تمامًا حتى يأتي على آخر قافية، فيقف هناك وينظر إلى ما سال من بين شفرتي قلمه كما تنظر الأم إلى الطفل الذي سقد من بين أحشائها. أمامه فلذة من ذاته وقسم من كيانه.
الشاعر – ونعني به الشاعر لا "النظام" – لا يأخذ القلم في يده إلا مدفوعًا بعامل داخلي لا سلطة له فوقه. فهو عبد من هذا القبيل. لكنه سلطان مطلق عندما يجلس لينحت لإحساساته وأفكاره تماثيل من الألفاظ والقوافي لأنه يختار منها ما يشاء. فيختار الأحسن إذا كان من المجيدين أو ما دون ذلك بالتدريج حسب قواه الفنية والأدبية، أما "النظام" فيأخذ قلمًا وقرطاسًا ثم يبدأ بوخز دماغه وقريحته علَّه يتمكن من أن يهيجهما ولو قليلا. غايته لا أن يترجم عن عواطف أو أن يعبِّر عن أفكار بل أن "ينظم قصيدة" لذاك إذا خدعنا هذا بطلاوة نسقه فلا يطول أن نكتشف تصنعه وخداعه فننساه وننسى قصيدته. أما الشاعر الذي يسقي قلمه من قلب طافح وروح هائجة فربما لا نفهمه اليوم ولا نهتم به، لكن لا بدَّ أن نفيق غدًا وندرك هفوتنا لأن الجمال – كالشمس – لا يختفي. وحينئذ نسرع لنفكر عن إساءتنا إلى ذاك الشاعر ولو بعد موته.
فنعلي مقامه ونقيم له التماثيل إن لم يكن على ملتقى الطرق أو في ساحات المدن ففي قلوب تختلج عند مطالعة ما جاد به قلمه. هذا ما جرى لشكسبير وكثيرين سواه من كبار الشعراء والكتَّاب. لكن شكسبير لم يمت ولن يموت. أما ألوف "النظامين" الذين حازوا شهرة وقتيَّة عن غير استحقاق فلا نسمع بهم ولا نذكرهم، وإذا ذكرناهم فعلى سبيل التفكه فقط.
*** *** ***

 
horizontal rule
٭ الديوان النثري لديوان الشعر العربي الحديث (مقدمات، مقالات، بيانات)، جمع وتقديم: د. منيف موسى، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط 1، 1981. (عن) فصل لجبران مستل من كتاب جبران حيًا وميتًا لحبيب مسعود.
 
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
انظر ( منقولا روحية) في الموقع الدسِم التالي    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
http://maaber.org/issue_march10/mythology1.htm
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
اعرف نفسك بنفسك    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
اعرف نفسك بنفسك
وهو بحث فلسفي صوفي
 
رونيه غينون[2]
 
كثيرًا ما تقال هذه الجملة: "اعرف نفسك بنفسك"، وكثيرًا ما يخفى القصدُ منها؛ وبين هذا القول وذاك الغموض يعترضنا سؤالان: أولهما، ما هو المصدر الأصلي للجملة؟ وثانيهما، ما مدلولها الحقيقي وإلامَ ترمي من أغراض؟
قد يُخيَّل لبعض القراء، عند أول وهلة، أن السؤالين مفترقان، لا رابطة بينهما ولا صلة تجمعهما؛ لكنْ عند تدقيق النظر، والبحث والتمحيص، سيثبت لهؤلاء أن السؤالين مترابطان كل الترابط.
إذا سألنا أغلب دارسي الفلسفة اليونانية عن الإنسان الذي فاه بهذه الحكمة لَما تردَّد فريق منهم في الإجابة بأن قائلها سقراط، بينما يقول فريق ثان: أفلاطون، ويقرر فريق ثالث بأنه فيثاغورث. ومن هذا التضارب في الرأي وذلك التباين في القول نستطيع الحكم بأن الجملة لا تَرد في كتاب لأحدهم بعينه باعتباره مصدرها. وقد يبدو حكمُنا هذا جائرًا، لكنه في الحق حُكم صحيح، تَثبُتُ للقارئ صحتُه عندما يعلم أن اثنين من أولئك الفلاسفة - هما فيثاغورث وسقراط - لم يخلِّفا شيئًا مسطورًا أو منقوشًا؛ أما ثالثهم، أفلاطون، فما من أحد - بالغًا ما بلغ من العلم بالفلسفة - يستطيع أن يميِّز على التحديد ما قاله هو نفسه أو ما قاله على لسان أستاذه سقراط الذي لم نعرف أكثر آرائه إلا بواسطة أفلاطون؛ وقد يكون أن أفلاطون استقى من مدرسة فيثاغورث بعض التعاليم التي بثَّها في محاوراته، كما استقى من سقراط نفسه. من هذا نرى أن من الصعب جدًّا تحديدُ نسبة بعض العبارات إلى أحد الثلاثة بالذات: فما يُنسَب إلى أفلاطون قد يُنسَب إلى سقراط، بينما قد يكون سابقًا لوقت كليهما جميعًا، فيكون صَدَرَ عن المدرسة الفيثاغورية، إنْ لم يكن من فم فيثاغورث نفسه.
والحق هو أن المصدر الحقيقي لهذه الجملة لأقدم تاريخًا من أولئك الفلاسفة أنفسهم، بل لأقدم من تاريخ الفلسفة نفسها؛ وأكثر من هذا وذاك إنها أسمى مجالاً من مجال الفلسفة ذاته. فهذه العبارة وُجِدَتْ منقوشةً على باب هيكل أپولون في دلفي، واتخذها سقراط، كما اتخذها غيرُه، قاعدةً لتعاليمهم، وإن اختلفت التعاليم وتباينت المقاصد؛ ومن المحتمل جدًّا أن فيثاغورث استعملها قبل سقراط نفسه.
والذي نفهمه من هذا هو أن أولئك الفلاسفة حاولوا أن يُظهروا لنا - بل أظهروا لنا بالفعل - أن تعاليمهم لم تكن من تلقاء أنفسهم، بل كانت من مصدر أسمى ومنزلة أرفع يتناسبان مع مصدر الوحي ومنزلة الإلهام. لهذا نراهم مختلفين جدَّ الاختلاف عن الفلاسفة المحدَثين الذين يحاولون جهد طاقتهم أن يقولوا شيئًا "جديدًا" يدَّعون أنه من بنات أفكارهم الخاصة، وأن ما يبدونه من آراء وقفٌ عليهم - كأن الحقيقة ملك لشخص معيَّن! والحال، لماذا كان الفلاسفة القدماء يحرصون أن يربطوا تعاليمهم بهذه العبارة أو بعبارات تماثلها؟ ولماذا يجوز لنا أن نقول إن هذه العبارة أسمى منزلةً من الفلسفة نفسها؟
للجواب عن الفقرة الأخيرة من هذا السؤال نقول إنه منحصر في المعنى الأصلي المقصود من اشتقاق كلمة "فلسفة" نفسها التي قيل إن أول من استعملها فيثاغورث: فكلمة فيلوسوفيا philosophia تعني بالدقة "حب الحكمة" والميل إلى طلبها؛ وقد استُعمِلتْ لتدل دائمًا على كل تأهيل لطالب الحكمة، وعلى الأخص لمُحبِّها، حيث تساعده على أن يصير سوفوس sophos، أي "حكيمًا". وكما أن الوسيلة لا تؤخذ على محمل الغاية، كذلك "حب الحكمة" ليس هو الحكمة بذاتها. فبما أن "الحكمة" هي بذاتها المعرفة الحقيقية الباطنة فإنه يجوز القول بأن المعرفة الفلسفية إنْ هي إلا المعرفة السطحية الظاهرية؛ فليست لها قيمة في نفسها أو من نفسها، وما هي إلا درجة أولية على الطريق المؤدية إلى المعرفة السامية الحقة التي هي الحكمة.
معلوم لِمَنْ درسوا الفلسفة أن معظم الفلاسفة القدماء كان لهم في مدارسهم نوعان من التعليم: ظاهر وباطن. أما الأول فهو ما كان مكتوبًا؛ وأما الثاني فتصعب علينا معرفةُ طبيعته على التحقيق، وذلك لقِصَره على القليلين، أولاً، ولطابعه السري، ثانيًا؛ وهذا الطابع وتلك القلة دليلان على وجود مقصد أسمى من تعلُّم الفلسفة التي لا تستطيع الإحاطة به. على أنَّا نعتقد، في الآن نفسه، أن لهذا التعليم السري صلةً مباشرةً قويةً بالحكمة ذاتها؛ إذ ما كان عمادُه، على كل حال، العقل أو الاستدلال المنطقي، شأن الفلسفة التي تعتمد عليهما، وبهما سُمِّيت "النظر العقلي" theoria. ومسلَّم عند الفلاسفة القدماء بأن النظر العقلي (أي الفلسفة) ليس المعرفة العليا الحقة، وبعبارة أخرى، ليس الحكمة ذاتها.
لكنْ هل يمكن للحكمة أن تعلَّم كما تعلَّم المعرفةُ الظاهريةُ بواسطة التلقين أو الكتب؟ هذا مستحيل كل الاستحالة - وسترى سبب ذلك. والذي يمكن لنا أن نقرِّره هو أن التأهيل الفلسفي البحت ما كان ليكفي مطلقًا، لأنه لا يختص إلا بقوى محدودة هي قوى النفس العاقلة، بينما يُستمَد التأهيل للحكمة من الكون الكلِّي للإنسان نفسه. وإذن فهناك تأهيل آخر للحكمة أسمى منزلةً من التأهيل الفلسفي، لا يُلجأ فيه إلى القوة العاقلة، بل إلى النفس والروح. وهذا ما نستطيع تسميته بالتأهيل الباطني، الذي عُرفَ أنه من الصفات التي امتاز بها تلامذة الفيثاغورثية الممتازون والذي استمرَّ حتى أكاديمية أفلاطون، بل وصل حتى إلى الأفلاطونية المحدَثة بمدرسة الإسكندرية التي ظهر فيها ذلك التأهيل في وضوح تام، كما ظهر جليًّا، في الوقت نفسه، عند أتباع الفيثاغورثية المحدَثة.
في مثل هذا التأهيل الباطني، تُستعمَل الكلماتُ على أنها صور رمزية لإحدى الوسائل التي تساعد على تركيز التأمل الباطني؛ وبهذا التأمل ينتقل الإنسان إلى بعض أحوال نفسية وروحية يمكن له فيها أن يسمو فوق درجة النظر العقلي التي سبق له أن وصل إليها. وبما أن هذه الحالات فوق مستوى العقل فإنها - منطقيًّا - فوق مستوى الفلسفة؛ إذ يستحيل علينا أن نعزو إلى الفلسفة معنى غير المعنى المعروف عنها: فالقصد منها دومًا تعيينُ ما يبحث فيه العقل فقط. ومن العجب أن "الفلاسفة" المحدَثين لا يقيدون الفلسفة بهذا القيد، كأنها كاملة في حدِّ ذاتها - فلقد غاب عن أذهانهم أن فوق فلسفتهم ما هو أسمى بكثير!
وقد عُرف هذا النوع من التعليم الباطني في الأقطار الشرقية قبل أن يُعرَف عند اليونان، حيث كان معروفًا عندهم باسم mystêria أي "المساتير" [= الأسرار][3]. وقد أدخل أولئك الفلاسفة - وخاصة فيثاغورث - تلك المساتير في تعاليمهم لأنها كانت بنظرهم نوعًا جديدًا للمذاهب القديمة ومعنى حديثًا لها. فقد كانت توجد أنواع كثيرة من تلك المساتير ذات مصادر مختلفة، لكن المساتير التي استلهمها فيثاغورث وأفلاطون كانت على صلة بشعائر هيكل أپولون.
وقد احتفظت المساتير دومًا بطابع سري، ولذلك صار اسمها مرادفًا للستْر: فالمعنى الأصلي لتلك الكلمة هو الصمت التام؛ فكل الأمور التي تتصل بالغيبيات [= المساتير] غير قابل للتفسير بواسطة الكلمات، وبهذا لم يكن لها من طريقة لتعليمها غير الصمت. ثم جاء الفلاسفة المحدَثون، فلم يعرف أكثرهم تلك الطريقة، فتهربوا خلف استعمال الكلمات التي ابتدعوها من طريق التعليم الظاهري. ويمكن لنا أن نؤكد أن هذا التعليم الصامت كانت طريقته الصور والرموز ووسائل أخرى يراد منها تهيئة الإنسان لأحوال باطنية يمكن له فيها - بعد خطرات متتابعة - أن يصل أخيرًا إلى المعرفة الحقيقية - وهذا هو المقصد الأساسي العام من المساتير وما يشابهها مقصدًا.
أما المساتير المتصلة بشعائر أپولون أو بأپولون نفسه فإنه ينبغي لنا أن نشرح للقراء بأنه كان معروفًا في عرف الإغريق بأنه رب الشمس والنور، بالمعنى الروحي للنور: فهو المبدأ المشرق الذي منه تنبعث كل المعارف من علوم وفنون. وقد قيل إن الشعائر الروحية لهيكل أپولون جاءت من الأقطار الشمالية؛ وقد ثبت هذا في الكتب المقدسة، كالڤيدا Veda الهندي والأڤستا Avesta الفارسي. وكانت دلفي معروفة بأنها المركز العام، وقد عُثِرَ في هيكلها على حجر يسمَّى أمفالوس Omphalos، يُرمَزُ إليه بأنه "مركز العالم".
ويظهر أن قصة فيثاغورث - بل واسم "فيثاغورث" نفسه - على صلة وثيقة بشعائر أپولون الروحية[4]: فقد كان يلقَّب بپيثيوس Pythios، أي "الپيثي"؛ وقد قيل إن پيثو Pythô هو الاسم الأقدم لدلفي[5]، وإن الكاهنة التي كانت تتلقى وحي الآلهة oracle في الهيكل كانت تُلقَّب بپيثية Pythia؛ ومعنى پيثا-غوراي Pytha-gorai هو "دليل الپيثية"، ودليل الپيثية هو فيثاغورث نفسه[6]. وقيل أيضًا إن الپيثية هي التي أعلنت أن سقراط "أحكم الرجال"؛ ومنه نستطيع أن نفترض أن لسقراط اتصالاً خاصًّا بالمركز الروحي في دلفي، كفيثاغورث أيضًا.
أضف إلى ذلك أن العلوم كلها كانت تُنسَب إلى أپولون، وبخاصة الهندسة والطب؛ وقد كان أپولون نفسه يمثَّل كأنه يمارس هذه العلوم بعامة والهندسة منها بوجه خاص. وفي مدرسة فيثاغورث كانت الهندسة وسائر فروع الرياضة هي الجزء العام من التأهيل للمعرفة العليا. وعند بلوغ عتبة هذه المعرفة ما كان لتلك العلوم أن تُنحَّى، بل كانت تُستعمَل رموزًا إلى الحقيقة الروحية. وقد كانت الهندسة عند أفلاطون تحضيرًا لا غنى عنه لكل فرع من فروع تعليمه، حتى صحَّ عنه قولُه الذي نقشَه على مدخل أكاديميته: "لا يدخلها إلا عالِم بالهندسة". ويظهر معنى هذه الكلمات جليًّا إذا ما قورنت بقول آخر لأفلاطون نفسه: "الإله لا يني يُهندِس" - وهنا لا بدَّ من ذكر أن أپولون هو المقصود بـ"الإله المهندس". وإذن فلا غرو أن نرى الفلاسفة القدماء يستعملون تلك الجملة المنقوشة على مدخل هيكل دلفي بعدما عرفنا صلة الوصل بينهم وبين شعائر مساتير أپولون.
من كل ما تقدَّم، يمكن لنا أن ندرك في سهولة ما المقصود الحقيقي من هذه الجملة، كما يمكن لنا أن ندرك خطأ الفلاسفة المحدَثين فيها؛ وأساس خطئهم هذا ناجم عن أنهم أخذوا الجملة على أنها صادرة عن أحد الفلاسفة الذي كثيرًا ما ينسبون إليه فكرةً كفكرتهم، مع أن الحقيقة هي أن الفكرة القديمة كثيرًا ما تختلف عن الفكرة الحديثة كل الاختلاف؛ لذا يعزو العديد منهم إلى هذه الجملة معنى پسيخولوجيًّا [= نفسانيًّا]، مع أن علم النفس يقتصر على دراسة الظواهر الذهنية فحسب، أي دراسة الوصف الظاهري - لا الذاتي - للكائن العاقل. ويرى بعض المحدَثين - وخصوصًا الذين ينسبونها إلى سقراط - أنها وُضِعَتْ لغرض خُلُقي هو البحث عن قانون داخلي لاستعماله في الحياة العملية.
إن أقل ما يقال في هذه التفسيرات الظاهرية (وإنْ لم تكن باطلة دومًا) هو أنها غير كافية تمامًا ولا تؤدى الحُرْمة التي كانت لهذه الجملة في أول الأمر، وهي التي لها معنى أعمق بكثير من هذه التفسيرات الظاهرية. إذ إنها، أولاً، تفيد أن التعليم الظاهري لا يمكن له أن يؤدي إلى معرفة حقيقية، وهي التي يجدها الإنسان في نفسه فقط؛ فلا يخفى أن المعرفة - أية معرفة - لا يمكن نوالها إلا بالإدراك الذاتي، ومن دونه لا تكون للتعليم نتيجة فعالة؛ والتعليم الذي لا يوقظ فيمَن يتلقاه ما يناسبه لا يمكن له أن يفضي إلى أية معرفة بتاتًا. لذلك قال أفلاطون بأن كل ما يتعلمه الإنسان هو في قرارة نفسه أصلاً، وبأن خبراته وما يحيط به من الخارج ما هي إلا أسباب تُعِينه على أن يصير عالِمًا بما في نفسه؛ وهذا التيقظ الهام يُسمَّى بـأنمنيسِس anamnêsis، أي "تذكُّر". فلئن صح هذا على أية معرفة، الأحرى به أن يصح على المعرفة الأسمى والأعمق. فإذا نذر المرء نفسه لنيل تلك المعرفة فإن كل الوسائل الخارجية الحسية تصير، شيئًا فشيئًا، غير كافية، حتى إنها تكون أخيرًا عديمة الفائدة؛ ومع أنها قد تُعِين على الاقتراب عدة درجات نحو الحكمة فإنه لا يمكن بواسطتها نيلُها تمامًا. ومن الشائع في الهند أن الـگورو guru الحقيقي، أي "الشيخ"، يقيم في نفس الإنسان ولا ينبغي البحث عنه في العالم الخارجي. أما العون الخارجي فربما كان ضروريًّا له في البداءة، وذلك لتحضيره ليصير قادرًا على أن يجد في نفسه بنفسه ما لا يمكن له أن يجده في العالم الخارجي، وخصوصًا ما كان منه فوق مستوى النظر العقلي: فإنه يحتاج إلى تحقيق أحوال تتعمق دومًا في باطن الكائن وتتجه نحو المركز المرموز إليه بأنه القلب. وعنده لا بدَّ من ارتقاء إحساس الإنسان حتى يصير قادرًا على نيل المعرفة الحقيقية؛ وهذه الأحوال التي كانت تتحقق في المساتير كانت درجات في الانتقال من العقل إلى القلب. وقد كان في هيكل دلفي حجر يُسمَّى بالأمفالوس يمثِّل لمركز الكائن الإنساني، وفي الوقت نفسه، لمركز العالم، وذلك نظرًا للصلة القائمة بين "العالم الأكبر" makrokosmos و"العالم الأصغر" mikrokosmos، أي الإنسان؛ لذا تجد أن كل ما في أحدهما يتصل اتصالاً تامًّا بما في الآخر. ولقد قال ابن سينا:
وتحسبُ أنك جرمٌ صغيرٌ * وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ
ومن الطريف حقًّا هذا الاعتقاد الذي ساد قديمًا بأن الأمفالوس كان قد هوى من السماء. وإنك لتدرك قوة اعتقاد قدماء الإغريق بهذا الحجر إذا علمتَ أنه يقترب من اعتقادنا نحن بالحجر الأسود في الكعبة الشريفة. وهذه المقايسة بين العالم الأكبر والعالم الأصغر (الإنسان) هي التي تجعل من أحدهما صورة تامة للآخر؛ وهذا الاتصال بين العناصر التي يحويها كلاهما يبيِّن لنا أن على الإنسان أن يعرف نفسه أولاً لكي يتمكن من معرفة كل ما حوله، وذلك لأنه يستطيع أن يجد كل شيء في نفسه. ولهذا السبب تجد أن لبعض العلوم - وخاصة تلك التي كانت جزءًا من المعرفة القديمة والتي كادت أن تصير مجهولة عند المحدَثين - معنَيَين: ففي الشهود العيني تشير هذه العلوم إلى العالم الأكبر، فتُعتبَر صحيحة من هذه الوجهة؛ كما يوجد لها في الوقت نفسه معنى أعمق، وهو يشير إلى الإنسان وإلى الطريق الباطني الذي يمكن له بواسطته إدراكُ المعرفة الحقيقية في نفسه، أي إدراك كونه الخالص. وقد قال أرسطو في ذلك: "الكائن هو كل مَن يعرف ماهيته". ولذلك حيث توجد المعرفة الحقيقية - لا ظواهرها ولا شبحها - تندمج المعرفة والكون ويصيران شيئًا واحدًا.
أما "الشبح" فقد فسَّره أفلاطون بأنه كل معرفة بالحس، بما فيها معرفة النظر العقلي: فهذه، ولو أنها تتكون على درجة أعلى من مصدرها، فإن مصدرها الأول هو الحس. وأما المعرفة الحقيقية فهي فوق مستوى العقل؛ ولهذا نرى أن تحقيقها أو تحقيق ماهية الكائن نفسه يقايس تكوين العالم أو يطابقه، كما أسلفنا. لذا فإن بعض العلوم المعنية بمعرفة ظواهر هذا التكوين قد استعملت المساتير القديمة على هذا المعنى المثنَّى، الذي وُجِدَ أيضًا في سائر أنواع التعاليم التي كانت ترمي إلى المقصد نفسه بين الأمم الشرقية. وفي الغرب، يبدو أن مثل هذه التعاليم وُجِدَتْ في زمن القرون الوسطى، ولو أنها فُقِدَتْ تمامًا، حتى إن غالبية الغربيين ليس عندهم أقل فكرة عن طبيعتها أو وجودها أو مكانها.
مما سبق، ترى أن المعرفة الحقيقية ليس طريقها العقل، بل طريقها النفس والروح؛ ويمكن لنا أن نضيف إليهما الكون الكلِّي، لأنها ليست غير الإدراك الكلِّي لهذا الكون في حالاته كلِّها - وهذا هو غاية المعرفة وكمالها ونوال الحكمة السامية. وحقيقة كل ما يختص بالنفس، وما يختص بالروح أيضًا، تظهر فقط على درجات هذا الطريق إلى الجوهر الباطني، أي النفس الحقيقية. وهذا يمكن إدراكه فقط عندما يصل الكائن إلى مركزه الخاص، متحدةً أجزاء فؤاده كلها ومركزَه في نقطة واحدة. عندئذٍ تظهر له الأشياء كلها تحتويها جميعًا تلك النقطة كما كانت في مبدئها الأول. وهذا [الكائن] يمكن له أن يعرف الأشياء كلَّها كما هي في نفسه ومن نفسه، كما يظهر الوجود الكلِّي الأوحد في وحدة جوهر الفرد. ومن السهل أن نرى الفارق بين هذا وبين علم النفس بالمعنى الحديث: فإن الأول يسمو على الثاني بمعرفة للنفس أصح وأعمق، بينما الثاني ما هو إلا خطوة أولى على الطريق. ولا بدَّ هنا من ملاحظة أن المعنى لا ينبغي أن يُقصَر على النفس، لأن كلمة "نفس"، المستعمَلة في اللسان العربي بما يطابقها في اليونانية: پسيخي psychê، لا يظهر معناها إلا في الجملة الأصلية التي تبحثها؛ ففي مثل هذه الحالة لا يجوز أن يسري لهذه الكلمة المعنى الدارج، بل لا بدَّ أن يكون لها معنى أسمى يجعلها مطابقة لكلمة "ذات" ويجعلها تُطابق النفس الحقيقية.
ولدينا ما يثبت هذا المعنى في الحديث الشريف الذي يُطابق الجملة اليونانية: "مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه". فعندما يعرف الإنسان نفسه - يعرفها حقًّا في جوهره الباطن، أي في مركز وجوده - عندئذٍ يعرف ربَّه؛ فإذا عرف ربَّه عرف الأشياء كلها التي منه تصدر وإليه تُرجَع، عرف الموجودات كلَّها في أحدية المبدأ الألوهي [= الحق] الذي لا يخرج عنه شيء على الإطلاق. وهذا معنى قول سيدي محيي الدين بن عربي في الفتوحات: "فخلو وجه الحق عن شيء من العالم محال"؛ وفي فصوص الحكم: "ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود".
*** *** ***
عن موقع سماوات: http://samawat.org/

 
horizontal rule
[1] مقال مكتوب رأسًا بالعربية ومنشور في مجلة المعرفة القصيرة الأجل، عدد مايو 1931.
[2] فيلسوف فرنسي (1886-1951)، ولد في بلوا (فرنسا) وتوفي بالقاهرة. شُغف بالروحانيات منذ حداثة سنِّه، فدفعه الفضول إلى اختبار معظم مدارسها الحديثة، حتى اهتدى أخيرًا إلى تصور متكامل عن وحدة المأثورات "الدينية" الأصيلة في العالم قاطبة، بوصفها تعبيرات متنوعة متفرعة عن "منقول قديم" Tradition Primordiale واحد، فاطمأن إليه وراح، بالتوازي مع حياة باطنية غنية، يكتب فيه المقالات والكتب والرسائل، مؤسِّسًا بذلك لمذهب "نقلي" traditionnaliste مازال أثرُه ساري المفعول حتى يومنا هذا. من مؤلفاته الهامة: الإنسان ومآله بحسب الڤيدنتا، أزمة العالم الحديث، رمزية الصليب، الثالوث الأكبر، لمحات عن المُسارَرة. (المحرِّر)
[3] لم نعثر على ترجمة دقيقة تؤدي المقصود من كلمة mystêria. وقد راجعنا في هذا الأستاذ فريد بك وجدي، فعبَّر عنها بكلمة "مساتير"، وكنا نرى أنها قد تكون "الغيبيات" أو "الرموز" أو "الخفائية"... فلعل أحد حضرات القراء يجد لها تعبيرًا أدق.
[4] يروي الفيلسوف يمليخا الأفامي في كتابه عن سيرة فيثاغورث أن الپيثية تنبأت لأمِّه الحامل به بأنها ستلد "رجلاً جميلاً وحكيمًا ونافعًا للبشر إلى أعلى حد". (المحرِّر)
[5] من "پيثون" Pythôn، وهو اسم ثعبان خرافي أرداه أپولون بسهامه، لأنه حال بينه وبين دخول هيكل ربة الأرض جي ، ورمى بجثته في شق الأرض تحت موضع نزول الوحي، فلُقِّب منذئذٍ بأپولون الپيثي، "قاتل الپيثون". (المحرِّر)
[6] فسَّر أرستيپُّس الفيثاغورثي اسم فيثاغورث بقوله: "كان يتكلم agor بالحق لا أقل من الپيثية Pyth." (المحرِّر)
 
*د يحيى
12 - يونيو - 2010
كاريكاتير    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 

السبت 12 حزيران 2010

 

 كاريكاتورية

لم  يعد بالوسع  أن نقول أيهما هو الآخر - جورج  أورويل
Already it was impossible to say which was which - Georges Orwell

  مع أبو محجوب (الحجاج) من الأردن وبعض همومنا المشتركة...

 
 
 
 
 

تعليق المحلّي: بلا تعليق....

*د يحيى
12 - يونيو - 2010
 10  11  12  13  14