معركة فاصلة كن أول من يقيّم
ملاذ كرد موقعة فاصلة في التاريخ الإسلامي: تعد موقعة ملاذكرد انتصارًا مدويًّا لا يقل عن فتح القسطنطينية، وقد عدها بعض المؤرخين استكمالاً لمعركة اليرموك، ومن عجيب أن تزامنت مع موقعة الزلاقة في الغرب! وهاك بيان سيرها: لم يجد قيصر الروم بدًا من الهجوم على جيش ألب أرسلان بعد أن فشلت خطته في تطويق الجيش الإسلامي؛ فخرج بجيوشه الجرارة التي ضمت أخلاطًا من الروس والبلغاريين واليونانيين والفرنسيين إلى المنطقة التي يعسكر فيها جيش السلاجقة في "ملاذكرد"، وكان جيش ألب أرسلان صغيرًا إذا ما قُورِنَ بجيش القيصر، الذي يبلغ عدده مائتي ألف جندي، ويفوقه أسلحة وعتادًا. أسرع ألب أرسلان بقواته الصغيرة، واصطدم بمقدمة الجيش الرومي الهائل، ونجح في تحقيق نصر خاطف، يحقق له التفاوض العادل مع القيصر؛ لأنه كان يدرك أن قواته الصغيرة لا قِبَل لها بمواجهة هذا الجيش العظيم، غير أن القيصر رفض دعوة ألب أرسلان إلى الصلح والهدنة، وأساء استقبال مبعوثه؛ فأيقن ألب أرسلان ألاَّ مفرَّ له من القتال، بعد أن فشلت الجهود السلمية في دفع الحرب؛ فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم رُوح الجهاد، وحب الاستشهاد، والصبر عند اللقاء، ووقف الإمام "أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري" يشد من أزر السلطان، ويقول له: "إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح". وحين دنت ساعة اللقاء صلَّى بهم الإمام أبو نصر البخاري، وبكى السلطان؛ فبكى الناس لبكائه، ودعا، ودعوا معه، ولبس البياض وتحنَّط وقال: "إن قُتِلت فهذا كفني"، والتقى الفريقان، وحمل المسلمون على أعدائهم حملة صادقة، وأبلوا بلاءً حسنًا، وهجموا عليهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى انكشف غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال، ووقع قيصر الروم "رومانوس ديوجينس" أسيرًا في أيديهم، وحلَّت الهزيمة بهذا الجيش الجبَّار في (ذي القعدة 463هـ = أغسطس 1071م. شتان بين حضارتين: تثبت المراجع حوارًا بين ألب ورومانوس، تتكشف من خلاله البون الشاسع بين حضارة الشرق الإسلامية، حيث الحرص على قيمُ السلام، والتسامح، واحترام الآخر، وتطبيق حقوق الإنسان، والوفاء بالمواثيق... وحضارة الغرب الصليبية حيث العنجهية الفارغة، والتجبر، والحرص على الحرب والإغارة، وانتهاز الفرص، والتعالي على الضعيف... وهاك سردًا للحوار: عندما بلغ السلطان ألب أرسلان خبر الإمبراطور رومانوس الرابع و جيشه العرمرم، وحين أدرك أن قوته أقل بكثير من قوة الرومان، أرسل إلى خصمه يطلب منه المهادنة، فرفض(رومانوس)، فهي بالنسبة له فرصة ذهبية، و صيد ثمين لا يمكن لأحد أن يضيعه، فكان لا بد من اللقاء . فلما كان يوم الجمعة صلى السلطان، و لبس البياض، و تحنّط، و خطب في الناس و قال : " إن قتلت فهذا كفني " . فزحف إلى الروم بجيشه القليل، و بقلوب لا أمل لها بالحياة، و حمل عند اللقاء حملة من لا يرجو عودة، فإما النصر وإما الشهادة. فانهزم الروم هزيمة شنعاء نكراء، بل و أكثر من ذلك فقد تم أسر الإمبراطور العظيم ! و جيء به مقيدا بالسلاسل بين يدي السلطان ألب أرسلان فلمّا مثل الأمبراطور رومانوس الرابع أمام السلطان، قال له : " ألم أرسل إليك في المهادنة فأبيت ؟ " فقال رومانوس : " دعني من التوبيخ، و افعل ما تريد " فقال له السلطان : " ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني ؟ " فقال : " القبيح " . فلم يغضب ألب أرسلان و لم يثر، و دلّ بذلك على شهامة و مروءة . و سأل ألب أرسلان مرة ثانية : " ماذا تظن أني فاعل بك ؟ " قال : " إن كنت ظالما فاقتلني، أو محبا للفخر فجرّني بالقيود إلى عاصمة ملكك، أما الأخرى ( فهي بعيدة ) فإن كنت كريما فأطلقني من الأسر على مال أؤديه لك " فقال الب أرسلان : " إني كريم " فأمر بالإفراج عنه، فذهل رومانوس لهذه الشهامة الكبرى ) بعد أن جهزه ب(15) ألف دينار يتزود بها، و أطلق سراح أمرائه و قواده.... ما بعد ملاذ كرد افتدى الروم قيصرهم بفدية كبيرة قدرها مليون ونصف المليون من الدينارات، وعقدوا صلحًا مع السلاجقة مدته خمسون عامًا، وتعهدوا بدفع جزية سنوية طوال هذه المدة، واعترفوا بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلاد الروم، وتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكات دولة السلاجقة. وكان من نتائج هذا النصر العظيم أن تغيرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد أن أشرقت عليها شمس الإسلام، ودخل سكانها في الإسلام، وتعلموا مبادئه وشرائعه. |