البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : دوحة الشعر

 موضوع النقاش : وضوح الرؤية وحضور الموضوع    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )
 فراس عمر حج محمد 
18 - سبتمبر - 2009
قراءة في قصيدة "رسالة من المنفى"
وضوح الرؤية وحضور الموضوع
فراس حج محمد /نابلس/ فلسطين
أصدر الشاعر الراحل محمود درويش ديوانه أوراق الزيتون عام 1964، ولم يكن الشاعر حينها يتجاوز الثلاثة والعشرين عاما من العمر الذي مر سريعا لكنه حافل، بلغت حصيلته الشعرية أربعة وعشرين ديوانا، غير تلك الكتب النثرية، التي عبرت كلها موزونها ومنثورها عن رؤى الشاعر وأفكاره عبر زمان امتلأ بكل ما يرفع التوتر العصبي والنفسي في كل نفس إنسانية، أبت مشاعرها الحية إلا أن تكون - كما كان الشاعر- حزينة.
ومع كل ذاك الحزن المستكن في نبرة الصوت وإحساس الجملة، كان الشاعر مُصِرّا على أن لا تنتهي قصيدته التي سكبها بقوالب من الحزن والأسى، حتى يرى وطنه حرا طليقا، ولكن النهاية وضعت حدا قسريا لتك القصيدة، فانتهت بنيتها اللفظية واكتملت الدائرة الدرويشية، وانفتح الشعر على آفاق جديدة من الدراسة والتحليل والثبات عبر الزمن.
وعلى ذلك، ولغير مبرر أقف في هذا المقال عند قصيدة الشاعر "رسالة من المنفى"[1]، وهي إحدى قصائد ديوان أوراق الزيتون، تلك الرسالة/القصيدة التي شكلت رسالة إلى كل إنسان ذي حس مرهف ليلتفت إلى جزء مهم من معاناة المشرد الفلسطيني، وإن لم تكن القصيدة سياسية بالمعنى الحرفي للمصطلح، لكنها وبكل تأكيد هي نتاج سياسة دولية رمت بأشرعة الفلسطيني خارج وطنه ليصارع الأمواج العاتية والعواصف الهائجة، ليكون إنسانا بلا عَلَم وبلا وطن وبلا هوية، يبحث في معمعة ذلك عن قيمته الإنسانية أسوة بكل البشر.
وتشكلت هذه القصيدة من لبنات حياة التشرد ولهيب قسوة الغربة، أفرغها الشاعر على شكل "رسالة طويلة ذات خمسة فصول، تكشف عن الحياة خارج الأسوار لا داخلها، الحياة في المنفى، وبطلها عامل مشرد في مطعم يغسل الصحون ويصنع القهوة للزبون"[2]، كتبها الشاعر على لسان عامل في المنفى موجها رسالته لأمه، فالشاعر لما يسافر، ولما يهاجر بعد، ولكنه إحساس الشاعر مع تلك الشريحة من أبناء وطنه ممن ذاقوا المر، وهم يصرون على الحياة مهما استطاعوا إليها سبيلا.
ويعتبر د. محمد شحادة عليان في كتابه القيم "الجانب الاجتماعي في الشعر الفلسطيني الحديث" أن القصيدة "خير ما يدل على تمسك الفلسطيني بوجوده داخل الوطن"[3]؛ فهؤلاء المنفيون مرتبطون وجدانيا بوطنهم، يغمرهم حنين جارف، ومن جهة أخرى فإن القصيدة ترسم صورة للناس داخل أوطانهم، وكأنها تحثهم على الصمود والتشبث بكل تفاصيل ذلك الوطن بما فيه من تراب أو ثقافة وما عدا ذلك، فهؤلاء المشردون بصمودهم خارج الوطن ورسمهم لتلك المعاناة، يقدمون رسالة بليغة وذات مدلول حاد للتحذير من ترك هذا الوطن مهما جرى، من هنا يمكن أن نرى أن من  يكادون يحصّلون الكفاف في غربتهم هم بخير ما دام لهم أهل مزروعين في الوطن، هذا ما جعل ذلك العامل/ كاتب الرسالة يقول لأمه في المقطع الخامس:
الليل - يا أمّاه - ذئب جائع سفاح
يطارد الغريب أينما مضى..
ماذا جنينا نحن يا أماه؟
حتى نموت مرتين
فمرة نموت في الحياة
ومرة نموت عند الموت!
يوظف الشاعر في قصيدته "رسالة من المنفى" أسلوب الرسائل، فترى فيها الكثير من عناصر الرسالة الإخوانية التي يوجهها الإنسان لقريبه ومن يعز عليه، فتبدأ الرسالة بالتحية والقبلة، سائلا المرسَل إليه/ أمه عن أحوال أفراد أسرته؛ عن أبيه وإخوته وأخواته وعن جدته، وكذلك فإنه يخبر أمه عن أحواله في الغربة، مبينا جانبا من معاناته، لكنه لا يظهر الضعف والوهن إنه بخير رغم كل شيء:
أنا بخير
أنا بخير
عندي رغيف أسمر
و سلة صغيرة من الخضار    
ويحيل النص  القارئ على ملمح تاريخي، حيث كان الشعب الفلسطيني بشقيه في الداخل والخارج يتواصل عن طريق المذياع، وقد استمرت هذه الظاهرة طويلا، وأنتجت كثيرا من البرامج الإذاعية، نذكر منها ما كان لوقت قريب يذاع عبر بعض الإذاعات العربية، من مثل برنامج "رسائل شوق" وبرنامج "خبرني يا طير"، وقد كانت هذه التقنية رحمة من هول الغياب لترحم بعضا من شقاء التغريبة الفلسطينية.
ويلجأ الشاعر في قصيدته إلى أسلوب السرد المناسب لأسلوب الرسالة، وهو مقتضى فني من مقتضياتها، منوعا بين الضمير المستخدم؛ فمرة يتحدث العامل عن نفسه مستخدما ضمير المتكلم، ومرة يخاطب أمه وذويه مستخدما ضمير المخاطب والمخاطبين، مكثرا الشاعر من أسئلته الاعتيادية التي تأتي في سياق طبيعي في النص الشعري، ليحصّل بها مجموعة من المعارف عن أهل بلدته، وخاصة فيما يتصل بعادات القرية وتقاليدها.
ويتكئ النص على التكرار للتعبير عن بعض الأفكار المصاحبة للمنظومة اللفظية، فقد تكرر في المقطع الأول السؤال التالي: "من أين أبتدي؟ وأين أنتهي؟" ليكشف للقارئ والمرسل إليه/ أمه على حد سواء عن حيرته، وهو يمارس فعل الكتابة، فالكلام كثير والشوق غلاب، فكيف ستكون البداية؟ وكيف يستطيع أن ينتهي إذا ما بدأ الكتابة، وأخذته شهوة الحديث للأهل وعن النفس؟، ومثل ذلك التكرار في جملة "أنا بخير" في المقطع الثاني التي تحيل إلى نوع من المفارقة المرة التي يفضح حقيقتها الواقعُ من قبلُ ومن بعدُ.
يتبـــــــــع (2)
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
لا يوجد تعليقات جدبدة