البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الجغرافية و الرحلات

 موضوع النقاش : الارتسامات اللطاف (رحلة شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة)    كن أول من يقيّم
 زهير 
11 - نوفمبر - 2008
تحية طيبة أصدقائي الأكارم:
كنت قبل قليل أحدث أستاذنا السويدي صانع الوراق، عن ضرورة نشر كتاب (الارتسامات اللطاف) في الوراق، فأجابني إلى ذلك مشكورا، و(الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) هو عنوان رحلة أمير البيان شكيب أرسلان إلى الديار المقدسة عام 1929م عقب دخولها في مملكة الملك عبد العزيز. وقد نشرت في مطابع مجلة المنار بتحقيق صديقه محمد رشيد رضا، عام 1350هـ وقد اعاد نشرها استاذنا السويدي ضمن موسوعة (ارتياد الآفاق) كما ترون على هذا الرابط:
 

http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb128276-88404&search=books

 ويمكن تحميل الكتاب عن طريق هذا الرابط:
وكان أمير البيان قد انطلق من مكان إقامته في (لوزان) بسويسرا إلى (نابولي) ومنها مستقلا سفينة إلى (بور سعيد) ليستقل سفينة أخرى أوصلته إلى جدة، ومن هناك بدأ هذه الحرب التاريخية الضروس، التي خاضها بقلمه المرهف الصقيل،ونبل ريشته العذراء، لينفلَ أمته صورا وصفحات هي غنائمه في تلك الوقائع المدوية، التي يستحق لأجلها أن يضاف إلى ألقابه لقب (فارس العرب) بعد (أمير البيان) وسوف أنشر كنموذج هنا قطعة من حديثه المطول عن (الطائف) وتاريخها، وكيف رآها خاوية على عروشها، بعد فظائع (سلطان بن بجاد) فيها، والتي كانت سببا لغضب الملك عبد العزيز على ابن بجاد
 
 
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
فتى قريش: عبد الله بن كريز (ر)    كن أول من يقيّم
 
قال أمير البيان:
وقد ذكروا في أخبار عبد الله بن كريز العبشمي الذي كان من شجعان الصحابة وأسود فتوحات الإسلام وهو الذي فتح فارس وخراسان وسجستان وكابُل (أنه اتخذ النباج وغرس فيها فهي تدعى نباج ابن عامر واتخذ القريتين أو غرس بها نخلاً وأنبط عيوناً تعرف بعيون ابن عامر بينها وبين النباج ليلة على طريق المدينة وحفر الحفير، ثم حفر السمينة، واتخذ بقرب قباء قصراً وجعل فيه زنجاً ليعملوا فيه، فماتوا فتركه، واتخذ بعرفات حياضاً ونخلاً وولى البصرة لعثمان بن عفان فاحتفر بها نهرين وحفر الابلة. وكان يقول: لو تركت لخرجت المرأة في حداجتها على دابتها ترد كل يوم ماء وسوقاً حتى توافي مكَّة. وكان علي بن أبي طالب يقول عنه: إنه فتى قريش. مات سنة 59).
 فالإسلام ولاسيَّما العرب في أشد حاجة اليوم إلى رجال كعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي الفاتح الماتح المعمر المثمر الذي كان مغرماً بالعمارة حيث حل وأينما ارتحل.
__________________
انظر كلام أمير البيان المطول في التعريف بآثار ابن كريز، الواردة في هذه الترجمة
*زهير
12 - نوفمبر - 2008
أسباب الثورة النجدية     كن أول من يقيّم
 
قال:
ولقد حرم الحجاز منذ سنتين أو ثلاث حاج الأناضول لأن مصطفى كمال يأبى أن ينفق التركي شيئاً من ماله في بلاد عربية، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه.
ويا ليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر والميسر والألبسة الإفرنجية وما أشبه ذلك ممَّا كان السبب في هوي تركيا الاقتصادي إلى ما هوت إليه، وممَّا لم يعد سرّاً مخفياً. فمسألة نفقات الحج كانت نقطة من غدير بالنسبة إلى هذه.
وكذلك كان من أسباب الثورة النجدية التي استأصل الملك ابن سعود جرثومها أن موقدي تلك الثورة زعموا أن الحجَّاج الذين يأتون من طريق البحر مشركون - هكذا سمعنا عنهم والعهدة على الرواة - وطلبوا من ابن سعود أن يسد طريق الحج عليهم، فجادلهم كثيراً في هذه المسألة فأصرُّوا على غيّهم.
فقال لهم أخيراً: وكيف يعيش أهل الحجاز إذا سددنا هذه الطريق عليهم؟
فقالوا له: يرزقنا الله وإياهم -
وقد غاب عنهم أن الرزق له أسباب وأن الله جعل لكلِّ شيء سبباً، وأن أعظم أسباب ارتزاق الحرمين هو الحج، وأن الله تعالى أنزل في هذه الحقيقة قرآنا غير ذي عوج.

 
*زهير
12 - نوفمبر - 2008
رياح الإلحاد    كن أول من يقيّم
 
قال:
ولا ينبغي أن يُظنَّ أنَّ تقدم المسلمين في المعارف ورقيِّهم في سلم المدنية في المستقبل قد ينتهيان بتناقص عدد حجَّاج البيت الحرام، فقد ترقت الأمم الأوربية كثيراً في المدنية، وغلبت على قسم كبير منها الفلسفة واللادينية. ولا يزال زوار القدس من المسيحيين كل سنة عدداً كبيراً، ولا يزال قُصَّاد روما كلّ سنة من الكاثوليك عدداً أكبر. وما يقدر العلم أن يصنع شيئاً مع الدين ما دام سرّ الكون النهائي لا يبرح مغلقاً، ومادام الإنسان عاجزاً عن مكافحة الموت، لا بدَّ للخلق من الدين، وما مأثورات الإلحاد إلا غمرات ثم ينجلين.
فالنزعات اللادينية والنزغات الإلحادية التي تعرض على المجتمع الإنساني في الأحايين إن هي إلا عوارض مؤقَّتة لا يمكن أن تكسبَ شكلاً عامّاً ولا أن تقومَ مقامَ العقائد الدينية الضروريَّة للبشر، وقد سبقت لها أماثيل متعدِّدة في تاريخ أكثر الأمم، وعصفت ريح الإلحاد في بعض الحقب، ثم لم تلبث أن هدأت واستقرَّت وعاد الأمر كما بدا.
وفي الثورة الفرنسية الكبرى أقفلوا الكنائس، وقتلوا القسّيسين، وشرَّدوا جميع خدمة الدين، واغتصبوا الأوقاف وأزالوا عنها صفة الوقف، وجعلوا العبادة للعقل، وظنَّ الناس أن الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا دخلت في ذمّة التاريخ وصارت أثراً بعد عين. ولكن لم تمضِ بضع سنوات على هذا العمل حتى ركدت تلك الزوبعة، وعادت العقيدة الدينية إلى نصابها، ورأى نابليون أن عقلية الفرنسيس قد تراجعت إلى أصلها، ففتح الكنائس وأعاد على العبادة كرامتها، ورفع منار الدين الكاثوليكي وتتوج إمبراطوراً في كنيسة نوتردام في باريس ودعا البابا إلى حضور حفلة التتويج، فجاء البابا بنفسه، وكان يطوف بعربته في
شوارع باريس والناس تخرُّ أمامه جثياً. وهم هم الساجدون له الآن، كانوا قبل ذلك بسنوات معدودات القوم الذين اتخذوا هواهم إلههم، وأقفلوا الكنائس، وأتوا بفتاة حسناء رعبوبة فجلوها على منصَّة رفيعة وخرُّوا لها ساجدين.
*زهير
12 - نوفمبر - 2008
ذكريات على فراش الحمى    كن أول من يقيّم
 
قال أمير البيان تحت عنوان (مرضي في مكَّة المكرمة وأسبابه، وتأثيره في أثناء أداء فريضة الحج):
إذا كان الأجر على قدر المشقَّة فقد كتب الله لهذا العبد أجراً عظيماً. فإنَّه لم تمضِ على مقامي بقرب المقام أكثر من تسعة أيام حتى انحلَّت قواي والتاث مزاجي وأصبحت مريضاً تتصاعد بي الحمَّى إلى أن بلغت درجة الأربعين.
وذلك أنّي من أبناء جبل لبنان ولم تألف أجسامنا الحرّ الشديد الذي ألفته أجسام إخواننا أهالي جزيرة العرب لا سيَّما سكان التهائم منهم. وكنت من أصل فطرتي أكره الحرّ وأفرُّ منه، ولم أكن أيام القيظ أفارق الصرود
وهذا كان سبب اصطيافي في عين صوفر مدة تزيد على عشرين سنة، وقد نشأ عن شدّة رغبتي في ذلك المكان أنِّي اقتنيت فيه الكروم والعقارات وتأثلت ما يقارب ثلاثمائة ألف ذراع مربع من الأرض، ولم تكن درجة الحرارة في صوفر تزداد بميزان سنتيغراد على 23 إلا نادراً، وكذلك كنت أقيم أحياناً بعاليه وحرارتها تعلو فوق 26 أو 27 إلا نادراً،
ومنذ اثنتي عشرة سنة أنا في أوربة وليست هذه القارة بالتي يشكو فيها الإنسان شدَّة الحرِّ، وما أذكر أنّي لقيت في أوربة شيئاً يستحق اسم الحرِّ إلا في روما إذ صادف وجودي فيها إحدى المرار في شهر يوليو.
 
ومن المعلوم أنّي أقمت سنوات بألمانية وهي لا تعرف الحرَّ إلا عابر سبيل، وأني منذ سنوات في سويسرا وهي لا تدري شيئاً من حرارة القيظ.
وعدا ذلك تراني في سويسرا نفسها أقضي الصيف من قمَّة جبل إلى قمة جبل. فتارة في القمة المسمَّاة (روشه دونيه) فوق (مونترو) وهي تعلو عن سطح البحر ألفين وخمسين متراً، وطوراً في (شتانسر هورن) فوق بحيرة (لوسرن) وهي قمة بيضية الشكل تعلو عن سطح البحر 1950 متراً، وأحياناً في القمم الشامخة التي تقابلها مثل (بيلاتوس) المشرفة على لوسرن إشراف المنارة على الجامع، ومثل (ريغي) التي يطل منها الرائي على ثماني بحيرات، في لمحة واحدة من شفير شاهق، ومن شدة غرامي بهذه القمم التي قد كنت أصادف فيها الثلج أحياناً في شهر أغسطس أتذكر أنّي تركت قمَّة (غورتن كولم) في برن وذهبت فانتجعت قمة (شتانسر هورن) في لوسرن لأنها أعلى من الأولى، وأقمت هناك شهراً إلى أن
جاءني كتاب من سعادة الأخ الشهم الهمام عبد الحميد بك سعيد - رئيس جمعية الشبَّان المسلمين الآن في مصر - أمتع الله الإسلام بطول حياته، وكان يسكن في (غورتن كولم) في الفندق الذي أنا فيه فكان يؤنّبني في هذا الكتاب على تلك العزلة برأس جبل (شتانسر هورن) ويقول: لا يحل لك هذا.
والخلاصة أنَّ برودة سويسرا كلّها لم تكن تقنعني وكنت أنتجع منها الشناخيب التي أستيقظ فيها صباحاً فأرى الأرض التي حولنا بيضاء من الثلج وذلك في إبان فصلالقيظ.
وقبل ذلك لما كنت في جبلنا لبنان لم تكن عين صوفر (وهي في ارتفاع 1350 متراً) تقنعني وتكفيني فطالما قصدت أبْهل الباروك وتوأمات نيحا وهي تعلو 1800 متر وغير ذلك. فكيف بي الآن وقد صرت في إقليم حرارته تقابل من 40 درجة بميزان سنتيغراد إلى 50 وذلك لأول مرَّة في حياتي. لا جرم أنّي لم أتحمَّل هذا الفرق الشاسع ورأيت نفسي هبطت هبطة واحدة كما يقع الزق عن الظهر لا متدرجاً ولا متدحرجاً.
وكان قد سبق أنّي لمَّا مررت بمدينة السويس منتظراً باخرة البوسطة المصرية للركوب بها إلى جدَّة لم يشاءوا أن يمهلوني يومين ريثما يأتي ميعاد سفر الباخرة بل صدر الأمر بتسفيري على باخرة هندية سيئة الحال مسلوبة أسباب الراحة في المنام والغذاء والجلوس وكل شيء وناهيك أنه كان فيها نحو 1500 حاج وأنها كانت من البواخر الصغيرة.
فبعد هذا لا ينبغي لي أن أطيل الشرح وأن أقول كيف مرضت وإنما أقول إنّي وطئت أرض جدَّة ملتاثاً.
ثم إني لما وصلت إلى مكَّة نزلت في منزل سعادة ولدنا فؤاد بك حمزة وكيل الشؤون الخارجية فهيَّأ لي سريراً على السطح كما هي عادة أهل البلد الحرام في أيام الصيف.
ولكن هذا السطح لم يكن مفتوحاً من جوانبه الأربعة كما هي بعض السطوح لأن الباني الأصلي لذلك البيت كان قد حوطه بجدران عالية فوق قامة الإنسان غيرة على الحرم أن ينظر أحد لهنَّ شبحاً ولو من بعيد، فأصبح السطح مسدوداً من كلِّ جهاته إلا من الأعلى فلم يكن الإنسان ينظر منه إلا القبَّة الزرقاء، ومن عادة الناس أن يفتحوا في الحيطان نوافذ لأجل الهواء أو للنظر عند اللزوم فأمَّا هذا السطح فلم تكن في جدرانه العالية إلا قمريتان أو ثلاث مشبكات بحجارة مستديرة بينها ثقوب ضيقة لا تكاد المسلة تدخل في الواحد منها، فكانت في حكم كان لم يكن من جهة نفوذ الهواء هذا على فرض وجوده.
ولمَّا جئت لاضطجع في السرير الوثير قيل لي إنَّه لا بدَّ من الدخول تحت الكلة بلباقة عظيمة حتى لا يتسنى للبعوض أن يدخل ورائي فإنَّ البعوض هناك تجب الوقاية منه، فكنت أدخل تحت الكلة وأنا أسترق السمع حتى إذا سمعت طنين بعوضة اجتهدت في محوها أو طردها، وكنت طول الليل كأني تحت الحصان أحاذر أن تقع مني حركة يرتفع بها شيء من سجوف الكلة فيهجم من خلال ذلك البعوض وتسوء العاقبة. على أن قولي (طول الليل) صورة من صور التعبير فإنّي ما قدرت ولا ليلة أن ابقى تحت ذلك الحصار
أكثر من ساعة لأن السرير كان مسدوداً بالسجوف السابغة والسطح كان مسدوداً بالجدران الإسكندرية العالية، فلم يبقَ من سطحيته إلا الاسم والحرُّ كان شديداً، وبالاختصار كدت أختنق، وصبرت إلى أن غرق مضيفي الشاب في لجَّة الكرى، ونزلت إلى سطح آخر مفتوح من كل الجوانب يرقد عليه الخدم بدون أغطية ولا سجوف مسدولة ولا خشبة بعوض ولا اتقاء جراثيم، وقلت في نفسي ليفعل البعوض ما شاء فإني تحت تلك الكلَّة لا أستطيع الغمض ولا دقيقة والنوم سلطان لا يُغالب فلا بدَّ من طاعته ورحم الله
القائل:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً         فلا يسع المضطر إلا ركوبها
فوجدت على ذلك السطح خشبة عارية عن الفرش اضطجعت عليها وكنت أمشي على رؤوس أصابعي حتى لا يستيقظ أحد لا فؤاد حمزة ولا خدمه فإني لا أحب أن أزعج أحداً ولا أن أسلب راحة الناس لأجل راحة نفسي. على أني لو أيقظتهم وأزعجتهم وسلبت راحتهم فلا أعلم ماذا كانوا يقدرون أن يصنعوا لي، وجميع تلك العلل التي وقفت في طريق رقادي لم يكن مصدرها إعواز أسباب الرفاهة وإنَّما كان مصدرها الجو...وما حيلتي وما حيلتهم هم في الفلك؟
فارتميت على تلك الخشبة بدون وطاء سواها ولا غطاء سوى القميص. وهكذا أمكنني قبيل الفجر أن أهوم تهويماً أشبه باليقظة منه بالمنام. ولكن لم يصبح الصباح حتى قامت القيامة إذا استيقظ الجميع فرأوني على تلك الحالة فأخذوا يدوكون في الطريقة التي تلزم لأجل تمكيني من الرقاد، وبهذه المذاكرات أطاروا ما كان بدأ من تهويمي، ولأجل توفير راحتي سلبوا تلك البقية الباقية من راحتي. وفي هذه الأثناء طلعت الشمس ليس من دونها حجاب لأنّي كنت على السطح كما قلنا، وأنا لم أكن أقدر أن أنام في الظل ولا في
العتمة فما ظنّك في الشمس فنهضت برغم أنفي وأنا أقول: يا من يأتيني بخبر عن الكرى.
وأخذ فؤاد بك يفكر في الاستعدادات لمعركة الليلة الآتية، وصاروا ينظرون في وجوه الوسائل وفنون الذرائع حتى أتمكن من الرقاد ثاني ليلة، ولكن لم يكن في الحقيقة من وسيلة تنفع، ولا من ذريعة تنجع، لأن العلَّة هي شدَّة الحرِّ وعدم اعتيادي مثل هذا الجو، وقد يُقال إن فؤاد بك حمزة هو لبناني مثلي وبلدته مصيف شهير وهي عبية، ولم يتعوَّد جسمه الحرارة، ولكن بيني وبين فؤاد بك حمزة ثلاثين سنة، فقوّة المقاومة التي عنده ليست عندي، ولذلك لم يتمكَّنوا في الليلة التالية برغم جميع الوسائل من أن يجعلوني أنام، وخسر فؤاد بك المعركة والحقيقة أن الدائرة إنَّما كانت تدور عليّ وحدي لأنّي أنا الذي لم يكن ينام.
ولمَّا وصل الخبر عمَّا أعانيه إلى جلالة الملك، بمكان ذلك الأسد من الجميع بين الأضداد من الصلابة والشمم والحنو والتواضع، أشار بأن أنتقل إلى محلَّة الشهداء بظاهر مكَّة رعياً لخفَّة حرارتها عن حرارة مكَّة، فإنَّ لجلالته هناك مقصفاً بديعاً أنيقاً في وسطه صهريج ماء عظيم، وأمامه بستان حديث الغراس، فسيح الرقعة سيكون يوماً من الجنان المشهورة.
فكان يدري أيَّده الله أنَّ بين الشهداء والبلدة فرقاً كبيراً في الجو، وأنّي لو بتُّ في ذلك المقصف الذي لجلالته لما كنت أحرم طيب الرقاد. إلا أن مضيفي فؤاد بك لم يكن يرغب في أن أتحوَّل إلى الشهداء خشية أن ينقضي شيء من أسباب الراحة التي لا يأمن على استكمالها إلا إذا كان هو قريباً، والحال أن الشهداء هي ربض من أرباض مكَّة ومن هذه إليها مسافة وأنا لم أكن أريد أن آتي مالا يروق فؤاد بك، وكنت أقول في نفسي: هنَّ ليالٍ قلائل أقضي مناسك الحج ثم أصعد إلى الطائف. فعلى فرض أنّي لم أنم هذه المديدة، فلن تنفد بها قوة مقاومتي للطبيعة. ولذلك عصيت أمر الملك في هذه وندمت ولا ندامة العصاة الذين شاقوه في السنة الماضية.
*زهير
12 - نوفمبر - 2008
ذكريات دامية    كن أول من يقيّم
 
قال أمير البيان في خاتمة هذه الرحلة:
(وأمَّا الجند النظامي السعودي الذي في الحجاز فإنَّه يقيم في مكَّة بالثكنة التي في جرول في أول البلد الحرام للقادم من جدَّة، ويقيم في جدَّة بثكنة جدَّة المناوحة للبحر، ويقيم في الطائف بقلعة الطائف وهي بنيت منذ نيّف ومائة سنة، قيل لي بناها الوهابيون قدمتهم الأولى في القرن الماضي. ولقد زرتها وسررت بانتظام الجند الذي فيها بقيادة ضابط تركي باقٍ من أيَّام الملك حسين اسمه تحسين بك من خيرة الضبَّاط، ولقد ازدادت الثقة الآن بحسن قيادة الجيش الحجازي بعد أن عهد بها الملك عبد العزيز (أيده الله) إلى المجاهد
المناضل، والعالم الفاضل، فوزي بك القاوقجي من نخبة ضبَّاط العرب، وفَّقه الله لتحقيق آمال الملك وآمال العرب في القوة النظاميَّة السعوديَّة.
ولمَّا زرت القلعة جلسنا في الغرفة التي يسكن بها مدحت باشا أبو الدستور العثماني والتي قتل فيها، وأمامها غرفة كان يسكن فيها محمود باشا الداماد، وهناك غرفة ثالثة كان يسكن فيها خير الله أفندي شيخ الإسلام، هؤلاء الثلاثة الذين نفاهم السلطان عبد الحميد إلى الطائف من أجل خلع عمّه السلطان عبد العزيز.
صفة قتل مدحت باشا ومحمود باشا الداماد
ولقد استقصيت من تحسين بك المذكور ومن الشيخ محمد بكر كمال رئيس بلدية الطائف ومن غيره من المُعمَّرين فيها عمَّا يعلمونه من كيفيَّة قتل مدحت ومحمود الداماد، فقيل لي ما خلاصته: جعلوا إقامتهم من البداية في القلعة لكن مع الترفيه والاعتناء، وكان لهم طاهٍ خاص يصلح لهم طعامهم، لكن بعد أن مضت على ذلك مدَّة شرعوا بالتضييق عليهم، وأبوا أن يطعموهم إلا من غذاء العسكر. وبعد عدَّة سنوات من حبسهم بالقلعة وفي أيام الوالي المشير عثمان نوري باشا قرَّروا قتل مدحت باشا ومحمود باشا الداماد، وكان مدحت في الغرفة التي جلسنا فيها وهي محل استقبال الزائرين اليوم، فدخل عليه ملازم تركي اسمه إسماعيل قيل لي يوم كنت بالطائف (صيف سنة 1347) إنَّه لا يزال حيَّاً يرزق وإنَّه مقيم بجدَّة، ولم يكن قتل هذا الضابط لمدحت خنقاً كما كنَّا نسمع، بل قبض على أنثييه واستلَّهما بقوّة عصبه، فبرد مدحت في مكانه، ثم عادوا إلى الداماد فحاول أن يجاحش عن خيط رقبته، ولكنَّهم صرعوه وأزهقوا روحه، ولم يستسلما للموت بدون صراخ، بل استغاثا بالجيران الذين بيوتهم مجاورة للقلعة، فصاح النساء بالذين في القلعة ووبَّخنهم ودعون عليهم، واشتدَّت الولولة، إلا أنَّ ذلك لم يمنع قيام القتلة بإنفاذ الأمر.
وأمَّا خير الله أفندي شيخ الإسلام فلم يمسُّوه وبقي في القلعة إلى أن مات، وتزوَّج وهو بالقلعة وولد أولاداً وعاش طويلاً، ودُفن مدحت ومحمود الداماد بتربة الحبر ابن عبَّاس، ولكنَّ رئيس البلدية قال لي إنَّهم لا يعلمون في أيَّة زاوية من الجبَّانة كانت مراقدهما، وقد جاء بعض الأتراك بعد إعلان الدستور العثماني وبحثوا عنهما وبنوا لهما قبرين حيث رجَّح الناس أنَّه وقع دفنهما.
وأمَّا قطع رأس مدحت وإرساله إلى السلطان عبد الحميد في الآستانة كما هو شائع فلا يعلم هؤلاء الرواة شيئاً عنه.ذكرنا هذه الواقعة لأنَّها تاريخية مهمَّة.
وكان الفراغ من تبييض هذا الكتاب بمدينة لوزان من بلاد سويسرا لأربع خلون من ذي الحجَّة سنة 1349 موافق 22 أبريل سنة 1931 والحمد لله أوَّلاً وآخراً. وصلَّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
*زهير
12 - نوفمبر - 2008
 1  2