أيها الأساتذة الكبار الأفاضل ، أحييكم جميعا أطيب تحية ، وأصرح بأنني أفيد من علمكم الشيء الكثير ؛ فشكرا لكم ، وأثابكم الله الخير العميم .
وإن لدي تساؤلات حول معنى التبيين ومعنى والبيان أرجو من حضراتكم أن تبينوا لي حولها ما يريح البال ويهدئ الخواطر ؛ راجيا من حضرة الدكتور مروان العطية ، الذي عودني على أن يخاطبني بالغالي وبالحبيب أن لا يسلكني في عداد من قال عنهم : فلنتركهم في غيهم يعمهون ، ونعتهم بأن بعضهم من صغار الجهلة ، وبعضهم من كبارهم . . فهو أدرى بحالهم ، وما جرى منهم شيء أجهله ، ولا أظن ما جرى سببه مجرد الخلاف في الرأي أو في تعدد المفاهيم . فالذي يقول بأن كتاب الجاحظ هو البيان والتبيّن ، أو يقول بأنه البيان والتبيين ، فلن يرقى قوله إلى أن يكون بديهية من البديهيات أو مسلمة من المسلمات التي لم تسلم هي نفسها من الشكوك ، فقد سبق للإمام أبي حامد الغزالي ، مثلا، أن شك فيها ، وطالب عقله بدليل على صحتها ، وما أراحه مما كان فيه إلا النور الذي قذفه الله في قلبه ، كما قال هو في أحد كتبه ، الذي يمكن أن يكون " المنقذ من الضلال" . وأنا بين أيديكم بحال المتسائل الباحث عن الحقيقة ، ولن أكون مكابرا جاحدا الأدلة القطعية بحال ؛ فكونوا كالنور ينير ظلام العقول ؛ فيجلو عنها ما ران عليها من قلة المعرفة .
أبدأ بالسؤال : إذا كان البيان هو التبيين بعينه كما ذكرتم عن المرحوم الشيخ العلامة عبد السلام هارون ، فهل يصح لنا أن نقول : إن من التبيين لسحرا بدلا من إن من البيان.. أو إن الله تعالى عليه تبيين القرءان بدلا من بيان القرءان ، أو علم الله الإنسان التبيين بدلا من علمه البيان ، مع بقاء المعنى كما هو؟ وإذا كان ذلك غير جائز ، فما السبب؟
وما دمنا بحاجة إلى تبيّن البيان ، فإن البيان ليس بينا بنفسه في جميع الأحوال بالنسبة لجميع المتبينين ، فهم ليسوا سواء في مقدار التبين وعلو درجته وكيفيته ؛ فيبقون في حاجة لمن يقوم بتبيين ذلك البيان ، ولولا ذلك ما كانت هناك مئات الكتب التراثية والمعاصرة ، التي تقوم بهذه المهمة ، وأول هذه الكتب كتاب الجاحظ الموسوم بالبيان والتبيين ، أو بالبيان والتبيّن ، والذي قام صاحبه بتبيّن البيان لمقدرة اشتهر بها ، وملكة منحها الله إياها ، واطلاع واسع على مختلف العلوم ، ثم قام بتبيينه للناس .
والتساؤل الأول الذي يتبادر إلى الأذهان عند مطالعة موضوع اسم كتاب الجاحظ هو : كيف غفل عشرات ، بل ربما مئات المشاهير من الأدباء والشعراء والمؤرخين والمحققين عن أن البيان هو التبيين!! علينا إذن أن نجد إجابة معقولة لهذا السؤال ، والتي يمكن أن تكون مخرجا معقولا وسليما في نظر المتسائل لأولئك المئات .
ومن المحتمل أن كلمة البيان في عنوان الكتاب تعني اسم علم على الفصاحة واللسن ، أو الحال التي ينبني عليها النطق والمنطق ، ولم يُقصد إلى معناها اللغوي الذي يعني الإيضاح بعد خفاء كما هو التبيين؟ وعلى هذا ، فإن الجمادات نفسها تشارك الإنسان في هذا المعنى من البيان كما قال الجاحظ نفسه في كتاب " الحيوان " : " ... فالجمادُ الأبكمُ الأخرسُ من هذا الوجه، قد شارَكَ في البيان الإنسانَ الحيَّ الناطق..."
وفي " سر البلاغة وسر البراعة " يقول الثعالبي ؛ متمثلا أنموذجا بليغا يصلح في نعي الكتاب والأدباء : " ... شابت بعده لمم الأقلام، وجفت غرر الكلام. قامت نوادب الأدب، وتعطلت حوالي الكتب. قد نضب ماء الفضل، وركدت ريح العقل، وصدئ رونق التبيين والبيان، وانثلم حد القلم واللسان .." ، فهل يعقل أن الثعالبي لا يفرق بين التبيين والبيان؟! كان يكفيه أن يقول : " وصدئ رونق البيان " ، أم أن تكرار الكلمة بنفس المعنى مع اختلاف الجرس نوع من البلاغة في القول؟
وكذلك أذكر مثالا على المقدرة على البيان بمعنى جودة المنطق الملون بالحجة الباهرة ، وقد طالعته في " أسرار البلاغة للإمام عبد القاهر الجرجاني ، وهذا المثال يروح بالبيان بعيدا عن معناه اللغوي المباشر حين يبين لنا مقدرة ابن المعتز العجيبة على ذم القمر مثال الروعة والجمال . يقول الجرجاني : " ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب قولُ ابن المعتزّ في ذمّ القمر، واجتراؤُه بقدرة البيان ( لاحظ أن البيان ذو قدرة) على تقبيحه..." ، ثم يورد أبياتا لابن المعتز :
يا سارقَ الأنوار من شَمْس الضُّحَى | | يـا مُثْكِلي طيبَ الكَرَى iiومُنَغِّصِي |
أمّـا ضـياء الشمسِ فيك iiفناقصٌ | | وأرَى حَـرَارةَ نـارِهـا لم iiتَنْقُصِ |
لـم يَـظْـفَرِ التشبيهُ منك iiبطائِل | | مُـتـسَـلِّـخٌ بَهَقاً كلَوْنِ iiالأَبْرصِ |
إن من الممكن أن الخلاف في اسم كتاب الجاحظ نتج عن الخلاف في معنى البيان ومعنى التبيين لا عن الغفلة عن أن البيان من معانيه التبيين بالمعنى المعجمي ؛ ولكن من الجائز أن الخلاف يعود إلى كون البيان له معنى لغوي وله معنى اصطلاحي . فمن قصد المعنى اللغوي قال بأن البيان عين التبيين ، ومن قصد الاصطلاح فرق بينهما . ولو رجوت واحدا من حضراتكم أن يبين لي بيان أهل البوادي ، وكيف هم في بيانهم إلى الفطرة أقرب ، وبصدق التعبير عن الطبع ألصق ، لما كان رجائي ينصب على معنى البيان الذي هو الوضوح بعد خفاء أبدا .
بقي أن أسألكم عن المخطوطات المتعددة للكتاب الواحد ؛ آخذا بالاعتبار سهو الناسخ أو غفلته أو عدالته أو طريقة فهمه النصوص ، أو كلها مجموعة ، ولكن بعيدا عن التزييف المتعمد والادعاء بوجود مخطوطات معينة زورا وبهتانا ، هل تعد النسخة الأقدم دليلا قاطعا على أنها هي الأصح مع غياب الأصل الذي هو من إملاء المصنف وتحت رعايته ، أو مما كتبت يده هو نفسه ؟
ومما يقلق بالي ولا أجرؤ على الخوض فيه ، لخفة ميزان بضاعتي في العلم عموما ، وفي علوم اللغة بالذات ، ألا وهو الترادف في المعاني مع اختلاف الألفاظ ، فكل ما أعرفه أن هناك من قال بالترادف ، وهناك من قال: لا ترادف . وأبحث في القرءان الكريم فلا أجد لفظا واحدا له نفس معنى لفظ آخر . ولا أعني بالترادف إطلاق اسم على مسمى عند قوم يختلف عما أطلقه عليه قوم آخرون .
أكتفي بهذا القدر حتى لا أطيل عليكم ؛ شاكرا حضراتكم على ما نستفيده منكم ، وشاكرا للوراق خاصية البحث في النصوص ؛ فهي نعمة يا لها من نعمة! .