هذا نص نادر، عثرت عليه في مقدمة (تاريخ ابن خلدون) نشرة الوراق (ص 19) وهو نفسه (مقدمة ابن خلدون) ولكن إدارة الوراق الأولى كانت ترى (ولا أدري لماذا ؟!) حذف مقدمات الكتب، فحذفوا (مقدمة المقدمة) وبقيت مقدمة التاريخ، لأنهم غيروا رأيهم فيما بعد، وقد حكيت هذه القصة في مكان آخر من هذه المجالس. ويصف لنا ابن خلدون في هذا النص الحروف التي استخدمها في كتابة ما لا مقابل له في حروف العربية من حروف البربر والفرنجة، وليت يتمكن الأساتذة من الوصول إلى صفحات مخطوطة المقدمة بخط ابن خلدون أو من احتذى حذوه، وقد نبه ابن خلدون أنه لم يكن هو الذي ابتكر هذه الطريقة، وإنما قد سبقه إلى ذلك علماء القراءات، وأنقل لكم هنا كلامه على طوله، لما فيه من الأهمية، قال: وقد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا. اعلم أن الحروف في النطق كما يأتي شرحه بعد، هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان مع الحنك والحلق والأضراس، أو بقرع الشفتين أيضاً، فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع، وتجيء الحروف متمايزة في السمع، وتتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر. وليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف. فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى. والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفاً كما عرفت. ونجد للعبرانيين حروفاً ليست في لغتنا، وفي لغتنا أيضاً حروف ليست في لغتهم، وكذلك الأفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم. ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها، كوضع ألف وباء وجيم وراء وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين، وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملاً عن الدلالة الكتابية مغفلاً عن البيان، وربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده. وليس ذلك بكاف في الدلالة، بل هو تغيير للحرف من أصله. ولما كان كتابنا مشتملاً على أخبار البربر وبعض العجم، وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا، اضطررنا إلى بيانه ولم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه، لأنه عندنا غير واف بالدلالة عليه. فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه، ليتوسط القارىء بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين، فتحصل تأديته وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام، كالصراط في قراءة خلف، فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي، فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي، ودل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين. فكذلك رسمت أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا، كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف، مثل اسم بلكين فأضعها كافاً وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين، فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف. وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر. وما جاء من غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معاً، ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك، فنكون قد دللنا عليه. ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا وغيرنا لغة القوم. فاعلم ذلك، والله الموفق للصواب بمنه وفضله. |