أثر اللغة البربرية (7) كن أول من يقيّم
الختــــام ولو قصدت إلى التوسع في التمثيل والاستقصاء في الاستشهاد لسقت كثيرًا مما لا يتسع له حصر ويضيق عنه الوقت. وإنما أردت التدليل والإبانة، فاكتفيت بما أوردت. ولو كان كلامي في غير أثر البربرية في العربية ، لعقبت على كل كلمة بذكر بيئتها الجغرافية، وعرضت لأصلها والأطوار التي مرت بها وصلتها بغيرها، ولكن لهذا بحثًا مستقلاًّ نتناوله إذا أردنا الكلام على البربرية وحدها، عندها يتسع المجال للتشعب والإسهاب. وأعود إلى حديثي عن أثر البربرية في العربية فأذكر أن تلك النتائج التي انتهيت إليها والتي هي ذات التأثير في اللغات، أعني الظروف الجغرافية، والظاهرة الاجتماعية، ثم خفة الأسماء وسهولة الانتفاع بها دون الأفعال والحروف. فلكل من هذه الثلاثة أثره المحسوس فيما نحن بصدده من تأثير البربرية على العربية ودليل ذلك: (1) أن أثر اللهجات البربرية في العربية أشد وأقوى في المغرب الأقصى منه في المغرب الأوسط، وهو في الأوسط أكثر منه في المغرب الأدنى. وسنده ما قدمنا من أن اللغة كلما بعدت عن مركزها الأصلي ضعفت غلبتها وقوي عليها غيرها. وأن البربرية اتخذت من المغرب الأقصى معقلها الأخير في فرارها أمام زحف العربية. (2) أن الحضر كانوا أكثر أخذاً للكلمات البربرية، وذلك لأن البدو أبعد عن الاختلاط وأحفظ لموروثهم، وعلى العكس من هذا الأمر في الحضر، فهم في اختلاط مستمر ثم هم يتطورون بتطور المدنيات. ومعلوم أن اللغات تساير المدنيات وتأخذ منها. (3) أن الكثرة من الأصل البربري في العربية من الأسماء والقلة من الأفعال والحروف والصيغ والتراكيب. ثم نضيف إلى ما سبق ملاحظات شتى: (1) أن القدر الأوفى مما دخل العربية من البربرية إنما كان لمسميات جديدة من نبات أو حيوان أو غيرها لم يعرفها العرب من قبل، فحملوا على أخذها حملاً ليسدوا فراغًا لم يجدوا في لغتهم ما يسده. (2) ونجد أن أكثر تلك الأسماء ذات دلالة ذاتية، والقليل النادر منها ذات دلالة معنوية، والندرة في المعنويات دليل على أن الثقافة العربية أوسع نطاقًا وأبعد مدى. ولو مكن لي أن أفيض في البحث عن تأثير العربية في اللهجات البربرية، لوصلت إلى ما يأتي: وهو أن هذا التأثير أفسح مدى من تأثير البربرية في العربية، وسبب هذا هو ما أشرت إليه وهو سيادة الثقافة والمدنية العربيتين على البربرية. (3) وقد يسبق إلى الظن أن كل ما أوردت من الكلمات البربرية للتمثيل والاستشهاد ينتهي إلى أصل بربري، بل قد وجدت منه ما إلى اللاتينية أصله أو من العربية مأخذه. مثال ذلك "قطّوس" فإنها من أصل لاتيني، ثم "أقراب" فإنها من الكلمة العربية " قراب " ثم زادت عليها البيئة ما يجعلها منها. (4) وقد ذكر بعض المستشرقين كلمات رجعوا بها إلى أصل بربري رأيت ألا أجعلها في مساق تمثيلي لأن لي معها رأيًا آخر، مثال ذلك "زبّوج"، التي هي بمعنى الزيتون فقد قيل عنها إنها مأخوذة من البربرية، وأكاد أرى أنها عربية الأصل وأنها ترجع إلى كلمة زعبج العربية، وعنها تحورت بعد، ففقدت عينها طبقًا لقانون صوتي للغة البربرية، وكذلك الحال في "كركور" التي بمعنى الحجارة المتراكمة فقد قيل عنها هي الأخرى إنها من أصل بربري ونميل إلى أنها من أصل عربي وهو " قهقور" وعنه تشكلت . وهذا البحث جزء من كل، يمت إلى موضوع واسع شغلت بدراسته – ولا زلت مشغولاً به – أريد أن أخلص منه إلى نتائج عامة عن تأثر اللغات بعضها ببعض، فعندي أن اللغات مهما بعد ما بينها في الظاهر، لها صلات بغيرها، وإن قدر للأمم أن تعيش في معزل عن غيرها بعض الوقت فقد قربت الحياة بينها أكثر. وما من شعب إلا وحمل إليه كما حمل عنه. والأمم والشعوب كالأفراد لا تهدأ لها صلة ولا تسكن لها ثائرة . وأملي أن أتبع هذا البحث الجزئي بغيره فأتناول اللهجات العربية في بيئاتها المختلفة وأفرد المصرية الشائعة اليوم ببحث أكشف فيه عن تأثرها بالمصرية القديمة. وتعرفون أن لعلم اللغة أسلوبين، أحدهما نظري والآخر تطبيقى، فأولهما: ينظر للغة كأداة للنطق والتفاهم من غير خضوع للزمان والمكان ، وموضوع هذا البحث دراسة كل لغة كوحدة مستقلة، وتعرف أسباب تطورها الذاتية من غير نظر إلى مؤثر خارجي . وثانيهما – وهو التطبيقي – فإنه يعد كل لغة كجزء من مجموع اللغات، فإذا تعرض لها ببحث أو دراسة، رجع إلى اللغات من حولها والعلاقات بينها وبين بعضها، والتفت إلى الزمان والمكان ليعرف أثرهما في ذلك اللقاح، ولكل لغة تاريخها الموغل في القدم، وهذا الماضي الحافل بالأحداث التاريخية لا يمكن لدارس أن يستغني عنه، إذا أراد أن يفهم خصائص هذه اللغة على المنهج السليم. كما أنه لا يمكن أن نفهم خصائص إنسان ما، من غير رجوع إلى ماضيه وأحداثه، وكذلك أثر البيئة في حياته. |