الشيء بالشيء يُذكر كن أول من يقيّم
أخي زين الدين رعاه الله وطيّب أوقاته بالرضا والعافية: أولاً أحب أن أذكّرك أن لي قرابة سبقت مع إخوتنا الأمازيغ في شمال أفريقيا، ولعلك تذكر ذلك. إنما هنا ذكرتني بموقف لا أنساه ما حييت: في معرض للطباعة Drupa بمدينة دوسلدورف بألمانيا جمعتني الأقدار برجل تونسي فاضل، كان في الخمسينات من عمره، وكان كما فهمت معاون وزير في تونس. لمّا التقينا كان الحديث يجري مع بعض الأصدقاء السويسريين باللغة الفرنسية، إذ كانوا من لوزان. قال لي الرجل بالفرنسية: إني ذاهب إلى موقف السيارات لأجلب بعض الأوراق، فهل لك أن ترافقني لأحكي لك أمراً فيه تعقيب على الموضوع؟ حباً وكرامة، ولم لا؟ المهم.. لم أكن أتوقع أن نتابع الحديث بالفرنسية، طالما لم يعد ثمة حاجة لذلك.. حسن، راح الرجل يتحدث بالعربية (إنما باللهجة التونسية)، وكان محتدماً بعض الشيء ويسرع في حديثه.. مضت دقيقة، دقيقتان.. والله العظيم لم أفهم كلمة واحدة مما يقول!! بذلت غاية الجهد، ولكن عبثاً.. فهمت فقط ما يلي: في، لكن، و، بالإضافة إلى كلمة: غدوة (عندنا نقول: بكرة). خجلت أن أطلب إليه الحديث بالفصحى أو بالفرنسية، لكن المعضلة كانت: بماذا أجيبه؟ ليست لدي أية فكرة عما يقول.. فرحت أكتفي بالقول: mais c'est vrai? أو: Ah, c'est triste أو: c'est incroyable، أو عبارات مشابهة. لكنني حقاً تألمت: كيف نستطيع أن نتفاهم مع الإنكليز أو الفرنسيين والألمان والطليان، ثم نعجز عن التفاهم فيما بيننا بسبب اللهجات؟ لكن القصة الأغرب كانت في مؤتمر جرى بإستانبول حول فترة التنظيمات الخيرية.. كانت هناك باحثة أميركية تتحدث أمام الجميع وهي تستعمل التعبير الأميركي المألوف للاستطراد: am, am, am .. هنا بدأت الابتسامات على أوجه الحضور الأتراك، فالكلمة في التركية بذيئة جداً جداً.. لم تلاحظ السيدة وتابعت، حتى اضطررتُ لكتابة وريقة دفعتها لها، فراحت تقرأها وسط القهقهات التي بدأت تتعالى.. خاصة أن الأميركيين عندما يتحدثون فهم يفخمون مخارج الأحرف تماماً. لكنها لم تدر مدى غلطها الشنيع لمّا حاولت أن تعبّر عن امتعاضها ممّا جرى بأن قالت ضاحكة في محاولة لتدارك الموقف: Wow.. I’m sick فثارت عندها عاصفة عارمة من الضحك المتواصل أمام دهشة السيدة المسكينة.. سألتني: وما الذي جرى الآن؟ قلت لها: بكل بساطة حاولتِ التملّص فأوغلتِ في المشكلة، فالعبارة الأخرى التي قلتيها تعني في التركية كلمة أشدّ وقعاً وبذاءة من الأولى، فانطبق عليك المثل العربي: الذي جاء شرّ من الذي ذهب! ممّا أحب إضافته أن ثمة مشكلة كبرى لدينا في العربية بالتعبير عن الحرفين الصوتيين: e و o ، وغالباً ما يتم لفظ الأسماء الأجنبية بطريقة بعيدة جداً عن حقيقتها.. لكن هذه على نقيض معضلة حرف G لا يمكن تداركها إلا بكتابة الاسم باللاتينية كاملاً.. كان القائمون على المطبعة الكاثوليكية في لبنان حاولوا في معاجمهم قديماً رسم بعض الحروف الصوتية الفرنسية (خاصة é أو u أو eu أو ou) فوق حروف العلّة العربيّة في محاولة لضبط نطق الكلمات الأجنبية، لكن هذه المحاولة فشلت ولم تلق نجاحاً أو تقبلاً على الإطلاق. وكما ذكرت مسبقاً، الأتراك استفادوا من الأبجدية اللاتينية (برسمها الألماني تحديداً) في ضبط الأسماء والكلمات لديهم بصورة أدق بكثير من الحرف العربي، هذا رغم أن اللغة التركية لا تمت بصلة إلى اللاتينية بل هي دخيلة عنها قلباً وقالباً. الأمر ذاته يذكرني باللغات السلافية، بعضها اتبع الأبجدية التي وضعها الراهبان كيريل وميتودي (الروسية والبلغارية والصربية)، وهي تعتمد إجمالا الأبجدية اليونانية (ما خلا الحروف الخاصة: يا Я ، يو Ю ، الجيم المرققة Ж ، الشين Ш ، تش Ч ، تس Ц . ومن اللغات السلافية ما اتبع اللاتينية: البولونية والتشيكية والكرواتية. لكن هل هناك قاعدة مطلقة؟ أبداً.. فقط نجح علماؤهم في ضبط لفظ لغاتهم بهذه الحروف، ولكن مع ذلك تجد في الروسية أغلاطاً في اللفظ الأجنبي بشكل يدعو إلى الاندهاش.. أعجب حرف لديهم هو حرف الواو O السهل فرغم أن بوسعه نطقه بكل وضوح ومبالغة: آلووو، شتووو، خراشووو.. فهم في كثير من الكلمات ينطقونه (دونما داعٍ) ألفاً صريحة: فكلمة Loto اللاتينية ينطقونها: لاتو. واسم الرئيس الفرنسي يقولون فيه: فرانسوسكي بريزيدنت نيكالا ساركازي. لماذا؟ العلم عند الله وحده. على ذلك: الحل الوحيد يبقى في كتابة الاسم الأجنبي بالعربية وباللاتينية معاً. ولك أطيب سلام وتحية أخي الكريم. |