في مقال بعنوان: (مفردات المكان لدى شعراء من الإمارات) كن أول من يقيّم
في مقال بعنوان: (مفردات المكان لدى شعراء من الإمارات) المنشور في موقع(دار الخليج): الأمكنة الجاذبة والطاردة بالانتقال إلى الشاعرة صالحة غابش، نرى أن قصيدتها تُظهر مدى غناها بالأمكنة، وهي في الغالب الأمكنة المغلقة والضيقة والمحصورة بين الجدران والحواجز ووراء السواتر. أمكنة تبدو انعكاسات لرغبة عالية في الابتعاد والاعتكاف والاعتزال. ومن المعروف أن الأمكنة المغلقة هي تعبير عن مثل هذه الرغبة. ويستطيع قارئ قصائد صالحة أن يجد التمثيلات المتعددة لرغبتها في الهروب من العالم الذي فقد براءته. مقهى المهزومين، ردهات المدن المعزولة، هضاب الرؤية، خريطة المتاه، سواحل الفراغ، المغاصات، أحراش الشتاء، أمواج الألق، كثبان الصحراء، بيوت مهجورة، غابة قلقة، مدينة تعيش البحر، زجاجة القصيدة الخانقة، عرش العفة، حدائق، منابر، ظلال الشجر، القرية، القدس، النوافذ المغلقة.. بلاط المتاهة/ القصر، اللؤلؤ المتمحور في امرأة/ شارقيّتها حلم يتمهل في أعين العابرين.. ارتجاف تحت نوافذ قصر/ تزوره حمى الهزيمة.. حافة الخوف.. الخ، هذه هي بعض عوالم قصيدة صالحة غابش وأمكنتها، منذ بداياتها في مجموعتها الأولى “بانتظار الشمس” (1992)، و”المرايا ليست هي” (1997)، حتى “الآن عرفت” (1999)، وصولاً إلى آخر قصيدة في مجموعتها الرابعة “بمن يا بثين تلوذين؟” (2002). وتنقسم العوالم/ الأمكنة الخاصة هنا قسمين رئيسين: عوالم الأمكنة الأليفة والحميمة، وهذه في الغالب تنتمي إلى قيم ومبادئ وأفكار سامية كما أنها تعبر عن هذه المبادئ والقيم والأفكار، فهي أمكنة الطفولة والبراءة، وليس بالضرورة طفولة الشاعرة، بل ربما طفولة العالم نفسه. وثمة عوالم تنتمي إلى مجموعة الأمكنة المرفوضة والنابذة والطاردة، وهي الأمكنة التي تجسد التحولات السالبة وتعبر عنها ليس حولي غير أكواخ الرمالِ وقفارات رحيل وزيارات الليالي وعيون خلف أحراش الشتاء كل درب في رحاها لقرى الدفء يضيع لم يباغتني النسيم رافعاً وجهي إلى بيت النجوم فأراك نستفتح بالغابات وما تنطوي عليه وما يدل عليها. وأول ما يقودنا إلى الغابة استعارة الأحراش للشتاء في قولها “عيون خلف أحراش الشتاء” التي تعبر فيها الشاعرة عن علاقة خاصة بالسماء وخالقها. وحيث تغيب الأشياء كلها في لحظة ولا يبقى سوى وجهه تعالى. ولكن لا شيء يحسم مستوى الرمزية في هذا النص الذي يحيل إلى الله، أو القوة العظمى المتخفية في ذات الخالق: غابتي لك هيأت أشجارها وعصافيرها ومسافات ماء تسير بمجهول أقدامها.. وتمتزج في قصائد الشاعرة صور الكثبان العطشى بمشاهد الحقول النائمة والمواسم المختبئات وراء التلال، وتحضر من الذاكرة المتأرجحة رائحة الشتاء والموقد والمهرة والسائس والبيوت المهجورة سوى من الغبار، وتفوح رائحة الطين في الحقول البعيدة. وتحضر ذكريات دهشة السفر البحري وحلم الأزرق المفتوح على المجهول عمقاً واتساعاً، لتنتهي الرؤى عند المقولة الكبرى في سياق الغربة. وفي الرحلة من بيت النجوم، إلى بيت النوارس، حتى بيت الشِعر الذي تبنيه الشاعرة “ليسكنه الفقراء”، وصولاً إلى البيت الذي “تسكنه شاعرتان توّهتهما قليلاً أرجوحة الذاكرة القديمة”، وليس انتهاء بتلك البيوت المهجورة إلا من الغبار. ثمة الكثير من الصور التي تحيل إلى بيوت أليفة مرغوبة ومشتهاة، بيوت ربما كانت هي الفردوس المفقود الذي تهجس به شاعرة تشتهي أن تختلي بنجومها ونوارسها وصلوات عشقها العلويّ النقيّ المتعفف عن الدنيوي. هناك أمكنة أخرى تحضر في شعر صالحة، ولكنها ليست على القدر نفسه من الحضور الذي تمتلكه الأمكنة السالفة الذكر. ف”الفضاء” مكان من الأمكنة التي تمتلك حضوراً ما في القصيدة، وهو ليس الفضاء المخصص للطيور الطليقة، بل هو فضاء الشاعرة و”بطلة” قصيدتها. فضاء عرفته القصيدة وعاينت ملامحه وأبعاده كي تحيلنا إلى سفر ما، حتى لو كان سفراً “في غابتك القلقة”. حيث الغابة فضاء نفسي ومعنوي ينفتح على دلالات عدة كما ذكرت. وتبرز “الخيمة” كمكان آخر، نقيض البيت في أشياء وشبيهته في أمور أيضاً، وهي تحضر في صور متعددة من الماضي المبتعد بقسوة، وتجيء بدلالات كثيرة، وتمنح ظلالاً مختلطة للأشياء: من أين جئت؟ كيف مزقت يداك “خيمتي”؟ فالخيمة الممزقة ليست أقل من صورة من صور الذات التي سكنت هذه الخيمة، وشكلت الخيمة جزءاً من ذكرياتها، وهي شوق إلى ماض لم يمضِ تماماً، بل هو عالق في الذات وأعماقها، هذه الذات التي ترفض المدينة والعصر وتتشوق لخيمتها. تقول امرأة القصيدة: لعلني أنظم فوق خيمتي التي استبحتها ستائر الرجز وموقدي المحفوف بالشتاء ينتظر ان تنحني خطوتاك عن مسار القافلة يا حادي الرحيل ما زلت قرب موقد الشتاء انتظر. |