حوار(11):مع المتنبي كن أول من يقيّم
حوار(11):مع المتنبي شيخي: أبو الطيب أحمد المتنبي-كما يقرر الأسلاف والأخلاف- قال الشعر صبيًّا. نظم أول أشعاره و عمره 9 سنوات . اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكرًا. إنه شاعر حكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة المعاني المبتكرة، في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه. و تدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ترك تراثًا عظيمًا من الشعر، يضم 326 قصيدة، تمثل عنوانًا لسيرة حياته وعصره؛ فقد مثل شعره حياته المضطربة: فذكر فيه طموحه وعلمه، وعقله وشجاعته، وسخطه ورضاه، وحرصه على المال.... كما تراه يحدثك عما كان في عصره من ثورات، واضطرابات، ويدلك على ما كان به من مذاهب، وآراء، ونضج العلم والفلسفة. كما تجلت القوة في معانيه، وأخيلته، وألفاظه، وعباراته.وقد تميز خياله بالقوة والخصابة فكانت ألفاظه جزلة، وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه، وقوة معانيه، وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقًا ولا يعنى فيها كثيرًا بالمحسنات والصناعة.... والمتنبي شاعر الطموح والبطولة، هو أكبر رموز الشعر العربي وأكثرها تداولاً بين الناس بعد أكثر من ألف عام على وفاته. شاعر ملأ الدنيا بشعره، وذاع بين العالمين ذكره، من يجهله يجهل الشعر برمته......... إنه مهندس البناء الشعري الضخم , الفاخر ..وهو صاحب مصنع أجود المنتجات الشعرية التي ألبست الشعراء بعده, وأدفأت المحتاجين إلى اللغة الجميلة . وهو مخرج أروع اللقطات ثلاثية الأبعاد التي تعجز عنها أحدث الكاميرات الرقمية. وهو كبير الاستشاريين النفسيين في الطب الشعري العربي. مثلا :"لا يوصي أطباء النفس المعاصرون بأكثر من هذا ": لا تلق دهرَك َ إلا غير مكترث ٍ ** ما دام يصحب فيه روحك البدن إنه خلاصة الثقافة العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة. هذه الفترة كانت فترة نضج حضاري في العصر العباسي ، وهي في الوقت نفسه كانت فترة تصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العالم العربي . فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء، وقادة الجيش ومعظمهم من الأعاجم، ثم ظهور الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام ، ثم تعرض الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية ثم الحركات الدموية في داخل العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة.... ولك مع المتنبي-شيخي- جهد أكاديمي رائع حول موقف المستشرقين منه، كما لك عنه كتاب(ظل المتنبي) فما مجمل رؤيتك فيه شاعرًا؟ أجاب الشيخ-من خلال كتابه(ظل المتنبي): المتنبي فتح لي أفقًا جديدًا على الكتابة...وعلى الحياة. ما من شاعر شرّق ذكره وغرّب كأبي الطيب، وبذلك نطق شعره؛ فما من شاعر عربي شغل العرب والعجم كالمتنبي،وما من شاعر بسط ظله على الشعراء قديمًا وحديثًا كالمتنبي. وحسبك بشاعر يغرف من معينه شاعر الشرق سعدي الشيرازي، وشاعر الغرب غوته... ولم يكن ذلك لبخت اتفق له، ولا حظ عرض له، كما يزعم بعض من يتعصب للأرجاني، فما كان للبخت – وحده – أن يجعل ظل هذا الشاعر الكبير يمتد ويتطاول ليغطي المستقدمين والمستأخرين على السواء، لكنها الموهبة والنباهة، وقد كان أبو الطيب موهوبًا ومتنبهًا.وما عبثًا قيل قديمًا:"بدئ الشعر بملك وختم بملك" يعنون امرأ القيس والمتنبي، على من ذهب ذلك المذهب. وقال بعض المعجبين بشوقي من المعاصرين:"بدأ الشعر بأحمد وخُتِم بأحمد"، فكان المتنبي حاضرًا على كل حال، وصرف النجفي ذلك إلى نفسه، وسلم لأبي الطيب بنبوة الشعر، فقال: إلى الشعـــــر يأتي كلّ ألفٍ مجـدّدُ فبعد نبيّ الشعْــــــر أحمدَ أحمـــــدُ حماني من التقليد ما عشتُ أنني إذا رمتُ أمراً لم أجد من أقــــلّد إنه ما أتى شاعر قومه ببدع من القول إلا انقسم الناس فيه ما بين مفْرط ومفَرّط.وكذلك انقسم الناس في المتنبي ما بين مغال في الثناء ومفرط في الانتقاص. كان المتنبي كسلفه حبيب كثير التوكؤ على القديم ، لا لمجاراة القدماء، إذ لو كان الأمر كذلك لما حفظ للشاعر ذكر، بل كان ينظر إلى وراء من أجل التجاوز وصنع أفقه الخاص الذي يخترق حجب الحاضر إلى المستقبل. والذي يسعى إلى التفرد وقد أوتي من الموهبة ما يؤهله لذلك لا يرضى إلا أن يبسط ظله لا على معاصريه ولاحقيه فحسب، بل على سابقيه أيضا، وذلك بأن يعيد صياغة معانيهم ويضيف إليها من خصوصيته ما يجعله أحق بالمعنى منهم، ولذلك يظلع على أثر الشاعر من يحصر حديثه عند هذه الظاهرة في باب السرقات ولا يصنع شيئا.وقد يبدو هذا الحكم مستغربا، ولكني أرجو محو الاستغراب بالبيان. قال ابن رشيق:"قال النابغة يذكر طول ليله: كليني لهمّ يـــــا أميــــــــــمة ناصب وليلٍ أقـاسيــــــه بطـــــيء الكواكب تـطاول حتـى قلـــت ليس بمنقـضٍ وليـس الذي يـرعى النجـوم بـآيـــــب وقال أبو الطيب في وزنه ورويه: أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب وردوا رقادي فهو لحظ الحبــــــائب فإن نهــاري ليلـــة مدلهــمّةٌ على مقلـــة من فقدكم في غيــاهب فأنت ترى ما فيه من الزيادة وحسن المقصد، على أن بيتي النابغة عندهم في غاية الجودة." والذي يعنينا من قول ابن رشيق أمران:أولهما قوله:"الزيادة وحسن المقصد"،وهو ما يجعل الشاعر جديرا بالتقدمة، خليقا بأن يكون أولى بالمعنى من المتقدم، والأمر الثاني إقراره بأن بيتي النابغة – عندهم – في غاية الجودة.فإذا كان بيتا النابغة في غاية الجودة، وهما بدون ريب كذلك، فما عسانا نقول عن بيتي المتنبي وفيهما زيادة وحسن مقصد؟ فرض عبقريته فرضًا على اللغة العربية بما أضاف إليها من ثروة طائلة في محض أساليب البيان، مما لا تزال حيويته تنبض إلى اليوم.. وقد قال: ما نال أهـل الجاهلية كلّهم شعري ولا سمعت بسحري بابل" الحيوية.لعلها الكلمة المفتاح التي تفسر لنا سر تفرد المتنبي، وسر بقاء شعره لفظا ومعنى، وفناء - أو نسيان - شعر سواه.ليست العبرة في المعنى وحده، بل في البناء والصياغة، وزيادة المبنى زيادة في المعنى كما قرر الأسلاف. والحيوية هي التي جعلت حكم المتنبي خالدة، بالرغم من أن غيره ربما انفرد في شعره بالحكمة، إلا أن شعره لم يرزق من السيرورة ما رزقه شعر أبي الطيب.لقد كان شعر صالح بن عبد القدوس كله – على سبيل المثال - في الحكمة، فما بال حكمته لم تشع كما شاعت حكمة المتنبي؟ السبب هو أن صالح بن عبد القدوس ساق حكمته سوق تعليم، فتزاحمت المعاني،وتوالت، يأخذ بعضها برقاب بعض، فقل تداولها، وجاءت حكمة المتنبي أبياتا تتخلل شعره، كأنها الملح في الطعام،مليئة بالحيوية، مرتبطة بتجربته الإنسانية، ملتصقة بذاته أيما لصوق، فاستساغها الناس فجرت على ألسنتهم. كان بين يدي أبي الطيب كنز من التراث ضخم ينظر إليه، ويقلب فيه النظر، ويستفيد من درره، إلا انه كان لا يقبل إلا على ما يلائم طبعه، وينسجم مع خلقه، ويوافق شخصيته،ويجاري نظرته إلى الكون والحياة، فلم يكن يعنيه الاستزادة من المعاني الحكمية حتى وإن عارضت فلسفته أو كان لها من نفسه نفور ومن روحه إعراض، ولم يكن يرمي إلى الصنعة المجردة ولا الفن الخالص،بقدر ما كان يعنيه البلاغ، بلاغ الرسالة الشعرية والحياتية على السواء،فالصنعة عنده إذن وسلة وليست مطلبا.لذلك كان إذا ظفر عند السابقين بمعنى يخدم رؤيته أو يجليها أقبل عليه يعيد تشكيله بما يطابق رؤيته، وإعادة التشكيل اللغوي يجلي المعنى ويقويه ويزيد فيه.ولكن لم يكن التراث الشعري وحده هو الذي يستهوي الشاعر، فهو إذا ظفر ببغيته في النثر،مثلا ، من خطبة أو مثل أو كلمة شاردة، لم يتردد في الإقدام على ما يريد قال شيخنا محمد بنشريفة:"وقد نقل الوزير أبو القاسم المغربي أن المغاربة كانوا يسمونه المتنبه، وهذا يلتقي مع التعليل الذي نجده في الممتع للنهشلي:(قيل له المتنبي لفطنته).وأشار إلى هذا الرأي ابن رشيق في العمدة.قال الصفدي: (وهذا تحريف حسن من المغاربة،وما يليق أن يطلق عليه المتنبي)، يراجع كتاب:أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة،ص.95 متنًا وهامشًا... صاحب معان مخترعة بديعة، ولطائف أبكار منها لم يسبق إليها دقيقة، ولقد صدق من قال: ما رأى الناس ثانيَ المتنبي أيّ ثان يُرى لبكر الزمان؟ هو في شعره نبيّ ولكـن ظهرت معجزاته في المعاني. أقول: إنني ممن لا يزال يرى في شوقي زعيمًا من زعماء التجديد الشعري في العصر الحديث، وإنني معجب بشعره الذاتي الغنائي بخاصة،ولا يقدح ذلك الطابع فيه بقدر ما يجلي رواءه ويهتك الحجب عن سر إبداع هذا الشاعر الكبير، إلا أن كل ذلك لا يثني المنصف عن القول: إن شهادة شوقي في المتنبي كافية، فإذا أضفنا إلى ذلك النظر في شعر أمير الشعراء، تبين لنا أن قدرا صالحا من الحلل والطرف التي كانت تزين إمارة شوقي كانت مستجلبة من خزانة المتنبي الملكية،وأن أبا الطيب كان يبسط ظله على شوقي في غير ما مواربة، وأن شوقيا على ما له من إبداعه كان لا يتردد في أن يهجم على معاني المتنبي يوشح بها كلامه ويوشي به شعره.... |