البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : توقير الأعلام    قيّم
التقييم :
( من قبل 5 أعضاء )

رأي الوراق :

 د يحيى 
14 - مايو - 2008
لم يخطّ أحد في التراث العربي سطرًا إلا وللعالم الجليل عبد السلام هارون منّة عليه، ويندر أن يتعامل أحد مع المصادر العربية دون أن يستعين بمصدر من تحقيقات الشيخ الجليل؛ فقد قدم للمكتبة العربية عيون التراث مجلّوة في صورة بهية وحلّة قشيبة، وزينها بتعليقات وفهارس دقيقة.
المولد والنشأة
ولد عبد السلام هارون في مدينة الإسكندرية في (25 من ذي الحجة 1326هـ= 18 من يناير 1909م) ونشأ في بيت كريم من بيوت العلم، فجده لأبيه هو الشيخ هارون بن عبد الرازق عضو جماعة كبار العلماء، وأبوه هو الشيخ محمد بن هارون كان يتولى عند وفاته منصب رئيس التفتيش الشرعي في وزارة الحقانية (العدل)، وعمه هو الشيخ أحمد بن هارون الذي يرجع إليه الفضل في إصلاح  المحاكم الشرعية ووضع لوائحها، أما جده لأمه فهو الشيخ محمود بن رضوان الجزيري عضو المحكمة العليا.
وقد عني أبوه بتربيته وتعليمه، فحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، والتحق بالأزهر سنة (1340هـ=1921م) حيث درس العلوم الدينية والعربية، ثم التحق في سنة (1343هـ= 1924م) بتجهيزية دار العلوم بعد اجتيازه مسابقة للالتحاق بها، وكانت هذه التجهيزية تعد الطلبة للالتحاق بمدرسة دار العلوم، وحصل منها على شهادة البكالوريا سنة (1347هـ= 1928م) ثم أتم دراسته بدار العلوم العليا، وتخرج فيها سنة (1351هـ= 1945م).
الوظائف العلمية
وبعد تخرجه عمل مدرسًا بالتعليم الابتدائي، ثم عُيّن في سنة (1365هـ=1945م) مدرسًا بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وهذه هي المرة الوحيدة في تاريخ الجامعات التي ينتقل فيها مدرس من التعليم الابتدائي إلى السلك الجامعي، بعد أن ذاعت شهرته في تحقيق التراث، ثم عُيّن في سنة (1370هـ=1950م) أستاذًا مساعدًا بكلية دار العلوم، ثم أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم النحو بها سنة (1379هـ= 1959م) ثم دعي مع نخبة من الأساتذة المصريين في سنة (1386هـ=1966م) لإنشاء جامعة الكويت، وتولى هو رئاسة قسم اللغة العربية وقسم الدراسات العليا حتى سنة (1394هـ= 1975م)، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1389هـ= 1969م).
النشاط العلمي
بدأ عبد السلام هارون نشاطه العلمي منذ وقت مبكر، فحقق وهو في السادسة عشرة من عمره كتاب "متن أبي شجاع" بضبطه وتصحيحه ومراجعته في سنة (1344هـ=1925م)، ثم حقق الجزء الأول من كتاب "خزانة الأدب" للبغدادي سنة (1346هـ= 1927م)، ثم أكمل أربعة أجزاء من الخزانة وهو طالب بدار العلوم.
كانت هذه البدايات تشير إلى الاتجاه الذي سيسلكه هذا الطالب النابه، وتظهر تعلقه بنشر التراث، وصبره وجلده على تحمل مشاق المراجعة والتحقيق، وبعد تخرجه في دار العلوم اتجه إلى النشر المنظم، فلا تكاد تخلو سنة من كتاب جديد يحققه أو دراسة ينشرها.
ولنبوغه في هذا الفن اختاره الدكتور طه حسين (1363هـ=1943م) ليكون عضوًا بلجنة إحياء تراث أبي العلاء المعري مع الأساتذة: مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد، وقد أخرجت هذه اللجنة في أول عهدها مجلدًا ضخمًا بعنوان: "تعريف القدماء بأبي العلاء"، أعقبته بخمسة مجلدات من شروح ديوان "سقط الزند".
وتدور آثاره العلمية في التحقيق حول العناية بنشر كتب الجاحظ، وإخراج المعاجم اللغوية، والكتب النحوية، وكتب الأدب، والمختارات الشعرية.
أما كتب الجاحظ -أمير البيان العربي- فقد عني بها عبد السلام هارون عناية فائقة، فأخرج كتاب "الحيوان" في ثمانية مجلدات، ونال عن تحقيقه جائزة مجمع اللغة العربية سنة (1370هـ=1950م)، وكتاب البيان والتبيين في أربعة أجزاء، وكتاب "البرصان والعرجان والعميان والحولان" و"رسائل الجاحظ" في أربعة أجزاء، وكتاب "العثمانية".
وأخرج من المعاجم اللغوية: معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس في ستة أجزاء، واشترك مع أحمد عبد الغفور العطّار في تحقيق "صحاح العربية" للجوهري في ستة مجلدات، و"تهذيب الصحاح" للزنجاني في ثلاثة مجلدات، وحقق جزأين من معجم "تهذيب اللغة" للأزهري، وأسند إليه مجمع اللغة العربية الإشراف على طبع "المعجم الوسيط".
وحقق من كتب النحو واللغة كتاب سيبويه في خمسة أجزاء، وخزانة الأدب للبغدادي في ثلاثة عشر مجلدًا، ومجالس ثعلب في جزأين، وأمالي الزجاجي، ومجالس العلماء للزجاجي أيضًا، والاشتقاق لابن دريد.
وحقق من كتب الأدب والمختارات الشعرية: الأجمعيات، والمفضليات بالاشتراك مع العلامة أحمد شاكر، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي مع الأستاذ أحمد أمين، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري، والمجلد الخامس عشر من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني.
وحقق من كتب التاريخ: جمهرة أنساب العرب لابن حزم، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم، وكان من نتيجة معاناته وتجاربه في التعامل مع النصوص المخطوطة ونشرها أن نشر كتابًا في فن التحقيق بعنوان: "تحقيق النصوص ونشرها" سنة (1374هـ= 1954م)، فكان أول كتاب عربي في هذا الفن يوضح مناهجه ويعالج مشكلاته، ثم تتابعت بعد ذلك الكتب التي تعالج هذا الموضوع، مثل كتاب: مقدمة في المنهج للدكتورة بنت الشاطئ، ومنهج تحقيق النصوص ونشرها لنوري حمودي القيسي وسامي مكي العاني، وتحقيق التراث العربي لعبد المجيد دياب.
أما  عن مؤلفاته فله: الأساليب الإنشائية في النحو العربي، والميسر والأزلام، والتراث العربي، وحول ديوان البحتري، وتحقيقات وتنبيهات في معجم لسان العرب، وقواعد الإملاء، وكناشة النوادر، ومعجم شواهد العربية، ومعجم مقيدات ابن خلكان.
وعمد إلى بعض الكتب الأصول فهذّبها ويسرها، من ذلك: تهذيب سيرة ابن هشام، وتهذيب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، والألف المختارة من صحيح البخاري، كما صنع فهارس لمعجم تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري في مجلد ضخم.
وخلاصة القول أن ما أخرجه للناس من آثار سواء أكانت من تحقيقه أو من تأليفه تجاوزت 115 كتابًا، وقد توج عبد السلام هارون حياته بأن نال جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة (1402هـ= 1981م)، وانتخبه مجلس مجمع اللغة العربية أمينا عامًا له في (3 من ربيع الآخر 1404هـ= 7 من يناير 1984م)، واختاره مجمع اللغة العربية الأردني عضو شرف به.
وظل الشيخ يعمل في خدمة التراث في صبر وجلد ينجز بهما الأعمال العلمية المضنية على اختلاف مناحيها وكثرة تشعبها، تمده ثقافة عربية واسعة، وبصر بالتراث، ونفس وثابة، وروح إسلامية عارمة تستهدف إذاعة النصوص الدالة على عظمة التراث العربي، وتكشف عن نواحي الجلال فيه.
وإلى جانب بهذا النشاط في عالم التحقيق كان الأستاذ عبد السلام هارون أستاذًا جامعيًا متمكنًا، تعرفه الجامعات العربية أستاذًا محاضرًا ومشرفًا ومناقشا لكثير من الرسائل العلمية التي تزيد عن 80 رسالة للماجستير والدكتوراه.
وفاته
توفي عبد السلام هارون في (28 من شعبان 1408هـ= 16 من إبريل 1988م) بعد حياة علمية حافلة، وخدمة للتراث جليلة، وبعد وفاته أصدرت جامعة الكويت كتابًا عنه بعنوان: "الأستاذ عبد السلام هارون معلمًا ومؤلفًا ومحققًا".
هوامش ومصادر:
  • محمد مهدي علام: المجمعيون في خمسين عامًا ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ القاهرة (1406هـ= 1986م).
  • محمود محمد الطناحي: مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي ـ مكتبة الخانجي ـ القاهرة ـ (1405هـ = 1984م).
  • محمد خير رمضان يوسف: تتمة الإعلام للزركلي- دار ابن حزم ـ (1418هـ= 1998م).
  • محمد محيي الدين عبد الحميد: كلمة في استقبال عبد السلام هارون ـ مجلة مجمع اللغة العربية ـ العدد (25) ـ القاهرة ـ (1389هـ= 1969م).
  • السيد الجميلي: الجيل الثاني أو الطبقة الثانية من المحققين الأعلام ـ مجلة الأزهر ـ الجزء العاشر ـ السنة الثامنة والستون ـ (1416هـ= 1996م).
 
 2  3  4  5 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
علامة الشام أحمد راتب النفاخ7     ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

لحق
آثار الأستاذ
أحمد راتب النفاخ
أولاً – الكتب

1- النصوص الأدبية: (منهاج شهادة الثقافة العامة في كلية الآداب) بإشراف
أحمد راتب النفاخ، مطبعة الجامعة السورية 1374هـ-1955م .
2- ديوان ابن الدمينة: صنعة ابي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب، تح.
أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة – القاهرة 1378هـ-1959م .
3- مختارات من الشعر الجاهلي: اختارها وعلق عليها
أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار الفتح- دمشق 1386هـ-1966م .
4- فهرس شواهد سيبويه: صنعة
أحمد راتب النفاخ، دار الإرشاد – دار الأمانة/ بيروت 1389هـ - 1970م .
5- كتاب القوافي: لأبي الحسن الأخفش، تح.
أحمد راتب النفاخ، دار الأمانة- بيروت 1394هـ - 1974م .
6- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: لأبي
أحمد العسكري ج1، تح. الدكتور السيد محمد يوسف مراجعة الأستاذ أحمد اتب النفاخ، مجمع اللغة العربية بدمشق 1401هـ - 1981م .
ثانياً – المقالات
1- رسالة الغفران: مجلة الكتاب المصرية، مج10، ج6 حزيران / يونيه 1951م.
2- القصيدة الصورية: مجلة معهد المخطوطات العربية، مج2، ج1/ 1956م .
3- رسالة الغفران: مجلة المجمع بدمشق، مج32، ج4/ 1957م، مج33، ج1 / 1958م .
4- المحتسب: مجلة المجمع بدمشق، مج42، ج4/ 1967م، مج43، ج1، ج2/ 1968م .
5- المعيار في أوزان الأشعار: مجلة معهد المخطوطات العربية مج15، ج1 – 2/1969م .
6- نظرات في كتاب اللامات: مجلة العرب، س5، ج1/ 1970م .
7- كتاب القوافي لأبي الحسن الأخفش: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج1 / 1972م .
8- تعقيب على أرجوزة في العروض: مجلة المجمع بدمشق، مج47، ج4 / 1972م .
9- كتاب إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج: مجلة المجمع بدمشق، مج48، ج4 / 1973م، مج 49، ج1 / 1974م .
10- كلمة في حفل استقباله يتحدث فيها عن سلفه الشيخ محمد بهجة البيطار: مجلة المجمع بدمشق، مج53، ج1 / 1974م .
11- حركة عين المضارع من ( فَعَل ): مجلة المجمع بدمشق، مج57، ج3 / 1982م .
12- كتاب المحبة لله سبحانه: تح. الأستاذ عبد الكريم زهور مراجعة الأستاذ
أحمد راتب النفاخ، مجلة المجمع بدمشق مج58، ج4 / 1983م، مج59، ج1، ج2، ج3 / 1984م .
13- نظرات في نظرات: مجلة المجمع بدمشق، مج59، ج3 / 1984م، مج60، ج2، ج3 / 1985م .
14- فقيد المجمع الأستاذ عبد الكريم زهور: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج3 / 1985م .
15- استفتاء وجوابه: مجلة المجمع بدمشق، مج60، ج4 / 1985م .
16- أشعار اللصوص وأخبارهم: التعليقات الأستاذان
أحمد راتب النفاخ وشاكر الفحام، مجلة المجمع بدمشق، مج66، ج4 / 1991
*د يحيى
18 - مايو - 2008
علامة الشام أحمد راتب النفاخ8     ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
كلمة الزملاء الجامعيين
الدكتور عادل العوا

في الومضة الأولى من فجر استقلالنا السياسي الراهن، ومنذ جلاء كرب الغزو الأجنبي بالجلاء، أنشأت الجامعة السورية المعهد العالي للمعلمين بجناحين هما كليتا الآداب والعلوم .
وقد جمعتني منذ السنة الأولى من تاريخ هذا الحدث العظيم قاعة تدريس عرفت فيها الفقيد الغالي المرحوم الأستاذ (
راتب)، طالباً متميزاً بأفكاره، وسلوكه، وشخصيته، ومزاجه. وقد بان ولعه، بل شغفه باللغة العربية أجلى بيان حين كاد يعزف عن النطق بلغة أجنبية، وكأن لغة الإنسان الحق هي اللغة القرآنية، لغة الصدق واللسان المبين .
وقد حرص أعضاء الهيئة التدريسية في المعهد المذكور، وفي كلية الآداب، على رعاية الطالب (
راتب) رعاية محبة وإعجاب، وما لبثت الجامعة أن احتضنته مدّرساً واعداً للغة العربية وعلومها، وأوفدته لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة، فأصاب نجاحاً موفوراً في الأولى، واعترض سبيله شيء ما حال دون بلوغه المرام في نيل الدرجة الأخيرة. وهذا الشيء القاهر العنيد لم يكن في الحق أمراً طارئاً جديداً، ولا أمراً خارجياً غريباً، بل كان ذاتياً حميداً. وهل سمعتم بعائق نفسي يقف عثرة في درب نجاح صاحبه فيغدو دافعاً ورادعاً معاً ؟
أجل، إنني أشير هنا إلى خصلة جلّى، خصلة واحدة ذات دلالة إيضاحية شاملة، ألا وهي مطلب الاتقان الذي تحلى به عزيزنا (
راتب) الطالب الموفد، وزميلنا الأستاذ في الجامعة، والفقيد الغالي لمجمع الخالدين. إنه إتقانٌ مبتغى في كل ما ابتغى هو ذاته من شؤون الحياة .
اختار المرحوم القراءات القرآنية موضوعاً لدراسته لنيل درجة الدكتوراه في الآداب. وعمل من أجل ذلك وأجاد. وإنما إجادته تلك هي الإتقان الذي أعاقه بعض نقص ٍ في المصادر، على نحو ما سمعت منه غير مرة، فكان أن أحجم من ذاته، وبذاته، عن طماح اللقب، ولم يستجب لالحاح معلميه في القاهرة، وهم ما برحوا سنين كثيرة ً، ومرات متعاقبة، يدعونه للحضور إليهم، مجرد الحضور، لمناقشة ما كتب، والاستمتاع باللقب، ولكنه أبى، وأصرّ على موقفه حرصاً مخلصاً منه على تلبية حافز الإتقان. وهذا الحافز هو الذي عرفناه في حياة زميلنا الجامعي الأستاذ (
راتب) طوال سني تدريسه في كلية الآداب .
أنفق الفقيد في هذه الكلية ما وسعه الجهد والإخلاص في تدريس علوم اللغة العربية، وفي نشر نصوص مختارة من تراثها المجيد. ومثلاً من كتاب "الكامل" أو من كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف". وقد نقّب في كل مرة عن الصواب التائه بين علماء الكوفة والبصرة. وحكى رأيه مؤيداً بالدليل. والدليل معيار. وهذا المعيار عنده هو تواتر الرواية عن إنسان عربي صريح من صميم العرب. فكلام هذا الإنسان العربي الصريح هو إذن كلام صحيح، وحجة دامغة، وبرهان قاطع. ومثل هذا التدقيق البصير يطالعنا به الاستاذ
راتب في سائر أعماله العلمية، ومختلف إسهاماته، ومثلاً عندما نشر كتاب "القوافي" للأخفش، و"فهرس كتاب سيبويه" .........
 
المصدر : أخي الحميم الباحث المحقق المدقق الأديب الأستاذ الدكتور: مروان العطية الظفيري. جزاه الله خير الجزاء.
*د يحيى
18 - مايو - 2008
لا يسعني إلاَّ ان أخر راكعا ساجداً أمام العالم الجليل الأستاذ الكبير يحيى النابغة الفذ    كن أول من يقيّم
 
سيدي يحيى أحسنت كثيراً أحسن الله إليك .
 
كلامك كبير جداً
وعميق جداً
ورقيق جداً
ومتميز جداً
 
قال سيدي يحيى :
 
جمع الطناحي إلى علمه الواسع:
 صفات وخلالا أسرت كل من التقى به وخالطه وجالسه فهو كريم الخلق، نقي النفس، خفيف الروح، عذب الحديث، فإذا تكلم وحكى بهر جلساءه بظرفه وفصاحته ونوادره التي لا يمل حديثها، فكان زينة المجالس والمحافل مع هيبة واعتداد بالنفس.
وقلت أيضاً يا سيدي :
 
وهو وفيٌّ لشيوخه ومعلميه :
كثير الدعاء لهم إذا استشهد بواحد منهم أو عرض لذكراه، فإذا كانوا من الأحياء دعا لهم بمثل قوله: أطال الله في الخير بقاءهم" ، وإذا كان أحدهم من الأموات قال: "برَّد الله مضجعه" أو "طيَّب الله ثراه"}.                          
 
 
 
ما أعظم هذه الأخلاق الكاملة التي لا يتخلق بها إلاّ الكبراء العظماء من أمثالك سيدي يحيى  وأمثال سيدي محمود الطناحي رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.
 
وقال سيدي  يحيى :
 
وفي العشر السنوات الأخيرة من حياته :
 
 {" طلع على الناس بمقالاته البديعة التي كان يكتبها بانتظام في مجلة الهلال فكشفت عن جوانب جديدة، وأبانت عن تمكنه الشديد من الثقافة العربية، مع قدرة على الإبانة في أسلوب طلي جذاب، ومن يطالع هذه المقالات يعرف أن الرجل قد احتشد لها واستعد فهي ليست مما يقرؤه الناس من بعض الأقلام تحمل خواطر وآراء، وإنما هي تحمل علمًا وأدبًا، يدهشك ما ينثره بين ثنايا مقالاته من فوائد لغوية وتاريخية، هي خلاصة خبرته وملازمته للكتب ومشافهته أهل العلم.{"
 
علم عظيم من أعلام الأمة أنت يا سيدي يحيى .
وقال أيضاً سيدي يحيى :
 
وظل الطناحي وفيًا لهم دائم الذكر والدعاء فيما يكتب، عارفًا بفضلهم عليه..
ومن بين المشايخ الذين تردد عليهم وحضر مجالسهم: شيخ الإقراء في مصر عامر السيد عثمان، وكانت له مقرأة حافلة في مسجد الإمام الشافعي في يوم الجمعة، يؤمها القراء والدارسون، والفقيه الأصولي عبد الغني عبد الخالق الأستاذ في كلية الشريعة.{"
 
وقال أيضاً سيدي يحيى :
 
 
وعلاقته بشيخه محمود محمد شاكر :
 
{" مثال نادر للوفاء يقدمه تلميذ لشيخه، فكان دائم الثناء عليه، ذاكرًا له في كل موضع، معترفًا بفضله، حريصًا على حضور مجلسه الأسبوعي في منزله في يوم الجمعة مهما كانت الشواغل، وكان الطناحي لا يترك مناسبة إلا ذكر الناس بفضل شيخه وقيمته في الثقافة العربية، يقول عنه في أحد المواضع من كتابه "مدخل إلى تاريخ نشر التراث": "كيف أكتب عنك أيها الشيخ الجليل، ومن أين أبدأ، وكيف أمضي وإلى أين أنتهي؟ فالحديث عنك إنما هو عن تاريخ هذه الأمة العربية: عقيدة ولغة وفكرًا ورجالاً.. ومعذرة ثم معذرة شيخي أبا فهر إذ أكتب عنك بهذه الوجازة التي تراها.. ثم معذرة من بابة أخرى، وهو أن كثيرًا مما ستقرؤه إن شاء الله منتزع من كلامك، مدلول عليه بفكرك، فأنا إنما أكتب عنك بك، وأتقدم إليك بسابق فضلك وموصول علمك...{"
 
 
وقلت سيدي :
ولازم شيخ العربية :
 
{" محمود محمد شاكر وتوثقت صلته به، فأفاد منه علمًا غزيرًا، وهو إلى جانب ذلك حجة في فنون العربية وآدابها، بصير بعلومها، متقن للقرآن وقراءاته، كثير الرواية، حلو الحديث لا يمل جليسه"}.  
 
  :وأختم بكلامك سيدي في تردده على دار الكتب
 
{" وفي أثناء تردده على دار الكتب اتصل بعدد من العلماء والباحثين العرب الذين كانوا يقصدون قائمة المخطوطات بدار الكتب من أمثال إسماعيل الأكوع من اليمن، وشاكر الفحام من سوريا، ومحمد بن شريفة من المغرب.. وفي الوقت نفسه عمل مصححًا في مطبعة عيسى البابي الحلبي، وهي من أعرق المطابع ودور النشر في مصر والعالم الإسلامي، أخرجت كنوزًا كثيرة من التراث، وقد أوقفه عمله بالتصحيح على أشياء كثيرة، وحصَّل معارف واسعة
 
عمر
18 - مايو - 2009
الدين النصيحة ...    ( من قبل 17 أعضاء )    قيّم
 
أخي في الله الأستاذ عمر أشهب ....حفظه الله ، وهداه ، وسدد خطاه.... آمين.
إننا المشارقةَ لا ننتقد اليابانيين على انحنائهم وهم يسلّمون ، كما أننا لا نوجّه النقد إلى المرأة البوذية وهي تنحني أمام بعلها لتأخذ مسحة من نعله وتمسح وجهها......لكننا في حَيرةٍ من أمرنا ونحن نسمع ( ركوع ) بعض الجمهور المغربي ؛ احتراماً لمليكهم ، حتى حدّثني بها صديقي الأستاذ عبد القادر شيخ حمّود في سنة1975 عندما كان معاراً من سورية.....
أما أنا الفقير لله تعالى فأحسبك تقياً ولا أزكي على الله أحداً ، لذلك أسألك بالله العلي العظيم أن تطلب من أختنا الغالية الست ضياء خانم أن تمسح الركوع والسجود(من العبد الفقيرإلى الرب الجليل ، فهي له وحدَه سبحانه. إنه والله الذي لا إله غيره : أشعر بحقارة شخصي وإنني لفي صُداع ، وإن شفائي من الله المشافي أولاً ، ثم بحذف العنوان ثانياً .
جزاك الله خير الجزاء ، وأدعو الله القريب المجيب أن يغفر لنا ولكم ، وتقبلوا امتناني . ( أبو بشار).
*د يحيى
19 - مايو - 2009
تلمذتُ لكتبه : إنه العلامة والحبر البحر الفهامة الأستاذ الدكتور محمود الطناحي ، رحمه الله تعالى.    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 

مقالات العلاّمة الدكتور محمود محمد الطناحي ، رحمه الله ، وأسكنه الفردوس الأعلى. 

في حلة قشيبة وطبعة أنيقة, صدرت مجموعة مقالات فقيد العربية الكبير الأستاذ الدكتور محمود محمد الطناحي عن دار البشائر الإسلامية ببيروت في مجلدين فخمين جليلين كل ما فيهما ينطق بمكانة الرجل وتضلعه من علوم العربية.. .ومَكِنَتِه في فنونها, ودرايته بالتراث مخطوطه ومطبوعه.. وتحرّيه الدقة والصواب في تحقيق النصوص, وغيرته على علوم الأمة, وذوده عن حياضها ومغارفها, ومعرفته بالرجال... ووفائه للشيوخ والأعلام, وبراعته في الكتابة.

ولو شئت أن أمضي فيما برع فيه الرجل لمضيت, ولما وسعتني هذه العجالة, فما كان الطناحي رجلاً عادياً... ولكنه أمة في رجل:

وقالوا الإمام قضى نحبَهُ وصيحةُ من قد نعاهُ علَتْ
فقلت فما واحدٌ قد مضى ولكنّهُ أمَّةٌ قد خَلَتْ



لقد جمع فأوعى, ودرس فأوفى, وعرف فأغنى... وكان كما قال الأول:

مُلقّن ملهمٌ فيما يحاولهُ
جمٌّ خواطرُهُ جوّابُ آفاقِ



ولاشك أن الأمة فقدت برحيله رجلاً عليماً بأسرار العربية, متذوّقاً لبيانها, حاذقاً في لسانها, ناشراً لكنوزها وذخائرها.

وكانت مبادرة كريمة تلك التي نهض بها رهطٌ من أهل العلم وعشّاق أدب الطناحي إذ أخرجوا هذا الكتاب بقسمين, فأسدوا إلى العربية وأهلها يداً بيضاء ينبغي أن تُذكــر فتُشـــكر, أولهـــم الشـــيخ المحــقق محمد بن ناصر العجمي صاحب الفكرة وباعثها والحاشد لها, وثانيهم ابن العلامـــة الطناحي البــار الأستاذ محمد الذي قام بجمع مقالات والده المنشورة في المجلات والدوريات المختلفة, وثالثهم صفي الطناحي وصنوه العالم الأديب الأستاذ عبدالحميد بسيوني الذي تفضل بقراءتها وتحضيرها للطباعة, ورابعهم الشيخ أمين شحرور الذي صححها وصنع فهارسها, وخامسهم ناشر الكتاب الأستاذ رمزي دمشقية الذي عني بإخراجه وبثّ فيه من روحه.

وكي لا يظن القارئ أني أبالغ في نعوت الرجل فسأجعل همّي في هذه الكلمة الكشف عن حقيقة هذه النعوت والتدليل على كل منها بما جاء بين دفتي هذا الكتاب النفيس وفيما يلي بيان ذلك:

مكانة الطناحي

تتبدى هذه المكانة فيما صُدّر به الكتاب من كلمات تنوّه بها وتشيد بصاحبها وتبين وجوه إبداعه.

أولها: كلمة الشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي والذي بيّن حجم الرزء بوفاة الطناحي وفداحة الخسارة بفقده, وأثنى عليه بما هو أهله.

وثانيها: كلمة الأستاذ الدكتور عبدالله محارب (الطناحي ورحلته مع التراث العربي) التي تحدث فيها عن مسيرة حياة الطناحي في طلب العلم, وأسفاره في صحبة المخطوطات والعناية بها تصويراً وفهرسة وتحقيقاً, وصحبته لأكابر العلماء والباحثين ووفائه لهم وكلامه على أفضالهم, ثم عرض لعلمه وفضله مؤكداً أن الحديث في هذا الجانب (سوف يغرق في بحور إحسانه) وختم بوصف الأستاذ الأديب عبدالحميد بسيوني له بأنه (جبل من جبال العلم).

وثالثها: كلمة للطناحي نفسه كان أودعها مقدمة تحقيقه لكتاب (منال الطالب) لابن الأثير, فأوردها الناشر تحت عنوان: (من ذكريات الدكتور الطناحي في مكة) يقول فيها: (... وقد أنزلني القوم آنذاك منزلاً كريما. حيث عوملت وظيفياً تحت بند هناك يسمّى (كفاءة نادرة) يعامل به الإنسان الذي أكرمه الله بشيء من العلم معاملة (العالم) لا معاملة (حامل الشهادة العليا) وفي ظل هذا البند كان يعامل الأساتذة: محمد متولي الشعراوي, ومحمد الغزالي, والسيد أحمد صقر, والسيد سابق, ومحمد قطب, وطائفة من كبار مشايخ الأزهر...).

ورابعها: (السيرة الذاتية) التي ذكرت تحصيله الدراسي, ونشاطه العلمي, وإنتاجه الغزير من التحقيقات والمؤلفات التي بلغت خمسة وثلاثين كتاباً, وختمت هذه السيرة بذكر أعماله الوظيفية بين الجامعات والمنظمات العربية ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.

ولا أدل على هذه المكانة من رسائل العلماء إليه التي اشتمل الكتاب على نماذج منها تصدّرتها رسالتان من شيخنا العلامة أحمد راتب النفاخ - طيب الله ثراه -, تلتهما رسالة من شيخ المحققين الأستاذ عبدالسلام هارون - رحمه الله -, ثم رسالة من أستاذنا العلامة الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق حرس الله مهجته وأطال بقاءه.

الطناحي... وعلوم العربية

عرف الطناحي بتضلعه في علوم العربية, ومكنته في فنونها لغة ونحواً وصرفاً وبلاغة وأدبا. وشواهد ذلك في الكتاب كثيرة أجتزئ بالإشارة إلى براعته في كل فن من هذه الفنون بما خصه من مقالات. أما اللغة فكتب فيها: (صيحة من أجل اللغة العربية.. هل يتحول التراث العربي إلى ألغاز وطلاسم). وكتب أيضاً: (لسان العرب لابن منظور), و(التصحيح اللغوي... وضرورة التحري), و (المعاجم اللغوية والهجوم الذي لا ينتهي), و(تاج العروس... والزمن البعيد). وعلى ذكر التاج فهو واحد من فرسانه الذين اضطلعوا بتحقيقه في نشرته الجليلة التي أخرجها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت في أربعين مجلدا.

وأما النحو فكتب فيه مقالين بعنوان: (النحو العربي... والحمى المستباح). وثالثاً بعنوان: (النحو والشعراء).

وأما الصرف فله مقال نفيس بسط فيه الكلام على كلمة (تترى) التي يظنها كثير من الناس فعلاً وما هي بفعل! وإنما هي اسم بيّن الطناحي - رحمه الله - أصله واشتقاقه وحرّر معناه مستشهداً بغرر الشواهد الشعرية والنثرية فيه, ثم دفع شبهة الفعلية عنه وذلك في المقال الذي يحمل عنوان (الآي تترى).

وأما البلاغة ففي مقالين رائعين حملا عنوان (البيان والطريق المهجور). أستميح القارئ أن أقتطف نبذة من مطلع المقال الأول جاء فيها: (من أجل نعم الله على عباده نعمة البيان, وقد امتنّ الله على عباده بهذه النعمة فذكرها في أشرف سياق فقال تقدّست أسماؤه: الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علّمه البيان .. (ووجوه الإحسان في تأدية المعاني كثيرة, ومنادحها واسعة, ولا يكاد يظفر بها إلا من وُهب لطافة الحسّ وخفّة الروح ورحابة الصدر والارتياح والطرب لمظاهر إبداع الله عزّ وجل في هذا الكون, وما بثّه في ملكوت السماوات والأرض, وما أجراه على ألسنة خلقه, أما (أهل الكثافة) وهم الذين امتحنهم الله بثقل الظل وركود الهواء, فما أبعدهم عن البيان والإحسان:

وهُلك الفتى ألا يراح إلى الندى وألا يرى شيئاً عجيباً فيعجبا...)



وأما الأدب فيتبدى في مقاله البديع: (أجمل كتاب في حياتي.. البيان والتبيين للجاحظ), حيث بسط الكلام على محبته لهذا الكتاب وما فيه من أسرار وبيان وفن وأدب وفكر, بل لقد ذهب في ختام مقاله إلى أنه كتاب شامل للحضارة العربية, وأوصى بأن يلتفت إليه مدرّسو العربية (وأن يجعلوا من نصوصه نصيباً مفروضاً على تلاميذهم, فقد استقامت بهذا الكتاب ألسنة, وارتقت عليه أذواق, واستوت به ملكات).

درايته بالتراث

تعود خبرة الطناحي بالمخطوطات العربية إلى نشأته بينها ناسخاً لها, ومفهرساً لطائفة منها, ثم محققاً لنفائس من غررها, وقد كان لعمله خبيراً بمعهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية أكبر الأثر في هذا, إذ انتُدب عضواً في بعثات المعهد إلى تركيا والمغرب والسعودية واليمن, فكشف نوادر خزائنها, وفهرس لخبايا مخطوطاتها, وفي الكتاب الذي نعرض له شواهد كثيرة لهذه الخبرة, تجلّت في المقالات التالية:

(التراث العربي في المغرب.. وقضية التواصل بين المشرق والمغرب) و(التحقيق), و(حلقات مفقودة في تراثنا المطبوع) و(دار الكتب ونشر التراث في مصر) و(تركيا والمخطوطات العربية) و (المتنبّي وعلم المخطوطات) على أن معرفته بالمطبوع لا تقل أهمية عن معرفته بالمخطوط, وقد تجلى ذلك في المقالات التالية: (الكـــتب الصفـــراء... والحضـــارة العربيــة) و (الكتاب والتواصل العلمي) و (من حصاد الندوات: أولية الطباعة العربية في مصر) و (تراثنا.. رحلة شاقة شيقة). والحق أننا لا نستطيع الفصل الحاسم بين المخطوط والمطبوع في هذه المقالات إذ يتداخل فيهما الكلام على نحو يبرز براعة الرجل في كل منهما. ولا أجد في هذا المقام خيراً من اقتباس كلمته التي ختم بها مقاله: (المتنبي.. وعلم المخطوطات) وقال فيها: (إن علماء المخطوطات يتناقصون يوماً إثر يوم, بالموت الذي لا يُرد, وبالصوارف التي لا تدفع. وقد مات كثير من علماء المخطوطات وفي صدورهم الشيء الكثير, فبعضهم ضنّ واحتجن, وبعضهم تراخى وغرّه طول الأمل. ولهذا فإني أدعو كل من أنعم الله عليه بشيء من هذا العلم أن ينشره ويذيعه, فإن الموت لا موعد له, وعلمه عند علاّم الغيوب).

غيرته على علوم الأمة

وينبع ذلك من أصالة الرجل التي لا يخطئها قارئ في أي مقال من مقالاته, ولكن ثمة مقالات وضعت أساساً لمثل هذا الذود عن معارف الأمة, والحمية عنها, والغيرة على لغتها, ورفع رايتها, من مثل مقاله: (صيحة من أجل اللغة العربية.. هل يتحول التراث العربي إلى ألغاز وطلاسم?) وهو يستهله بالقول:

(لم يعد خافياً على أحد ذلك التدنّي الذي وصل إليه خرّيجو أقسام اللغة العربية في جامعاتنا خلال العقود الأخيرة, وهؤلاء الخريجون هم الذين يتولون تعليم أولادنا في المدارس, وهم أيضاً الذين يسمعوننا الكلمة العربية من خلال الإذاعة والتلفزيون, ولو ترك الأمر على ما هو عليه الآن فالله وحده هو الذي يعلم أبعاد الكارثة التي ستطبق على هذه الأمة, ونخشى أن تغشانا طوارقها ذات يوم وقد استحال تراثنا الذي ضني به الأوائل خلال أربعة عشر قرناً من الزمان ألغازاً وطلسمات كالذي تراه على جدران المقابر والمعابد ولفائف البردي, رموزاً قديمة تخفى على جمهرة الناس, ولا يعقلها إلا العالمون, ويومها سنقول:

استعجمت دار ميّ ما تكلمنا والدار لو كلّمتنا ذات أخبار)



وقل مثل ذلك في مقالاته: (المعاجم اللغوية... والهجوم الذي لا ينتهي) و(النحو العربي... والحمى المستباح) و(هل أدلكم على تجارة?).

معرفته بالرجال

يبدو أن هذه القضية قد استبدّت بالطناحي على نحو كبير, إذ لا نبالغ إن زعمنا أن نصف مقالاته إنما يدور حول الكلام على الرجال, وإبراز معارفهم, ومحاولة الإفادة من تجاربهم وخبراتهم, على اختلاف ألوانهم واختصاصاتهم, وأزمانهم وأمكنتهم.

وفي كل مقالة يبرز جانب من جوانب المعرفة عند هؤلاء الأعلام فهو يتحدث عن العلم والإصلاح في مقاله: (ابن السبكي... علم وإصلاح), وعن الحديث والأثر في: (أحمد محمد شاكر), وعن علم المكتبات وبناء الشخصية العصامية في: (فؤاد السيد.. العالم الذي فقدناه), وعن الوراقة والورّاقين والخبرة بشئون المخطوط العربي في مقاله: (رشاد عبدالمطلب... والديار التي خلت), وعن آخر حارس من حرّاس معهد المخطوطات في: (محمد مرسي الخولي... والبنيان الذي تهدّم), وعن قراء مصر وخصائص قراءتهم في: (الشيخ مصطفى إسماعيل.. وقراء مصر).

وفي: (إقراء القرآن بمصر (وترجمة للشيخ عامر عثمان)), وعن أثر اللغة في تكوين الداعية الإسلامي والواعظ الديني في: (الشيخ الشعراوي.. واللغة), وعن تكريم الأعلام والإشادة بمناقبهم في مقاله: (محمود محمد شاكر... والتكريم المستحق). والحق أنه لم يكتف بمقال واحد عن شيخه العلامة محمود محمد شاكر - رحمه الله - وهو الذي عرف به, وتعلق بمحبته, وتأثر بطريقته, واقتدى بهديه, وقفى أثره, ونافح عنه, وكنا نرى فيه الخليفة المرتجى لشيخه, ولكن المنية عاجلته - وإنما كتب عنه سبع مقالات انطوت على حقيقة ما يكنّه له من محبّة وتقدير ووفاء واحترام وهي على التوالي: (محمود محمد شاكر.. ومنهجه في تحقيق التراث) و(الشيخ محمود شاكر .. وتاريخ ضخم), و(محمود.. والديار التي خلت), و (أي شلال هادر توقف) (عن محمود شاكر ), و(محمود محمد شاكر... ركن باذخ), و (محمود محمد شاكر... والسهام الطائشة), بالإضافة إلى المقال الذي ذكر أولاً.

ويكفي أن نقرأ فقرة جاءت في مقاله: ( محمود شاكر .. والديار التي خلت), لنعلم أيّ مقام تبوّأ ذلك الشيخ الجليل في نظر تلميذه الوفيّ: (وقد كتبت عن محمود شاكر كثيراً, وحاولت أن ألتمس وجوهاً من الوصف تنبئ عن حقيقة حاله ومكنون أمره, وغاية ما انتهيت إليه أن الرجل رُزق عقل الشافعي وعبقرية الخليل ولسان ابن حزم وجلد ابن تيمية, بل إني رأيت أن ليس بينه وبين الجاحظ أحد في الكتابة والبيان...).

براعة في الكتابة

تميّز الطناحي ببراعته في الكتابة.. وسمو بيانه... وحلاوة لسانه... وطلاوة تعبيره.. وفكاهته: إن كل حرف كتبه الطناحي يدل على أنه أديب مرهف الإحساس وكاتب متمرّس عارف بأصول الكتابة ووجوه البيان, وفي أسلوبه إلى ذلك طلاوة محببة, وفي تركيب عبارته حلاوة بادية, وقد رزق من لطافة الحسّ, وخفّة الروح ورحابة الصدر ما جعله آية في ذلك. اقرأ معي إن شئت ما أورده الأستاذ الدكتور عبدالله محارب في كلمته التي جعلت مدخلاً للكتاب من كلام الطناحي في وصف هؤلاء الذين يتزلفون لتلاميذهم بأسلوب ساخر ممتع: (وإن منهم لفريقاً يتهافت على ذوي المناصب من تلاميذه, حتى إذا رأى أحدهم في مجلس طمح ببصره إليه, وأخذ يمدّ عنقاً ويميل رأساً, ويسدد نظراً ليريه مكانه, فتلتقي العينان, فيذهب بها غنيمة باردة يحدث بها أهله وولده, فإذا أبصره في طريقه ركض خلفه حتى يكاد يتعثّر في أذياله, وشق الصفوف إليه وقد علاه البهر وغلبه النهيج حتى يوشك أن يكتم أنفاسه, فإذا انتهى إليه ابتسم في صغار وانكسار وأخذ يذكّره بتلمذته له في ثقل وغثاثة:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عَظّموه في النفوس تعظّما)



ومن ظريف تعبيراته في وصف شيخه محمود شاكر قوله: (والمكتبة العربية عند أبي فهر كتاب واحد, فهو يقرأ صحيح البخاري كما يقرأ الأغاني, ويقرأ كتاب سيبويه قراءته لمواقف عضد الدين الإيجي, وقد قلت عنه مرة بالتعبير المصري: إنه خد البيعة على بعضها).

ومن طريف ما كتب في معرض الموازنة بين ما كانت عليه مناقشات الرسائل الجامعية من الرصانة والجدية وما هي عليه اليوم من الهشاشة والهزل: (أما اليوم فالأساتذة يدخلون في موكب بهيج من الضحك والانبساط والتطلق, ويسري هذا كسابقه إلى الحضور, فترى القاعة تموج بالانشراح والبهجة والتعليقات الحلوة, والأطفال يتقافزون ويمرحون في القاعة, وقد جيء بهم ليروا (بابا) في يوم عرسه, والنساء يزغردن عند إعلان النتيجة, بل إني سمعت إحداهن تنشد لقريبها الطالب:

يا شجرة يا حلوة يا مفرّعة
شرفت أعمامك الأربعة
هكذا والله...).

ومن عباراته التي حفظها الناس وتناقلوها حتى لقد ذهبت مذهب الأمثال قوله: (وحظوط الكتب كحظوط الناس, يصيبها ما يصيبهم من ذيوع أو خمول).

ومن مداعباته وفكاهاته ما ذكره من انتشار عدوى العامية بين أساتذة الجامعة وشباب المعيدين من طلاب الدراسات العليا. حيث يقول: (طلبت يوماً من أحدهم شيئاً, فقال: حاضر يا عسل! فقلت ما هذا يا بني? لا ينبغي أن تستعمل مثل هذه الألفاظ, فقال: لقد سمعتها من فلان وفلان وفلان, وذكر أسماء كبيرة, فلما سمعت هذا قلت له: خلاص يا حلاوة, براءة, أنت كده في السليم, فنظر إلي نظرة انتصار, فهممت أن أقول له: متبصليش بعين رديّة شوف إيه عملته في شرح الألفية).

ولقد حفظ الطناحي القرآن الكريم منذ نعومة الأظفار, وتربّى تربية المشايخ التي تعتمد حفظ المتون والاستكثار من مذاكرة الأشعار والأمثال والحكم والأخبار, فكان له من ذلك كله ركن مكين يتكئ عليه في كل ما يكتب, فلا تكاد صفحة مما كتبه تخلو من شاهد قرآني أو شعري أو نثري أو مثل أو حكمة أو خبر أو طرفة, فهو في هذا يغرف من بحر عميق غوره كثير خيره, فيتحف القارئ بكل شاذّة وفاذّة, تضيء النص, وتزيّن الحديث, وتتوّج الفكرة, وتجلو المعنى.

من ذلك - وهو كثير لا يكاد يحصى - قوله في معرض الحديث عن التوسع في المعذرة وتغمد الخطأ: (ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة التابعي الجليل (قتادة بن دعامة السّدوسي) أنه كان يرى القول بالقدر, وهي مقالة منكورة عند أهل السنة والجماعة, ثم عقب الذهبي على ذلك فقال في كتاب سير أعلام النبلاء: (ثم إن الكبير من أهل العلم إذا كثر صوابه, وعُلم تحريه للحق, واتسع علمه, وظهر ذكاؤه, وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله, ولا نضلّله ونطرحه وننسى محاسنه).

ثم استشهد الطناحي على ذلك بقول زفر بن الحارث:

أيذهب يومٌ واحد إن أسأتُه بصالح أيامي وحسن بلائيا



وقول المتنبي:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً فأفعاله اللائي سررن ألوفُ




وقول الآخر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع




ومن ذلك تمثله بأمثال العرب من نحو قولهم: (شنشنةٌ أعرفها من أخزم), وقولهم: (ذكرتني الطعن وكنت ناسيا), وربما جعل المثل عنواناً لمقال, كما في: (أبي يغزو وأمي تحدّث), وفي: (زاحم بعَوْدٍ أو فَدَعْ).

وأما الآي والأحاديث فهي تملأ الكتاب بقسميه مما حدا الناشر على إفراد فهرس لكل منها. وليته صنع مثل ذلك للأشعار والأمثال, إذن لتمّ له عمله, ولكن (جلّ من لا عيب فيه وعلا).

وبعد فإن ما ذكرته لا يعدو أن يكون صويً تشير إلى بعض مزايا الكتاب, ولكنها بلا ريب لا تحيط به ولا تكاد تبلغ ذلك, لأن من وراء ما ألمعت إليه علماً غزيراً... وفكراً سديداً.. وبياناً سامياً.. وحمية للعربية جياشة. وما أحوجنا أن نتتلمذ عليه ونفيد منه, ونقبس من روائعه, فهو بحق معلمة ينتفع بها من كل جانب.

- القسم الأول: طبقات الفقهاء الشافعية, عينية ابن زريق, الحفظ وأثره في ضبط قوانين العربية, لسان العرب لابن منظور, العامة وقراءة التراث, قصيدة نادرة في المديح النبوي, مع بداية العام الدراسي الجديد.. من يقرأ هذه الكتب, من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن, الهجرة وكتابة التاريخ الإسلامي (في حلقتين), الجامعة المصرية إلى أين?, الكتاب الجامعي والطريق الصحيح, في كم يتلى القرآن?

- القسم الثاني: هذه النقطة وقضية التصحيف والتحريف, السيرة الذاتية.. والصدق مع النفس (في حلقتين), دراسة في مصادر الأدب (للدكتور أحمد مكي) (في حلقتين), تاج العروس... والزمن البعيد, مطبعة للمنشورات... وليست للثقافة - كمال النجمي... والثغور التي تتساقط, الناشرون الأوائل... وسماحة مصر, ذيل الأعلام... ومغالبة الهوى (لأحمد العلاونة), القرآن الكريم... وتفسير العوام, الرسائل الجامعية.. وساعة ثم تنقضي, مقالات قصيرة بعنوان: (الكلمة الأخيرة) وقد ضمت الكلمات التالية: المؤتمرات العلمية.... والنغمة المكرورة, الجزار الثالث, العامية في مهرجان أمير البيان, ما المسئول عنها بأعلم من السائل, الندواتية, موائد الرحمن, جلال معوض... وزمن الورد.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن الناشر نبّه في كل مقال إلى مكان نشره وزمانه. أما الزمان فقد بدأ في شهر أبريل عام 1965 وانتهى في شهر يونيو عام 1999 بعد ثلاثة أشهر من وفاته, وكان قد كتبه قبيل وفاته وكأنه يكتب وصيته. وأما المكان فقد توزعته المجلات التالية: الرسالة, الكتاب العربي, المجلة, الثقافة, دعوة الحق, مجلة الشعر, مجلة فن تحقيق التراث, صحيفة المدينة المنورة, مجلة الهلال (وقد حظيت بالقسط الأوفر من المقالات بدءاً من عام 1990 حتى وفاته), العربي, جريدة الأهرام, الوطن, مؤسسة الفرقان للتراث بلندن, الجيل, البيان بلندن.

محمد حسان الطيان
*د يحيى
21 - أبريل - 2010
دونكم إرثكم.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
http://wadod.org/vb/showthread.php?t=2367&goto=nextnewest
*د يحيى
24 - أبريل - 2010
ابن عاشور    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
إصلاحيون ومفكرون

الطاهر بن عاشور: صدق الله وكذب بورقيبة
(في ذكرى وفاته: 13 رجب 1393 هـ)
مصطفى عاشور
محمد الطاهر بن عاشور
كان جامع الزيتونة مصنعا لرجال أفذاذ قادوا حياة شعوبهم قبل أن يقودوا حياتهم، في وقت اضطربت فيه معالم الحياة، فكانوا منارات للهدى وعلامات لطريق السداد. و"محمد الطاهر بن عاشور" هو أحد أعلام هذا الجامع، ومن عظمائهم المجددين. حياته المديدة التي زادت على 90 عامًا كانت جهادًا في طلب العلم، وجهادا في كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد التي قيدت العقل المسلم عن التفاعل مع القرآن الكريم والحياة المعاصرة.
أحدثت آراؤه نهضة في علوم الشريعة والتفسير والتربية والتعليم والإصلاح، وكان لها أثرها البالغ في استمرار "الزيتونة" في العطاء والريادة.
وإذا كان من عادة الشرق عدم احتفاظه بكنوزه، فهو غالبا ما ينسى عمالقته ورواده الذين كانوا ملء السمع والبصر، ويتطلع إلى أفكار مستوردة وتجارب سابقة التجهيز، وينسى مصلحيه ومجدديه، ونبت بيئته وغرس مبادئه!!
لم يلق الطاهر تمام حقه من الاهتمام به وباجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وربما رجع ذلك لأن اجتهاداته تحارب الجمود العقلي والتقليد من ناحية، وتصطدم بالاستبداد من ناحية أخرى، كما أن أفكاره تسعى للنهوض والتقدم وفق منهج عقلي إسلامي، ولعل هذا يبين لنا سبب نسيان الشرق في هذه الفترة لرواده وعمالقته!!
من هو؟
ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس في (1296هـ = 1879م) في أسرة علمية عريقة تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس. وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس.
وقد نبغ من هذه الأسرة عدد من العلماء الذين تعلموا بجامع الزيتونة، تلك المؤسسة العلمية الدينية العريقة التي كانت منارة للعلم والهداية في الشمال الأفريقي، كان منهم محمد الطاهر بن عاشور، وابنه الذي مات في حياته: الفاضل بن عاشور.
وجاء مولد الطاهر في عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية التي تريد الخروج بالدين وعلومه من حيز الجمود والتقليد إلى التجديد والإصلاح، والخروج بالوطن من مستنقع التخلف والاستعمار إلى ساحة التقدم والحرية والاستقلال، فكانت لأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا صداها المدوي في تونس وفي جامعها العريق، حتى إن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من الناحية التعليمية قبل الجامع الأزهر، مما أثار إعجاب الإمام محمد عبده الذي قال: "إن مسلمي الزيتونة سبقونا إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر".
وأثمرت جهود التجديد والإصلاح في تونس التي قامت في الأساس على الاهتمام بالتعليم وتطويره عن إنشاء مدرستين كان لهما أكبر الأثر في النهضة الفكرية في تونس، وهما: المدرسة الصادقية التي أنشأها الوزير النابهة خير الدين التونسي سنة (1291هـ = 1874م) والتي احتوت على منهج متطور امتزجت فيه العلوم العربية باللغات الأجنبية، إضافة إلى تعليم الرياضيات والطبيعة والعلوم الاجتماعية. وقد أقيمت هذه المدرسة على أن تكون تعضيدًا وتكميلاً للزيتونة.
أما المدرسة الأخرى فهي المدرسة الخلدونية التي تأسست سنة (1314هـ = 1896م) والتي كانت مدرسة علمية تهتم بتكميل ما يحتاج إليه دارسو العلوم الإسلامية من علوم لم تدرج في برامجهم التعليمية، أو أدرجت ولكن لم يهتم بها وبمزاولتها فآلت إلى الإهمال.
وتواكبت هذه النهضة الإصلاحية التعليمية مع دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فكانت أطروحات تلك الحقبة من التاريخ ذات صبغة إصلاحية تجديدة شاملة تنطلق من الدين نحو إصلاح الوطن والمجتمع، وهو ما انعكس على تفكير ومنهج رواد الإصلاح في تلك الفترة التي تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف التي خلقت مناخًا ثقافيًا وفكريًا كبيرًا ينبض بالحياة والوعي والرغبة في التحرر والتقدم.
حفظ الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310هـ = 1892م) وهو في الـ14 من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ فيها، وأظهر همة عالية في التحصيل، وساعده على ذلك ذكاؤه النادر والبيئة العلمية الدينية التي نشأ فيها، وشيوخه العظام في الزيتونة الذين كان لهم باع كبير في النهضة العلمية والفكرية في تونس، وملك هاجس الإصلاح نفوسهم وعقولهم فبثوا هذه الروح الخلاقة التجديدية في نفس الطاهر، وكان منهجهم أن الإسلام دين فكر وحضارة وعلم ومدنية.
سفير الدعوة..
محمد الطاهر بن عاشور بين طلابه
تخرج الطاهر في الزيتونة عام (1317هـ = 1896م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسًا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324هـ = 1903م).
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321هـ = 1900م)، وكان لهذه التجربة المبكرة في التدريس بين الزيتونة -ذات المنهج التقليدي- والصادقية -ذات التعليم العصري المتطور- أثرها في حياته، إذ فتحت وعيه على ضرورة ردم الهوة بين تيارين فكريين ما زالا في طور التكوين، ويقبلان أن يكونا خطوط انقسام ثقافي وفكري في المجتمع التونسي، وهما: تيار الأصالة الممثل في الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل في الصادقية، ودون آراءه هذه في كتابه النفيس "أليس الصبح بقريب؟" من خلال الرؤية الحضارية التاريخية الشاملة التي تدرك التحولات العميقة التي يمر بها المجتمع الإسلامي والعالمي.
وفي سنة (1321 هـ = 1903 م) قام الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية بزيارته الثانية لتونس التي كانت حدثا ثقافيا دينيا كبيرا في الأوساط التونسية، والتقاه في تلك الزيارة الطاهر بن عاشور فتوطدت العلاقة بينهما، وسماه محمد عبده بـ "سفير الدعوة" في جامع الزيتونة؛ إذ وجدت بين الشيخين صفات مشتركة، أبرزها ميلهما إلى الإصلاح التربوي والاجتماعي الذي صاغ ابن عاشور أهم ملامحه بعد ذلك في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام". وقد توطدت العلاقة بينه وبين رشيد رضا، وكتب ابن عاشور في مجلة المنار.
آراء.. ومناصب
عين الطاهر بن عاشور نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة (1325 هـ = 1907م)؛ فبدأ في تطبيق رؤيته الإصلاحية العلمية والتربوية، وأدخل بعض الإصلاحات على الناحية التعليمية، وحرر لائحة في إصلاح التعليم وعرضها على الحكومة فنفذت بعض ما فيها، وسعى إلى إحياء بعض العلوم العربية؛ فأكثر من دروس الصرف في مراحل التعليم وكذلك دروس أدب اللغة، ودرس بنفسه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام.
وأدرك صاحبنا أن الإصلاح التعليمي يجب أن ينصرف بطاقته القصوى نحو إصلاح العلوم ذاتها؛ على اعتبار أن المعلم مهما بلغ به الجمود فلا يمكنه أن يحول بين الأفهام وما في التآليف؛ فإن الحق سلطان!!
ورأى أن تغيير نظام الحياة في أي من أنحاء العالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم العقلية، ويستدعي تغيير أساليب التعليم. وقد سعى الطاهر إلى إيجاد تعليم ابتدائي إسلامي في المدن الكبيرة في تونس على غرار ما يفعل الأزهر في مصر، ولكنه قوبل بعراقيل كبيرة.
أما سبب الخلل والفساد اللذين أصابا التعليم الإسلامي فترجع في نظره إلى فساد المعلم، وفساد التآليف، وفساد النظام العام؛ وأعطى أولوية لإصلاح العلوم والتآليف.
اختير ابن عاشور في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328 هـ = 1910م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 هـ = 1924م)، ثم اختير شيخا لجامع الزيتونة في (1351 هـ = 1932م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة.
أعيد تعينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ = 1945م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
وشملت عناية الطاهر بن عاشور إصلاح الكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التعليم؛ فاستبدل كثيرا من الكتب القديمة التي كانت تدرس وصبغ عليها الزمان صبغة القداسة بدون مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كما راعى في المرحلة التعليمية العالية التبحر في أقسام التخصص، وبدأ التفكير في إدخال الوسائل التعليمية المتنوعة.
وحرص على أن يصطبغ التعليم الزيتوني بالصبغة الشرعية والعربية، حيث يدرس الطالب الزيتوني الكتب التي تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص في المعاني؛ لذلك دعا إلى التقليل من الإلقاء والتلقين، وإلى الإكثار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الفهم التي يستطيع من خلالها الطالب أن يعتمد على نفسه في تحصيل العلم.
ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374 هـ = 1956م).
التحرير والتنوير..
غلاف كتاب التحرير والتنوير لابن عاشور
كان الطاهر بن عاشور عالما مصلحا مجددا، لا يستطيع الباحث في شخصيته وعلمه أن يقف على جانب واحد فقط، إلا أن القضية الجامعة في حياته وعلمه ومؤلفاته هي التجديد والإصلاح من خلال الإسلام وليس بعيدا عنه، ومن ثم جاءت آراؤه وكتاباته ثورة على التقليد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري.
يعد الطاهر بن عاشور من كبار مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، ولقد احتوى تفسيره "التحرير والتنوير" على خلاصة آرائه الاجتهادية والتجديدية؛ إذ استمر في هذا التفسير ما يقرب من 50 عاما، وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وأخرى عليها؛ "فالاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد"، ووصف تفسيره بأنه "احتوى أحسن ما في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفاسير".
وتفسير التحرير والتنوير في حقيقته تفسير بلاغي، اهتم فيه بدقائق البلاغة في كل آية من آياته، وأورد فيه بعض الحقائق العلمية ولكن باعتدال ودون توسع أو إغراق في تفريعاتها ومسائلها.
وقد نقد ابن عاشور كثيرا من التفاسير والمفسرين، ونقد فهم الناس للتفسير، ورأى أن أحد أسباب تأخر علم التفسير هو الولع بالتوقف عند النقل حتى وإن كان ضعيفا أو فيه كذب، وكذلك اتقاء الرأي ولو كان صوابا حقيقيا، وقال: "لأنهم توهموا أن ما خالف النقل عن السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به"؛ فأصبحت كتب التفسير عالة على كلام الأقدمين، ولا همّ للمفسر إلا جمع الأقوال، وبهذه النظرة أصبح التفسير "تسجيلا يقيَّد به فهم القرآن ويضيَّق به معناه".
ولعل نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي كان من روادها الإمام محمد عبده الذي رأى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن، وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في معاني القرآن. وكان لتفاعل الطاهر بن عاشور الإيجابي مع القرآن الكريم أثره البالغ في عقل الشيخ الذي اتسعت آفاقه فأدرك مقاصد الكتاب الحكيم وألم بأهدافه وأغراضه، مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد التحرير والتنوير وهو كتاب "مقاصد الشريعة".
مقاصد الشريعة..
كان الطاهر بن عاشور فقيها مجددا، يرفض ما يردده بعض أدعياء الفقه من أن باب الاجتهاد قد أغلق في أعقاب القرن الخامس الهجري، ولا سبيل لفتحه مرة ثانية، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجد في حياتهم.
وإذا كان علم أصول الفقه هو المنهج الضابط لعملية الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه فإن الاختلال في هذا العلم هو السبب في تخلي العلماء عن الاجتهاد. ورأى أن هذا الاختلال يرجع إلى توسيع العلم بإدخال ما لا يحتاج إليه المجتهد، وأن قواعد الأصول دونت بعد أن دون الفقه، لذلك كان هناك بعض التعارض بين القواعد والفروع في الفقه، كذلك الغفلة عن مقاصد الشريعة؛ إذ لم يدون منها إلا القليل، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول لأن بها يرتفع خلاف كبير.
ويعتبر كتاب "مقاصد الشريعة" من أفضل ما كتب في هذا الفن وضوحا في الفكر ودقة في التعبير وسلامة في المنهج واستقصاء للموضوع.
محنة التجنيس..
لم يكن الطاهر بن عاشور بعيدا عن سهام الاستعمار والحاقدين عليه والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشيخ لمحنة قاسية استمرت 3 عقود عرفت بمحنة التجنيس، وملخصها أن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا في (شوال 1328 هـ = 1910م) عرف بقانون التجنيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهذا القانون ومنعوا المتجنسين من الدفن في المقابر الإسلامية؛ مما أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إلى الحيلة لاستصدار فتوى تضمن للمتجنسين التوبة من خلال صيغة سؤال عامة لا تتعلق بالحالة التونسية توجه إلى المجلس الشرعي.
وكان الطاهر يتولى في ذلك الوقت سنة (1352 هـ = 1933م) رئاسة المجلس الشرعي لعلماء المالكية فأفتى المجلس صراحة بأنه يتعين على المتجنس عند حضوره لدى القاضي أن ينطق بالشهادتين ويتخلى في نفس الوقت عن جنسيته التي اعتنقها، لكن الاستعمار حجب هذه الفتوى، وبدأت حملة لتلويث سمعة هذا العالم الجليل، وتكررت هذه الحملة الآثمة عدة مرات على الشيخ، وهو صابر محتسب.
صدق الله وكذب بورقيبة..
ومن المواقف المشهورة للطاهر بن عاشور رفضه القاطع استصدار فتوى تبيح الفطر في رمضان، وكان ذلك عام (1381 هـ = 1961م) عندما دعا "الحبيبُ بورقيبة" الرئيسُ التونسي السابق العمالَ إلى الفطر في رمضان بدعوى زيادة الإنتاج، وطلب من الشيخ أن يفتي في الإذاعة بما يوافق هذا، لكن الشيخ صرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها : "صدق الله وكذب بورقيبة"، فخمد هذا التطاول المقيت وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور.
وفاة..
وقد توفي الطاهر بن عاشور في (13 رجب 1393 هـ = 12 أغسطس 1973م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.
اقرأ أيضًا:
من مصادر الدراسة:
  • محمد الطاهر بن عاشور – تفسير التحرير والتنوير – الشركة التونسية للتوزيع – تونس 1974.
  • محمد الطاهر بن عاشور – مقاصد الشريعة الإسلامية - تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي - دار النفائس بيروت الطبعة الأولى 1999.
  • بلقاسم الغالي - محمد الطاهر بن عاشور.. حياته وآثاره - دار ابن حزم – بيروت الطبعة الأولى 1996.
  • محمد محفوظ - تراجم المؤلفين التونسيين – دار الغرب الإسلامي – 1985.

*د يحيى
25 - يونيو - 2010
أحبه هو والطنطاوي والقرضاوي : رحم الله الأول والثاني ، وحفظ وستر الثالث.    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
الغزالي.. فارس الدعوة البليغ
(في ذكرى مولده: 5 من ذي الحجة 1335هـ)
 أحمد تمام
كان الشيخ محمد الغزالي حجة كأبي حامد الغزالي
كان الشيخ "محمد الغزالي" واحدًا من دعاة الإسلام العظام، ومن كبار رجال الإصلاح، اجتمع له ما لم يجتمع إلا لقليل من النابهين؛ فهو مؤمن صادق الإيمان، مجاهد في ميدان الدعوة، ملك الإسلام حياته؛ فعاش له، ونذر حياته كلها لخدمته، وسخر قلمه وفكره في بيان مقاصده وجلاء أهدافه، وشرح مبادئه، والذود عن حماه، والدفاع عنه ضد خصومه، لم يدع وسيلة تمكنه من بلوغ هدفه إلا سلكها؛ فاستعان بالكتاب والصحيفة والإذاعة والتلفاز في تبليغ ما يريد.
رزقه الله فكرا عميقا، وثقافة إسلامية واسعة، ومعرفة رحيبة بالإسلام؛ فأثمر ذلك كتبا عدة في ميدان الفكر الإسلامي، تُحيي أمة، وتُصلح جيلا، وتفتح طريقا، وتربي شبابا، وتبني عقولا، وترقي فكرا. وهو حين يكتب أديب مطبوع، ولو انقطع إلى الأدب لبلغ أرفع منازله، ولكان أديبا من طراز حجة الأدب، ونابغة الإسلام "مصطفى صادق الرافعي"، لكنه اختار طريق الدعوة؛ فكان أديبها النابغ.
ووهبه الله فصاحة وبيانا، يجذب من يجلس إليه، ويأخذ بمجامع القلوب فتهوي إليه، مشدودة بصدق اللهجة، وروعة الإيمان، ووضوح الأفكار، وجلال ما يعرض من قضايا الإسلام؛ فكانت خطبه ودروسه ملتقى للفكر ومدرسة للدعوة في أي مكان حل به. والغزالي يملك مشاعر مستمعه حين يكون خطيبا، ويوجه عقله حين يكون كاتبا؛ فهو يخطب كما يكتب عذوبة ورشاقة، وخطبه قطع من روائع الأدب.
والغزالي رجل إصلاح عالم بأدواء المجتمع الإسلامي في شتى ربوعه، أوقف حياته على كشف العلل، ومحاربة البدع وأوجه الفساد في لغة واضحة لا غموض فيها ولا التواء، يجهر بما يعتقد أنه صواب دون أن يلتفت إلى سخط الحكام أو غضب المحكومين، يحرّكه إيمان راسخ وشجاعة مطبوعة، ونفس مؤمنة.
المولد والنشأة
في قرية "نكلا العنب" التابعة لمحافظة البحيرة بمصر ولد الشيخ محمد الغزالي في (5 من ذي الحجة 1335هـ = 22 من سبتمبر 1917م) ونشأة في أسرة كريمة، وتربى في بيئة مؤمنة؛ فحفظ القرآن، وقرأ الحديث في منزل والده، ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني الابتدائي، وظل به حتى حصل على الثانوية الأزهرية، ثم انتقل إلى القاهرة سنة (1356هـ =1937م) والتحق بكلية أصول الدين، وفي أثناء دراسته بالقاهرة اتصل بالإمام حسن البنا وتوثقت علاقته به، وأصبح من المقربين إليه، حتى إن الإمام البنا طلب منه أن يكتب في مجلة "الإخوان المسلمين" لما عهد فيه من الثقافة والبيان؛ فظهر أول مقال له وهو طالب في السنة الثالثة بالكلية، وكان البنا لا يفتأ يشجعه على مواصلة الكتابة حتى تخرج سنة (1360هـ = 1941م) ثم تخصص في الدعوة، وحصل على درجة "العالمية" سنة (1362هـ = 1943م) وبدأ رحلته في الدعوة في مساجد القاهرة.
في ميدان الدعوة والفكر
كان الميدان الذي خُلق له الشيخ الغزالي هو مجال الدعوة إلى الله على بصيرة ووعي، مستعينا بقلمه ولسانه؛ فكان له باب ثابت في مجلة الإخوان المسلمين تحت عنوان "خواطر حية" جلَّى قلمه فيها عن قضايا الإسلام ومشكلات المسلمين المعاصرة، وقاد حملات صادقة ضد الظلم الاجتماعي وتفاوت الطبقات وتمتُّع أقلية بالخيرات في الوقت الذي يعاني السواد الأعظم من شظف العيش.
ثم لم يلبث أن ظهر أول مؤلفات الشيخ الغزالي بعنوان "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" سنة (1367هـ = 1947م) أبان فيه أن للإسلام من الفكر الاقتصادي ما يدفع إلى الثروة والنماء والتكافل الاجتماعي بين الطبقات، ثم أتبع هذا الكتاب بآخر تحت عنوان "الإسلام والمناهج الاشتراكية"، مكملا الحلقة الأولى في ميدان الإصلاح الاقتصادي، شارحا ما يراد بالتأمين الاجتماعي، وتوزيع الملكيات على السنن الصحيحة، وموضع الفرد من الأمة ومسئولية الأمة عن الفرد، ثم لم يلبث أن أصدر كتابه الثالث "الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين".
والكتب الثلاثة تبين في جلاء جنوح الشيخ إلى الإصلاح في هذه الفترة المبكرة، وولوجه ميادين في الكتابة كانت جديدة تماما على المشتغلين بالدعوة والفكر الإسلامي، وطرْقه سبلا لم يعهدها الناس من قبله، وكان همُّ معظم المشتغلين بالوعظ والإرشاد قبله الاقتصار على محاربة البدع والمنكرات.
في المعتقل
ظل الشيخ يعمل في مجال الدعوة حتى ذاعت شهرته بين الناس لصدقه وإخلاصه وفصاحته وبلاغته، حتى هبّت على جماعة "الإخوان المسلمين" رياح سوداء؛ فصدر قرار بحلها في (صفر 1368هـ = ديسمبر 1948م) ومصادرة أملاكها والتنكيل بأعضائها، واعتقال عدد كبير من المنضمين إليها، وانتهى الحال باغتيال مؤسس الجماعة تحت بصر الحكومة وبتأييدها، وكان الشيخ الغزالي واحدا ممن امتدت إليهم يد البطش والطغيان، فأودع معتقل الطور مع كثير من إخوانه، وظل به حتى خرج من المعتقل في سنة (1369هـ = 1949م) ليواصل عمله، وهو أكثر حماسا للدعوة، وأشد صلابة في الدفاع عن الإسلام وبيان حقائقه.
ولم ينقطع قلمه عن كتابة المقالات وتأليف الكتب، وإلقاء الخطب والمحاضرات، وكان من ثمرة هذا الجهد الدؤوب أن صدرت له جملة من الكتب كان لها شأنها في عالم الفكر مثل: "الإسلام والاستبداد السياسي" الذي انتصر فيه للحرية وترسيخ مبدأ الشورى، وعدّها فريضة لا فضيلة، وملزِمة لا مُعْلِمة، وهاجم الاستبداد والظلم وتقييد الحريات، ثم ظهرت له تأملات في: الدين والحياة، وعقيدة المسلم، وخلق المسلم.
من هنا نعلم
وفي هذه الفترة ظهر كتاب للأستاذ خالد محمد خالد بعنوان "من هنا نبدأ"، زعم فيه أن الإسلام دين لا دولة، ولا صلة له بأصول الحكم وأمور الدنيا، وقد أحدث الكتاب ضجة هائلة وصخبا واسعا على صفحات الجرائد، وهلل له الكارهون للإسلام، وأثنوا على مؤلفه، وقد تصدى الغزالي لصديقه خالد محمد خالد، وفند دعاوى كتابه في سلسلة مقالات، جُمعت بعد ذلك في كتاب تحت عنوان "من هنا نعلم".
ويقتضي الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ خالد محمد خالد رجع عن كل سطر قاله في كتابه "من هنا نبدأ"، وألّف كتابا آخر تحت عنوان "دين ودولة"، مضى فيه مع كتاب الغزالي في كل حقائقه.
ثم ظهر له كتاب "التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام"، وقد ألفه على مضض؛ لأنه لا يريد إثارة التوتر بين عنصري الأمة، ولكن ألجأته الظروف إلى تسطيره ردًّا على كتاب أصدره أحد الأقباط، افترى فيه على الإسلام. وقد التزم الغزالي الحجة والبرهان في الرد، ولم يلجأ إلى الشدة والتعنيف، وأبان عن سماحة الإسلام في معاملة أهل الكتاب، وتعرض للحروب الصليبية وما جرّته على الشرق الإسلامي من شرور وويلات، وما قام به الأسبانيون في القضاء على المسلمين في الأندلس بأبشع الوسائل وأكثرها هولا دون وازع من خلق أو ضمير.
الغزالي وعبد الناصر
بعد قيام ثورة 1952م، ونجاح قادتها في إحكام قبضتهم على البلاد، تنكروا لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت سببا في نجاح الثورة واستقرارها، ودأبوا على إحداث الفتنة بين صفوفها، ولولا يقظة المرشد الصلب "حسن الهضيبي" وتصديه للفتنة لحدث ما لا تُحمد عقباه، وكان من أثر هذه الفتنة أن شب نزاع بين الغزالي والإمام المرشد، انتهى بفصل الغزالي من الجماعة وخروجه من حظيرتها.
وقد تناول الغزالي أحداث هذا الخلاف، وراجع نفسه فيه، وأعاد تقدير الموقف، وكتب في الطبعة الجديدة من كتابه "من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث"، وهو الكتاب الذي دوّن فيه الغزالي أحداث هذا الخلاف فقال: "لقد اختلفت مع المغفور له الأستاذ حسن الهضيبي، وكنت حادّ المشاعر في هذا الخلاف؛ لأني اعتقدت أن بعض خصومي أضغنوا صدر الأستاذ حسن الهضيبي لينالوا مني، فلما التقيت به –عليه رحمة الله- بعد أن خرج من المعتقل تذاكرنا ما وقع، وتصافينا، وتناسينا ما كان. واتفقت معه على خدمة الدعوة الإسلامية، وعفا الله عما سلف". وهذا مما يحسب للغزالي، فقد كان كثير المراجعة لما يقول ويكتب، ولا يستنكف أن يؤوب إلى الصواب ما دام قد تبين له، ويعلن عن ذلك في شجاعة نادرة لا نعرفها إلا في الأفذاذ من الرجال.
وظل الشيخ في هذا العهد يجأر بالحق ويصدع به، وهو مغلول اليد مقيد الخطو، ويكشف المكر السيئ الذي يدبره أعداء الإسلام، من خلال ما كتب في هذه الفترة الحالكة السواد مثل: "كفاح دين"، "معركة المصحف في العالم الإسلامي"، و"حصاد الغرور"، و"الإسلام والزحف الأحمر".
ويُحسب للغزالي جرأته البالغة وشجاعته النادرة في بيان حقائق الإسلام، في الوقت الذي آثر فيه الغالبية من الناس الصمت والسكون؛ لأن فيه نجاة حياتهم من هول ما يسمعون في المعتقلات. ولم يكتفِ بعضهم بالصمت المهين بل تطوع بتزيين الباطل لأهل الحكم وتحريف الكلم عن مواضعه، ولن ينسى أحد موقفه في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عُقد سنة (1382هـ = 1962م) حيث وقف وحده أمام حشود ضخمة من الحاضرين يدعو إلى استقلال الأمة في تشريعاتها، والتزامها في التزيِّي بما يتفق مع الشرع، وكان لكلام الغزالي وقعه الطيب في نفوس المؤمنين الصامتين في الوقت الذي هاجت فيه أقلام الفتنة، وسلطت سمومها على الشيخ الأعزل فارس الميدان، وخرجت جريدة "الأهرام" عن وقارها وسخرت من الشيخ في استهانة بالغة، لكن الأمة التي ظُن أنها قد استجابت لما يُدبَّر لها خرجت في مظاهرات حاشدة من الجامع الأزهر، وتجمعت عند جريدة الأهرام لتثأر لكرامتها وعقيدتها ولكرامة أحد دعاتها ورموزها، واضطرت جريدة الأهرام إلى تقديم اعتذار.
في عهد السادات
واتسعت دائرة عمل الشيخ في عهد الرئيس السادات، وبخاصة في الفترات الأولى من عهده التي سُمح للعلماء فيها بشيء من الحركة، استغله الغيورون من العلماء؛ فكثفوا نشاطهم في الدعوة، فاستجاب الشباب لدعوتهم، وظهر الوجه الحقيقي لمصر. وكان الشيخ الغزالي واحدًا من أبرز هؤلاء الدعاة، يقدمه جهده وجهاده ولسانه وقلمه، ورزقه الله قبولا وبركة في العمل؛ فما كاد يخطب الجمعة في جامع "عمرو بن العاص" -وكان مهملا لسنوات طويلة- حتى عاد إليه بهاؤه، وامتلأت أروقته بالمصلين.
ولم يتخلَّ الشيخ الغزالي عن صراحته في إبداء الرأي ويقظته في كشف المتربصين بالإسلام، وحكمته في قيادة من ألقوا بأزمّتهم له، حتى إذا أعلنت الدولة عن نيتها في تغيير قانون الأحوال الشخصية في مصر، وتسرب إلى الرأي العام بعض مواد القانون التي تخالف الشرع الحكيم؛ قال الشيخ فيها كلمته، بما أغضب بعض الحاكمين، وزاد من غضبهم التفاف الشباب حول الشيخ، ونقده بعض الأحوال العامة في الدولة، فضُيق عليه وأُبعد عن جامع عمرو بن العاص، وجُمّد نشاطه في الوزارة، فاضطر إلى مغادرة مصر إلى العمل في جامعة "أم القرى" بالمملكة العربية السعودية، وظل هناك سبع سنوات لم ينقطع خلالها عن الدعوة إلى الله، في الجامعة أو عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
في الجزائر
ثم انتقل الشيخ الغزالي إلى الجزائر ليعمل رئيسا للمجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسطنطينة، ولم يقتصر أثر جهده على تطوير الجامعة، وزيادة عدد كلياتها، ووضع المناهج العلمية والتقاليد الجامعية، بل امتد ليشمل الجزائر كلها؛ حيث كان له حديث أسبوعي مساء كل يوم إثنين يبثه التلفاز، ويترقبه الجزائريون لما يجدون فيه من معانٍ جديدة وأفكار تعين في فهم الإسلام والحياة. ولا شك أن جهاده هناك أكمل الجهود التي بدأها زعيما الإصلاح في الجزائر: عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي، ومدرستهما الفكرية.
ويقتضي الإنصاف القول بأن الشيخ كان يلقى دعما وعونا من رئيس الدولة الجزائرية "الشاذلي بن جديد"، الذي كان يرغب في الإصلاح، وإعادة الجزائر إلى عروبتها بعد أن أصبحت غريبة الوجه واللسان.
وبعد السنوات السبع التي قضاها في الجزائر عاد إلى مصر ليستكمل نشاطه وجهاده في التأليف والمحاضرة حتى لقي الله وهو في الميدان الذي قضى عمره كله، يعمل فيه في (19 من شوال 1270هـ = 9 من مارس 1996م) ودفن بالبقيع في المدينة المنورة.
الغزالي بين رجال الإصلاح
يقف الغزالي بين دعاة الإصلاح كالطود الشامخ، متعدد المواهب والملكات، راض ميدان التأليف؛ فلم يكتفِ بجانب واحد من جوانب الفكر الإسلامي؛ بل شملت مؤلفاته: التجديد في الفقه السياسي ومحاربة الأدواء والعلل، والرد على خصوم الإسلام، والعقيدة والدعوة والأخلاق، والتاريخ والتفسير والحديث، والتصوف وفن الذكر. وقد أحدثت بعض مؤلفاته دويًّا هائلا بين مؤيديه وخصومه في أخريات حياته مثل كتابيه: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" و"قضايا المرأة المسلمة".
وكان لعمق فكره وفهمه للإسلام أن اتسعت دائرة عمله لتشمل خصوم الإسلام الكائدين له، سواء أكانوا من المسلمين أو من غيرهم، وطائفة كبيرة من كتبه تحمل هذا الهمّ، وتسد تلك الثغرة بكشف زيغ هؤلاء، ورد محاولاتهم للكيد للإسلام.
أما الجبهة الأخرى التي شملتها دائرة عمله فشملت بعض المشتغلين بالدعوة الذين شغلوا الناس بالفروع عن الأصول وبالجزئيات عن الكليات، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب، وهذه الطائفة من الناس تركزت عليهم أعمال الشيخ وجهوده؛ لكي يفيقوا مما هم فيه من غفلة وعدم إدراك، ولم يسلم الشيخ من ألسنتهم، فهاجموه في عنف، ولم يراعوا جهاده وجهده، ولم يحترموا فكره واجتهاده، لكن الشيخ مضى في طريقه دون أن يلتفت إلى صراخهم.
وتضمنت كتبه عناصر الإصلاح التي دعا إليها على بصيرة؛ لتشمل تجديد الإيمان بالله وتعميق اليقين بالآخرة، والدعوة إلى العدل الاجتماعي، ومقاومة الاستبداد السياسي، وتحرير المرأة من التقاليد الدخيلة، ومحاربة التدين المغلوط، وتحرير الأمّة وتوحيدها، والدعوة إلى التقدم ومقاومة التخلف، وتنقية الثقافة الإسلامية، والعناية باللغة العربية.
واستعان في وسائل إصلاحه بالخطبة البصيرة، التي تتميز بالعرض الشافي، والأفكار الواضحة التي يعد لها جيدا، واللغة الجميلة الرشيقة، والإيقاع الهادئ والنطق المطمئن؛ فلا حماسة عاتية تهيج المشاعر والنفوس، ولا فضول في الكلام يُنسي بضعه بعضا، وهو في خطبه معلِّم موجه، ومصلح مرشد، ورائد طريق يأخذ بيد صاحبه إلى بَر الأمان، وخلاصة القول أنه توافرت للغزالي من ملكات الإصلاح ما تفرق عند غيره؛ فهو: مؤلف بارع، ومجاهد صادق، وخطيب مؤثر، وخبير بأدواء المجتمع بصير بأدويته.
اقرأ أيضًا:
* من مصادر الدراسة:
  • يوسف القرضاوي: الشيخ الغزالي كما عرفته - دار الشروق - القاهرة - 1420-2000م.
  • عبد الحليم عويس وآخرون: الشيخ محمد الغزالي.. صور من حياة مجاهد عظيم ودراسة لجوانب من فكره - دار الصحوة للنشر - القاهرة 1413هـ = 1993م.
  • محمد عمارة: الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الحربية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1992م.
  • محمد رجب بيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين - دار القلم - دمشق 1420هـ = 1999م.
*د يحيى
26 - يونيو - 2010
ابن باديس    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
ابن باديس: الإسلام ديننا والعربية لغتنا
(في ذكرى ميلاده: 11 ربيع الآخر 1307هـ)
سمير حلبي
العلامة عبد الحميد بن باديس
كانت الجزائر أول أقطار العالم العربي وقوعًا تحت براثن الاحتلال، وقُدّر أن يكون مغتصبها الفرنسي من أقسى المحتلين سلوكًا واتجاهًا، حيث استهدف طمس هوية الجزائر ودمجها باعتبارها جزءًا من فرنسا، ولم يترك وسيلة تمكنه من تحقيق هذا الغرض إلا اتبعها، فتعددت وسائلة، وإن جمعها هدف واحد، هو هدم عقيدة الأمة، وإماتة روح الجهاد فيها، وإفساد أخلاقها، وإقامة فواصل بينها وبين هويتها وثقافتها وتراثها، بمحاربة اللغة العربية وإحلال الفرنسية محلها، لتكون لغة التعليم والثقافة والتعامل بين الناس.
غير أن الأمة لم تستسلم لهذه المخططات، فقاومت بكل ما تملك، ودافعت بما توفر لديها من إمكانات، وكانت معركة الدفاع عن الهوية واللسان العربي أشد قوة وأعظم تحديًا من معارك الحرب والقتال، وقد عبّر ابن باديس، عن إصرار أمته وتحديها لمحاولات فرنسا بقوله: "إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج، ولها وطن محدد معين هو الوطن الجزائري".
المولد والنشأة
ولد "عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس" المعروف بعبد الحميد بن باديس في (11 من ربيع الآخِر 1307 هـ= 5 من ديسمبر 1889م) بمدينة قسطنطينة، ونشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء، ومشهورة بالعلم والأدب، فعنيت بتعليم ابنها وتهذيبه، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتعلّم مبادئ العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار، ثم سافر إلى تونس في سنة (1326هـ= 1908م) وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلوم الإسلامية على جماعة من أكابر علمائه، أمثال العلّامة محمد النخلي القيرواني المتوفى سنة (1342هـ= 1924م)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان له تأثير كبير في التكوين اللغوي لعبد الحميد بن باديس، والشغف بالأدب العربي، والشيخ محمد الخضر الحسين، الذي هاجر إلى مصر وتولى مشيخة الأزهر.
وبعد أربع سنوات قضاها ابن باديس في تحصيل العلم بكل جدّ ونشاط، تخرج في سنة (1330هـ= 1912م) حاملاً شهادة "التطويع" ثم رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي" الذي هاجر إلى المدينة المنورة، متبرّمًا من الاستعمار الفرنسي وسلطته، واشتغل هناك بتدريس الحديث، كما اتصل بعدد من علماء مصر والشام، وتتلمذ على الشيخ حسين أحمد الهندي الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر، واستثمار علمه في الإصلاح، إذ لا خير في علم ليس بعده عمل، فعاد إلى الجزائر، وفي طريق العودة مرّ بالشام ومصر واتصل بعلمائهما، واطّلع على الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهما.
ابن باديس معلمًا ومربيًا
آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم، وهي الدعوة التي حمل لواءها الشيخ محمد عبده، في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وأذاعها في تونس والجزائر خلال زيارته لهما سنة (1321هـ= 1903م)، فعمل ابن باديس على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.
وقد بدأ ابن باديس جهوده الإصلاحية بعد عودته من الحج، بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسطنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثة العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في (13 من ربيع الآخر 1357هـ= 12 من يونيو 1938م).
ويُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضًا، وتطرقت إلى إصلاح التعليم تطوير ومناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الأخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسطنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.
ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ= 1917م)، ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ= 1931م) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجانًا.
وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية، للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس مثل هذه الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر، لأنه لا بقاء لهم إلا بالإسلام، ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم.
وحثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، وحمّل مسئولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة، رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا إذا فرطوا في هذا الواجب.
وشارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ=1931م)، وتضمن اقتراحه خلاصة آرائه في التربية والتعليم، فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق بالجامع، من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلك، والهندسة، وجعل الدراسة في الزيتونة تتم على مرحلتين: الأولى تسمى قسم المشاركة، وتستغرق الدراسة فيه ثماني سنوات، وقسم التخصص ومدته سنتان، ويضم ثلاثة أفرع: فرع للقضاء والفتوى، وفرع للخطاب والوعظ، وفرع لتخريج الأساتذة.
ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
من اليسار إلى اليمين: الأستاذ الإبراهيمي، الأستاذ ابن باديس، الأستاذ العقبي
احتفلت فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر في سنة (1349هـ= 1930م) فشحذ هذا الاحتفال البغيض همّة علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم وغيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر الفرنسي، وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم هو: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا لها.
اقرأ حول الجمعية ودورها في حماية الثقافة العربية الإسلامية.
وقد نجحت الجمعية في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمر الفرنسي وحشد الأمة الجزائرية ضدها، وبعث الروح الإسلامية في النفوس، ونشر العلم بين الناس، وكان إنشاء المدارس في المساجد هو أهم وسائلها في تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى الوعّاظ الذين كانوا يجوبون المدن والقرى، لتعبئة الناس ضد المستعمر، ونشر الوعي بينهم.
وانتبهت فرنسا إلى خطر هذه التعبئة، وخشيت من انتشار الوعي الإسلامي؛ فعطّلت المدارس، وزجّت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسئول الفرنسي عن الأمن في الجزائر، في عام (1352هـ= 1933م) تعليمات مشددة بمراقبة العلماء مراقبة دقيقة، وحرّم على غير المصرح لهم من قبل الإدارة الفرنسية باعتلاء منابر المساجد، ولكي يشرف على تنفيذ هذه الأوامر، عيّن نفسه رئيسًا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
ولكي ندرك أهمية ما قام به ابن باديس ورفاقه من العلماء الغيورين، يجب أن نعلم أن فرنسا منذ أن وطأت قدماها الجزائر سنة (1246 هـ= 1830م) عملت على القضاء على منابع الثقافة الإسلامية بها، فأغلقت نحوا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم مائة وخمسين ألف طالب أو يزيدون، ووضعت قيودًا مهنية على فتح المدارس، التي قصرتها على حفظ القرآن لا غير، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن، وبخاصة الآيات التي تدعو إلى التحرر، وتنادي بمقاومة الظلم والاستبداد، وعدم دراسة تاريخ الجزائر، والتاريخ العربي الإسلامي، والأدب العربي، وتحريم دراسة المواد العلمية والرياضية.
إسهامات ابن باديس السياسية
لم يكن ابن باديس مصلحًا فحسب، بل كان مجاهدًا سياسيًا، مجاهرًا بعدم شرعية الاحتلال الفرنسي، وأنه حكم استبدادي غير إنساني، يتناقض مع ما تزعمه من أن الجزائر فرنسية، وأحيا فكرة الوطن الجزائري بعد أن ظنّ كثيرون أن فرنسا نجحت في جعل الجزائر مقاطعة فرنسية، ودخل في معركة مع الحاكم الفرنسي سنة (1352هـ= 1933م) واتهمه بالتدخل في الشئون الدينية للجزائر على نحو مخالف للدين والقانون الفرنسي، وأفشل فكرة اندماج الجزائر في فرنسا التي خُدع بها كثير من الجزائريين سنة (1353 هـ= 1936م).
ودعا نواب الأمة الجزائريين إلى قطع حبال الأمل في الاتفاق مع الاستعمار، وضرورة الثقة بالنفس، وخاطبهم بقوله: "حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب أمة ترى –أو ترى أكثريتها- ذلك كثيرا علينا…! ويسمعنا كثير منها في شخصيتنا الإسلامية ما يمس كرامتنا"، وأعلن رفضه مساعدة فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
وكانت الصحف التي يصدرها أو يشارك في الكتابة بها من أهم وسائله في نشر أفكاره الإصلاحية، فأصدر جريدة "المنتقد" سنة (1345 هـ= 1926م) وتولى رئاستها بنفسه، لكن المحتل عطّلها؛ فأصدر جريدة "الشهاب" واستمرت في الصدور حتى سنة (1358هـ= 1939م) واشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل "السنة" و"الصراط" و"البصائر".
وظل هذا المصلح -رغم مشاركته في السياسة- يواصل رسالته الأولى التي لم تشغله عنها صوارف الحياة، أو مكائد خصومه من بعض الصوفية أذيال المستعمر، أو مؤامرات فرنسا وحربها لرسالته، وبقي تعليم الأمة هو غايته الحقيقية، وإحياء الروح الإسلامية هو هدفه السامق، وبث الأخلاق الإسلامية هو شغله الشاغل، وقد أتت دعوته ثمارها، فتحررت الجزائر من براثن الاحتلال الفرنسي، وإن ظلت تعاني من آثاره.
وقد جمع "عمار الطالبي" آثار ابن باديس، ونشرها في أربعة مجلدات، ونشرها في الجزائر سنة (1388هـ= 1968م).
وتوفي ابن باديس في (8 من ربيع الأول 1359 هـ= 16 من إبريل 1940م).
* من مصادر الدراسة:
  • عمار الطالبي ـ ابن باديس حياته وآثاره ـ الجزائر ـ 1388 هـ= 1968م.
  • محمود قاسم ـ الإمام عبد الحميد بن باديس: الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1979م.
  • محمد فتحي عثمان ـ عبد الحميد بن باديس: رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة ـ دار القلم ـ الكويت ـ 1407هـ= 1987م.
  • أنور الجندي ـ الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا ـ الدار القومية للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ 1385هـ= 1965م
*د يحيى
26 - يونيو - 2010
عبد العزيز البشري    كن أول من يقيّم
 
البشري (عبد العزيز ـ)
(1303 - 1362هـ/1886 - 1943م)
 
عبد العزيز بن سليم البشري، كاتب مصري، ولد وتوفي بالقاهرة، نشأ في أسرة متدينة فقد كان أبوه سليم البشري شيخ الجامع الأزهر.
درس البشري في الأزهر، وتقلّب بعد تخرجه في مناصب كثيرة، فقد شغل منصب أمين السر العام في وزارة الأوقاف، وعمل في وزارة المعارف ثم نقل إلى القضاء الشرعي في بعض الأقاليم المصرية، ثم عيّن وكيلاً للمطبوعات، ثم حطّت رحاله في مجمع اللغة العربية بالقاهرة مراقباً إدارياً، وبقي في عمله إلى أن توفي.
كان البشري ظريفاً يميل إلى الدعابة والفكاهة ويملك ذكاءً لمّاحاً مع سخرية لاذعة عنيفة أحياناً يمزجها بدعابة مصقولة تخفف من وطأتها اللاذعة، وكان البشري جميل المعشر يحبّ غشيان مجالس الناس واجتماعاتهم، فكان يتردد على المجالس الأدبية التي يقصدها المفكرون والأدباء والشعراء، والتي كانت تعقد إذ ذاك في دور الوجهاء ومنازل السياسيين أو في الصالونات الأدبية وأحياناً في المقاهي، فيشارك القوم في فكرهم وشعرهم وسياستهم ودعاباتهم ونوادرهم. وكان إلى هذا عذب الحديث مع قدرة على التلاعب بالألفاظ مما يشيع في حديثه طرافة وظرافة.
كانت ثقافة البشري عربية تراثية، استقاها من دراسته الأزهرية، أمّا ثقافته الغربية فتكاد تكون معدومة إذ لم يطّلع إلاّ على القليل مما ترجم من روائع الأدب الغربي وخاصة ماكان يلائم روحه المرحة وميله إلى الفكاهة «كالمرايا الغربية» التي كانت تنشر في الصحف المصرية حينئذٍ.
ومع ذلك لم يكن متعصباً للقديم ولا متحيّزاً له، وكان يقدر حريّة الفكر ويدعو إلى التجديد في علوم اللغة العربية. نظم البشري الشعر في أول حياته ثم تركه إلى النثر، فقد كان الأسلوب النثري أقدر على نقل أفكاره التي كان ينتقد بها عادات المجتمع، صغيرها وكبيرها، إذ لم يترك عادة أو تقليداً إلاّ نقدهما نقداً مرّاً ساخراً.
كان البشري يكتب في المجلات، وقد جمع ما كتبه من مقالات في كتب، منها «قطوف» جزآن، وفيه يصوّر ألوان التفكير المصري وبيئاته، و«المختار» وهو مجموعة مقالات في الأدب والوصف والتراجم. وقد تناول في الأدب موضوعات عن تطور الأدب العربي وفوضى النقد، وبيّن طبع الشاعر وتصنع الأدب بين القديم والجديد.
وفي التراجم ذكر سيرة أناس يعرفهم ويختلط بهم، وأفاض في ترجمة الشيخ علي يوسف ومحمد المويلحي في كتابه. و«في المرآة» جمع مقالات كان ينشرها تحت هذا العنوان، وقد تناول في مرآته بالتصوير والتحليل مجموعة كبيرة من الشخصيات السياسية والأدبية والاجتماعية والجامعية. وتأثر بأسلوب «المرايا الغربية» كما تأثر بأسلوب الجاحظ في التصوير. ومن كتبه «التربية الوطنية» وهو يدور حول موضوع واحد «التربية» وفيه يتحدث عمّا يجب أن يعرفه المواطن من حقوقه وواجباته، وقد سلك فيه بعرض أفكاره مسلك الحوار بين أستاذ وتلميذه، ودرّس الكتاب مدة طويلة في المدارس.
وصف أسلوب البشري بأنه أسلوب خاص متين، أضفى عليه الكاتب بعضاً من ذوقه السليم وعلمه الواسع وسرعة خاطره وحضور بديهته وقدرته على لطف التصوير والتخيل، ونكتته التي كان يرى لها أثراً كبيراً لا يقتصر على رسم البسمة على الشفاه أو إضحاك المستمع بل ترمي إلى تخليص النفس من الهموم وجلاء القلب من الغم وصفاء النفس، وهذا ما جعل أسلوبه فذّاً تفرد به بين الكتّاب.
 
نهلة الحمصي
 
مراجع للاستزادة:
 
ـ جمال الدين الرمادي، أدب البشري (دار الكتب المصرية، القاهرة)
ـ مجلة المجمع العلمي العدد (6) سنة 1932.
*د يحيى
26 - يونيو - 2010
 2  3  4  5