تشهد منطقة الشرق الإسلامي بوادر نهضة فكرية وثقافية تتخذ طابع الحضارة الحديثة، إلاّ أننا لا نكاد نجد من المثقفين ثقافة معاصرة إقبالاً على تراث الفكر الإسلامي، فقد شغفتهم الثقافة الغربية كل الشغف بما حَوت من ضروب التفكير في شتى مناحي الحياة .
ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن دراسة هذا التراث من الفكر الإسلامي مقصورة على قلة من المتعمقين في البحث والتنقيب والباحثين عن الذخائر والكنوز، المتخصصين بالتحقيق التاريخي في ترجمة أعلام المفكرين واستطلاع آثارهم على تعاقب العصور.
وأما جمهرة المثقفين على وجه عام، فقد حسبوا أن تراث الفكر الإسلامي موقوف على خيال شاعري محدود النطاق. أو جدل فيما وراء الواقع لا يجدي في الواقع الراهن، أو حقائق ونظريات تدور حول العقيدة وأحكام الشريعة، لا يُعنى بها إلاّ ذووها من أهل الفقه ورجال الدين.
حسبوا أن هذا التراث لا يستطيع أن يتابع الإنسان في حياته المتجددة، ولا يعالج مشكلاته الراهنة، ولا يُساير وَعيَه المعاصر، ولا يدور مع فكره المتطوّر مع الزمن. حسبوه ثقافة جيل مضى، وعهده انقضى. لا تماشي عقلياتهم ولا تتفهم نفسياتهم، ولا تلائم الحضارة والمدنية في عصر التكنولوجيا الرقمية.
ولقد ظلم هؤلاء المثقفين بهذا الحسبان تراث الفكر الإسلامي. كما ظلموا أنفسهم بالعزوف عنه، على حين أنه زاد فكري جدير أن يعيش بيننا، فتصوّر حياتنا، وتلمس آلامنا، وتستجيب لمشاعرنا وتعالج حيرتنا إزاء ما يعترضنا من مشكلات الفكر والوجدان.
وفي هذه المقالة، نعرض لاثنين من الفلاسفة المسلمين، جرت بينهما منذ أكثر من ألف عام محاورات في مسائل ومشكلات، ذانك هما : (أبو حيَّان التوحيدي: ت 414هـ/1023م) و(أبو علي أحمد مِسْكويه: ت 421هـ/1030م). الأول سائل، والآخر مجيب.
كانت أسئلة (أبي حيّان) صورة رائعة من صمت العالم المفكِّر، ذلك الصمت الذهبي الذي تكمن وراءه حركة دائبة من التأمل والتدبر، ذلك الصمت الخصب الذي يؤتي أطيب الثمرات. إنه تأمل في أوضاع الحياة، وتدبر لحقائق الكون، وحيرة إزاء المتناقضات من أخلاق الناس. تمخَّض ذلك كله عن أسئلة متزاحمة. أفضى بها إلى صاحبه (مسكويه)، فتروى في الجواب عنها، متلمساً وجه الصواب فيها. وكان من الأسئلة والأجوبة حصاد فيه للقارئ غناء ولذة وإمتاع.
لم يكن سؤال (أبي حيّان) لصاحبه (مسكويه) سؤال التلميذ الفتى لأستاذه الشيخ، ولا سؤال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى، ولكنه كان سؤال العارف للعارف، ومجاذبة النِّد للنِّد، يبتغي بسطاً لوجهات النظر، واستئناساً بجوانب الرأي، وطمأنينة لخبيئة النفس، ولو أننا تمثَّلنا (أبا حيّان) قد ألقيت عليه هذه الأسئلة من غيره، لما عي بالجواب، فيه كفاية وشفاء.
وعلى الرغم من أن (أبا حيان) كان فيلسوفاً متعمقاً في الطبيعة وما وراءها، مشغولاً بجِسام المعضلات في الأخلاق والمنطق، فإنه في أكثر ما وجَّه من الأسئلة إلى (مسكويه) كان ينحو نحواً وثيق الصِّلة بالحياة الدائرة، قريباً من المشاعر العامة، فالمسائل التي يُثيرها هي من صميم المسائل الواقعية في دنيا الناس.