البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : علوم القرآن

 موضوع النقاش : هل الشريعة الإسلامية أمية    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 زهير 
28 - مارس - 2008
أدعو الأساتذة الأكارم إلى مناقشة ما نقله الجابري عن الشاطبي من أن الشريعة الإسلامية أمية لأنها بعثت إلى أمة أمية... وقد نقل لنا الأستاذ عبد الحفيظ مقالة الجابري كاملة في موضوع الأسبوع السابق (القلب) (في مجلس علوم القرآن) وأنقل هنا نص كلام الشاطبي المذكور، وهو قوله: (فالشارع (الله) وضع الشريعة بقصد أن يفهمها الناس الذين خاطبتهم فجعلها على قدر أفهامهم. وبما أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا أمة أمية - يقول الشاطبي - فإن "هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك. فهو أجرى على اعتبار المصالح"، أي أن "الشريعة التي بُعث بها النبي الأمي عليه السلام إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما" هي "على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية" وهو"معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين. وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلافُ ما وقع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذن أمية)
  لم أفهم صراحة كيف يريدنا الجابري أن نفهم كلام الشاطبي هنا وأن نبني الشريعة على هذا الاستنتاج الفاسد. مع أن معنى كلمة (الأمي) لم تزل مدار خلاف منذ عصر التدوين وحتى الآن والرأي الذي أدين به أنا أن معنى الأميين يقابل معنى (الذين أوتوا الكتاب) ولا يعني أبدا عدم القدرة على القراءة والكتابة. فقوله تعالى (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) يمكن الاحتجاج به على أن النبي لم يكن مهتما بالثقافة الدينية، ويمكن الاحتجاج به أيضا على أن النبي (ص) لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ولكن أن يكون النبي من الأميين فهذه مسألة أخرى، وأما قوله تعالى (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) فتعني أنه كان في أهل الكتاب أميون ليسوا من أهل الكتاب الذين نزل الكتاب على لسانهم.
وبغض النظر عن كل هذا فما قاله الشاطبي كلام أشبه بالسفسطة، فكيف تكون الشريعة أمية.. ؟؟
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تعقيب    كن أول من يقيّم
 
الأخ زهير ،
الأستاذ الفاضل يحيى ،
السلام عليكم ورحمة الله ،
بغض النظر عن الملاحظات القيمة التي أبداها الأسناذ زهير ، يبدو لي أن الإشكال لا يكمن في تفسير معنى الأمي ، لأن سياق الرواية الشاطبية يشير إلى الأمية باعتبارها " جهل بالقراءة والكتابة " وحظ قليل من العلوم الكونية ، في معرض نفيه لإمكان فقه النوازل العلمية اعتمادا على تأويل النص القرآني.
وقد كانت ردود الشيخين بن عاشور والقرضاوي ردا حاسما لهذا الإمكان .
*زين الدين
30 - مارس - 2008
بين كسل العاجز واطمئنان العارف..    كن أول من يقيّم
 
السلام عليكم ورحمة الله .
- لا أعتقد أن الجابري يعاني قصورا في الفهم .... وماذا يعني نقد التراث وووووو... غير دراسة أشكال الفهم
التي كونها المسلمون لأنفسهم عن دينهم وتاريخهم وثقافتهم.. 
- هو أيضا يرى أن  " النبي الأمي " لا يعني جهل الرسول الكريم بالقراءة والكتابة ، وهو يقول في البداية
،  ما معناه ، أن الناس  لم يتقبلوا هذا ولكن عندما أخبرهم بأن ابن تيمية يقول أيضا بهذا ، سكتوا !!!
- هل يفهم الجابري القرءان ؟؟ سؤال مشروع . اقرؤوا كتابه واحكموا .
 
 
 
                                                      
 
 
اطلبوه :
 في المغرب: في أكشاك  شركة سبريس للتوزيع.
 خارج المغرب: مركز دراسات الوحدة العربية بيروت.
 
كيف نفهم القرآن؟
سؤال يستعيد, على مستوى آخر، السؤال الذي كنا طرحناه في مستهل مقدمة كتابنا الأخير "مدخل إلى القرآن الكريم" الذي خصصناه  لـ"التعريف بالقرآن ". كنا قد صغنا ذلك السؤال كما يلي: "هل يحتاج القرآن إلى تعريف"؟  ومع أن هذا السؤال كان بمثابة تحد لأمر واقع، وهو اعتقاد معظم الناس بأن القرآن لا يحتاج إلى تعريف لكونه أشهر من أن يعرَّف به –عند قراء العربية على الأقل-  فإن الاهتمام الذي أثاره ما كتبناه في ذلك "التعريف" قد كشف فعلا عن الحاجة إلى استئناف القول في هذا الموضوع.... اضغط
 
 
*abdelhafid
30 - مارس - 2008
تعقيب على مقالة د.الجابري في القرءان والعلوم الكونية    كن أول من يقيّم
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
بارك الله جميع الذين يبذلون الجهد فيما ينفعنا في ديننا ودنيانا ، والشكر الجزيل للإخوة الكرام : د.يحيى الذي نرجو له عمرة عامرة بالثواب الجزيل ، واجرا غير ممنون على مساهماته الثرية في الوراق ، والأستاذ عبد الحفيظ الذي يوقد النقاش ويلهبه بسهولة ويسر، والأستاذ زهير ظاظا الذي وهب لموضوع " القلب " روحا جديدة رائعة ومفيدة ، والشكر ، كذلك ، لجميع الأخوات والإخوة الذين لا يألون جهدا في هدايتنا إلى الصائب من القول . كما ، ونحمد لأخينا الأستاذ عبد الحفيظ إيراده مقالة الدكتور الجابري كاملة مما يجعلنا نحيط اكثر من ذي قبل بفحوى ما ترمي إليه ، ونكون على بينة من كل ما ورد فيها . وإلى حضراتكم مشاركتي ، ملبيا دعوة الأستاذ زهير ، وشاكرا له عليها . وقد رأيت ان اقتطف من مقالة الدكتور الجابري ، المفكر المشهور ، فقرات معينة أعقب ، بعون الله ، على ما جاء فيها ما استطعت ، وأذكر ما له علاقة بما ورد في المشاركات المتعددة حولها . ولكني قبل دخولي في صلب التعقيب أرى من الواجب علي ان أتطرق إلى امر أراه مهما على صعيد نظرتنا للتراث الإسلامي بجميع  أشكاله وألوانه ، وإلى اجدادنا العظام الذين هم محل فخرنا واعتزازنا . وعندما يتعرض احدنا لنقد التراث ومن قاموا على إنتاجه ، فإنه ينطلق مما يلي، أو مما هو في معناه :
1ـ احترام جهود الأجداد العلمية بما أغنوا به الحضارة العالمية ، في جميع المجالات عموما ، من تقدم نحو الأفضل . والاعتراف لهم بالفضل على من بعدهم ممن وقفوا على اكتافهم ليتمكنوا من إكمال مسيرتهم العلمية ، والاعتقاد بصدق بأن الفضل لله تعالى اولا وآخرا على جميع خلقه .
2ـ الأخذ بالحسبان أنهم افتقدوا ما نلقاه في ايامنا من وسائل تعمل على تسهيل البحث العلمي ، وتقصير زمن القيام به ، وان دقة النتائج وصوابها يعتمد على كثرة الإحاطة بمختلف انواع العلوم ، وامتلاك الوسائل الكفيلة بتحقيق تلك الإحاطة، وفي أقصر وقت ممكن، وأن اجدادنا فاتهم الكثير من العلوم الحديثة التي ظهرت في القرون الأخيرة .
  الأخذ بعين الاعتبار أن علوم الأوائل وما قامت عليه من اسس ، كانت متناسبة مع أزمنتهم ، واحوالهم وتقلباتها ، ومعارفهم التي شاء الله لهم معرفتها ، مثلما هي متناسبة مع كل عصر واهله .
4ـ أن نعذر اجدادنا فيما أخطؤوا فيه ، وأن نحمد لهم ما أصابوا فيه .
5ـ أن يكون هدفنا الأول دائما الربط بين الماضي والحاضر ، وذلك لاستخلاص العبر وتوظيفها فيما ينفعنا في زماننا هذا الذي تراجعنا فيه عن السير في ركب التقدم  العلمي مسافة كبيرة .
6ـ أن لا نغلو في تمجيد الأجداد غلوا يحول بيننا وبين نقد علومهم نقدا مرتكزا على ما نراه في مناهجهم من اخطاء . وان لا يتهم بعضنا بعضنا الآخر بالانحراف عن نصرة العرب والمسلمين ، واتباع المستشرقين ، خاصة عندما يتعرض احدنا لبعض العلوم المتعلقة بالفكر الديني أو اللغوي ، أو العلمي و الفلسفي .
                                                                   ــــــــــــــــــــــــــــــ
 
أن يقوم علماء الغرب بالكشف عن حقيقة علمية، في الأرض أو في السماء، انطلاقا من مبادئ فكرية وفرضيات منهجية لا علاقة لها إطلاقا لا بالقرآن ولا بالدين، أي دين -ومنهم من لا يؤمن بالله أو على الأقل لا ينطلق من إيمانه الديني في عملية البحث العلمي..
قول الدكتور الجابري يأخذنا إلى النظر والفحص والتدقيق في معناه ؛ لأننا لن نسلم ، دون اقتناع ، بأن لا علاقة على الإطلاق بين القرءان ، او الدين عموما ، وبين المباديء الفكرية والفرضيات المنهجية التي يقوم عليها اكتشاف الحقائق العلمية على حد قوله . ولا بد من الإشارة إلى أن العلم الطبيعي لم يكن ليوجد أصلا لولا أنه يقوم في أساسه على أن العالم الذي نعيش فيه عالم منظم فائق التنظيم ، وهذا التنظيم هو الذي اتاح للعلم أن يتقدم في سيره نحو اكتشاف الحقائق والاستفادة منها ، ولولاه لما باء هذا العلم إلا بالخسران . وهذا التنظيم ، وهذه الاستفادة أيضا ، هو ما نص عليه الدين عموما ، ولا نجد في الدين تأييدا لمن يظن ان للمصادفة ، إن وجدت ، دورا في تنظيم بنية الكون وقوانينه .  ولكن منذ متى عرف العلم الطبيعي بعض مظاهر هذا التنظيم الدقيق في الكون ؟ هل عرفه قبل الدين او مع الدين او بعد الدين ؟ الدين يجيب على هذا بان معرفة الإنسان بما حوله من كائنات ، ومعرفته لكيفية التعامل معها ، بدات تدريجية بعد ان أهبط آدم إلى الأرض  من جنته التي كان يعيش فيها دون جهد منه في تكلف اسباب المعيشة . إجابة الدين هذه ليس في العلم ما ينكرها ، بل إن فيه ما يثبتها عند البحث في حياة الإنسان البدائية وكيف تم له اكتشاف النار ، وتعلم الصيد وصنع ادواته ، واختراعه الكثير من الوسائل التي تحقق له مبتغاه ، وتعينه على مواجهة الحياة ومتطلباتها .
ولكننا من حقنا ان نتساءل : هل العلم عندما يواجه حقيقة علمية ، ثم يجدها مكتوبة في القرءان ، فماذا يكون تصرفه إزاء ذلك ؟ إن كانت تلك الحقيقة مما يعرفه جميع الناس ، فلن يَتعجب العلم من ذكر القرءان لتلك الحقيقة وامثالها ، إنما يمكن ان يعجب ، ولو قليلا ، بالحث على الاستفادة من تلك الحقائق بالنظر فيها كيف تعمل . وإذا كانت الحقيقة لا يعرفها الناس ، أو على أقل تقدير محمد وقومه وأهل جزيرته العربية لا يعرفونها ، فإن من واجب العلم ساعتها أن يقف متأملا تلك المعرفة كيف أويتها من يجهلها وهو لم يكن عالما بالعلوم الطبيعية .
ومن ميزات القرءان على غيره من الكتب السابقة هو انه يذكر بعض الحقائق العلمية العامة التي يعرفها كل الخلق ، وفي ذات الوقت ، لا يعارض حقيقة علمية لم يرد ذكرها فيه صراحة أو تلميحا ، وفوق ذلك كله ، يذكر ويخبر بأمور لا يعلمها من قبله لا إنس ولا جان ، من مثل مدة خلق الأرض والسماوات ، وهي التي سبق ذكرها في مشاركاتي السابقة في موضوع " القلب " الذي قدمه الدكتور يحيى . والحقائق العلمية اشكال والوان كثيرة ؛ منها ما يعرفه القاصي والداني ، ونلمسه كلنا منذ ان وجدنا على هذه الأرض ، مثل حقيقة ان الهواء لا حياة لنا دونه ـ وهنا اعجب لقول من قال : إذا خلا الجو من هواء ، فعيشنا غمة وبؤس ، إلا إذا كان يعني بخلو الجو قلة الهواء النقي  فيه ، لا خلوه منه تماما ــ  ومنها ما كان خافيا على بعضنا دون ان يخفى على بعضنا الآخر ، وذلك مثل دوران الأرض وهل هي كالكرة أو غير ذلك ، ومنها ما يخص علوما معينة يعرف حقائقها المشتغلون بها . المهم في الأمر ان العلم لم يكتشف كل الحقائق اكتشافا إنما حاول تفسير عملها ، فالنحل مثلا يصنع العسل ، والعلم يكتشف كيف يتم ذلك .
*ياسين الشيخ سليمان
31 - مارس - 2008
القسم الثاني من التعقيب    كن أول من يقيّم
 
أقول أن يكتشف علماء الغرب حقائق علمية ثم يأتي أحدنا، نحن الذين لم نكتشف شيئا، ويقول : هذا "موجود" عندنا في القرآن الكريم، ثم يعمد إلى تأويل آيات وألفاظ في القرآن بالصورة التي تخدم غرضه وبطريقة لا تخلو في أغلب الأحيان من تعسف، ضاربا صفحا عن آيات أخرى يخالف ظاهرها ما يريد أن يثبته بالتأويل - أعود فأقول أن يفعل أحدنا هذا وأكثر، فهذا ما لا يخدم أية قضية من قضايانا، وهذا ما لسنا في حاجة إلى تكلفه؛ بل قد ينقلب الأمر علينا فيسألنا سائل ممن له قضية تناقض قضيتنا قائلا: "وأين كنتم؟ ولماذا لم تزيلوا الستار عن هذه الحقائق العلمية وهي لديكم في كتابكم كما تزعمون؟"، إلى غير ذلك من الاعتراضات والإحراجات التي تزرع الشكوك، والتي نحن أصلا في غنى عنها، لأن قضيتنا أصلا في غنى عن تأييد أو عدم تأييد "الحقائق" العلمية لكتابنا المقدس.
 
أتفق مع الجابري تماما إذا كان يعني بالحقائق العلمية ما يخص فروع العلوم مباشرة ، والتي يعلمها العاملون في تلك العلوم ، ولا يعلمها كعلمهم غير المتخصص مثلهم . ولا يشترط  ان يكون في القرءان ذكر لتلك الحقائق حتى تكون صحيحة ، لكن يشترط ان لا يكون فيه ما يعارضها دون تأويل . كذلك من غير الصواب ان نستخدم آيات القرءان من اجل نفي حقائق علمية لا نعرفها ولم نطلع عليها إنما نرفضها لمخالفتها أفهامنا ، وإن لم نجد في القرءان ما نبتغيه من دليل نلجأ لإقحام ظواهر علمية عامة نعرف شيئا عنها ، أو ظنونا علمية نظن صحتها ، ثم نستخدمها في دحض ما نظنه باطلا .
 
وهذا يقودنا إلى وجه آخر من وجوه النظر في هذه المسألة: ذلك أن الحقائق العلمية، هي دائما وأبدا، حقائق نسبية، وفي الغالب مؤقتة، لأن العلم ينمو ويتجدد ويتجاوز نفسه باستمرار، بحيث أن كل حقيقة يكتشفها هي معرضة أصلا لأن يتجاوزها اكتشاف علمي آخر يجعل منها نظرية باطلة أو "حقيقة" لم تعد نافعة ولا مفيدة لكون العلم لم يعد في حاجة إليها. وإذن فربط آية من آي الذكر الحكيم بكشف من الكشوف العلمية ينطوي على مجازفة خطيرة، لأنه لا أحد يضمن أن هذا الكشف العلمي سيظل يشكل بالنسبة إلى العلم والعلماء حقيقة علمية، حتى ولو كان واضحا وضوح النهار، ذلك لأن العلم لا يحترم وجهة النظر البيانية القائلة : "وهل يحتاج النهار إلى دليل؟". إن الشغل الشاغل للعلم هو إقامة الدليل باستمرار على أن "النهار" هو بالفعل "نهار"!
هذه الفقرة سبق لي أن عقبت عليها عندما اوردها الأستاذ عبد الحفيظ مقتطعة من كامل المقالة الجابرية ، وذلك مشاركة منه في موضوع " القلب " .
ونتأدى من هنا إلى وجه آخر من وجوه النظر في هذه المسألة: ذلك أن القرآن "بيان للناس". والناس الذين خاطبهم القرآن بلغتهم هم عرب الجزيرة العربية، وقد خاطبهم بطريقتهم البيانية وعلى معهودهم وقدرتهم على الفهم والمعرفة فلفت نظرهم إلى ظواهر الكون التي تَبِين بنفسها لمن تبَيَّن: لفت نظرهم "إلى الأرض كيف سطحت" كما تبدو في شكلها الظاهري للعين المجردة، والتي يراها الإنسان مسطحة سواء كان واقفا أو ماشيا أو راكبا دابة، متجها شمالا أو جنوبا، شرقا أو غربا، طال به السفر أو قصر. ولفت نظرهم إلى حركة الشمس الظاهرة، أي كما تبدو لهم كل يوم وهي "تجري لمستقر لها" وهو مكان غروبها حيث تبدو وكأنها قد استقرت بعد أن غربت... مثل هذا الفهم البياني الذي هو من نوع "وهل يحتاج النهار إلى دليل؟" هو الأنسب، لأنه في متناول الإنسان مهما كانت درجة تطوره الفكري، إنه فهم يقوم على المشاهدة الظاهرية للشيء، وهو يفي بالغرض، في هذا الموضوع، غرض "الاعتبار" والانتقال من المشاهدة إلى طرح السؤال المطلوب. والسؤال المطلوب هنا ليس من قبيل "كيف يحدث هذا النظام الكوني؟"، بل السؤال المطلوب هو : "من خلق هذا؟".
علينا ان نأخذ بالاعتبار أن القرءان الكريم أنزله الله تعالى على رسوله كافة للناس وفي كل عصر  . ومع ان ما جاء في الفقرة صحيح فيما يخص أسلوب الخطاب القرءاني حين يخاطب العرب بما عهدوه وقدروا عليه من الفهم والمعرفة ، إلا أن من اتى وسوف يأتي بعدهم ، لا يمنعه مانع من أن يتساءل عن معنى " والشمس تجري لمستقر لها "  وكيف فهم العرب الذي نزل القرءان عليهم هذا المعنى . وما ذكره الدكتور الجابري عن الحركة الظاهرة تاويل واحد من بين تاويلات متعددة . الشمس تبزغ وتأفل كل يوم ، وهذا البزوغ والأفول حقيقة ظاهرة للعرب وغيرهم ، لكن المُستقر لا يشترط تأويله بمعنى مكان الغروب ، إذ الاستقرار ينفي الحركة أو الجري ولو كانا ظاهريان ، ويحول الحركة إلى سكون .  ومكان الغروب وزمانه يعرف العرب انهما يختلفان في المدة والمحل كل يوم . وكيف تبدو الشمس وكأنها استقرت بعد ان غربت ، وهي غير ظاهرة للعيان؟ وما دام الله سبحانه يخاطب العرب ليفهموا الخطاب على حقيقته ، فإنه لن يوقعهم في الوهم ، بالخلط بين معنى " والشمس تجري لمستقر لها " وبين معنى " لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " ، فالسباحة تعني وجود الحركة بينما الاستقرار يدل على السكون ، ولا يمكن لعربي او غير عربي ان يفهم أن حال الحركة وحال السكون حال واحدة . إننا ونحن ندعو إلى عدم تحميل القرءان ما لا يحتمل من تفسيرات علمية ندعو ايضا إلى التأني بنفي الإعجاز العلمي نفيا قاطعا ، إنما علينا اخذ الحيطة والحذر عند تفسيرنا لهذا الإعجاز تفسيرا علميا .
في الكلمة الثانية التي ذكرها الأستاذ زهير على هامش كلمته الأولى عن الأمية والشاطبي ، تعرض في الثانية إلى أن العلم ليس حكرا على امة دون اخرى ، وأن المسلمين كانوا قد قطعوا شوطا بعيدا في العلوم الفلكية وغيرها ، في الوقت التي كانت اوروبا في سبات علمي عميق . هذا القول صحيح تماما إلا أنني أظن ان الجابري لم يقصد إليه بالإنكار . إنكار الجابري ينصب على الذين يتكلفون ما لا يحق لهم تكلفه من فهم لما يسمونه بالإعجاز العلمي ، ومن تكلفهم تفسير آيات القرءان بتطويعها غصبا ليخدم معناها هدفهم . ولكن ما قاله الأستاذ زهير : (أرأيت لو أن المسلمين كانوا هم الذين اكتشفوا تلك الحقائق أيحق لهم وقتها البحث عن أوجه الصلة بينها وبين القرآن) لهو قول يستحق بجدارة الوقوف عنده وتأمله : لا يمنع ان يكون علماء الفلك أو غيره من العلوم الطبيعية من المسلمين القدامى قد استعانوا بآيات من القرءان الكريم تطمئنهم إلى صحة ما توصلوا إليه من علوم ، أو تبين لهم فسادها . وعندما قاس احدهم ، او اكثر ، محيط الأرض بوسائل هندسية ، لا بد وانه كان يعلم ، أو على الأقل يظن ، ان الأرض كالكرة ، وإلا لما قاس محيطها . وبما ان القرءان لا ينفي ان الأرض كالكرة ، فإن هذا اول معين للباحث على الاستمرار في البحث . ولكن القرءان الكريم جاء بدلائل تشي لفهم الباحث بأن الليل والنهار متعاقبان ، وأن القمر يسبح في فلك ، وان الشمس كذلك ، وهذا مما يـُدخل العالم او الباحث في دائرة الصدق بكريّة الأرض بعد أن كان ، على الأقل ، في دائرة الشك . إن المؤمن بالقرءان اصلا ، من العرب او من غيرهم ، إن كان باحثا في العلوم الطبيعية ، فإنه يفيد من القرءان فائدة لا تقدر بثمن إن سلك السبيل المأمونة في ذلك ، فالقرءان كتاب الله ، ولن يكون فيه إلا الحق . أما المطلع على القرءان من غير المسلمين في عصور العلم الطبيعي وعصور التقدم فيه ، فإنه لا بد ويجد فيه معينا له على التأكد من مسيرة النظريات العلمية من جهة معقوليتها او خطئها او صوابها . ولنضرب مثلا بالإمام الغزالي ، أبي حامد ، الذي يتهمه الجابري بانه سعى إلى تحريم النظر في العلوم الطبيعية ، وأن تفسير القرءان المسمى بالجواهر استفاد منه المسلمون بإقصائه تلك النظرة الغزالية إلى العلم الطبيعي عن واقع المسلمين ، أقول : إن الغزالي نفسه ، باعتماده على الآية القرءانية : " كل شيء هالك إلا وجهه " نفى قول جالينوس ، وبعده تاييد ابن رشد لجالينوس ، من أن الشمس جسم أثيري لا يعتريه ذبول او فساد ، والعلم الطبيعي في أيامنا الحاضرة هذه يقول بانطفاء الشمس ولو بعد ألوف الملايين من السنين . وهنا لا يمكننا الإنكار أن دور النص القرءاني كان له الأثر البيّن في تكوين فلسفة الغزالي العلمية . وأبعد من ذلك ، فيما يخص القرءان وتاثيره العلمي على الغزالي ، فقد ذهب الغزالي إلى القول بنفي الحتمية في القوانين الطبيعية ، وان المادة ليس لها اختيار ولا فعل ، إنما الفاعل المختار هو القديم سبحانه، وبهذا يكون قد بين لنا ، ولعلماء الطبيعيات من المؤمنين وغير المؤمنين أن معجزات الأنبياء والرسل يمكن تصديقها بوساطة فلسفة العلم الطبيعي  . ويؤيد ما ذهب إليه الغزالي آيات قرءانية عديدة مثل : " ألم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ." ، فالذي يمسك الطيور ان تقع ، في الحقيقة ، هو الله أولا وآخرا ، وليست قوانين الأجسام الطافية في الهواء ، ولا شكل الأجنحة أو مغزلية جسم الطير ، حيث إن القوانين الطبيعية لا إرادة لها ولا اختيار في الأفعال . وفي عصر الفيزياء المعاصرة الذي نعيش فيه الآن ، نجد علماء الفيزياء يقولون باحتمالية القوانين في تصرفات الدقائق الذرية وما دونها في الدقة . ومنهم هايزنبرغ  ، صاحب مبدأ الارتياب أو اللايقين ، وأين الغزالي من علم الفيزياء المعاصر؟! وما هداه الله إلا بنصوص القرءان .
*ياسين الشيخ سليمان
31 - مارس - 2008
التعقيب الأخير    كن أول من يقيّم
 
نعم أنا أستثني من ذلك ما قام به طنطاوي جوهري في تفسيره، لأن الدافع الأساسي الذي كان وراء تفسيره القرآن بتوظيف العلوم الطبيعية إلى أبعد حد –كما كانت متداولة في عهده- هو في ما أعتقد دافع آخر مختلف تماما، ومشروع تماما، وكانت نهضة المسلمين في حاجة إليه.
الدافع الذي كان وراء الشيخ الطنطاوي الجوهري يعتبره الدكتور الجابري دافعا مشروعا وقتها ، وهو في ذلك فيما ارى على حق بالنسبة للدافع ، إلا ان تفسير الجوهري هذا ، والمسمى بالجواهر ، كان ايضا سببا رئيسا في كثرة التفاسير العلمية الخاطئة للآيات القرءانية التي هي مدار الظن بانها تحتوي إعجازا علميا ، وبهذا يكون الجوهري أضر بالأجيال من بعده  ربما اكثر مما نفع ، وهذا ما الدكتور الجابري ، والكثيرون معه ، يفرون منه فرار السليم من المجذوم . هذا الضرر آثاره علينا ما زالت قائمة وماثلة للعيان ، في كتب مكتوبة ، وشبكة عنكبوتية مقروءة ومسموعة من ألوف الملايين من الناس . ثم أي الضررين اقل : ضرر الشك في العلوم الطبيعية ، وفوائدها في الواقع المعاش لا تنكر ، أم الظن بأن القرءان كتاب في العلوم الطبيعية يحتوي على تفاصيلها وكانه كتاب مقرر على طلبة العلوم في المدارس والجامعات ؟! أما تفسير الجوهري ، فهو عند أهل العلم بعلوم القرءان من اسخف التفاسير . يقول الدكتور الشيخ صبحي الصالح في كتابه " مباحث في علوم القرءان " عنه : إن فيه كل شيء ما عدا التفسير . والأستاذ زهير بين في كلمته الثانية ان تفسير الجوهري يحتوي على خزعبلات وترهات لا تنتمي في أصلها إلى العلم ابدا ، أو كما قال الأستاذ زهير ، وهو يتعجب من ذكر الجابري هذا التفسير ، ولو على سبيل الدافع الذي أشار إليه.
 
أما أن يكون المؤلفون المعاصرون يهدفون إلى إثبات أن "العلم" يزكي القرآن، فهذا ما لسنا في حاجة إليه، ولا كان القرآن في يوم من الأيام في حاجة إليه.
بلى . القرءان ليس بحاجة إلى تزكية من احد أبدا ، بل العلم واصحابه هم من بحاجة إلى تزكية القرءان لهم ، وهو بحاجة إليه لهداية الضالين منهم .
أما الرد الحاسم والقول الفصل، في نظري، فقد جاء في إطار محاولة جريئة ترمي حسب قول صاحبها إلى "تأصيل الأصول"، محاولة الفقيه الأصولي أبي اسحاق الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 790 هـ الذي دعا إلى بناء أصول الشريعة على مقاصدها. فالشارع (الله) وضع الشريعة بقصد أن يفهمها الناس الذين خاطبتهم فجعلها على قدر أفهامهم. وبما أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا أمة أمية - يقول الشاطبي - فإن "هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح"، أي أن "الشريعة التي بُعث بها النبي الأمي عليه السلام إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما" هي "على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية" وهو"معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين. وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلافُ ما وقع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذن أمية".
ذكر الأستاذ زهير أن معنى الأمية والأميين معنى مختلف فيه منذ عصر التدوين . وبهذا ، فإن لنا الحق في الاعتراض على من تأول معنى للأمية من بين تلك المعاني لا نقتنع به ، أو أن يخترع معنى جديدا ثم يبني عليه أن الشريعة أمّية . الإمام الشاطبي رحمه الله كان من اعلام العلماء ، وكان مفكرا يحسب له حسابه في الفكر الإسلامي عموما ، ولكننا لا ندري ماذا سوف يقوله الشاطبي لو عاش في عصرنا واطلع على علوم الأولين والآخرين في برهة من الزمن قصيرة . ولا يصير القول فصلا والرد حاسما إلا إذا لم نجد من يخالفه في عصره على الأقل ، فما بالنا بكل العصور؟ . ولا ريب في ان الله سبحانه شرع من الدين لأهل الأرض زمن نزول القرءان ما شرعه لمن سبقهم من الأقوام على اختلاف ثقافاتهم ، وتنوع معارفهم ، في ما لا تختلف فيه شرعة عن اخرى ، وفيما يخص توحيد الله وتقديس صفاته العلية ، فالناس في ذلك متساوون على اختلاف ازمنتهم واحوالهم العلمية والاجتماعية ، وما عليهم إلا طاعة الله فيما شرع إن أرادوا . وصفة الجهل بالمعارف العلمية ودرجة ذلك الجهل تبقى مرهونة في كل عصر إذا ما قيست بعصر آخر . الشريعة إذن ليست مرهونة بمقدار تقدم المعارف والعلوم عند من أنزلت عليهم  أو تأخرها قياسا على عصر آخر ، إنما هي الدعوة إلى التوحيد ونبذ المعتقدات الخاطئة . أما معنى الأمي والأميين ففيه كما نعلم كلنا أقوال عديدة منها أن الأميين من كانوا في الأصل على شرعة سيدنا إبراهيم الذي كان امة في الدين والشريعة ، وإماما للناس كلهم ، وهم كل من عاصر ابراهيم  وكان يعرفه  او يسمع بخبره . وعندما نتلو : " وأذن في الناس بالحج.. " نفهم منها هذا المعنى . والنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمكن أن يكون اميا بهذا المعنى ، أي أنه على دين ابيه إبراهيم ، وقومه كذلك ظلوا يتوارثون هذا الاسم بمعنى الاصطلاح ، كونهم انحرفوا او ضلوا عن الحنيفية السمحاء . أما بنو إسرائيل والنصارى بوجه عام فهم من جاءت رسلهم إليهم بالكتب السماوية ، فأصبحوا من غير الأميين لهذا السبب بعد ان كانوا منهم ، وبقي الناس من غير اهل الكتاب لا اطلاع لهم عليه ، ولا مدارسة لهم فيه ، وهذا يمكن أن يبين معنى الآية : " وما كنت تتلو قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " ، فالنبي الأكرم لم يكن قبل القرءان يتلو كتبا سماوية ،  ولا كانت يمينه الشريفة تعمل في نسخ تلك الكتب ، أي أن النبي لا علم له بتلك النصوص الدينية حتى يكون محل اشتباه وريبة في انه يقلدها عند من يريدون إبطال دعوته . وكون النبي اميا بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة ، يظل يعطي نفس هذا المعنى قائما على تبرئته من تهمة الادعاء عليه بأن القرءان من عنده . ومن اهل الكتاب انفسهم من كان لا يعلم من الكتاب إلا علم الظن لا علم اليقين ، فكأنه بقي على اميته بالكتاب كما هم العرب . مدار الأمر إذن يدور في مجمله أن الأمي هو الذي لم يطلع على الكتب السماوية ، وهذا لا يكفي لوصف الشريعة بانها امية بمعنى ساذجة سذاجة من نزلت عليهم ، والله تعالى اعلم .

*ياسين الشيخ سليمان
31 - مارس - 2008
الجابري ومعرض الرياض للكتاب (1)    كن أول من يقيّم
 
 
قبل أن يلقي محاضرته عن تجربته في الكتابة والتأليف في معرض الرياض الدولي للكتاب، تعرض الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري لهجوم عنيف، فقد صدرت فتوى من عالم دين سعودي يصفه فيها بأنه ".. ماهر في التمويه ومخادعة القارئ وفي نفث فكره العفن". ونشر أحدهم تقريراً مطولاً عبر الانترنت، جمع فيه الانتقادات لفكر الجابري أو بالأصح -انحرافاته-. ونحن هنا لا نقف على مسألة أن يختلف أحدهم مع الجابري أو أن يكتب ضد فكره، فالاختلاف حق مشاع، ولكن المسألة تكمن في أن ما كتب ضده ليس بفكر يريد أن ينقد آخر، ولا معرفة تريد أن تنسخ أخرى، وإنما أيدلوجيا تريد الإلغاء والإلغاء فقط. ودليل ذلك أن الموقع الأصل الذي كتبت فيه المادة عن الجابري يقدم مادة شبه موسوعية عن كتاب آخرين كثر، ومناهج معرفية مختلفة، ويجمعها كلها في سلة واحدة، فهذا الموقع سيخبرك أن البنيوية والوجودية مناهج الحادية، وأن تولستوي من رواد المذهب الواقعي، الذي يكون مذهباً مادياً ملحداً!! وأن الجابري ينتمي إلى مذهب الحداثة الذي يكون من أبرز خصائصه أنه " يمجد الرذيلة.. ويحارب الدين.. ويحث على الهروب من الواقع إلى الشهوات والمخدرات والخمور"..!! وهذا يكون من طبيعة الأيدلوجيا، أنها صاحبة نظرة معممة تحاكم بمنظور واحد، وتقيس من زاوية وحيدة، وما من آلية لديها تساعدها على التمييز بين الزروع، فالأيدلوجيا لا تستوعب سوى نفسها، وبذا هي خانقة للبذور قبل زروعها. وما حدث للجابري ويحدث لغيره هو موضوع قديم يتجدد، ولندرك شيئاً من جوهر هذا الموضوع لابد لنا من طرح السؤال التالي: هل يكون للأيدلوجيا أن تحاكم المعرفة ؟!!
الأيدلوجيا ليست المعرفة. الأيدلوجيا بنية مغلقة، لاتقبل الحذف والإضافة، متخمة بالاجابات، ولديها تأكيدات عدة مع أنها تتجنب المساءلة والاختبار دوماً. بينما بنية العلم ذات طبيعة جدلية تفاوضية، شاعرة بالنقص، وطلاّبة للمساءلة والامتحان، وقد تتقولب من جديد حسب الدلالات المتوفرة، بينما الأيدلوجيا تكون قد تقولبت وانتهت. و نحن هنا لسنا معنيين بالأيدلوجيا ذاتها أوما يكون منها حقاً أو باطلاً، فهذا موضوع آخر. ما نقصده هنا هو أن منطق الأيدلوجيا يختلف عن منطق المعرفة، ولذا فليس له أن يلغيه، أو يحطمه، وقبل ذلك كله أن يحاكمه. فليس من عاقل أو نصف عاقل يسمح للمعرفة والعلم أن يكونا سلعة رخيصة تذهب تحت الأقدام مع الأيدلوجيا وسجاليتها.
إن المناهج المعرفية تتكامل ولا تتنافر مثل الأيدلوجيا. فحتى في داخل العلم الواحد نجد أن المناهج المختلفة تولد وتتناقض، ولكن في النهاية هذا كله يتم في إطار عملية تكاملية تثري العلم نفسه، وتجعله صاحب قدرة توليدية متمددة. ومنذ الثورة العلمية التي أعطت للعلم اعتباره، لم يحدث أن قام العلم بتعديل نفسه أو تغيير منهجه حسب ما تريد منه الأيدلوجيا، فقد كان من حسن ظن العلوم التي ازدهرت بعد عصر التنوير أنها كانت تعتمد بثقل على التجريبية والطبيعية المستندة على المحسوس والمشاهد، مما سهل لها أن تستند على منطق ذاتي يسهل لها الانطلاق والتأثير. وهذا الانطلاق للعلم يجعله يتمدد حتى على نفسه، فحتى هذا الاعتماد على التجريبية والطبيعية تم انتقاده وغربلته وتجاوزه عبر منطق العلم نفسه، كما فعل رواد مدرسة فرانكفورت حين انتقدوا هذا الفكر واعتبروه تحجيماً وتجميداً للعلاقات والطبيعة البشرية بجعلها متماثلة مع علاقات العالم المادي والطبيعي.
وصحيح أن من العلوم ما قد يتلبس بالايدلوجيا، ومنها ما صبغ بصبغة غربية وما أستخدم بكثافة لخدمة مصالح الغرب. كما هو علم الأنثربولوجيا الذي قال عنه الدكتور ابراهيم الحيدري أنه "علم نشأ مع الاستعمار، وتطور مع الأمبريالية" كما جاء في كتابه "صورة الشرق في عيون الغرب". وكما تحدث أيضاً ادوارد سعيد وغيره عن الاستخدام الأمبيريالي والمصلحي للعلوم. ولكن المعرفة والعلم لا يزهد فيهما لهذا السبب، فهذا السبب إن وجد يكون مرحلياً، ومحدوداً، لا مستمراً، فمن مزايا العلم والمعرفة أنها لا تكون مدينة لأحد، ولاتبقى محكومة به. فالمعرفة نفسها لا تلبث أن تكون أول من يزري بمن يستخدمها لأغراضه وأيدلوجيته، وعلم الأنثربولوجيا الآن هو علم إنساني يستخدم آلته من أراد من أمم الشرق والغرب. كما أن المعرفة - في الغرب نفسه - استطاعت أن تنتج تيار ونظريات ما بعد الحداثة التي قامت بانتقاد وخلخلة ما قدمته الحداثة وما قدم في المرحلة الاستعمارية من إنتاج. حيث أن القوم تعاملوا مع الحداثة كمرحلة تم استيعابها وتجاوزها، لا كمعركة يجب أن تتوارثها الأجيال.
وقبل أكثر من قرن من الزمان، قال رفاعة الطهطاوي (ت 1873) إن العلماء يشكلون الفئة الوحيدة القادرة على نقل التعليم الجديد إلى الجيل الجديد. فيرى الطهطاوي هكذا أنهم القنطرة التي تستطيع نقل العلوم الحديثة إلى المجتمع، حيث أن العلماء كما هو معروف لديهم القبول الواسع، حتى يبدو وكأن مجتمعاتنا لا تسمع إلا لهم. والطهطاوي كما يتضح كان معالجاً للأمر بسطحية وتفاؤل، فقد غاب عن باله أنهم سيكونون في مقال سجال وندية مع هذه العلوم، وأنهم سيكونون القنطرة المغلقة ضدها. وهذا شيء يتضح حين نتأمل كيف أن العلماء عادة ما يكونون مغمورين في حقلهم المعرفي وطريقتهم في النظر، ولن يتوفر لهم هكذا حيز للنظر في العلوم الأخرى، بل هو ظلم لهم أن يطلب منهم ذلك، فالعلماء يستطيعون صناعة عقليات تماثلهم وليس عقليات تتباين معهم في النظر. ولأن هناك طريقة واحدة في النظر تسيدت عندنا لقرون، فهذا ما جعلها المصدر المعرفي الوحيد للمجتمع، ويصعب هكذا أن تجد الطرق الأخرى طريقها للوجود. وحتى الشعر الذي هو آلة العرب الأولى، وطريقتهم الحرة والمحلقة لم يسلم من الحشر والقولبة من حين لآخر.
*abdelhafid
13 - مارس - 2009
الجابري ومعرض الرياض للكتاب (2)    كن أول من يقيّم
 
"والدين بمعزل عن الشعر" لم يقل القاضي الجرجاني (ت القرن الرابع الهجري) هذه الجملة ليخبرنا أن الشعر كافر. وإنما ليخبر أن لكل مساحته وطبيعته وطريقته في النظر. وتخوم الشعر-إن كانت له تخوم- لا تتماثل مع تخوم الدين وحدوده وطبيعته. ولنا هنا أن نعرف نقطة مهمة وهي أن العلوم والفنون ليس لها أن تفنى وتتغير بشكل طبيعي وعادل إلا عبر منطقها نفسه. فالمنطق الذي جلبها إلى الوجود، هو الذي يحق له خلعها منه، وأي نسف وإلغاء لها عبر منطق آخر هو استعداء واستبداد. وهذه النقطة على بساطتها هي التي تستطيع أن تفسر لنا لماذا لم نتعرف على العلماء من مختلف العلوم في طوال تاريخنا إلا كأفراد معزولين ومقطوعين، كالفارابي وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون، ولم نتعرف عليهم كمناهج ومدارس متواصلة. وهذا كله يعود إلى أن المنطق والنظرة الواحدة التي تسيدت منذ القرن الرابع الهجري كانت طاغية لم تكن لتسمح بذلك، ولذا لم تخرج المحاولات الفكرية والفردية من تحت عباءة هذا التاريخ إلا على شكل فلتات فردية. وأيضاَ هذه النقطة على بساطتها هي التي تستطيع أن تفسر لنا لماذا يحدث أن نشاهد تدخل قاض بمحاكماته أو فقيه بمقايساته في أمسية شعرية أو فكرية، أو في معرض للكتاب. إن المنهج المعرفي مركوب العلم الذي يحميه من استبداد النظرة الواحدة، ومن طغيان العقل، وتحيز الأيدلوجيا، ومن الأمزجة البشرية التي تميل إلى تلوين كل شيء بلونها. ومن أمثل الأساليب إلى ذلك أن لا تتداخل عقلية على أخرى، وأن لاتحملها على طريقتها في النظر. وفي كتابه "أسس التفكير العلمي" ذكر زكي نجيب محمود أن الأمر لا يستقيم أن يأتي عالم جيولوجي ليخبر أبي العلاء المعري أن تراب وأديم الأرض يتكون من مادة كذا وكذا، فيرد عليه بيته القائل "خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"، فما كان يقصده أبو العلاء أمر مختلف.
وفي كتابه "المقابسات" قال أبو حيان التوحيدي "فالنفوس تتقادح، والعقول تتلاقح". وهذا قول جميل، فالعقول تنظر وتميز وتستدل وتلاحظ وغير ذلك مما هو من صنعتها، وليس لها أن تكون مشحونة متنافرة، أو والهة مريدة ومندفعة كما هو طبع النفوس. ويمكن وإلى حد كبير أن يكون مرد هذا النفور والتشنج الذي يسود أجواء العملية والفكرية لدينا أمر نفسي قبل أي شيء آخر، فالذوات الغير واثقة هي التي لا تستطيع أن تحتوي وتتقبل أو على الأقل أن تتفهم. ولذا كلما زادت درجة النفور، كلما دل ذلك على فقر الذات. هذه الذات التي تكون هشة كبيت من ورق، قد تسقط لدى أقل احتكاك، ولذا هي متوجسة وصانعة مستديمة للصدامات الغير ملزومة. وهكذا تكون العلة كما اعتدنا أن نجدها دوماً، ضعفاً ذاتياً. فالعائق الذي يمنعنا من حصد غنائم الفكر ومن إنتاجها، لا يكمن في الأدوات وإنما في الموقف. فالفقر في الذات يولد الفقر والخوف، وما من أحد سيبني المستقبل إن كان يخافه، ولا من أحد سيستفيد من علوم حضارة إن كان يكرهها، فهذا الشعور سيولد ضدها ممانعة كبيرة لاتسمح لها أن تنفذ وأن تثمر وتتلاقح. ولنرى كيف يمكن أن يؤثر الفقر في الذات على عملية التعاطي المعرفي، نستطيع أن نلاحظ كيف هو الموقف من حركة الترجمة، فلو حدث في أوقاتنا المتأخرة حركة ترجمة فكرية كبيرة عن الغرب فهذا ما سيفسر فوراً وعلى نطاق واسع أنه تبعية وخضوع وضعف وتنكر لثقافتنا، بينما تفسر حركة الترجمة الفكرية الكبيرة التي حدثت في وقت المأمون على أنها دلالة قوة وتسامح وانفتاح لحضارة خصبة؛ حين كانت الذات في موقع قوة وثقة في ذلك الوقت. وقد ألمح لهذا المقال الأخير برهان غليون في كتابه "اغتيال العقل".
لم أقرأ للجابري سوى ما يقارب عشرة كتب من إنتاجه الوافر، وهذا العدد لا يتيح لي أن أكوّن نظرة شمولية عنه، لكن ربما أستطيع القول أن الجابري كان له تأثير مهم على الكثير من شباب جيلي، كثير اتفقوا معه ومالوا إليه، وكثير أيضاً قد اختلفوا معه ونفروا منه. لكن الميزة كانت تكمن في أن الجابري استطاع تحقيق المعادلة الصعبة، فقد استطاع أن يكون مقروءاً ومنهجياً وباذخاً في نفس الوقت، وهو أمر تنقطع دونه حبال الكتاب وأقلامهم. وميزة تأثيره على قرّاءه الشباب كانت تكمن في تمرين الآلة العقلية لديهم، فتكون لديهم بذلك قدرات مستقلة على الفحص والنظر والمتابعة. فما قدمه الجابري من نقد للعقل العربي، أو ما كتبه أحمد أمين من تاريخ عقلي للإسلام، أو ما كتبه هاشم صالح عن التجارب التاريخية للتنوير الغربي أو الإسلامي، تكون كلها أعمال تساعد المتلقي على رؤية التاريخ عبر خرائط ونظريات ومناهج، عوضاً عن أن يقرأ بسطحية كأحداث وقعت وانتهت. وقد لاحظت لدى بعض الناقدين استياءهم من كثرة قرّاء الجابري من الشباب، وكثرة ترديدهم لجملة "هؤلاء الذين غرر بهم الجابري" وهذه الطريقة تعكس بشكل صارخ طريقة التفكير، ومنطق الوصاية لدى هؤلاء، حين يتحول الفكر إلى مجرد غرر وغواية وهوى، وحين يكون الناس لديهم كالصبية التائهين، يحتاجون دوماً إلى من يأخذ بأيديهم ويقوم بتعليمهم كيف يعبرون الشارع.
والفيلسوف الأنكليزي كارل بوبر كان قد كتب بكثافة عن المنهج العلمي، مميزاً له عن الأيدلوجيا، وفي كتابه الذي قًدم إلى العربية تحت عنوان "بؤس الأيدلوجيا" يرى أن الأيدلوجيا غير صادقة في تنبؤها بالمستقبل وإعطائه مساراً معروفاً ومحدداً كما تزعم دوماً. ويستند في هذا على فرضيته أن التاريخ مرهون بالمعرفة الإنسانية، فالمعرفة كما هو معروف تنمو بطرق مختلفة، وهي غير محتواة من أحد. فلا أحد منا يستطيع أن يعرف مثلاً إلى أين سيصل العلم في السنوات الخمس القادمة. لقد كان المنهج العلمي طريقة ووسيلة ومغنم للبشرية، ولم يكن الدين ليضيق عن احتواء للإنسان وتصوراته وطرائقه، ولم يكن الدين ليشكو أيضاً من قلة في وفرته وخصوبته، وفي جوهره لم يكن ليقبل أن يتم تحجيمه وفق تصورات وانطباعات أحد، فيكون ديناً بحجم أيدلوجيا. ولمثل هذا كان نيتشه ينتقد المسيحية حين ألبست الشكل الصراعي والأيدلوجي فيقول في كتابه "عدو المسيح": "لقد حرمتنا المسيحية من مجاني الحضارة القديمة، وفيما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام، العالم الغرائبي لحضارة العرب في أسبانيا، والذي هو في الأساس أكثر قرباً إلينا من روما واليونان".
والآن ماذا سيكون الحال؟ لقد ذكر غير واحد من المتابعين أن العقود السابقة كانت صراع قوميات، والعقود الحالية تتضمن صراع أيدلوجيات، أما الأوقات المقبلة فستشهد صراعاَ للثقافات. فالأيدلوجيات تتهتك حبالها، وتسقط حيطانها الآن، فالعالم لايساير الكيانات المغلقة طويلاً، وبمعنى آخر لن يكون الناس مقيدين بها بنفس الأوضاع السابقة. وحين يأتي زمن الثقافات سيكون التسيد من نصيب من يرث ثقافة خصبة، منفتحة، وطلقة، وليس من يرث ثقافة فقيرة ومحجّمة بسبب أنها وضعت ولفترة طويلة في قالب أيدلوجي.
 
عبدالعزيز الحيص
 
عن موقع إيلاف
*abdelhafid
13 - مارس - 2009
مارأيكم ؟    كن أول من يقيّم
 
إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا... وإشكالية الفهم
جاء في الحديث الصحيح:(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب،الشهر هكذا وهكذا).(البخاري)وعلى هذا الأساس قال من قال من الأئمة في حقبة (=إسلام المؤول)إنه:( من كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم،بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين)(ابن تيمية)!! و(أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لآن أهلها كذلك...،
فالشريعة إذن أمية).(الشاطبي)!! وبذلك صار التباهي بالأمية والتفاخربها بين الأمم أمراً لا غبار عليه، بل ممدوح إليه!!
وإذا ما أردنا تحليل متن هذا الحديث وتفكيكه وإعادة فهمه وتركيبه وتصنيفه على ضوء مقاصد الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، فلابد لنا من مناقشة الجهاز المفاهيمي لهذه الإشكالية ،أولها تحليل كلمة(الأمي والأمية)لغة واصطلاحاً ،ومقابلة ذلك بمعاني المصطلح القرآني ،ثم إعادة تصنيف متن الحديث ضمن إطارالتقسيم الجديد للسنة.
*
النقطة الأولى : تحليل كلمة الأمي:
1- في لغة العرب: ورد في معجمات اللغة العربية معانٍ كثيرةٌ للفظة الأمي منها:
الأمي الذي لا يعرف الكتابة والقراءة،وقيل هو منسوب إلى الأم؛ أي هو أشبه بأمه منه بأبيه،لأن النساء في العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة.
والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي .وقيل الأمية الغفلة والجهالة وقلة المعرفة.إذن الأمية في اللغة(=عدم الكتابة والقراءة،والغفلة والجهالة،وقلة المعرفة والسذاجة)، فما معاني الأمية في القرآن الكريم ؟
2- في لغة القرآن: وردت كلمة الأمي والأميين في القرآن الكريم في مواضعَ كثيرة ٍبمعان متنوعة ، فمثلاً قوله تعالى
:" هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة... " فكلمة الأميين هنا ؛تعني مشركي العرب.وفي قوله" وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا" فكلمة الأميين هنا تعني غير الكتابيين.وفي قوله:" ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"؛ أي غير اليهود" ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني".أميون بمعنى عدم الفهم وهي التي نسميها(الأمية الفكرية).(2)
واللافت للانتباه أن جِلّ الآيات السابقة تشير إلى أن معنى الأمية(= من ليس له كتاب سماوي ،أو من لا يحسن الفهم )علماً بأن هذه المعانيَ من المفترض أنها واضحة لدى سامعي القرآن؛ لأنها كانت متداولة في الكتب السماوية المتوافرة لديهم كالتوراة وغيرها
حيث كانت هذه الكتب تصف من ليس له كتاب سماوي بأنه(أمي،أميون)،فكان اليهود يصفون مشركي العرب بالأميين" قالوا ليس علينا في الآميين سبيل"،ولا أستبعد أن يكون القرآن الكريم قد استخدم كلمة(الأمي والأميين) في الأصل التوراتي وهذا ليس بغريب على المنهج القرآني في مخاطبة السامعين بما يعرفون كما استخدم كلمة العبد والأمة والظهار وغيرها، بل أقر أحكاماً وأعرافاً معهودة عن العرب في الجاهلية كإقراره للقراض،وتقدير الدية وضربها على العاقلة،والحاق الولد بالقافة وغيرها .ومن هنا يتضح لنا أن كلمة (الأمي والأميين)في الاستعمال القرآني لا علاقة لها بمن لا يكتب ولا يحسب !!
*
النقطة الثانية:متن الحديث والعقل التاريخي:
للأسف إن إشكالية العقل التاريخي تكمن في تعامله مع متن الحديث بمعزل عن معرفة أسباب وروده والأجواء التاريخية المحيطة به الخاصة والعامة وملابسات القول، وفي غياب هذا المنطق وحضور المنطق النصي الجزئي،يتم تأويل جمهور آيات القرآن لصالح متن الحديث في حين تتضاءل منهجية رد متن الحديث إلى كليات القرآن المقاصدية ، فيصبح التعامل مع متن الحديث (الذي قد يكون مروياً بالمعنى )من حيث الإعلاءُ والقداسة ،كالتعامل مع نصوص القرآن الكريم التي تكفّل الله بحفظها لفظاً، وهذا مما لا شك فيه يدعَم نزوع استعلاء متن الحديث على آيات القرآن الكريم ،وسيطرة الجزئي على الكلي بحيث يضع معاني القرآن في تناسب عكسي مع متن الحديث ،وهذا الذي جرى عند تأويل متن حديث الباب !!
فهذا
ابن تيمية يتعامل مع متن الحديث بمعزل عن كليات القرآن، ويضمنه معنى ودلالة تخالف مقاصد القرآن،فيقول:هو خبر تضمن نهياً، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط ، أمية لا تكتب ولا تحسب ، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم ، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه ، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهياً عنهما)!! فقد ضمن متن الحديث معنى إفادة النهي ثم رفعه إلى مرتبة دلالة الإجماع ،فصارت الأمية صفة مدح وكمال، وأن مخالفة هذه الصفة سيئة وذنب فقال: وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال ،من وجوه....وكان الكتاب والحساب في ذلك نقصاً وعيبا ، بل سيئة وذنباً )!!
والغريب أن يتفق الشاطبي ذو العقل المنطقي مع الاستقطاب الحاد لتحكيم المنهج الجزئي في الكلي فيضفي صفة الأمية على الشريعة الإلهية !!فيقول:(..إن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك ... فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية ، فالشريعة إذن أمية )!! (..وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب)(3)!! وفي ظل هذا الاعتناء بصفة الأمية ،والتعلق بتلابيب دلالاتها،والتدثر بها، تم تحوير وتحويل معاني كلمة الأمية ودلالتها القرآنية من معنى من ليس له كتاب سماوي أو من لا يحسن الفهم، إلى من لا يعرف القراءة والكتابة والحساب،ثم صارت صفة مدح وثناء حتى أضحت صفة لازمة ودائمة للرسالة الخالدة والشريعة المهيمنة!!
*
النقطة الثالثة:مآلات هذه الأمية !!
ولا شك في أن تأويل متن الحديث بهذا المنهج الاستقطابي يترتب عليه نتائج سلبية كثيرة،منها شطب منهج الخطاب القرآني الذي قصد التدرج في خطابه والتطور العقلي نحو منهجه المقاصدي ،حيث قرر في جانب تدرج الخطاب...
اقرأ .. وأنذر عشيرتك الأقربين ...يأ أهل الكتاب تعالوا ... يا أيها الناس اعبدوا ربكم ...
وما أرسلناك إلا كافة للناس .وأنه قرر في جانب تحول العقل من عقل إحيائي..وعلم أدم الأسماء كلها،إلى عقل تقابلي.. والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها .. ،
ثم عقل برهاني ...قل هاتوا برهانكم.. ثم إلى عقل مقاصدي..وما يعقلها إلا العالمون...لَعِلمَهُ الذين يستنبطونه.وأنه قرر في جانب وظيفة الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأصلية تعليم الناس والارتقاء بهم وتطويرهم ...يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة...والأخطر من ذلك أن هذا المنهج الاستقطابي يقود إلى مشكل حقيقي مفاده استحالة فهم محتوى عالمية الدين ومعاني الشرعة والمنهاج ...وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ... لكلٍ جعلنا منكم شِرعة ومِنهاجاً ...!!
الجدير بالذكر هنا أن هذا المنهج (الاستقطابي)قد تأسس على قواعد التفكير والفهم (البياني)الذي يعتمد دلالة البيان العربي، وهو لا شك منهج حصري يلغي غيره من المناهج، بَيدَ أن المنهج القرآني لا يقر هذه الحصرية بمعنى أنه توجه بخطابه لكل الناس وفي كل الأزمان ولم يحصرهم في منهج تفكيري ولا جهة معينة، فكان خطابه للعربي والفارسي واليوناني والأوروبي والياباني على حد سواء ، فمثلاً صاحب المنهج البرهاني ذي النزعة التجريدية التي تميل إلى البحث عن مقدمات الأشياء،والتنقيب عن سنن الكون .. من المفترض أن يجد ضالته في القرآن ،كذلك صاحب المنهج العلمي والتجريبي والحقوقي ، ومن البديهي أن كل أولئك داخلون ضمن الخطاب القرآني(يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً).لذا فإن حصر التفكير والفهم من خلال منهج واحد إقصاء وتهميش ، وطمس عالمية الرسالة ، -------------------------------------------------!!- انظر مقالي-إن شئت- القرآن يدين الأمية الفكرية .
www.a-znaqd.com
2- لا شك أن الأمية الفكرية تعتبر الداء العضال الذي يعاني منه العقل المعاصر-إن وجد- ،حيث حال بينه وبين فهمه لمقاصد الرسالة الخاتمة ،فلم يستطع تحرير خطابها العالمي ،وتمييز دلالاتها المطلقة(=إسلام المنزل)من المعاني التاريخية(=إسلام المؤول).فصار هذا الأمي نشازاً في فهمه وسلوكه بين الأمم!!
3-
كلام ابن تيمية كان بصدد إبطال الحساب في إثبات الأهلة والكسوف والخسوف . وكلام الشاطبي كان بصدد إبطال علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون واشباهها !!
*د يحيى
14 - مارس - 2009
الشاطبي وإعادة تأصيل الأصول ...    كن أول من يقيّم
 
محمد عابد الجابري
قلنا ...."إن طريقة الغزالي هي التي سادت في المؤلفات الأصولية اللاحقة إلى اليوم (خارج مؤلفات الحنفية) وأن كتابه "المستصفى من أصول الفقه" قد ظل المرجع الأول والأخير في هذا العلم"! هذا قول صحيح بالنسبة لتاريخ السلسلة المتصلة لتاريخ علم أصول الفقه، ولكنه غير صحيح بالنسبة للممارسة العلمية في هذا العلم!
ذلك أن طريقة جديدة تماما، سواء على مستوى المنهج أو على مستوى تصور بناء "أصول الفقه"، قد برزت واضحة مكتملة مع أبي إسحاق الشاطبي (إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المتوفى سنة 790 هـ)، الذي يمثل بحق قمة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الأصول.
أما لماذا بقي الشاطبي مجهولا أو "منفورا" منه، فذلك ما يمكن أن يكوِّن فيه القارئ الذي يجهله، رأيا خاصا به، بعد هذا الذي سنكتبه عنه. أما الآن فقد يكفي أن نذكر ما قاله الشيخ عبد الله دراز محقق كتاب الشاطبي الموافقات في أصول الشريعة". لقد تساءل بعد أن أبرز أهمية هذا الكتاب وتميزه عن المؤلفات السابقة في علم الأصول : "إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة على ما وصفت، فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة بله العكوف على تقريره ونشره بين علماء المشرق؟"، ويجيب : إن ذلك راجع إلى أمرين : "أحدها أن المباحث التي اشتمل عليها الكتاب مبتكرة مستحدثة لم يسبق إليها المؤلف… وجاء في القرن الثامن 790 هـ بعد أن ترسخت طريقة الأصوليين السابقين وصارت كل ما يطلب من علم الأصول. وثانيهما أن كتابة الشاطبي مركزة كثيفة "تجعل القارئ ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط، لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه".
إننا نتوقع من القارئ غير "المختص" (وهو مخاطبنا الرئيس في هذا المقال) أن يخرج من هذا الملخص الوجيز الذي سنخصصه للشاطبي مقتنعا بأننا فعلا أمام شخصية علمية في مستوى سلفه ابن رشد ومعاصره ابن خلدون. أما إذا كان القارئ ممن له إلمام بما يروج في الإيبيستيمولوجيا المعاصرة (=علم أصول المعرفة العلمية)، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرف فيها على الشاطبي، فإننا لا نشك في أنه سيهتز دهشة وتعجبا، لأنه سيقرأ في خطاب الشاطبي نفس المعاني التي يقرأها في خطاب فلاسفة العلم المعاصرين. وفي هذه الحالة، فإننا نطلب منه أن يستعين برصانة فكر الشاطبي واتزانه فلا يسلك مسلك بعض الباحثين العرب المعاصرين، الذين انفعلوا عند قراءتهم الغزالي انفعالا قادهم إلى القول بأنه "سبق ديكارت إلى الشك" و"سبق هيوم إلى فكرة "العادة"! في تاريخ العلم تتشابه الأفكار فعلا، ولكن السياق قد يختلف اختلافا لا يترك مجالا للمقارنة.
لنعد إلى موضوعنا ولنجمل في كلمات جانب التجديد والإبداع في منهج الشاطبي. إنه يتمثل في تطوير وتجديد التفكير في ثلاث مسائل منهجية في الفكر الأصولي الإسلامي:
 المسألة الأولى سبق أن مارسها ونوه بها ابن حزم، قبل الغزالي، وهي الدعوة إلى اعتماد الاستنتاج (أو القياس الجامع)، بدل قياس الغائب على الشاهد أو الفرع على أصل. وهذه الخطوة المنهجية التي دعا ابن حزم إلى اعتمادها في ميدان الشريعة بديلا عن قياس الفقهاء قد طبقها ابن رشد، وبمهارة في ميدان العقيدة، بديلا عن منهج المتكلمين، الاستدلال بالشاهد على الغائب. ويأتي الشاطبي ليستلهم التطبيق الرشدي للخطوة المنهجية الحزمية ويدشن مقالا جديدا تماما في المنهج الأصولي قوامه :"أن  كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين: إحداهما نظرية تثبت بضرورة الحس أو بضرورة العقل أو بالنظر والاستدلال، أما الثانية فنقلية تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا. الأولى ترجع إلى تحقيق مناط الحكم في كل جزئي فهو مقدمة صغرى، والثانية ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، وهم يعم سائر الجزئيات التي من نفس النوع، فهي مقدمة كبرى. وينبه الشاطبي إلى أن كون الدليل الشرعي يُبنى على مقدمتين لا يلزم عنه بالضرورة  أن الأدلة الشرعية يجب أن يطبق عليها ما يقرره أهل المنطق في شأن القضايا، من اعتبار التناقض والعكس وما يقررونه في شأن أشكال القياس الجامع (كما فعل الغزالي والذي ساروا على دربه)، وإنما "المراد –يقول الشاطبي هو- تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة" وأن يُتحرى فيه "إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها". وهذا يعنى أن الصياغة المنطقية في أصول الفقه يجب أن تحصر نفسها في "استثمار الألفاظ" بل يجب أن تنفتح على معهود العرب في خطابهم ككل.
والمسألة المنهجية الثانية هي الاستقراء، وقد سبق لابن حزم أن دعا إلى اعتماده منهجا في التعامل مع النص القرآني خصوصا عندما يتعلق الأمر بلفظ يبدو لأول وهلة أن معناه الظاهر يختلف عن ما تقرره بديهة الحس والعقل، ففي هذه الحالة يجب على الأصولي أن لا يسجن نفسه في الدائرة اللغوية لهذا اللفظ، بل عليه أن يقوم باستقراء وجوه استعمال ذلك اللفظ في القرآن ككل، ليهتدي بذلك إلى المعنى الذي قصده الشارع. وقد تبنى ابن رشد هذه الخطوة المنهجية ونوه بها في كتاباته الإسلامية (فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، بداية المجتهد). ويأتي الشاطبي ليوظف هذا التطبيق الرشدي للاستقراء الحزمي توظيفا جديدا قوامه استخلاص "كليات الشريعة" التي هي "كليات استقرائية"، (والتعبيران كلاهما للشاطبي).
 تبقى المسألة المنهجية الثالثة وهي: ضرورة اعتبار مقاصد الشرع. وهذا ما ركز عليه ابن رشد بصفة خاصة في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، فجاء الشاطبي ونقل تطبيق هذه الخطوة من مجال العقيدة إلى مجال الشريعة فدعا إلى ضرورة بناء أصول الفقه على مقاصد الشرع بدل بنائها على "استثمار الألفاظ" كما دأب على العمل بذلك علماء الأصول انطلاقا من الشافعي. وبذلك يكون الشاطبي قد خرج عن سمت المؤلفين في الأصول منذ الشافعي ليشق سبيلا أخرى مختلفة تماما.
 كان الشاطبي واعيا بهذا تمام الوعي ولذلك لم يتردد في التصريح بأنه بصدد "تأصيل أصول" علم الشريعة. والهدف هو إعادة بناء هذا العلم بالصورة التي تجعل منه علما برهانيا، علما مبنيا على "القطع" وليس على مجرد الظن، وهذا ما يصرح به في أول مقدمة من المقدمات المنهجية الثلاث عشرة التي استهل بها كتابه، حيث نقرأ له أول ما نقرأ بعد خطبة الكتاب قوله : "المقدمة الأولى في أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية. والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما هو كذلك فهو قطعي. بيان الأول ظاهر بالاستقراء المفيد للقطع، وبيان الثاني من أوجه: أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهي قطعية، وإما إلى الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي. وذلك أصول الفقه".
يريد الشاطبي أن يجعل من علم الشريعة علما برهانيا، علما مبنيا على "القطع" ؟ فكيف يحدد العلم؟ وقبل ذلك ما معنى "القطع" هنا؟
القطع هو الجزم. وهو ضد الظن. فإذا كان النص واضحا لا يحتمل لفظه التأويل فهو قطعي الدلالة مثل قوله تعالى : "والله بكل شيء عليم"، ومثل الآيات التي تقرر أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، وكذا التي تقرر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب القسط والعدل، ووجوب اجتماع الكلمة الخ. أما إذا لم يكن النص كذلك بأن كان فيه مجال للتأويل فهو ظني الدلالة. أما الحديث فهو قطعي السند إذا كان متواترا، وظني السند إذا كان غير متواتر. وبما أن الأصوليين قد اعتمدوا منذ الشافعي على الاستنباط (استنباط المعنى من النص الديني) والقياس (قياس ما ليس فيه نص على ما فيه نص)، وبما أن القياس الفقهي إنما يقوم في أقوى أنواعه على "العلة" التي يظن الفقيه أنها المقصودة بالحكم، فإن الشريعة في مجملها إنما تقوم على الظن، وهذا باعتراف الفقهاء أنفسهم. وما يريده الشاطبي هو، كما قلنا، بناء الشريعة كلها على القطع وذلك بإعادة صياغة أصولها بصورة تجعل منها علما برهانيا. فكيف استقام له ذلك ؟
 
*abdelhafid
15 - مارس - 2009
 1  2