صحاح الجوهري5 كن أول من يقيّم
ولم يكتف الفيروزابادي بذلك، بل راح -فيما يعرضه من المواد والشروح- يتعقّب الجوهري في كل موضعٍ، ويغتنم كل سانحة، فيغلّطه تارةً؛ ويوهّمه تارة أخرى. وما أكثر ما يقول: "وهم الجوهري" أو "غلط الجوهري". ومن الطريف أن هذا الأمر انقلب، من بعد، إلى معركة بين اللغويين والمدرّسين من القدامى والمحدثين، في انتصار فريق منهم للصحاح، وآخر للقاموس المحيط، حتى أُلّفت في ذلك كتب كثيرة، وقيلت نتفٌ ومقطوعات أشبه بالنقائض الشعرية، سوى ما ألفه علماء آخرون، ممن لم تأخذهم العصبية لأحد الكتابين على الآخر. ومن أشهر الكتب في هذا المضمار اثنان: أولهما كتاب "الوشاح وتثقيف الرماح في ردّ توهيم المجد للصحاح"(13) لأبي زيد المغربي العمري، نزيل مكّة. وثانيهما: كتاب "الدر اللقيط في أغلاط القاموس المحيط" لمحمد بن مصطفى، الشهير بداود زاده التركي. وهو يعني بأغلاط القاموس المحيط ما أخذه الفيروزابادي على الجوهري وضمنه كتابه القاموس. كما أن الزبيدي في كتابه: "تاج العروس" -وهو شرح للقاموس المحيط- ردّ كثيراً من مآخذ المجد على الجوهري، وأثبت صواب ما جاء في الصحاح. أما الأشعار فقد أثنى على القاموس وانتصر له غير واحدٍ، فمن ذلك ما قاله الأديب نور الدين علي بن محمد العفيف المكي، المعروف بالعُليفي: مُذْ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ** من بعض أبحر علمه "القاموسا" ذهبت "صحاح" الجوهريّ كأنها ** سحر المدائن حين ألقى موسى(14) وكتبت أديبة عصرها زينب بنت أحمد الحسنيّة (-1114هـ) إلى السيد موسى بن المتوكل تطلب منه القاموس: مولاي موسى، بالذي سمك السّما ** وبحقّ مَنْ في اليمّ ألقى موسى أمنُنْ عليّ بعارةٍ مردودةٍ ** واسمح بفضلك، وابعث القاموسا(15) وقد ردّ على القول الأول العالم المشهور أديب الشام عبد الغني النابلسي قائلاً: من قال: قد بطلت صحاح الجوهري ** لما أتى القاموس، فهو المفتري قلت: اسمه القاموس، وهو البحر، إنْ ** يفخر فمعظم فخره بالجوهرِ(ي)(16) وهذا الفقيه جمال الدين محمد بن الصباح الصباحي يقول في مدح القاموس المحيط: من رام في اللغة العلوّ على السُّها ** فعليه منها ما حوى قاموسُها مُغنٍ عن الكتب النفيسة كلّها ** جمَاع شمل شتيتها ناموسها فإذا دواوين العلوم تجمّعت ** في محفلٍ للدرس فهو عروسُها لله مجد الدين، خير مؤلّفٍ ** مَلك الأئمةَ، وافتدتْه نفوسُها وفي صحاح الجوهري يقول إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري: هذا كتاب الصحاح سيّد ما ** صنّف قبل الصحاح في الأدب يشمل أبوابه، ويجمع ما ** فُرّق في غيره من الكتب(17) |