البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : علم الاجتماع

 موضوع النقاش : خيانة ابن خلدون !!!    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )

رأي الوراق :

 زين الدين 
8 - مارس - 2008
الإخوة الكرام ،
تحية طيبة وبعد ...
لا أخفيكم سرا بأني عزمت على مناقشة هذا الموضوع منذ مدة ، وقد عضد هذا العزم نقاش مع أحد الأصدقاء حول مسرحية سعد الله ونوس الشهيرة " منمنات تاريخية ".
وكنت قد رجعت إلى كتاب المستشرق الأمريكي فيشل حول " ابن خلدون وتيمورلنك " فلم يعد أن يكون بالنسبة لي درسا في تحقيق المخطوطات العربية .
ثم إني عثرت على كتاب " رحلة ابن خلدون " التي حققها العلامة الجليل ممد بن تاويت الطنجي في طبعة معاصرة لدار الكتب العلمية ببيروت سنة 2004.
 
وقبل أن أهم في استعراض بعض جوانب هذا الموضوع الشائك ، حدثتني نفسي بالبحث أولا في مجالس الوراق ، علّه قد نوقش من قبل ، سيما في وجود أساتذة أجلاء بيننا ، على رأسهم الدكتور أحمد إيبش ، الذي يلم ّ بالكثير من تاريخ دمشق على الخصوص.
ولم يطل البحث، حتى عثرت فيما عثرت على هذه الجملة للدكتور إيبش في معرض حديثه عن قصّة المملوك الصارم أوزبك كما يأتي :
" وأخيراً.. نعد بنشر نص شديد التشابه مع هذا النص، إنما كانت أحداثه جرت بعد 147 عاماً، عندما أقبلت جحافل الجيش المغولي تحاصر دمشق في عام 803 هـ / 1400 م، وكان قائد المغول الغازي الدموي الرّهيب تيمورلنك..  حينذاك تمّ بظاهر أسوار دمشق لقاء من نوع مشابه للقاء الصارم أوزبك بخان التتار هولاگو.. إنما الفارق أن اللقاء الثاني كان بين تيمورلنك وشخصية يعرفها كل واحد منا تمام المعرفة: إنه ابن خلدون، صاحب المقدّمة الشهيرة والتاريخ المعروف.
فهل لعب ابن خلدون دوراً مشرّفاً كالذي لعبه هذا البطل المجهول البسيط صارم الدين أوزبك؟ وما الذي دار بالضبط من حوار بينه وبين الغازي الرّهيب؟!
هذا ما سنراه في مجلسنا القادم.. مع مفاجآت لا تخطر ببال! "
*****
وأخال الدكتور يشير إلى هذا الموقف ولكن من موقع آخر ، قد يتفضل علينا به .
*****
يقول الدكتور حسين سرمك حسن في مقالة له في جريدة الاتحاد الكردية تحت عنوان " هل تم التستر على خيانة 'ابن خلدون'؟ ما نصه :
" لقد خان "ابن خلدون" ـ هذا المفكر العبقري، صاحب (المقدمة) والفارس الاول في مجال علم الاجتماع ـ خان ابناء جلدته من اهل قلعة (دمشق) مما ادى الى ذبحهم على ايدي التتار وحرق مدينتهم بعد ان كانوا صامدين الى حد دفع عدوهم التتري (تيمور لنك) الى التفكير بعقد هدنة معهم. نعم لقد خان هذا المفكر ابناء قومه وصار عميلا للغازي وبدأ يرسم له الخرائط ويقدم المعلومات التفصيلية عن بلدان المغرب العربي تمهيدا لغزوها. نعم، لقد خان "ابن خلدون"، فلماذا هذا التستر على خيانته؟ "
****
أعتقد أن حياة ابن خلدون ، من خلال سيرته ، أو من خلال ترجمة الآخرين له هي تعبير صادق عن العلاقة الملتبسة بين المعرفي والسياسي ، أو بين الثقافة والامبريالية .
هل كان ابن خلدون سابقا لميكيافيلي ، ليس في علم السياسة فحسب ، بل في الأخذ بمفهوم الواقعية وتبرير الوسائل بالغايات ؟
أسئلة ساخنة أضعها على صحن البحث الهادئ على أمل العودة لها مع أساتذتنا ....
 
زين الدين
 

 
 
 1  2  3  4 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الفصل الثالث    كن أول من يقيّم
 
من فصل
سفر السّلطان إلى الشام لمدافعة الطَّطَر عن بلاده
ثم زحف تَمُر إلى الشام سنة ست وتسعين وبلغ الرُّهَا، والظاهر يومئذ على الفرات، فخامَ تَمُر عن لقائه وسار إلى محاربة طُقْطَمش فاستولى على أعماله كلها، ورجعت قبائل المُغُل إلى تَمُر وساروا تحت رايته...
ثم بلغه هنالك([1]) مهلك الظاهر برقوق بمصر، فرجع إلى البلاد ومرّ على العراق ثم على أرمينية وأرزنكان حتى وصل سيواس فخرّبها وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المائة التاسعة، ونازل قلعة الرُّوم فامتنعت، وتجاوزها إلى حلب، فقابله نائب الشام وعساكره في ساحتها ففضّهم، واقتحم المُغُل المدينة من كلّ ناحية، ووقع فيها من العيث والنّهب والمصادرة واستباحة الحُرَم ما لم يعهد الناس مثله([2]).
ووصل الخبر إلى مصر، فتجهّز السّلطان فَرَج ابن الملك الظاهر إلى المُدافعة عن الشام، وخرج في عساكره من التُّرك مسابقاً المُغُل وملكهم تَمُر أن يصدّهم عنها.


([1]) أي في دلّي (دلهي بالهند) حيث غزا البلاد يعيث فساداً.  ونذكّر هنا أن ننقل باختصار.
([2]) جرى بحلب من فظائع المغول ما لا يقلّ عمّا جرى إثرها بدمشق، انظر نصّ الأمير تغري بَردي الأتابكي كما نقله ابنه المؤرخ أبو المحاسن يوسف ابن تغري بردي.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل الرابع    كن أول من يقيّم
 
من فصل
لقاء الأمير تَمُر سلطان المُغُل والطَّطَر
لمّا وصل الخبر إلى مصر بأن الأمير تَمُر مَلَكَ بلاد الرُّوم وخَرّب سيواس ورجع إلى الشام، جمع السّلطان عساكره وفتح ديوان العطاء ونادى في الجند بالرّحيل إلى الشام، وكنتُ أنا يومئذ معزولاً عن الوظيفة، فاستدعاني دَوَاداره يَشْبك وأرادني على السّفر معه في ركاب السّلطان، فتجافيتُ عن ذلك، ثم أظهر العزم عليّ بليّن القول وجزيل الإنعام، فأصخيتُ وسافرتُ معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث، فوصلنا إلى غزّة فأرحنا بها أياماً نترقّب الأخبار، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الطَّطَر إلى أن نزلنا شقحب.
وأسرينا فصبّحنا دمشق، والأمير تَمُر في عساكره قد رحل من بعلبك قاصداً دمشق، فضرب السّلطان خيامه وأبنيته بساحة قبّة يَلْبُغا، ويئس الأمير تَمُر من مهاجمة البلد، فأقم بمرقب على قبّة يَلبُغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثاً أو أربعاً، فكانت حربهم سجالاً.
ثم نمي الخبر إلى السّلطان وأكابر أمرائه أن بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشيةً من انتقاض الناس وراءهم واختلال الدولة بذلك([1]).  فأسروا ليلة الجمعة من شهر ]جُمادى الأولى[ وركبوا جبل الصّالحية ثم انحطّوا في شعابه وساروا على شافة البحر إلى غزّة، وركب الناس ليلاً يعتقدون أن السّلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر، فساروا عصباً وجماعات على شَقْحَب إلى أن وصلوا إلى مصر، وأصبح أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء.
وجاءني القضاة والفقهاء، واجتمعت بمدرسة العادلية، واتّفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تَمُر على بيوتهم وحُرَمهم، وشاوروا في ذلك نائب القلعة، فأبى عليهم ذلك ونكره فلم يوافقوه، وخرج القاضي برهان الدين ابن مُفلح الحنبلي([2]) ومعه شيخ الفقراء بزاوية ]...[ فأجابهم إلى التأمين، وردّهم باستدعاء الوجوه والقضاة، فخرجوا إليه متدلّين من السّور بما صحبهم من التَّقدمة، فأحسن لقاءهم وكتب لهم الرّقاع بالأمان وردّهم على أحسن الآمال، واتفقوا معه على فتح المدينة من الغد، وتصرُّف الناس في المعاملات، ودخول أمير ينزل بمحل الإمارة منها ويملك أمرهم بعزّ ولايته.
وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني، وهل سافرتُ مع عساكر مصر أو أقمت بالمدينة، فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت.  وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجُرٌ في المسجد الجامع، وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول.  وبلغني الخبر من جوف الليل، فخشيتُ البادرة على نفسي.


([1]) هذا في الواقع سبب سقوط دمشق بيد تيمورلنك، لانسحاب الناصر فرج إلى مصر خوفاً على ملكه المضطرب فيها.  راجع ما يرد في نصّ الأمير تَغري بَردي الظاهري، الذي توجّه إلى الشام بحملة حربية بُغية ترتيب قوّاتها للدفاع في وجه الغازي المغولي الرّهيب.  لكن للأسف ذهبت جهوده أدراج الرّياح بسبب شكوك أعوان السّلطان بأنه موالٍ للثائرين على النّاصر بدمشق، فراحت دمشق ضحية السياسة الخرقاء.
([2]) اختير القاضي برهان الدين إبراهيم بن محمّد بن مفلح (توفي 803 هـ) للتفاوض مع تيمورلنك لمعرفته بالتركية والفارسية، فانطلت عليه عهوده بالأمان، وأقنع الدمشقيين بقبولها وسكّن خواطرهم، ثم نقض تيمور كل ما أبرمه معه واجتاح المدينة غدراً، لا بل استغلّ معرفته بحارات المدينة وأزقتها فألزمه بكتابة أسمائها وأوصافها في جرد مفصّل.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل الخامس    كن أول من يقيّم
 
وبكّرتُ سَحَراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبتُ الخروج أو التدلّي من السّور، لما حدث عندي من توهّمات ذلك الخبر([1]).  فأبوا علي أولاً، ثم أصخوا لي ودلّوني من السّور، فوجدتُ بطانته عند الباب ونائبه الذي عيّنه للولاية على دمشق، واسمه شاه ملك من بني جَقطاي أهل عصابته، فحيّيتهم وحيّوني وفدّيت وفدّوني، وقدّم لي شاه ملك مركوباً، وبعث معي من بطانة السّلطان من أوصلني إليه.
فلمّا وقفتُ بالباب خرج الإذن بإجلاسي في خيمة هنالك تجاور خيمة جلوسه، ثم زيد في التّعريف باسمي أني القاضي المالكي المغربي.  فاستدعاني، ودخلتُ عليه بخيمة جلوسه متكئاً على مرفقه، وصحاف الطعام تَمُرُّ بين يديه، يشير بها إلى عُصَب المُغُل جلوساً أمام خيمته حلقاً حلقاً.
فلما دخلتُ عليه فاتحتُ بالسلام، وأوميتُ إيماءة الخضوع، فرفع رأسه ومدّ يده إليَّ فقبّلتُها، وأشار بالجلوس فجلستُ حيث انتهيت، ثم استدعي من بطانته الفقيه عبد الجبّار بن النُّعمان([2]) من فقهاء الحنفيّة بخُوارزم، فأقعده يترجم ما بيننا، وسألني من أين جئتُ من المغرب؟  ولمَ جئت؟  فقلتُ: جئتُ من بلادي لقضاء الفرض، ركبت إليها البحر ووافيتُ مرسى الإسكندرية يوم الفطر سنة أربع ]وثمانين[ من هذه المائة الثامنة، والمفرحات بأسوارهم لجلوس الظاهر على تخت المُلك لتلك العشرة الأيام بعَدَدها.
فقال لي: وما فعل معك؟  قلتُ: كلَّ خير، برّ مَقْدمي وأرغد قراي وزوّدني للحجّ.  ولمّا رجعتُ وفّر جرايتي، وأقمتُ في ظلّه ونعمته رحمه الله وجزاه.  فقال: وكيف كانت توليتُه إيّاك القضاء؟  فقلتُ: مات قاضي المالكيّة قبل موته بشهر، وكان يظنّ بي المقام المحمود في القيام بالوظيفة، وتحرّي المعدلة والحقّ والإعراض عن الجاه.  فولاّني مكانه، ومات لشهر بعدها، فلم يرضَ أهل الدّولة بمكاني، فأدالوني منها بغيري، جزاهم الله.
فقال لي: وأين مولدك؟  فقلتُ: بالمغرب الجوّاني كاتب للملك الأعظم هنالك.  فقال: وما معنى الجوّاني في وصف المغرب؟  فقلتُ: هو في عُرف خطابهم معناه الدّاخلي، أي الأبعد، لأن المغرب كلّه على ساحل البحر الشامي من جنوبه.  فالأقرب إلى هنا بَرْقَة، وإفريقية، والمغرب الأوسط: تلمسان وبلاد زناتة، والأقصى: فاس ومرّاكش، وهومعنى الجوّاني.
فقال لي: وأين مكان طَنْجَة من ذلك المغرب؟  فقلتُ: في الزّاوية التي بين البحر المُحيط والخليج المُسمّى بالزُّقاق، وهو خليج البحر الشامي([3]).  فقال: وسَبْتَة؟  فقلتُ: على مسافة من طَنْجة على ساحل الزُّقاق، ومنها التَّعدية إلى الأندلُس لقُرب مسافته، لأنها هناك نحو العشرين ميلاً.  فقال: وفاس؟  فقلت: ليست على البحر، وهي في وسط التّلول وكُرسي ملوك المغرب من بني مَرين.  فقال: وسجلماسَة؟  قلتُ: في الحَدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب.
فقال: لا يقنعني هذا، وأحبُّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلها، أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره وقُراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده([4]).  فقلتُ: يحصل ذلك بسعادتك.  وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبتُ الغَرَض فيه في مختصر وجيز يكون قدر ثنتي عشرة من الكراريس المنصّفة القَطع.


([1]) ذكر المقريزي في السّلوك (حوادث 803 هـ): وكان قاضي القضاة وليّ الدّين عبد الرّحمن ابن خلدون المالكي بداخل دمشق، فلمّا علم بتوجّه السّلطان تدلّى من سُور المدينة، وسار إلى تَيْمُور فأكرمه وأجلّه وأنزله عنده، ثم أذن له في المسير إلى مصر فسار إليها.
([2]) عبد الجبّار بن النّعمان المعتزلي أحد خواصّ تيمورلَنك الذين طافوا معه البلاد وكان رئيساً للفُقهاء عنده، ذكر ابن المبرد في »الرّياض« أنه: »كان يمتحن العلماء ويناظرهم بين يديّ اللّنك، وهو من قلّة الدّين على جانب كبير«.  توفي سنة 808 هـ.
([3]) البحر الشامي هنا يعني البحر الأبيض المتوسّط، وكان يُعرف آنذاك أيضاً ببحر الرّوم .
([4]) لا شك أن الغاية كانت جمع البيانات الاستخبارية العامّة، تمهيداً لغزو المغرب أيضاً.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل السادس    كن أول من يقيّم
 
ثم أشار إلى خدمه بإحضار طعام من بيته يسمّونه الرّشته([1])، ويُحكمونه على أبلغ ما يمكن، فأحضرت الأواني منه وأشار بعرضها عليّ، فمثلتُ قائماً وتناولتها وشربتُ واستطبتُ، ووقع ذلك منه أحسن المواقع.  ثم جلستُ وسكتنا وقد غلبني الوجل بما وقع من نكبة قاضي القضاة الشافعية صدر الدين المُناوي، أسره التابعون لعسكر مصر بشقحب وردّوه، فحُبس عندهم في طلب الفدية منه، فأصابنا من ذلك وجل، فزوّرتُ في نفسي كلاماً أخاطبه به وأتلطّفه بتعظيم أحواله ومُلكه([2])...
فوقع في نفسي لأجل الوَجَل الذي كنتُ فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه ويأنس به مني، ففاتحته وقلتُ: أيّدك الله!  لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنى لقاءك.  فقال لي التّرجمان عبد الجبّار: وما سببُ ذلك؟  فقلتُ: أمران، الأول أنك سُلطان العالم ومَلك الدّنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد مَلك مثلُك، ولستُ ممّن يقول في الأمور بالجُزاف، فإني من أهل العلم، وأبيّن ذلك فأقول:
إن المُلك إنما يكون بالعَصبيّة، وعلى كثرتها يكون قَدر المُلك، واتّفق أهل العلم من قبل ومن بعد أن أكثر أمم البشر فرقتان: العرب والتُّرك، وأنتم تعلمون مُلك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم، وأمّا التُّرك ففي مُزاحمتهم لملوك الفُرس، وانتزاع مُلك أفراسياب خُراسان من أيديهم شاهدٌ بنصابهم من المُلك.  ولا يساويهم في عصبيّتهم أحدٌ من ملوك الأرض من كسرى أو قَيْصَر أو الإسكندر أو بُختَنَصَّر، أما كسرى فكبير الفُرس ومليكُهم، وأين الفُرس من التُّرك؟  وأما قَيْصَر والإسكندر فملوك الرّوم، وأين الرُّوم من التُّرك؟  وهذا بُرهانٌ ظاهر على ما ادّعيتُه في هذا المَلك.
وأمَّا الأمر الثاني مما يحملني على تمنّي لقائه، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحَدَثان بالمغرب والأولياء، وذكرتُ ما قَصَصتُه من ذلك قبل([3]).  فقال لي: وأراك قد ذكرتَ بُختَنَصَّر مع كسرى وقَيْصَر والإسكندر، ولم يكن في عدادهم، لأنهم مُلوكٌ أكابر، وبُختنصّر قائد من قوّاد الفُرس، كما أنا نائب من نوّاب صاحب التَّخت، وهو هذا.. وأشار إلى الصّفّ القائمين وراءه، وكان واقفاً معهم، وهو رَبيبُه الذي تقدّم لنا أنه تزوّج أمّه بعد ساطْلُمُش([4])، فلم يُلْفه هناك، وذكر له القائمون في ذلك الصّفّ أنه خرج عنهم.
فرجع إليّ وقال: ومن أيّ الطوائف هو بُخْتَنَصَّر؟  فقلتُ: بين الناس فيه خلاف، فقيل من النَّبَط([5]) بقيّة ملوك بابل، وقيل من الفُرس الأولى، فقال: يعني من وَلَد مَنُوشهر.  قلت: نعم، هكذا ذكروا، فقال: ومَنُوشهر له علينا ولادة من قبَل الأمّهات.  ثمّ أفَضْتُ مع التّرجمان في تعظيم هذا القول منه، وقلتُ له: وهذا ممّا يحملني على تمنّي لقائه.
فقال الملك: وأيُّ القولين أرجح عندك فيه؟  فقلتُ: إنه من بقيّة ملوك بابل.  فذهب هو إلى ترجيح القول الآخر.  فقلتُ: يعكّر علينا رأي الطَّبَري، فإنه مؤرّخ الأمّة ومحدّثهم، ولا يرجُحه غيره.  فقال: وما علينا من الطّبري؟  نُحضر كتب التاريخ للعرب والعجم، ونُناظرك.  فقلتُ: وأنا أيضاً أناظر على رأي الطّبري.


([1]) الرّشْتَه طعام يُصنع بعَدَس ولحم وشرائط من العجين.  ذكره المؤرّخ الدمشقي يوسف ابن عبد الهادي في رسالته »الطباخة« بالاسم والوصف ذاته.  ولا زالت الرّشتايه إلى اليوم بدمشق تُطلق على أكلة بها شرائط عجين، ومن مشتقّاتها أكلتان شعبيّتان: ستّي زْبقي وحرّاق أصبعه.
([2]) يتابع ابن خلدون هنا نصّاً طويلاً عن تقوّل المنجمين بظهور الغازي تيمورلنك وتنبّؤهم بغزواته وأعماله، ويختتم بقوله: »فكان في نفسي من ذلك كلّه ترقُّبٌ له«.
([3]) في الفقرة المطوّلة أعلاه التي ذكرنا أننا حذفناها، حول أقوال المنجّمين.
([4]) في مطلع الفصل السابق (سفر السّلطان إلى الشام) ذكر ابن خلدون لمحة مفيدة عن تاريخ قبائل الجَقْطاي وقيام دولتهم ومَلكهم ساطْلُمُش المذكور، وأنه مات عن ابن وحيد اسمه محمود، فكفله تيمور كبير أمراء الجَقْطاي وتزوّج أمه وقام بأمور المملكة.
([5]) تعبير النَّبَط بالمُصطلح العربي القديم يُقصد به كافّة الشعوب السّاميّة الشرقيّة الكلدانية التي تتحدّث وتكتب بهجات كلدان (أم الفرع الشرقي)، كالآشوريين والبابليّين والآراميّين.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل السابع    كن أول من يقيّم
 
وانتهى بنا القول، فسكتُّ.  وجاء الخبر بفتح المدينة، وخروج القضاة وفاءً بما زعموا من الطاعة التي بذل لهم فيها الأمان، فرُفع من بين أيدينا، لما في رُكبته من الداء، وحُمل على فرسه فقبض شكائمه واستوى في مركبه، وضُربت الآلات حفافيه حتى ارتجّ لها الجو، وسار نحو دمشق، ونزل في تربة مَنْجَك([1]) عند باب الجابية، فجلس هناك ودخل إليه القضاة وأعيان البلد، ودخلتُ في جملتهم، فأشار إليهم بالانصراف وإلى شاه ملك نائبه أن يخلع عليهم في وظائفهم، وأشار إلي بالجلوس، فجلستُ بين يديه.
ثم استدعى أمراء دولته القائمين على أمر البناء، فأحضروا عُرفاء البُنيان المهندسين، وتناظروا في إذهاب الماء الدائر بحفير القلعة لعلّهم يعثرون بالصّناعة على منفذه، فتناظروا في مجلسه طويلاً، ثم انصرفوا.
وانصرفتُ إلى بيتي داخل المدينة بعد أن استأذنتُه في ذلك فأذن فيه، وأقمتُ في كسْر البيت، واشتغلتُ بما طلب مني في وصف بلاد المغرب، فكتبتُه في أيام قليلة، ورفعتُه إليه فأخذه من يدي، وأمر موقّعه بترجمته إلى اللسان المُغلي.
ثم اشتدّ في حصار القلعة([2])، ونصب عليها الآلات من المجانيق والنُّفوط والعرّادات والنقب، فنصبوا لأيّام قليلة ستين منجنيقاً إلى ما يشاكلها من الآلات الأخرى، وضاق الحصار بأهل القلعة، وتهدم بناؤُها من كل جهة، فطلبوا الأمان.  وكان بها جماعة من خُدّام السّلطان ومخلّفه، فأمّنهم السّلطان تَمُر وحضروا عنده، وخرّب القلعة وطمس معالمها([3]).
وصادر أهل البلد على قناطر من الأموال استولى عليها، بعد أن أخذ جميع ما خلّفه صاحب مصر هنالك من الأموال والظَّهْر والخيام، ثم أطلق أيدي النهّابة على بيوت أهل المدينة، فاستوعبوا أناسيها وأمتعتها، وأضرموا النار فيما بقي من سَقَط الأقمشة والخُرثي، فاتّصلت النار بحيطان الدُّور المدعّمة بالخشب، فلم تزل تتوقّد إلى أن اتّصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه فسال رصاصُه وتهدّمت سُقُفه وحوائطه([4])، وكان أمراً بلغ مبالغه في الشَّناعة والقُبح، وتصاريف الأمور بيد الله يفعل في خلقه ما يريد، ويحكم في مُلكه ما يشاء([5]).


([1]) نائب الشام مَنْجَك اليوسفي (وليها 759 هـ ثم 770-775 هـ) دُفن عام 776 هـ بالقاهرة، لكن المقصود هنا حتماً تربة ابنه فَرَج قبلي مدرسة أفريدون العجمي بالسّويقة، وكانت له دار فخمة (النّجوم الزاهرة، 13: 119).  ولذريّة مَنْجَك تربة بالجزماتية في الميدان.
([2]) لماذا لم يُعلّق ابن خلدون بكلمة واحدة على نقض تيمورلنك لعهوده بالأمان للمدينة؟  هل اكتفى بنجاته شخصياً، ولتذهب المدينة بمَن حَوَت؟  وددنا لو أنه حاول ولو بكلمة واحدة أن يفعل شيئاً!  فأين منه همّة ذاك البطل الكبير صارم الدّين أوزبك.
([3]) لذلك يلاحظ الرائي اليوم أن قلعة دمشق، التي كان بناها الملك العادل أبو بكر محمد ابن أيوب (أخو السّلطان النّاصر صلاح الدّين) خلال 15 عاماً 599-614 هـ، لم يبق من بنائها الأصلي القديم إلا الواجهة الشرقية الواقعة في قلب المدينة قرب باب الفَرَج، وبها كتابات ونقوش أيوبيّة جميلة جداً.  أما واجهتاها الغربية والشمالية فلم يبق من بنائهما الأيوبي القديم شيء بعد أن هدمها الطاغية تيمورلنك.
([4]) انظر ما سيلي في نصّ الأمير تَغري بَرْدي الأتابكي حول فظائع المغول بدمشق.
([5]) هذا كل ما كلّف الرّجل خاطره بذكر فاجعة دمشق!  ثم بعد ذلك يذكر قدوم رجل من أعقاب بني العبّاس إلى تيمورلنك، مطالباً بدعمه للوصول إلى منصب الخلافة، وبعد مناظرات مع الفقهاء والقضاة ظهر بطلان دعواه فردّه.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل الثامن    كن أول من يقيّم
 
الرجوع عن هذا الأمير تمُر إلى مصر
كنتُ لمّا لقيتُه وتدلّيت إليه من السّور كما مرّ، أشار عليّ بعض الصّحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدّمتْ له من المعرفة بهم، فأشار بأن أطرفه ببعض هدية، وإن كانت نَزْرة فهي عندهم متأكّدة في لقاء ملوكهم، فانتقيتُ من سوق الكتب مصحفاً رائعاً حسناً في جزء محذو، وسجَّادة أنيقة، ونُسخة من قصيدة البُردة المشهورة للأبوصيري في مدح النبي صلّى الله عليه وسلم، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة.
وجئتُ بذلك فدخلتُ عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه، فلمّا رآني مقبلاً مَثَل قائماً وأشار إليّ عن يمينه، فجلستُ وأكابر من الجقطيّة حفافيه، فجلستُ قليلاً، ثم استدرتُ بين يديه وأشرتُ إلى الهدية التي ذكرتُها وهي بيد خُدّامي، فوضعتُها واستقبلني، ففتحتُ المُصحف فلمّا رآه وعرفه قام مُبادراً فوضعه على رأسه([1])، ثم ناولتُه البُردة فسألني عنها وعن ناظمها، فأخبرتُه بما وقفتُ عليه من أمرها، ثم ناولتُه السجّادة فتناولها وقبلها، ثم وضعتُ عُلب الحلوى بين يديه، وتناولتُ منها حَرفاً على العادة في التأنيس بذلك، ثم قَسَم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبّل ذلك كله، وأشعر بالرضى به.
ثم حوّمتُ على الكلام بما عندي في شأن نفسي([2])، وشأن أصحاب لي هنالك، فقلتُ: أيّدك الله!  لي كلامٌ أذكره بين يديك، فقال: قُل.  فقلتُ: أنا غريبٌ بهذه البلاد غُربتين، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشأي، وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلتُ في ظلّك وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غُربتي، فقال: قُل الذي تريد أفعلْه لك. 
فقلتُ: حال الغُربة أنسَتني ما أريد، وعساك - أيّدك الله - أن تعرف لي ما أريد.  فقال: انتقل من المدينة إلى الأرْدو([3]) عندي، وأنا إن شاء الله أوفي كُنه قصدك.  فقلتُ: يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك.
فشكرتُ ودعوتُ وقلتُ: وبقيتْ لي أخرى، فقال: وما هي؟  فقلتُ: هؤلاء المُخلّفون عن سلطان مصر من القرّاء والموقّعين والدّواوين والعمّال، صاروا إلى إيالتك، والمَلك لا يُغفل مثل هؤلاء، فسُلطانكم كبير وعَمَالاتكم متّسعة وحاجة مُلككم إلى المتصرّفين في صنوف الخدم أشدُّ من حاجة غيركم.  فقال: وما تريد لهم؟  قلت: مكتوب أمان يستنيمون إليه ويعوّلون في أحوالهم عليه.  فقال لكاتبه: اكتب لهم بذلك.  فشكرتُ ودعوت، وخرجتُ مع الكاتب حتى كتب لي مكتوب الأمان، وختمه شاه ملك بخاتم السّلطان، وانصرفتُ إلى منزلي.
*  *  *


([1]) يا للتُّقى والخشوع، لو كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، كان فعل ما فعل بالمدن والشعوب الآمنة؟
([2]) شأن نفسي!!  هذا هو المهمّ، لو أن الرّجل حكى ولو كلمة واحدة في رثاء المدينة وأهلها الملتاعين لترك للقارئ مجالاً يعذره، لكنه كشف عن نفس متقاعسة جبانة.
([3]) الكلمة تركية: ordu، وتعني الجيش أو المعسكر.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل التاسع    كن أول من يقيّم
 
ولمّا قَرُب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام، دخلتُ عليه ذات يوم، فلمّا قضينا المعتاد، التفت إليّ وقال: عندك بغلة هنا؟  قلت: نعم.  قال: حَسَنة؟  قلت: نعم، قال: وتبيعها؟  فأنا أشتريها منك.  فقلتُ: أيّدك الله!  مثلي لا يبيع من مثلك، إنما أنا أخدمك بها وبأمثالها لو كانت لي.  فقال: إنما أردتُ أن أكافئك عنها بالإحسان.  فقلتُ: وهل بقي إحسانٌ وراء ما أحسنتَ
به؟  اصطنعتَني وأحلَلتَني من مجلسك محلّ خواصّك، وقابلتَني من الكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله.  وسكتَ وسكتُّ، وحُملت البغلة - وأنا معه في المجلس - إليه، ولم أرها بعد.
ثم دخلتُ عليه يوماً آخر فقال لي: أتسافر إلى مصر؟  فقلتُ: أيّدك الله، رغبتني إنما هي أنت وأنت قد آويت وكفَلت، فإن كان السّفر إلى مصر في خدمتك فنعم، وإلا فلا بُغية لي فيه.  فقال: لا بل تسافر إلى عيالك وأهلك.
فالتفتَ إلى ابنه، وكان مسافراً إلى شَقْحَب لمرباع دوابه، واشتغل يُحادثه.  فقال لي الفقيه عبد الجبَّار الذي كان يترجم بيننا: إن السّلطان يوصي ابنه بك، فدعوتُ له([1]).  ثم رأيتُ أن السفر مع ابنه غير مُستبين الوجهة، والسّفر إلى صَفَد أقرب السواحل إلينا أمْلَكُ لأمري.  فقلتُ له ذلك، فأجاب إليه وأوصى بي قاصداً كان عنده من حاجب صَفَد ابن الدُّويداري([2])، فوادَعتُه وانصرفت.
واختلفت الطريق مع ذلك القاصد، فذهب عني وذهبتُ عنه، وسافرتُ في جمع من أصحابي، فاعترضتنا جماعةٌ من العشير قطعوا علينا الطريق ونهبوا ما معنا، ونجونا إلى قرية هنالك عَرايا، واتّصلنا بعد يومين أو ثلاث بالصُّبَيْبَة فخَلَفْنا بعض الملبوس، وأجزنا إلى صَفَد فأقمنا بها أياماً.  ثم مرّ بنا مركب من مراكب ابن عُثمان سُلطان بلاد الرُّوم، وصل فيه رسولٌ كان سفر إليه عن سلطان مصر ورجع بجوار رسالته، فركبتُ معهم البحر إلى غزّة، ونزلتُ بها وسافرت منها إلى مصر، فوصلتُها في شعبان من هذه السنة وهي سنة ثلاث وثمانمائة.


([1]) ذكر ابن قاضي شُهبة في تاريخه (حوادث سنة 803 هـ) وجهاً آخر للرّواية نقلاً عن شاهد عيان: »وفي مُستهلّ شعبان وصل إلى القاهرة وليّ الدّين ابن خلدون المالكي، والقاضي صدر الدّين ابن العجمي كاتب الدّست، والقاضي سعد الدّين ابن القاضي شرف الدّين ايضاً، وكانوا من جُملة المنقطعين بالشام، وكان القاضي ابن خلدون قد خرج مع القضاة من دمشق إلى تمرلنك، ولمّا عرفه عظّمه كثيراً، وسأله أن يكتب له مُدُن المغرب والمفاوز بها، وأسماء قبائل العرب بها.  فلمّا قُرئت عليه بالأعجمي أعجبته وقال: صنَّفتَ أخبار المغرب فقط؟  فقال: لا، أخبار الشرق والغرب وأسماء الملوك، وقد كتبتُ ترجمتك وأريد أقرأها عليك، فما كان منها صحيحاً تركتُه، وما كان غير صحيح أصلحتُه.  فأذن له، فقرأ نسبته، فقال: من أين عرفته؟  فقال: سألتُ عنه التجّار الثّقاة الواردين.  ثم قرأ فتوحاته وأحواله وابتداء أمره ومنام (sic.) رآه والده، فأعجبه ذلك كثيراً، فقال: تهيّأ حتى تذهب معي إلى بلادي، فقال له: في مصر مَن يحبّني وأحبّه، ولا بدّ لك من قصد مصر في هذه المرّة أو في غيرها، وأنا أذهب وأهيّء أمري وأذهب في خدمتك.  فأذن له في الذّهاب إلى مصر وأن يستصحب معه مَن شاء.  هكذا حكى لي القاضي شهاب الدّين بن العزّ، وأنه كان حاضراً لبعض ذلك«.
([2]) في عجائب المَقدور لابن عَرَبْشاه (ص 113): وكان في صَفَد تاجر من أهل البلاد أجدّ الرؤساء والتجّار، يُدعى علاء الدّين ويُنسب إلى دَوادار، كانت تقدّمت له خدمة على السّلطان، فولاّه حجابة ذلك المكان.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل العاشر    كن أول من يقيّم
 
وكان السّلطان صاحب مصر قد بعث من بابه سفيراً إلى الأمير تمُر إجابةً إلى الصُّلح الذي طلب منه، فأعقبني إليه.  فلمّا قضى رسالته رجع، وكان وصوله بعد وصولي، فبعث إليّ مع بعض أصحابه يقول لي: إن الأمير تمُر قد بعث معي إليك ثمن البغلة التي ابتاعها منك، وهي هذه فخُذها، فإنه عَزَم علينا من خلاص ذمّته من مالك هذا.  فقلتُ: لا أقبله إلا بعد إذن من السّلطان الذي بعثك إليه، وأمّا دون ذلك فلا.  ومضيتُ إلى صاحب الدّولة فأخبرته الخبر، فقال: وما عليك؟  فقلتُ: إن ذلك لا يجمُل بي أن أفعله دون إطلاعكم عليه.  فأغضى عن ذلك، وبعثوا إليّ بذلك المبلغ بعد مدّة، واعتذر الحامل عن نقصه بأنه أُعطيه كذلك.  وحمدتُ الله على الخلاص.
وكتبتُ حينئذ كتاباً إلى صاحب المغرب، عَرّفتُه بما دار بيني وبين سلطان الطَّطَر([1]) تمُر، وكيف كانت واقعته معنا بالشام، وضمّنتُ ذلك في فصل من الكتاب نصُّه:
وإن تفضّلتُم بالسّؤال عن حال المملوك، فهي بخير والحمد لله، وكنتُ في العام الفارط توجّهتُ صُحبة الرّكاب السُّلطاني إلى الشام عندما زحف الطَّطَر إليه من بلاد الرُّوم والعراق مع مَلكهم تمُر، واستولى على حَلَب وحَمَاة وحمص وبعلبكّ وخرّبها جميعاً، وعاثت عساكره فيها بما لم يُسمَع أشنع منه، ونهض السّلطان في عساكره لاستنقاذها، وسَبَقَ إلى دمشق، وأقام في مُقابلته نحواً من شهر، ثم قفل راجعاً إلى مصر.
وتخلَّف كثير من أمرائه وقُضاته، وكنتُ في المُخلَّفين، وسمعتُ أن سُلطانهم تمُر سأل عني، فلم يسَع إلا لقاؤُه.  فخرجتُ إليه من دمشق، وحضرتُ مجلسه وقابلني بخير، واقتضيتُ منه الأمان لأهل دمشق([2])، وأقمتُ عنده خمساً وثلاثين يوماً، أباكره وأراوحه.
ثمّ صَرَفني وودّعني على أحسن حال، ورجعتُ إلى مصر، وكان طلب مني بغلةً([3]) كنتُ أركبها فأعطيتُه إيّاها، وسألني البيع فتأفّفتُ منه لما كان يُعامل به من الجميل.  فبعد انصرافي إلى مصر بَعَث إلي بثمنها مع رَسول كان من جهة السّلطان هنالك، وحمدتُ الله تعالى على الخلاص من ورطات الدّنيا.
*  *  *


([1]) يصرّ المغاربة على إقلاب حرف التاء في الأسماء الأعجمية إلى طاء، لا ندري لماذا، إلا أنهم يستثنون منه اسم مدينة »تيزي أوزو« في الجزائر! أما هذه فندري لماذا لا يقلبونها طاءً.
([2]) وأيّ بطل والله!  فأين هو أمانه المزعوم هذا؟  لقد نسي حتى ذكر ما حدث للمدينة بعد.
([3]) الجميل في مؤرّخنا العظيم ابن خلدون أنه لا ينسى ذكر حديث البغلة، ويُغفل بالكلّيّة ذكر مصيبة أهل الشام الذين رزحوا تحت اضطهاد تيمورلنك وتنكيله.  لكن غاية الأمر لديه أنه يحمد الله على خلاصه - هو - من ورطات الدّنيا!  فما شأنه بالذين ماتوا والذين عُذّبوا والذين لاقوا ويلات الطاغية، الذي يُشيد بحُسن استقباله له؟!
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل الحادي عشر    كن أول من يقيّم
 
وهؤلاء الطَّطَر هم الذين خرجوا من المَفازة وراء النّهر، بينه وبين الصين، أعوام عشرين وستمائة مع مَلكهم الشهير جَنْكز خان، ومَلَكَ المشرق كلّه من أيدي السَّلجوقيّة ومواليهم إلى عراق العرب، وقَسَم المُلكَ بين ثلاثة من بَنيه، وهم: جَقْطاي، وطُولُى([1])، ودُوشي خان.
فجَقْطاي كبيرُهم، وكان في قسمته تُركستان وكاشْغَر والصّاغون والشّاش وفَرْغانَة، وسائر ما وراء النّهر من البلاد.  وطُولُى كان في قسمته أعمال خُراسان وعراق العَجَم والرّيّ إلى عراق العرب، وبلاد فارس وسجستان والسّند، وكان أبناؤه: قُبلاي وهُولاكو.  ودُوشي خان كان في قسمته بلاد قَبْجَق([2])، ومنه صَراي، وبلاد التُّرك إلى خُوارَزم.
وكان لهم أخٌ رابع يُسمّى أوكداي([3]) كبيرهم، ويسمّونه الخان، ومعناه صاحب التَّخت، وهو بمثابة الخليفة في مُلك الإسلام.  وانقرض عقبه، وانتقلت الخانيّة إلى قُبلاي، ثم إلى دُوشي خان أصحاب صَراي.
واستمرّ مُلكُ الطَّطَر في هذه الدّول الثلاث، ومَلَكَ هُولاكو بغداد وعراق العرب إلى ديار بكر ونهر الفُرات، ثم زحف إلى الشام ومَلَكَها، ورجع عنها([4]).  وزحف إليها بَنوه مراراً، ومُلوك مصر من التُّرك يُدافعونهم عنها، إلى أن انقرض مُلك بني هُولاكو أعوام أربعين وسبعمائة، ومَلَكَ بعدهم الشيخ حسن النُّويْن وبَنوه، وافترق مُلكُهم في طوائف من أهل دولتهم، وارتفعت نقمتُهم عن مُلوك الشام ومصر.
ثمّ في أعوام السّبعين أو الثمانين وسبعمائة، ظهر في بني جَقْطاي وراء النّهر أميرٌ اسمه تَيْمُور، وشُهرته عند النّاس تمُر، وهو كافل لصبيّ متّصل النَّسَب معه إلى جَقْطاي في آباء كلّهم مُلوك.  وهذا تمُر بن طَرَغاي هو ابن عمّهم، كَفَل صاحب التَّخت منهم اسمه محمود، وتزوّج أمّه صَرْغَتْمش، ومدّ يده إلى ممالك التَّتر كلّها، فاستولى عليها إلى ديار بَكر، ثم جال في بلاد الرُّوم والهند، وعاثَت عساكره في نواحيها، وخرّب حصونها ومُدنها، في أخبار يطول شرحها.
ثم زحف بعد ذلك إلى الشام، ففعل به ما فعل، والله غالبٌ على أمره.  ثم رجع أخيراً إلى بلاده، والأخبار تتّصل بأنه قصد سَمَرْقَنْد، وهي كرسيّه.
*  *  *


([1]) لا يستغربنّ القارئ تشكيلنا الكلمة بلام مضمومة تليها ألف مقصورة، ففي فرع اللغات الألطائية (وكانت تُكتب بالحرف العربي نقلاً عن الإيرانيين) تُرسم حروف العلّة الأخيرة كلها بألف مقصورة.  ونُطق الاسم المذكور: طُولُو Dolu، ومعناه البَدر.
([2]) في التُّركية: Kapçak.
([3]) في التركية: Oktay.
([4]) حول ذلك راجع ما تقدّم أعلاه من نصّ المملوك الأشرفي الصارم أُزْبك في مجلس سابق لنا على أديم الورّاق، وفيها روايات وتفاصيل شيّقة جديدة تُنشر للمرّة الأولى.
*أحمد
11 - مارس - 2008
الفصل الثاني عشر    كن أول من يقيّم
 
والقومُ في عَدَد لا يَسَعه الإحصاء، إن قدّرتُ ألف ألف([1]) فغير كثير، ولا تقول أنقص، وإن خَيّموا في الأرض ملأوا السّاح، وإن سارت كتائبهم في الأرض العريضة ضاق بهم الفضاء، وهم في الغارة والنَّهب والفتك بأهل العُمران وابتلائهم بأنواع العذاب، على ما يحصّلونه من فئاتهم، آيةٌ عَجَبٌ، وعلى عادة بوادي الأعراب.
وهذا المَلك تمُر من زُعماء المُلوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم، وآخرون إلى اعتقاد الرّفض لما يرونه من تفضيله لأهل البيت، وآخرون إلى انتحال السّحر.  وليس من ذلك كلّه في شيء، إنما هو شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث واللّجاج بما يعلم وبما لا يعلم.  عمره بين الستّين والسّبعين، ورُكبته اليُمنى عاطلة من سَهم أصابه في الغارة أيام صباه، على ما أخبرني، فيجرّها في قريب المشي، ويتناوله الرّجال على الأيدي عند طول المسافة، وهومصنوع له.  والمُلك لله يؤتيه من يشاء من عباده.
 
(التعريف بابن خلدون ورحلته، 347-383)
 
*  *  *


([1]) في لغة عصرنا مليون جندي، عدد كبير للغاية لا قبَل به لأية مدينة آنذاك.  لكن المؤسف أن جيش المماليك الذي كان آنذاك أفضل جيش في العالم من حيث تدريبه وتعبئته القتالية هزم جيش تيمورلنك على أبواب دمشق، ثم قرّر النّاصر فَرَج سحبه إلى مصر.
*أحمد
11 - مارس - 2008
 1  2  3  4