البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العالمي

 موضوع النقاش : مفهوم الأدب المقارن ومدارسه    كن أول من يقيّم
 صبري أبوحسين 
10 - فبراير - 2008
للأدب المقارن مفاهيم كثيرة، وروَّاد، ومدارس.  
أما عن المفاهيم فيرى فان تيجم أن "غاية الأدب المقارن هي أساسًا دراسة الآداب المختلفة في علاقتها مع بعضها البعض"، بينما تعرف"أناساينيا ريفنياس"الأدب المقارن بأنه "علم حديث، يهتم بالبحث في المشكلات المتعلقة بالتأثيرات المتبادلة بين الآداب المختلفة.
 كما يرى "رينيه ويليك" أن الأدب المقارن هو الدراسة الأدبية المستقلة عن الحدود اللغوية العنصرية، ومن ثم يقرر ضرورة أن يدرس الأدب المقارن كله من منظور عالمي، ومن خلال الوعي بوحدة كل التجارب الأدبية والعمليات الخلاقة والسياسية.
 ويرى الدكتور عبدالحكيم حسان أن الأدب المقارن هو: دراسة علائق الوقائع التي وجدت بين منتجات أعاظم المؤلفين في كل دولة، والمنابع التي انتهلوا منها أو استوحوها أو تأثروا بها وهو يعنى أيضا بتلك التغييرات العجيبة أو التشويهات الأسيفة التي يحدثها الأفراد أو الشعوب في منتجات الأجانب خضوعا لظروف مختلفة وعوامل متباينة كالجهل والأوهام والأخيلة الخصبة، والقصص المتداولة، والمأثورات الموروثة.
...إلى آخر هذه التعاريف التي تكثر كثرة تحتاج إلى تعليق نقدي مفصل. أقدمه من خلال جهد طلابي بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي في قادم التعاليق، إن شاء الله تعالى.
 
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
تلاقح الفِكَر.    كن أول من يقيّم
 
من الأدب المقارن إلى النقد الثقافي المقارن
د. مسعود عمشوش
أستاذ الأدب العام والمقارن المشارك –جامعة عدن
من المسلم به اليوم أن من أهم عوامل ازدهار أي حضارة مدى احتكاكها بالحضارات الأخرى واستفادتها منها. فمنذ القدم دأبت الثقافات المختلفة على إثراء بعضها بعض. وأخذت العلاقة بين الثقافات أشكالا متنوعة مثل المحاكاة والترجمة والتأثر والتأثير والتثاقف والتداخل وكذلك الغزو والتهجين والهيمنة . ومن الصعب اليوم أن نتصور وجود ثقافة ما تطورت بمعزل عن الثقافات الأخرى. ومن الملاحظ كذلك أن الانحطاط كان مصير أي حضارة حاولت أن تنكفئ أو تنغلق على نفسها. وإذا كانت العلاقات بين الثقافات قد نشأت منذ القدم فلا شك أن العولمة، بفضل تطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا وارتفاع عدد الناس الذين ينتقلون من قطر إلى آخر، قد قربت أكثر بين الثقافات وضاعفت من  الأبعاد المستعارة "أو العالمية" التي تحتويها كل ثقافة.
وبما أن أي ثقافة تحتوي على عناصر أصيلة وعناصر مستعارة من الثقافات الأخرى فليس من الممكن دراسة مختلف المكونات الثقافية لحضارة ما إلا من خلال مقارنتها بالمكونات الثقافية الموجودة في الثقافات الأخرى التي احتكت بها في مرحلة ما من تاريخ تطورها. لهذا بعد أن انتهى عصر الاكتشافات الجغرافية وتمكن العلماء من الاطلاع على ما لدى الشعوب الأخرى من معطيات ثقافية وعلمية تختلف عما لديهم بدءوا يشعرون بالحاجة إلى دراسة معارفهم من خلال مقارنتها بما لدى الآخرين، وشرعوا منذ منتصف القرن التاسع عشر في استخدام المقارنة بشكل واسع في كثير من مجالات المعرفة، فظهر علم الأديان المقارن وعلم اللغة المقارن وعلم التشريح المقارن والقانون المقارن والتربية المقارنة والأدب المقارن... وغيرها من العلوم المقارنة.
وبسبب ارتفاع مستوى تداخل الثقافات في هذا العصر -عصر العولمة- بات من المستحيل دراسة أي ثقافة خارج إطار المقارنة. فاليوم يمارس السياسيون وعلماء الاقتصاد والتاريخ والاجتماع والانتروبولوجيا والنقاد المقارنة الثقافية وذلك بهدف الكشف عن مميزات كل ثقافة ودرجة تداخلها مع الثقافات الأخرى. وبما أن المقارنة أصبحت قدر أي دراسة علمية جادة فقد سعت كثيرا من الدول إلى تضمين مناهجها التعليمية أبعادا عالمية مقارنة من مرحلة التعليم الثانوي. ففي سنغافورة وكندا مثلا أدخلت كليات إعداد المدرسين أبعادا تربوية مقارنة في خططها الدراسية وذلك بهدف تدريب المدرسين على تنمية فهم العالم لدى الطلاب وتدريبهم على ممارسة المقارنة الثقافية وتقدير حجم التشابهات والاختلافات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم.
وبالنسبة للأدب المقارن، فهو منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر أخذ يفرض نفسه علميا وثقافيا ورسميا، وقد استحدث "كرسي" للأدب المقارن في بعض الجامعات الأوروبية منذ سبعينيات ذلك القرن. لكن، على الرغم من أنه قد اكتسب شرعيته الأكاديمية منذ أكثر من مئة وثلاثين عاما، وعلى الرغم من الإنجازات المهمة التي حققها الباحثون في مجال الأدب المقارن الذي يعد اليوم من أهم مرتكزات نظرية الأدب والنقد الأدبي، والذي بات يتصدى لميادين بحثية معاصرة كصورة الآخر والاستشراق والمثاقفة وخطاب ما بعد الكولونيالية ودراسات الترجمة، فقد شهد عقد التسعينات من القرن العشرين طرح عدد من التساؤلات حول جدوى الأدب المقارن. ونجد صدى لهذه التساؤلات في دراسة عن (الأدب المقارن في عصر العولمة، نزوى، العدد 35، ص 75-81) يقول فيها الدكتور حسام الخطيب "يستقبل الأدب المقارن القرن الحادي والعشرين (قرن العولمة) بتساؤلات ومجادلات صاخبة حول تحديد منهجه ومنطقه ومنطقته ومستقبله وأدوات بحثه وعلاقاته بالأنظمة الأخرى، ولا يكاد يضاهيه في ذلك أي نظام معرفي آخر، في دنيا العلوم الإنسانية بوجه خاص، ودنيا العلوم بوجه عام.  وقد يرجع ذلك إلى حداثة هذا النظام وتفجر الخلافات والنزاعات في داخله وحوله من قبل أن يبلغ رشده ويشتد أزره.  ولكن قد يكون ذلك ناجما  أيضا  عن طبيعة امتداداته المنهجية والمعرفية إلى مختلف أشكال المعرفة المعاصرة، بحيث تهتز جذوره وأغصانه بقوة مع الاهتزازات الكبرى التي تتعرض لها الأنظمة المجاورة له عضويا ولاسيما النقد الأدبي ونظرية الأدب".
ومن اللافت للانتباه حقا أن تلك التساؤلات التي طرحت حول الأدب المقارن قد تزامنت مع ازدهار الدراسات الثقافية (التي يطلق عليها عربيا النقد الثقافي) لاسيما في الجامعات الأمريكية. وقد نبه د. حسام الخطيب إلى أن النقد الثقافي يمكن أن يُعد أحد الأنظمة المنافسة للأدب المقارن. فهو، في كتابه (الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة ص 278-279) يؤكد أنه "لا ينبغي عدم الاستهانة بالمخاطر التي تتهدد استمرار الأدب المقارن من خارج البيت المقارني. إذ تشير الدلائل إلى أنه سيبقى عرضة لموجات متعاقبة من المنافسة تطلقها أنظمة تتقاطع معه في المنطق والمنطقة، بعضها قديم متأصل متمكن مثل نظرية الأدب، وبعضها حديث متوثب مثل الدراسات الثقافية والدراسات الترجمية، وبعضها حديث متعدد الأنظمة ومتشعب الاهتمامات وعريض الادعاءات بحيث ينطلق من منطلقات معرفية وسوسيولوجية أوسع بكثير من منطلقات الأدب المقارن والنظام الأدبي بوجه عام، مثل النقد البنيوي، وما بعد البنيوية، والسيميائيات، ونظريات ما بعد الحداثة على اختلاف فيما بينها".
وقد أبدا بعض المتخصصين الغربيين في الأدب المقارن غضبه حينما ظهرت بعض دراسات النقد الثقافي تناولت ظواهر مثل الأدب الشعبي والأساطير وسبق للأدب المقارن أن درسها بالأسلوب نفسه وقبل أكثر من مئة سنة.  فستيفن توتوسي، الذي يعد من أبرز أساتذة الأدب المقارن في الولايات المتحدة وقبل أن يصبح أبرز منظري النقد الثقافي المقارن، أكد سنة 1994، في دراسة حول (الأدب المقارن والدراسات الثقافية التطبيقية) أن الأدب المقارن يتضمن في الحقيقة عددا كبيرا من الميادين التي يدخلها دعاة النقد الثقافي ضمن دراساتهم. ويرى أن مسار الدراسات النظرية والتطبيقية التي أنجزت حتى اليوم في إطار الأدب المقارن تبين أن هذا التخصص - الذي يتقاطع ويتداخل مع عدد من العلوم الإنسانية الأخرى - يتضمن في ميادين بحثه المتعددة والمتنوعة، وفي مكوناته المنهجية التي يتم رفدها باستمرار مما يستجد من طرق للبحث والتحليل، ما يؤهله لدراسة مختلف التجليات الثقافية لأي مجتمع وكذلك الحوار بين الثقافات (أو المثاقفة)، والعلاقة بين الأدب ومختلف العلوم الإنسانية. ومن المعلوم أن الدكتور عبد الله الغذامي قد اعترف أن النقد الثقافي لا يرى حرجا في توظيف التقنيات نفسها التي استخدمها النقد الأدبي للوصول  إلى استنتاجات جديدة وبلورة وجهات نظر مختلفة عن تلك التي توصل إليها النقد الأدبي. لكن هذا لا يعني بالطبع أن النقد الثقافي الذي - بعكس الأدب المقارن- يُمارس أحيانا في إطار لغوي واحد لا يسعى إلى بلورة مفاهيم (كمفهوم النسق) ومرتكزات نظرية وطرق جديدة للتحليل.
وفي مطلع التسعينات من القرن العشرين شرع بعض المقارنين الغربيين - الذين كانوا يؤكدون فضل الأدب المقارن على الدراسات الثقافية- في محاولة التقريب بين الأدب المقارن والنقد الثقافي ودمجهما في نظام منهجي واحد. ففي دراسة بعنوان (من الأدب المقارن اليوم إلى الدراسات الثقافية، 1999) استكشف ستيفن توتوسي إمكانية تطوير منهج جديد يجمع بين خصائص الأدب المقارن وبين سمات النقد الثقافي، واقترح أن يسميه: "الدراسات الثقافية المقارنة comparative cultural studies". وقام بتحوير المبادئ العشرة التي قدمها في كتابه (الأدب المقارن: النظرية والمنهج والتطبيق 1998) بهدف تمكين الأدب المقارن من مواكبة المتغيرات التي أفرزتها العولمة، وجعل منها الأسس التي ينبغي أن تنهض عليها الدراسات الثقافية المقارنة التي يعرفها بأنها "مقاربة سياقية تتناول الثقافة بمختلف مكوناتها وآليات إنتاجها. ويرتكز إطارها النظري والمنهجي على مجموعة من المبادئ المستعارة من الأدب المقارن والدراسات الثقافية، ومن مجموعة الأسس المرتبطة بالبنائية (constructivism) ونظريات الاتصال والأنظمة والثقافة والأدب. وتهتم الدراسات الثقافية المقارنة، التي عادة ما تركز على كيفية تكوين الظاهرة -أو النص -أكثر من اهتمامها بالمحتوى أو الموضوع، بالجوانب التطبيقية إلى جانب المنطلقات النظرية والمنهجية". ومما لا شك فيه أن اعتماد الدراسات الثقافية المقارنة على المقاربات التجريبية "الممنهجة  systematic and empirical"  واهتمامها بالسياق – بمختلف مكوناته البرجماتية والأيديولوجية والسياسة والثقافية-  تفرضها في الواقع الرغبة في التركيز على آليات أنتاج النص أكثر من العناية بشكله أو محتواه. كما أن ذلك الاهتمام يتطابق بالطبع مع تراجع المناهج النقدية التي كانت ترتكز على البنيوية.
وإذا كان هناك الكثير من الأساتذة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأقطار أمريكا اللاتينية قد ساروا في الطريق نفسه الذي أختاره ستيفن توتوسي دي زبتنك للأدب المقارن وسارعوا في تحويل أقسام الأدب المقارن في جامعاتهم إلى أقسام للدراسات الثقافية المقارنة، فهناك أيضا العديد من المقارنين الذين يرون أن تغيير الأدب المقارن إلى دراسات ثقافية مقارنة يؤدي إلى ضياع استقلالية الأدب المقارن ويلحقه بالدراسات الثقافية. كما يؤكد تومو فيرك، أستاذ الأدب المقارن في جامعة ليوبليانا في سلوفانيا، في دراسة له بعنوان "الأدب المقارن في مواجهة الدراسات الثقافية المقارنة" إن مشروع توتوسي  قد أفرغ الأدب المقارن من طبيعته الأدبية، إذ أن توتوسي قد اكتفى بتحويل كلمة أدب إلى ثقافة ليجعل من المبادئ التي وضعها لتحديث الأدب المقارن أسسا للدراسات الثقافية المقارنة. وبالإضافة إلى ذلك يؤكد فيرك أن الأبحاث التي قام بها توتوسي في إطار ما يسميه  بالدراسات الثقافية المقارنة تدخل كلها في الواقع ضمن ميادين البحث في الأدب المقارن.
 
أما في الجامعات العربية فلم يتم - حسب علمنا - حتى الآن تبني أطروحات الدراسات الثقافية المقارنة بين أساتذة الأدب المقارن. ومع ذلك يمكننا أن نلمس اهتمام بعض هؤلاء الأساتذة بهذه الدراسات وما يعتمل بشأنها في الغرب. فعزالدين المناصر، أستاذ الأدب والمقارن في جامعة فيلادلفيا الأردنية، ومؤلف كتاب (المثاقفة والأدب المقارن) يبدأ دراسته عن (إدوارد سعيد والنقد الثقافي المقارن، مجلة فصول)، بطرح إشكالات النقد المقارن والنقد الثقافي المقارن وعلم النص ومدى حرية الناقد في الانتقال من قراءة النص من الداخل إلى قراءته من الخارج، أي وضع النص ضمن مختلف المكونات الثقافية للسياق الذي أنتجه، وذلك قبل أن يتناول الملامح المنهجية لكتابات إدوارد سعيد ويحدد موقعه بين المنهج الأمريكي الذي يعتمد أسلوب التوازي في قراءة التشابهات وبين المنهج الفرنسي التقليدي. كما يستعرض د. عز الدين المناصرة طريقة استخدام إدوارد سعيد لبعض المصطلحات التي تجمع بين الأدب المقارن والنقد الثقافي مثل التمثيل والتهجين وسلطة النسب وسلطة الانتساب والنظرية النازحة. وفي شهر أغسطس الماضي أصدر عز الدين المناصرة كتابا جديدا بعنوان (الهويات والتعددية اللغوية: قراءات في ضوء النقد الثقافي المقارن) ضمنه خمس دراسات عن الفرانكفونية وثلاث من الأقليات التي تعيش الوطن العربي.
وفي نهاية عام 2004، أصدرت الأستاذة المصرية ماري تريز كتاباً في الأدب المقارن يحمل عنوان "قراءة الأدب عبر الثقافات"، ويضم مجموعة من الدراسات يقترب بعضها من كتابات إدوارد سعيد حول قضايا الهوية وتمثيل الآخر. ففي الفصل السابع من الكتاب تتناول المؤلفة مسألة الهوية والعلاقة بين فعل التخيّل وتشكل الهوية وبين كتابة النص الأدبي، وذلك من خلال  تحليلها لروايتين؛ الأولي هي(ذات) لصنع الله إبراهيم والثانية (لما نحن منعمون) كتبها باللغة الإنجليزية لآي كوي ارماه. ومن خلال عرض العلاقة الحوارية بين ثلاث شخصيات (مودين الأفريقي وصديقته  الأميركية إيمي والراوي) تتكشف أمامنا إشكالية الهوية بين الأفارقة الذين لا يكتشفون ذواتهم إلا من خلال اتصالهم بالآخر. وفي دراسة حول (التمثيل المرئي للإسكندرية بين منعطف قرنين، مجلة نزوى، العدد 27، ص 21-33) تقوم ماري تريز بقراءة عدد من الأعمال التصويرية المستوحاة من موقع الإسكندرية الثقافي وذلك لترصد كيفية تمثل عدد من الفنانين الغربيين (والمصرين) لمدينتها الإسكندرية. فهي ترى أنه "لإعادة صياغة الهوية ينبغي مقاربة الذات بوصفها نقطة التلاحم بين الهوية والاختلاف. فالتعرف على الذات هو وعي بالآخر الذي تحتويه، والوعي بالأوجه المتعددة للثقافة التي تشكلها، فالفهم الذاتي يتطلب الابتعاد عن الذات لتجاوز المحلية المفلقة، كما يفضي إلى تجاوز المصادمات مع خطاب الاستشراق وإتاحة الفرصة لإنماء خطاب يتجاوز الحدود الفاصلة بين الثقافات".
و بالمقابل، يبدو لنا أن الدكتور حسام الخطيب، أستاذ الأدب المقارن في جامعة قطر، قد عبّر عن شيء من التحفظ فيما يتعلق بالربط بين دراسات النقد الثقافي وبين الأدب المقارن. فهو يرى أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مسخ هوية الأدب المقارن. ويقول في كتابه (الأدب المقارن من العالمية إلى العولمة ص 279) "الملاحظ أن الجيل الجديد نسبيا هو الذي يحمل لواء المعارضة للأدب المقارن ويحاول إما إبداله وإزاحته من قائمة معارف المستقبل، وإما تقزيمه وإتباعه للأنظمة المشرئبة كالدراسات الثقافية أو الأنثوية أو الترجمية، وإما - في أحسن الحالات - فتح أبوابه لكل أشكال المقارنات دون شروط أو حدود، مما يهدد بضياع شخصيته".
وإذا كان د. حسام الخطيب يلاحظ أن هناك "انحسارا نسبيا في عدد الباحثين المتحمسين حقيقة لنظام الأدب المقارن والراغبين في دخول مناقشات لتوضيح جدواه وآفاقه المستقبلية على نحو ما فتئ هنري رماك ينادي به طوال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين"، فهو يرصد في الوقت نفسه ظهور "نصوص تبشيرية في الأدب المقارن مثل دفاع فرانسوا جوست المتألق عن الأدب المقارن". ويلاحظ كذلك "أن الأدب المقارن اليوم يتمتع أفقيا باهتمام متزايد ليس في الغرب فحسب ولكن أيضا  في مناطق أخرى مختلفة من العالم، ولاسيما في الصين واليابان والوطن العربي، على مستوى المؤسسات الجامعية وربما أيضا  في حقل النشاط الأدبي العام. ويبدو أن تطورات العولمة المقبلة ستحمل للأدب المقارن تحديات جديدة وفرصا متجددة، يؤمل أن يتضح تأويلها في النقلة التالية. وبعكس بعض المتشائمين يرى الخطيب "أن محصول الإنتاج المقارني التطبيقي الذي نشر خلال العقد الأخير من القرن العشرين بوجه خاص يوحي بانتعاش فائق".
وهذا لا يعني أن الأستاذ حسام الخطيب يرفض أن يكون للأدب المقارن بعدا ثقافيا إنسانيا عاما، فالعكس هو الصحيح إذ أنه حين يحدد المهمات المستقبلية للأدب المقارن يقترب كثيرا من طروحات توتوسي الخاصة بميادين البحث التي تتناولها الدراسات الثقافية المقارنة. فهو يؤكد ضرورة انتقال الأدب المقارن "من المناخ الأدبي إلى المناخ الثقافي العام". ويرى أنه "يحسن بالأدب المقارن إظهار مزيد من الاهتمام بالقضايا الإنسانية الكبرى التي تشغل ساحة الدراسات الأدبية الجديدة مثل مضاعفة التصدي للمركزية الأوروبية والغربية وحليفتها الهيمنة الأمريكية (المتصاعدة في القرن الحادي والعشرين)، والتخلص من امتدادات الكولونيالية، والسبق إلى الإسهام في بناء مسار سليم لموجة العولمة الثقافية المشرئبة، ومكافحة التمييز العنصري الثقافي بكل أشكاله وتمثلاته، والحيلولة دون انقسام العالم ثقافيا إلى طبقة فائقة الغنى والموارد، ومقابلها طبقة مدقعة تحت حزام الفقر، كما هو منتظر.  ويتبع ذلك تأكيد التواصل العالمي وكشف الغطاء عن الثقافات المقموعة وتهوية تجاربها، والإفادة من جميع ثقافات العالم في شتى أنحائه من أجل إغناء الفكر الإنساني، ويصعب اتهام الأدب المقارن بأنه مقصر في هذا المجال ولكن يصعب كذلك اعتباره رائدا. والمطلوب من الأدب المقارن أن لا يكون أقل من الأنساق الأدبية الأخرى تركيزا  على هذه الموضوعات الإنسانية المعاصرة". وبعد هذا العرض ألا يحق لنا أن نتساءل: هل الخلاف بين ستيفن توتوسي ومعارضيه يكمن في التسمية فقط؟
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
امتدادات الأدب 3    كن أول من يقيّم
 
ومن الملاحظ أن اسم فخري أبو السعود ورد آنفاً في باب الدراسات التطبيقية خلافاً لما درجت عليه المصادر العربية حتى الآن من نسبة الريادة النظرية إِليه. ويبدو أن فخري أبو السعود لم يستخدم مصطلح الأدب المقارن ولم يكشف عن معرفة به, على الرغم من سبقه في مجال الدراسة التقابلية أي غير القائمة على التأثر والتأثير, وأن مصطلح الأدب المقارن ظهر في «الرسالة» أول ما ظهر على يد الكاتب الشامي خليل هنداوي في سلسلة مقالات تلقي ضوءاً جديداً على ناحية من الأدب العربي هو, اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يسميه الفرنجة Littérature Comparée, في كتاب «تلخيص كتاب أرسطو في الشعر» لفيلسوف العرب الأول ابن رشد. وقد ظهر هذا العنوان في «الرسالة» (الأعداد من 154-156 من المجلة) بتاريخ 8/6/1936, وتكرر في أعداد ثلاثة تالية. وحملت المقالة الأولى مقدمة نظرية عن الأدب المقارن ومنهجه ومزاياه تُعد الأولى من نوعها في الأدب العربي.

والجدير بالذكر أن مقرر الأدب المقارن ظهر أولاً في أدبيات دار العلوم بالقاهرة سنة 1938, ولكن المصطلح اختفى بعد ذلك ليظهر في أواخر الأربعينات في سلسلة من الكتب الجامعية تعاقبت بمعدل كتاب كل سنتين تقريباً, وصدر أولها سنة 1948 في القاهرة بعنوان «من الأدب المقارن» لنجيب العقيقي, تضمّن شذرات من الأدب العام والنقد النظري غير ذات صلة مباشرة بالعنوان. وفي عام 1949 ظهر كتاب عبد الرزاق حميدة «في الأدب المقارن» كما ظهر عام 1951 كتاب مقارني لإِبراهيم سلامة. وكان أهم تطور تأليفي في الموضوع ظهور كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال بعنوان «الأدب المقارن» في القاهرة عام 1953. ويُعد هلال بحق مؤسس الأدب العربي المقارن, وكان كتابه أول محاولة عربية ذات وزن أكاديمي في منهجية الأدب المقارن, وبدا شديد التمسك بمبادئ المدرسة الفرنسية التقليدية. وفيما بعد طبع الكتاب عدة طبعات وخرّج جيلاًَ كاملاً من المهتمين بالأدب المقارن.

وبعد الخمسينات تطور تدريس الأدب المقارن في الجامعات العربية بخطوات غير حثيثة. وألفت كتب جامعية متفرقة اعتمدت كثيراً على كتاب غنيمي هلال. ولكن بدأت تبرز في الثمانينات اتجاهات جديدة على يد الجيل التالي, مؤذنة بحلول مرحلة نهوض جديدة أكثر وعياً للتطورات العالمية الحية.

ومن أهم تطورات الأدب المقارن العربي قيام «الرابطة العربية للأدب المقارن» التي عقدت الملتقى التحضيري في جامعة عنابة بالجزائر عام 1983, والملتقى الأول في عنابة أيضاً عام 1984, ثم المؤتمر الثاني في جامعة دمشق 1986, والثالث في مراكش 1989. ويشير وضع الثقافة العربية المعاصرة إِلى أن الأدب المقارن يبشر بمستقبل ذي شأن في رحاب الجامعات العربية وخارجها .
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
مدخل    كن أول من يقيّم
 
                         الأدب المقارن : المفهوم والنموذج ( مدخل للتعريف والفهم )

                                              د. مصطفى عطية جمعة
يعد الأدب المقارن منهجا نقديا مميزا ، فهو يعتمد على المقارنة بين الأجناس الأدبية في اللغات المختلفة ، على مستوى التأثير والتأثر والأفكار . وبالطبع فإن الحد الأدنى في المقارنة يكون جنسا أدبيا واحدا ، بين لغتين مختلفتين .
وتتعدد نظريات الأدب المقارن التي سعت إلى تطوير مناهجه ، متماشية مع التطورات المعرفية في الحقول الإنسانية المختلفة . وقد جاءت نظريته الأولى ساعية إلى المقارنة بين جنسين أدبيين في التأثير والتأثر ، ولعل كتاب د. مكارم الغمري ، المعنون بـ: "تأثيرات عربية في الأدب الروسي المعاصر " الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت ( 1991 ) ؛ نموذجا لقياس مدى التأثيرات العربية التي دخلت الأدب الروسي المعاصر ؛ وهناك الكثير من البحوث التي تناولت تأثيرات عربية في الأدب الغربي ، مثل تأثر " دانتي " صاحب الكوميديا الإلهية برسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، فالموضوع المشترك بينهما هو : ما يحدث يوم القيامة وإدخال الناس الجنة أو النار .
وتطورت النظرية من مجرد التأثير والتأثر إلى دراسة تاريخ الفكرة ذاتها بين أدبين مختلفين ، بلغتين مختلفتين ، وصاحب هذه النظرية " رينيه ويلك " في بحثه المشهور المعنون بـ " أزمة الأدب المقارن " والذي طالب فيه إلى أهمية أن يعاد النظر في مناهج الأدب المقارن بحيث لا يقف في دائرة التأثير والتأثر ، فهي دائرة مغلقة ومحدودة ، وأن يتسع بحيث يشمل دراسة تاريخ الأفكار بشكل معمق ، بأن ندرس- مثلا – قصيدة النثر : النشأة والتكوين والجماليات في الشعر العربي وفي الشعر الإنجليزي أوالفرنسي ، وبالتالي تكون المقارنة أكثر شمولا ، حيث نعرف المشترك والمختلف : فكريا وجماليا في قصيدة النثر ، بدلا من الرؤية المجتزأة السابقة التي تقف عند مستوى المضمون وتسعى إلى تعميقه بين الأدبين .
والدراسة العربية النموذج لهذا المفهوم : كتاب الدكتور مجدي أحمد توفيق وعنوانه : " مفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان " ( سلسلة كتابات نقدية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، عام 1999م ) ، وقد أقام فيه دراسة مقارنة بين المفاهيم النقدية التي نشرتها جماعة الديوان في مصر في أوائل القرن العشرين ، والتي كوّنها : عباس محمود العقاد ، وإبراهيم المازني ، وعبد الرحمن شكري ، واعتمدت في مفاهيمها على المعطيات الحركة الرومانسية الغربية ، خاصة الإنجليزية ، وما طرحه أبرز منظروها ونقادها من مفاهيم جديدة ، ومنهم : ووردز ورث ، تشيلي . وقد أثبت د. توفيق ، في هذا البحث كيف أن أعضاء جماعة الديوان في مصر ، رددوا مقولات ومفاهيم نقدية عامة ، دون التعمق في فهم النظرية جيدا ، وأن عامل الرغبة في الشهرة كان عائقا أمامهم للتعمق في النظرية الرومانسية ، ومن ثم جاء نقدهم للتيار الكلاسيكي في الشعر ( أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهما ) عنيفا وشديد الوطأة ، دون التمهل في دراسة النظرية الرومانسية ، وكيف طوّرت الشعر في البنية والجماليات . وهذا بحث جيد ، ويعد نموذجا عربيا على التطور في الدراسات المقارنة .
وجاءت النظرية الثالثة في الأدب المقارن من فرنسا ، متطورة أكثر ، ونادت بأن تكون دراسات الأدب المقارن متماشية مع العولمة وثورة الاتصالات المعرفية ، وذلك بأن ندرس قناعات الأديب ومفاهيمه العالمية ضمن دائرته المحلية ، بأن ندرس مثلا الحداثة بوصفها مذهبا أدبيا عالمية ، لدى أديب ما أو مجموعة من الأدباء أو جيل من الأدباء في أحد الأقطار . إن الهدف من هذه النظرية قياس مدى مسايرة الأدب في البيئة الأدبية للمستجدات الفكرية العالمية، فلا مجال بأن ينحصر الأديب في دائرته القطرية والمحلية الضيقة ، دون أن يساهم بالنقاش وعطاء الإبداعي مع الحركة الأدبية العالمية ، فقد انتهى دور مركزية الحضارة الغربية ،وأصبح ما يسمى حوار الحضارات ، لا تصارعها ، وبالتالي نطالب بحوار النظريات الأدبية العالمية ، بين الآداب متعددة اللغات .
وأظن أن النظرية الثالثة شديدة الأهمية ، لأنها لا تلغي الآخر ، بل تتعامل بتقدير مع مختلف الآداب ، وفي نفس الوقت ، ستحفز البيئات الأدبية على تطوير نفسها من أجل المساهمة بالرؤية والإبداع في الأدب العالمي ، وهذه المساهمة لا تقف عند دائرة التأثر بالفكرة أو المذهب العالمي ، بل يكون السؤال: ما العطاء الذي قدمه الأدب العربي – مثلا – في نظرية ما بعد الحداثة ، أو في مفهوم سقوط مركزية الحضارة الأوروبية ، وسيادة مفهوم حوار الحضارات وتجاورها ؟
وهذا بلا شك يتيح للأدباء العرب أن تكون لهم نقاشات ثرية : إبداعيا ونقديا في الحركة الأدبية العالمية ، من منظور الثقافة العربية والإسلامية ، لا أن نكون مجرد تابعين مرددين وناقلين للنظريات والمذاهب الغربية ، وإنما متعاطون إيجابيًا وبفاعلية مع الأدب العالمي ، بأن نعي النظريات المستجدة ، ومن ثم نناقشها في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية الأصيلة ، بكل ما تزخر به من قيم إنسانية .
وهذا يستلزم المزيد من الدراسة للمستجدات العالمية في الفلسفة والآداب ، فلا مجال في عالم اليوم للأديب المتفرج أو المنعزل أو الجاهل أو المنغلق الفكر ، فهذا قد حكم على نفسه مقدما أن يكون مجهولا
.
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
الأديب المقارِن    كن أول من يقيّم
 
الأديب المقارن بين التراث والمعاصرة
وبعض من آداب الشعوب التي دخلت في الإسلام كفارس أو الأمم القديمة كاليونان.
لكن ما جدوى هذا العمل ولماذا قل المنجذبون إليه؟
لعلنا نجد الجواب على ذلك في هذا الكتاب الذي ألفه الصديق أ. د- صابر عبدالدايم يونس ونشره سنه 1423ه في 226 صفحة من القطع المتوسط وكتب له مقدمة هي من أحسن المقدمات حيث جلا فيها مقاصده وأهدافه ثم قدّم الأدلة على صدق ما يتحدث به خاتماً هذه المقدمة بقوله:
"فإن هذه الحقائق التي حرصت على تجليتها في هذه الدراسات تحاول تأصيل القيم الفكرية والإبداعية التي أبدعتها أمتنا العربية في أوج حضارتها".
ويتكون الكتاب من سبعة فصول، أولها (الأدب المقارن: أضواء على المدلول والنشأة) فبعد حديث عن الابداع والتلقي قدم ما يمكن وصفه بأنه تعريف للأدب المقارن، ولكنه تعريف طويل لو أنه حصره في كلمات معددوة لأحسن وذلك قوله: "فالأدب المقارن هو: دراسة علائق الوقائع التي وجدت بين منتجات أعاظم المؤلفين في كل دولة، والمنابع التي انتهلوا منها أو استوحوها أو تأثروا بها وهو يعنى أيضا بتلك التغييرات العجيبة أو التشويهات الأسيفة التي يحدثها الأفراد أو الشعوب في منتجات الأجانب خضوعا لظروف مختلفة وعوامل متباينة كالجهل والأوهام والأخيلة الخصبة، والقصص المتداولة، والمأثورات الموروثة".
وطّوف المؤلف في تعريفات الأدب المقارن ليصل إلى التمثيل العملي للاحتذاء الذي يقع بين الأدباء وكان المثال (جبران) (وبليك)، ومن قوله في هذا: "وفي أدبنا العربي يبدو التلاقي التاريخي بين وليم بليك الإنجليزي وجبران خليل جبران، فقد احتذى جبران حذوه وقلده في كل شيء حتى في طريقة حياته وظهر أثر هذا الاحتذاء به في أدبه.
وأعجبه من حياة بليك هدوءه العائلي ومشاركته زوجته له في تأملاته، ومعاونتها له في فنه بقدر استطاعتها، وظهر أثر وليم بليك في كتابات جبران وأخيلته التي تجول فيما وراء الحس، وتجسّم المعنويات".
ويطيل في الحديث عن تأثر نسيب عريضة وميخائل نعيمة بالأدباء الروس وانطباعهم بروح المجتمع هناك، حتى إن نعيمة حين كتب (النهر المتجمد) كان يصور فيها واقع الشعب الروسي كما يراه.
ولم ينس المؤلف الإشارة إلى الزعامات الأدبية التي برزت في صدر القرن الماضي الميلادي منتصف القرن الهجري كمثل العقاد والمازني وشكري وطه حسين وجميع أدباء مصر قدمهم على أنهم يمثلون مبلغ التأثر بالغربيين ومحاكاتهم.
من هنا انطلق في المبحث الثاني إلى الحديث عن تعصب الغربيين على الإسلام والمسلمين وعدم اعترافهم بما قدمت لهم الثقافة الإسلامية من خدمات حتى في الأدب المقارن وروى في ذلك أحاديثَ لبعض الغربيين كمثال للزعم الباطل والتعصب غير المحدود.
من هنا لم يكن له بد من إيضاح الحق -على الأقل في هذا الموضوع (الأدب المقارن)- فقد أخذ في البحث عن (جذور التلاقي بين أدبنا العربي القديم والآداب الأخرى) وقدم في ذلك معلومات حسنة إلا أنه لم يتوصل إلا إلى ما كان بين اللغة العربية وكل من الفارسية والهندية واليونانية.
غير أنه خرج بنتيجة مفادها أن جذور الأدب المقارن وجدت عند العرب ومن غير المستعبد أن يكون الغربيون قد أخذوا ذلك من الأدب العربي وبخاصة الأندلسي لكون الأسبان قد استمدوا من ثقافة العرب أوفر بكثير مما استمده الآخرون الذين أخذوا عن الأسبان ما أخذوه عن العرب.
على أنه في الفصل الثاني (ظاهرة التلاقي بين الآداب: عواملها.. وثمارها) يشير إلى إقبال الغربيين على الأدب العربي وتأثرهم به في القصة مثل (ألف ليلة وليلة) وسواها من الأجناس الأدبية، إلا أن قصص الرحلات والمغامرات كانت أحظى عند الغربيين لعوامل اجتماعية ،أظهرها: عدم نزوعهم فيما سلف إلى الرحلات.
ويعود في الفصل الثالث (تراثنا الأدبي والعلمي يؤثر في الآداب الأوروبية وفي النهضة العلمية الحديثة) فيتحدث بتفصيل نسبي عن تأثير الحضارة العربية بآدابها وعلومها في الحضارة الغربية، مقرراً الموقف السيئ عند متأخري الغربيين، وبخاصة في القرن التاسع عشر وما بعده، وذلك الموقف هو إنكارهم آثار الحضارة الإسلامية ومحاولة طمس دلائل ذلك ولكن الحق يأبى إلا أن يظهر على ألسن بعض الغربيين أنفسهم.
وفي الفصل الرابع (أثر الثقافة العربية والإسلامية في الأدب الألماني - جوته أنموذجاً) يتحدث المؤلف عن أثر الثقافة العربية في الألمان. غير أن حديثه يدور حول (جوته) وصلاته بالثقافة العربية وتفاعله مع الإسلام حتى أنكر على المسيحيين الزعم بأن عيسى ابن الله فبرزت في ثقافته مسألة التوحيد، كما أنه تغنى بكثير من المواقف الإسلامية مشيداً بشهداء المسلمين. وأشياء أخرى تدل على عمق الثقافة الإسلامية عند جوته، كما أن اشارة المؤلف إلى كتاب (جوته والعالم العربي) كانت أكثر من أن تحصر، بل إن هذا الكتاب كان مدار جل الحديث في هذا الفصل.
وكان طبيعياً بعد الحديث عن أثر الحضارة العربية في الألمان أن يتحدث المؤلف عن (أصداء الثقافة العربية والإسلامية في الأدب الروسي) وهو الفصل الخامس، وفي صدره نعى على أبناء العربية تنكرهم للتراث الأصيل وصيرورتهم إلى آداب لأقوام ليسوا من جلدتهم إلى ما فيها من فساد فكري واجتماعي.
وأثنى على ماقدمته الدكتورة مكارم الغمري في كتابها (مؤثرات عربية إسلامية) ولما كان حديث الدكتور المؤلف في صدر هذا الموضوع يشتمل على شهادة لصالح الثقافة العربية من رجال ليسوا من العرب فإننا ننقل هذا المقطع من حديث الدكتور، فهو يقول:
"والشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين، يقول مؤكداً تأثر المذهب الرومانتيكي في أوروبا.. وروسيا... بالتراث العربي.... وأجواء الحياة العربية: "هناك عاملان كان لهما تأثير حاسم على روح الشعر الأوروبي هما غزو العرب... والحرب الصليبية فقد أوحى العرب إلى الشعر بالنشوة الروحية ورقة الحب، والولع بالرائع والبلاغة الفخمة للشرق، وأكسبه الفرسان الشهامة وبساطة الروح، ومفاهيم البطولة وحرية الشعوب".
"ثم يقول، وفي قوله إنصاف لتراثنا الأدبي والإنساني: "هكذا كانت البداية الرقيقة للشعر الرومانتيكي"".
ويتكامل هذا التوجه.. مع الحنين الرومانتيكي إلى الشرق، وهذا الحنين يحسد إحساسهم بالاغتراب المكاني، فقد فتنوا بطبيعة الشرق الجميلة، ومناظره العجيبة، وشمسه الوضاءة المشرقة.
وبعضهم كان يتحسر إذا لم تتح له الفرصة لزيارة بلاد الشرق مثل "فلوبير" فقد كان يتمنى أن ينام على ظهر الجمال في خطوها المنتظم، وهذا شعور رومانتيكي خالص، وكذلك فيكتور هوجو كان يرى أن (الشرق عالم ساحر مشرق وهو جنة الدنيا، وهو الربيع الدائم مغمورا بوروده، وهو الجنة الضاحكة، وأن الله وهب أرضه زهورا أكثر من سواها، وملأ سماءه نجوما أغزر، وبث في بحاره لآلئ أوفر).
وكم يعجب الإنسان من هذه الصور المضيئة التي أوجزها الكاتب في هذين الفصلين (أثر الثقافة العربية الإسلامية في الأدبين الألماني والروسي). وهذا ما يغري القارئ بمحاولة استيعاب ما اشتمل عليه كتاب (مؤثرات عربية وإسلامية) للدكتورة مكارم الغمري وإن لم نكن في شك من هذا التأثير.
ويعود الدكتور صابر إلى عصره وما جدّ فيه من مؤثرات معاكسة انبهر بها أدباء العصر من العرب فانساقوا وراءها يطلبون منها ما عند أسلافهم ما هو أفضل منه وأروع لو كانوا يفقهون.
يعالج ذلك د.- صابر فيما سماه (أصداء المذاهب الأدبية الأوروبية في الأدب العربي الحديث). وقبل قراءة حديث المؤلف يحسن بنا الاشارة إلى ما ذكره د. طه حسين في أحاديثه الإذاعية، عندما قال: إن أصول جل تلك المذاهب موجودة في الأدب العربي القديم وكان يمثل لكل مذهب تحدث عنه.
أما د. صابر فإنه في هذا الفصل السادس يبدأ الحديث عما يشبه تاريخ ظهور المذاهب الأدبية في العالم الغربي لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ظهورها في العالم العربي، مقسماً الأدباء بعد شوقي إلى ثلاثة: مدرسة الديوان ومدرسة المهجر وجماعة أبولو، ولم يتحدث بعد ذلك عن مدارس الغوغائية التي جدت فيما بعد.
وعلى الرغم من كون المؤلف قد خص الأدب المهجري بآخر فصل في هذا الكتاب فإنه قد مد النفس في الحديث عن ذلك الأدب في هذا الفصل، فهل يعني هذا أنه كتب هذا الفصل قبل نيته كتابة فصل عن الأدب المهجري؟
على أن اهتمامه منصب على أدباء المهجر الشمالي ولم يشر إلى أدباء المهجر الجنوبي، وكأنهم غير موجودين.
ثم إنه قد وقف حديثه على أدباء مصر، والمهجر الشمالي وكان عليه أن يتحدث عن الأدب في البلاد العربية الأخرى، على أننا نعود ونقول إن ذلك من حقه وعلى الآخرين أن يكتبوا عن بلدانهم.
ومع أن الدكتور صابر قد تحدث عن الأدب المهجري في الفصل السادس كما أسلفنا، ومع أن له كتاباً في الأدب المهجري، فإنه قد خص هذا الأدب بالفصل الأخير من هذا الكتاب وعنوانه (المؤثرات الأدبية وأثرها في التجربة التأملية عند أدباء المهجر) ولما كان للمهجريين سهمهم في نظم الموشحات فإن ذلك قد جر المؤلف إلى الحديث عن (فيكتور هوغو) ومبلغ تأثره بالثقافة الشرقية في ديوانه (مشرقيات) وهذا نوع من الاستطراد لأن الموضوع هو تأثر المهجريين بالثقافات الأخرى.
وأول ثقافة صبغت جل آثارهم هي الثقافة العربية الإسلامية وفي هذا كان القسم الأول من هذا الفصل.
أما القسم الثاني فكان عن تأثير الأفرنجة في الأدب المهجري. ويعجبني هذا التعبير (الإفرنجة) الذي كان المهجريون يعبرون به عن الغربيين وقد يعنون به جميع الأوروبيين.
ومع موضوعية المؤلف واشتمال مباحث كتابه على معلومات جليلة في الموضوع، فلم يخل الكتاب من بعض الملحوظات ، مثال ذلك:
أ - التكرار حتى إن بعضاً من تلك الأحاديث تكرر أربع مرات كمثل محاكاة جبران لوليم بليك.
ب- وفي حديثه عن أصداء المذاهب الأدبية الأوروبية في الأدب العربي الحديث لم يتحدث إلا عن أدباء مصر وأدباء المهجر الشمالي. والواقع أن حقه أن يخص أدب بلاده وأباءها بفضل العناية، لكن لا يجوز أن يهمل الآخرين.
ج- وفي قوله: وكان في مقدمة هؤلاء الأدباء: جبران، ونعيمة (رائدا مدرسة المهجر)، وما يشتمل على غمط حق المهجر الجنوبي الذي برز فيه جملة من الشعراء المتفوقين.
د- وفي قوله: "مزجوا القصة الفارسية بالقصة العربية كما في ألف ليلة وليلة" ما يفيد بأن ألف ليلة وليلة ذات أصل فارسي في حين أن الشائع أن أصلها هندي، وله إشارة إلى شيء من هذا كقوله: كما أن في كتاب ألف ليلة وليلة قصصا دل البحث العلمي على أن أصلها هندي.
هـ - وفي ذكره المساجد التي تكونت فيها حِلَق الدرس (ص: 69) ذكر كثيراً منها ولكنه أهمل المساجد الثلاثة الحرمين المكي، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وهي أحق بالذكر من غيرها.
و - وهو يقدم (جلالَ الدين الرومي) بقوله (مولانا) وذلك في قوله: ومولانا جلال الدين الرومي ولست أدري هل ذلك من تعبير د. صابر أم إنه من أقوال المتصوفة؟ ومعلوم أن جلال الدين الرومي صوفي حلولي.
ر - ومما يلحظ في هذا الكتاب أن مؤلفه لم يشر إلى جزيرة العرب، في حين أنه كانت له اهتمامات بالأقاليم العربية والإسلامية خلا الجزيرة العربية، إلا ما كان متصلاً بنزول القرآن الكريم وبمحمد صلوات الله وسلامه عليه.
ح- ويذكر جماعات "أبولو" على أنها مدرسة، في حين أنها جماعة منوعة الاتجاهات والمذاهب، وهذا ما يبعدها عن مفهوم المدرسة الأدبية.
ومع ما أسلفنا من ملحوظات، فإن هذا الكتاب حري بأن يكتب بماء الذهب
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
امتدادات الأدب 1    كن أول من يقيّم
 
الأدب المقارن



يُعدُّ مصطلح «الأدب المقارن» comparative literature مصطلحاً خلافياً لأنه ضعيف الدلالة على المقصود منه. وقد نقده كثير من الباحثين ولكنهم في النهاية آثروا الاستمرار في استعماله نظراً لشيوعه. فمثلاً عدّه بول فان تييغم Paul Van Tieghem[ر] مصطلحاً غير دقيق, واقترح مصطلحات أخرى أقرب دلالة إِلى موضوعه مثل: «تاريخ الأدب المقارن», و «التاريخ الأدبي المقارن», و «تاريخ المقارنة». واقترح ماريوس فرانسوا غويار M.F.Guyard مصطلحاً بديلاً هو «تاريخ العلاقات الأدبية الدولية». والملاحظ أن كلمة «تاريخ» هي المضافة في مختلف الاقتراحات البديلة, ذلك أن الأدب المقارن هو في الأصل تاريخ للعلاقات المتبادلة بين الآداب وللصلات والمشابهات المتجاوزة للحدود اللغوية والجغرافية, وفيما بعد أضيفت الحدود المعرفية.

وعلى أية حال يبدو أن افتقار المصطلح إِلى الدقة كان له بعض فضل في الإِبقاء على وحدة هذا النسق المعرفي وفي مقدرته على استيعاب مناطق معرفية جديدة, أخذت تدخل نطاقه بعد منتصف القرن العشرين.

وترجع نشأة الأدب المقارن إِلى العقد الثالث من القرن التاسع عشر, وربما إِلى سنة 1827 حين بدأ الفرنسي أبل فييمان Abel Villemain يلقي محاضرات في السوربون بباريس حول علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأوربية الأخرى. والجدير بالذكر أنه استعمل فيها مصطلح «الأدب المقارن» وإِليه يعود الفضل في وضع الأسس الأولى لمنطقه ومنطقته, في وقت بدأ يشهد تصاعد اهتمام العلوم الإِنسانية في أوربة بالبعد المقارني في المعرفة, إِذ نشأ «القانون المقارن» و«فقه اللغة المقارن» و«علم الاجتماع المقارن» وغيرها. وتعدُّ فرنسة المهد الأول للأدب المقارن, إِذ استمرت تطوراته بعد فييمان, وكان لذلك عوامل لغوية وسياسية واجتماعية وثقافية متداخلة أدّت إِلى أن يكون الفرنسيون أول من تنبّه إِلى قيمة التراث المشترك بينهم وبين المناطق الأوربية الأخرى, مما خلق الأساس الأول للتفكير المقارني.

وفي البدء كان التطور بطيئاً, فبعد فييمان ظهر جان جاك أمبير Ampére وألقى في مرسيلية سنة 1830 محاضرات في الأدب المقارن لفتت إِليه الأنظار وأتاحت له أن ينتقل بعد ذلك بسنتين إِلى باريس ليلقي محاضرات حول علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأجنبية. وفي سنة 1835 ظهرت مقالات فيلاريت شال Chales على صفحات مجلة باريس مؤكدة العلاقات المتينة بين الآداب الأوربية.

وعند نهاية القرن التاسع عشر أخذت تتلاحق التطورات وظهر جوزيف تكست Texte في ليون (1896) وحاضر في الأدب الأوربي, وخلفه على منبر ليون فرنان بالدنسبرجيه F.Baldensperger الذي ألف كتابه «غوتة في فرنسة» سنة 1904, ثم سُمي أستاذاً في السوربون حينما أحدث فيها كرسي للأدب المقارن سنة 1910 وظهرت بعد ذلك مجلات وفهارس, وعرف الأدب المقارن طريقه إِلى التطور النسقي منذ مطلع القرن العشرين. وإِلى جانب فرنسة سجلت بعض البلدان الأوربية إِسهاماً نسبياً في نشأة الأدب المقارن, وكانت إِسهاماتها تتزايد مع تزايد نزعة «العالمية» في المعرفة ومع تزايد قوة الاتصالات والمواصلات في العالم. وقد ظهر أول كتاب في بريطانية عن الأدب في أوربة بين عامي 1837-1839, لهنري هالام H.Hallam, غير أن التطورات بعده كانت شديدة البطء. وفي ألمانية تأخر ظهور الأدب المقارن حتى ثمانينات القرن التاسع عشر, واشتُهر من مؤسيسه ك مورهوف K.D.Morhof وشميدت Schmidt كارييه M.Carriére, ولم يدخل الأدب المقارن نطاق الدراسة المنظمة إِلا بعد سنة 1887 بفضل ماكس كوخ Max Koch الذي أصدر مجلة «الأدب المقارن». ولكن دخول الأدب المقارن إِلى مناهج الجامعة لقي معارضة شديدة وتأخر حتى مطلع القرن العشرين.

وتعرقل ظهور الأدب المقارن في إِيطالية بسبب حدة النزعة القومية. وفي عام 1861 أمكن إِنشاء كرسي له في جامعة نابولي. ولكن كروتشه B.Croce تصدى للأدب المقارن وشنّ على أنصاره حملة قوية وحاول تسفيه منطقه, وبذلك كان له أثر في تاريخ تطور الدراسة المقارنة في إِيطالية بسبب ما كان يتمتع به من نفوذ فكري.

وإِذا كانت نهاية القرن التاسع عشر قد شهدت تطور الأبحاث التطبيقية في الأدب المقارن وبدء الاعتراف به في الجامعات فإِن بداءة القرن العشرين شهدت تأسيس الوعي النظري لمنهج الأدب المقارن. وقد تابعت فرنسة تطورها السباق فنشأت فيها كراسٍ جديدة للأدب المقارن في الجامعات. ومنذ سنة 1911 أخذ فان تيغم ينشر مقالات نظرية في المنهج المقارني. وفي عقد واحد تبلورت نظرته إِلى الأدب المقارن في مقالاته في مجلة «الأدب المقارن» ورصيفتها مجلة «مكتبة الأدب المقارن».

وفي عام 1931 أصدر فان تييغم أول كتاب نظري عرفه العالم بعنوان «الأدب المقارن», وظل هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في بابه حتى اليوم, وترجم إِلى عدد كبير من اللغات, ومنها اللغة العربية في منتصف القرن العشرين. وتتابعت بعد ذلك المؤلفات الفرنسية في الأدب المقارن نظرية وتطبيقاً, ومن أشهرها كتاب غويار «الأدب المقارن» عام 1951 وترجم كذلك إِلى العربية عام 1956. وبدءاً من هذا التاريخ أخذت تظهر في فرنسة تحديات لما يمكن تسميته بالنظرية الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن, وكان أبرزها الهجوم الحاد الذي شنّه رنيه إِيتيامبل R.Etiemble على فان تييغم وغويار, وظهر بعد ذلك في كتابه «الأزمة في الأدب المقارن».

وقد تعثر الأدب المقارن في الدول الأوربية الأخرى ولم يصب تطوراً في بريطانية ربما حتى تسعينات القرن العشرين وكذلك كان شأن ألمانية وإِيطالية والاتحاد السوفييتي. وإِن كان ملاحظاً أنه ابتداء من الستينات انتعش الأدب المقارن في القارة الأوربية والعالم كله, وذلك مع ازدياد نشاط الرابطة الدولية للأدب المقارن AILC. وزاد من قوة هذا التطور النشاط الأمريكي المتسارع في مجال البحث المقارني وفي المؤتمرات الدولية, والحق أنه في سنوات معدودات حقق المقارنون الأمريكيون حضوراً مرموقاً في مختلف أوجه البحث المقارني مع أن الولايات المتحدة دخلت متأخرة نسبياً في حقل الأدب المقارن. ومن أجل استكمال الخريطة العامة لنشأة الأدب المقارن تحسن الإِشارة إِلى التواريخ الرئيسية التالية:

1889 تولى تشارلز جيلي C.M.Geyley تقديم مادة النقد الأدبي المقارن في جامعة ميشيغن, ثم انتقل إِلى جامعة كاليفورنية وأنشأ عام 1902 قسماً للأدب المقارن. 1890-1891 أنشأت جامعة هارفرد أول كرسي للأدب المقارن في أمريكة, تحول عام 1904 إِلى قسم كامل. وفي سنة 1946 تولى رئاسته هاري ليفين Harry Levin وأعاد النظر في برامجه, وخلفه ولتر كايزر W.Kaiser.

1902 جرى إِحياء كرسي قديم للأدب العام يعود إِلى سنة 1886 في جامعة كورنل Cornell على يد كوبر الذي أصبح فيما بعد رئيساً لقسم كامل للأدب المقارن فيها من 1927-1943.

على أن دراسة الأدب المقارن في أمريكة ظلت حتى العشرينات مختلطة بـ «الأدب العام» و«أدب العالم» و«الروائع» و«الإِنسانيات». وفي الأربعينات بدأ يظهر تميزه في الجامعات وصاحب ذلك ظهور مجلات للأدب المقارن في عدة جامعات مثل أوريغون Oregon عام 1949. ومن أهم التطورات في هذا المجال صدور المجلد الأول من «الكتاب السنوي للأدب العام والمقارن Yearbook of General and Comparative Literature» وذلك عن جامعة (نورث كارولينة) عام 1952.

وفي عام 1961 انتقلت إِدارة الكتاب إِلى جامعة إِنديانة Indiana, وما زال يصدر عنها حتى اليوم.

ومنذ الخمسينات بدأت تتوالى الكتب الجامعية في الأدب المقارن, وتسود فيها طريقة التأليف الجماعي أو الدراسات المجموعة, وتتنوع مادة هذه الكتب بين النظرية والتطبيق كما تتنوع وجهات النظر. ومن أبرز التطورات في تاريخ الأدب المقارن تأسيس الرابطة الدولية للأدب المقارن عام 1955. وتعقد هذه الرابطة مؤتمراتها العامة كل ثلاث سنوات ولها نشاطات متنوعة, وقد عقد مؤتمرها الأول في البندقية بإِيطالية. ومنذ ذلك الحين انحصرت مؤتمراتها واجتماعاتها في العواصم الغربية, حتى عام 1991 عندما عقد مؤتمرها الثالث عشر في طوكيو, وفي ذلك إِيذان بتزايد إِسهام اليابان في الأدب المقارن, وبخروج الرابطة جغرافياً من بوتقة الغرب. على أن الأدب المقارن بقي حتى اليوم علماً غربياً, وبقي إِسهام المنظومة الاشتراكية فيه محدوداً, وأقل منه إِسهام البلدان النامية.

ومنذ البدء اختلط مفهوم «الأدب المقارن» بمفهومي «الأدب العام» و«الأدب العالمي». والملاحظ أنه حتى نهاية الثمانينات وبعد كل ذلك التطور المهم الذي حققه الأدب المقارن, ما زالت هذه المفهومات مختلطة حتى في بعض الجامعات العريقة. ومن هنا كان الربط الدائم بين الأدب المقارن والأدب العام في تسميات الأقسام الجامعية في دول أوربية كثيرة. كذلك يلاحظ أن الكتاب السنوي الأمريكي ما زال يحمل تسمية الأدب العام إِلى جانب الأدب المقارن. وقد آن أوان التفريق بين هذه الحقول المعرفية الثلاثة.

فالأدب العالمي world literature مصطلح من وضع غوته, وكان ينطوي على حلم بزمان تصير فيه كل الآداب أدباً واحداً. ولكنه تحول بالتدريج إِلى الدلالة على تلك السلسلة الذهبية من الأعمال الأدبية التي قدمتها قرائح من مختلف شعوب العالم, وترجمت إِلى اللغات المختلفة, واكتسبت صفة الخلود, وارتفعت إِلى مصاف الروائع classics المعترف بقيمتها الفنية والفكرية في كل أنحاء العالم, وبالطبع تنضوي هذه الروائع تحت تخصصات الأدب المقارن. والملاحظ أن سلسلة الروائع العالمية ظلت حتى ستينات القرن العشرين تحت تأثير المركزية الأوربية Euro- centralism, ولكنها أخذت تتسع بالتدريج لبعض الأعمال خارج نطاق الغرب, ربما بتأثير نمو التبادل الثقافي والتوسع في مفهوم الجوائز الأدبية العالمية.

أما الأدب العام general literature فمصطلح استعمل غالباً لوسم تلك الكتابات التي يصعب أن تُصنَّف تحت أي من الدراسات الأدبية والتي تبدو ذات أهمية متجاوزة لنطاق الأدب القومي. وهي أحياناً تشير إِلى الاتجاهات الأدبية أو المشكلات أو النظريات العامة في الأدب, أو الجماليات. كما صُنِّفت تحت هذا العنوان مجموعات النصوص والدراسات النقدية والتعليقات التي تتناول مجموعة من الآداب ولا تقتصر على أدب واحد. وهكذا يتطابق الأدب العام أحياناً مع مبادئ النقد ونظرية الأدب, أي مع كل دراسة أدبية تركز على التنظير ولا تقتصر أمثلتها على أدب واحد.

ويقل استعمال مصطلح «الأدب العام» اليوم ويكاد ينحصر في الدلالة على أنواع متفرقة من الدراسات الأدبية التي يصعب أن تُصنف في نطاق الأدب القومي أو العالمي أو المقارن.

ولم تزل الخلافات بشأن منطق الأدب المقارن ومنطقته قائمة حتى اليوم وإِن كانت تضيق تدريجياً لتفسح في المجال لمفهوم مشترك سيجري تحديد عناصره هنا بعد استعراض تاريخيّة اتجاهات الأدب المقارن.

إِن المفهوم الأصلي للأدب المقارن هو مفهوم ما يسمّى جوازاً «المدرسة الفرنسية التقليدية», إِذ حدد مؤسسها الفعلي بول فان تييغم الأدب المقارن «بأنه دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض» كما أكد جان ماري كاريه أن الأدب المقارن يعتمد على مفهوم التأثر والتأثير من خلال الصلات بين الآداب أو الأدباء من بلدان مختلفة, واستبعد المقارنات غير القائمة على الصلات من منهجية الأدب المقارن. كما رفض كل من كاريه وغويار فكرة التطابق بين الأدب العام والأدب المقارن. وعدّ غويار الأدب العام والأدب العالمي « مطمعين غَيْبييّن» وآثر أن يسمي الأدب المقارن, تاريخ العلاقات الأدبية الدولية. وقد تمسكت هذه المدرسة بالمنهجية التاريخية الصارمة, وحاولت تمييز منهجية الأدب المقارن ومنطقه ومنطقته من سائر الدراسات الأدبية واقتربت من العلمية والحياد, وتناولت أحياناً بمهارة, وأحياناً بآلية جامدة, مسائل مثل الشهرة الأدبية والنفوذ مثل غوتة في فرنسة, وطوّرت منهجاً يذهب إِلى أبعد من جمع المعلومات التي تتعلق بالمراجعات والترجمات والتأثيرات ليتفحص الصورة الفنية ومفهوم كاتب معيّن في وقت معيّن إِلى جانب عوامل النقل المتعددة كالحوليات والمترجمين والصالونات والمسافرين, وكذلك وجّهت انتباهها إِلى عوامل التلقي والجو الخاص والوضع الأدبي الذي أدخل فيه الكاتب الأجنبي, وبالإِجمال :«فقد تم جمع كثير من الشواهد عن الوحدة الصميمة بين الآداب الأوربية خاصة, كما ازدادت معرفتنا بالتجارة الخارجية للأدب».

غير أن هذه المدرسة ما كادت تستوي على قدميها وتحقق وجوداً أكاديمياً معترفاً به حتى انبثقت من أحشائها أصوات معترضة تنكرها أشد إِنكار, وقام رنيه إِيتيامبل في الخمسينات, على رأس مجموعة من الكتاب اليساريين, بمهاجمة هذه المدرسة على أساس أنها تمثل المركزية الأوربية الاستعمارية وأنها قدمت آداب العالم جميعاً كما لو كانت منبثقة من بحر الآداب الأوربية أو منصبةً فيه, ولم تُعط آداب آسيا وإِفريقية وأمريكة اللاتينية حقها من البحث والاستقصاء. وقد هاجم إِيتيامبل زميله غويار واتهمه بالتعصب الإِقليمي والقومي وتركيز كل أضواء التأثير على الأدب الفرنسي, وطالب المقارنين أن ينحّوا جانباً «كل شكل من أشكال الشوفينية والإِقليمية وأن يعترفوا أخيراً أن حضارة الإِنسانية التي جرى في سياقها تبادل القيم على مدى آلاف السنين لا يمكن أن تُفهم أو تتذوق من دون إِشارات متواصلة إِلى هذه التبادلات التي تقتضي تركيبتها منا ألاّ نركّز نظام بحثنا حول لغة واحدة معينة أو بلد واحد معيّن».

وابتداء من الستينات بدأت الأفكار الأمريكية ذات الطابع العملي والانفتاحي تسيطر على ساحة الأدب المقارن. وقدم رينيه ويلك نظرات تركيبية شمولية وفي الوقت نفسه انبرى هنري رِماك H.Remak بتقديم اتجاه جاد للخروج من المعضلة, وذلك في مقالة منقحة ومزيدة ومفصلة عام 1971, وفيها راجع مفهومات الأدب المقارن واتجاهاته بنفسٍ علمي جريء ومسؤول وانتهى إِلى توسيع منطقه ومنطقته على النحو التالي:

«الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معيّن, ودراسة العلاقات بين الأدب ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى, والفلسفة, والتاريخ, والعلوم الاجتماعية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع, والعلوم, والديانة, وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإِنساني».

ويلاحظ على هذه التعريف: أنه ينطلق من فكرة التأثر والتأثير ليتجاوزها إِلى المشابهة أي أنه يركز على العلاقات ولا يجعلها شرطاً لازماً, وأنه يضيف بعداً جديداً إِلى منطقة الأدب المقارن بدفعه إِلى دراسة العلاقات بين الأدب وحقول المعرفة الأخرى ولاسيما الفنون. وبذلك يسجل نقطة إِضافية شديدة الأهمية. وقد بدا رماك متساهلاً في موضوع صلة الأدب المقارن بالتذوق الأدبي, ولكنه بالنتيجة احتفظ بجوهر منطق الأدب المقارن وهو دراسة الأدب خارج حدوده الجغرافية واللغوية والمعرفية. وتبدو نظرية رماك أكثر قبولاً اليوم في العالم.

ومن الملاحظ أن بلدان أوربة الشرقية لم توجه عناية خاصة للأدب المقارن, وكانت منطلقاتها بوجه عام مستوحاة من ثورة إِيتيامبل. وتُعدُّ هنغارية ويوغسلافية أكثرها احتفاءً بالأدب المقارن.

والملاحظ أنه جرى دائماً تساؤل حول وظيفة الأدب المقارن وامتحان لها. ومثل هذا التساؤل لا يتم عادة إِلا على الحقول المعرفية المستجدة, ذلك أن العلوم لا تقدم نفسها تقديماً نفعياً مباشراً. ومع ذلك يمكن القول إِن الأدب المقارن:

ـ يقدم فهماً للأدب أفضل وأكثر شمولاً وأقدر على تجاوز جزئية أدبية منفصلة أو عدة جزئيات معزولة.

ـ ويميز ما هو محلي وما هو إِنساني مشترك.

ـ ويحدد الصلات والمشابهات بين الآداب المختلفة وبين الأدب وحقول المعرفة الأخرى.

ـ ويسهم في تخليص الأقوام من النزعة الشوفينية والنرجسية المسيطرة في مجال الآداب القومية المختلفة.

ـ ويقدم للنقد الأدبي ودارسي الأدب فرصة ممتازة لتوسيع آفاق معرفتهم وتوثيق أحكامهم حتى الجمالية منها, لأن المقارنة تبقى أقوى أسلحة الناقد إِقناعاً.

ـ ويقدم فرصة ممتازة لتطور نظرية أدبية قائمة على فهم طبيعة امتدادات الأدب خارج حدوده.

وقد جرت الإِشارة في ثنايا البحث إِلى أعلام الأدب المقارن البارزين وإِلى أبرز المؤسسات والمنظمات والمجلات التي تُعنى به وتضع نفسها في خدمة مجالاته.
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
امتدادات الأدب 2    كن أول من يقيّم
 
وإِذا انتقل الدارس إِلى الأدب العربي وجد أن الأدب المقارن حقل معرفي فتي لا تكاد تبين له أصول في التراث الأدبي القديم, ذلك أنه كان لدى العرب في الماضي اعتداد خاص باللغة والشعر وإِشاحة نسبية عن آداب الأمم الأخرى, مما أدّى إِلى أن يكون نشاطهم في حقل التبادل الأدبي أقل من نشاطهم في الحقول المعرفية الأخرى كالعلوم والفلسفة على أن غير العرب تأثروا تأثراً واضحاً بالأدب العربي فدرسوه وألّفوا على غراره. وفي عصرنا الحاضر ما زال هذا التيار من الاعتداد بالأدب واللغة فاعلاً بحيث يخلق رأياً عاماً لا يستريح إِلى المقارنات مع الآداب الأخرى ويجهد في تأكيد الأصول العربية للفنون الأدبية الوافدة كالقصة والمسرح. ومن الملاحظ أن معظم الأدباء البارزين في عصر النهضة كانوا أكثر انفتاحاً في مجال التفاعلات الأدبية, ووضعوا أساساً لنهضة الأدب المقارن في عصرنا. وكان لرواد النهضة الأدبية في الشام أثر كبير في الاستنارة الأدبية, وهكذا لمعت, إِلى جانب بناة النهضة من أبناء الكنانة مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك والشيخ حسن المرصفي, أسماء شامية مبكرة في مجال المقارنة مثل أديب إِسحاق[ر] وأحمد فارس الشدياق[ر] ونجيب الحداد, وتميز من بينهم علمان بارزان, هما سليمان البستاني[ر] وروحي الخالدي, وضعا حجر الأساس للبحث التطبيقي في الأدب المقارن على الرغم من أنهما لم يشيرا إِلى المصطلح بكلمة واحدة.

وتتلخص جهود البستاني في هذا الحقل بتعريب «الإِلياذة» الذي استغرق منه ثماني سنوات (1887-1895) وبمقدمتها المقارنية التي استغرقت منه ثماني سنوات أخرى, وقد أنجز شروح الإِلياذة ومقدماتها في 200 صفحة أواخر سنة 1903. وأجرى البستاني مقارنات جريئة بين الملحمة اليونانية والشعر القصصي العربي وأكد وجود ملاحم عربية قصيرة تختلف عن الملاحم الإِفرنجية الطويلة, وانطلق من هذه المقارنة للتوصل إِلى أحكام شاملة تتعلق بالشعر الجاهلي والشعر اليوناني القديم, وحكم لصالح الشعر الجاهلي, وأشار بعد ذلك إِلى التشابه بين عبقرية ابن الرومي[ر] وعبقرية هوميروس. وكذلك كتب البستاني مقالاً حوى شيئاً من تاريخ الشعر عند العرب والإِفرنج. وهكذا يكون البستاني صاحب سبق لا ينكر في مجال الدراسة المقارنة, وإِن كانت مقارناته تدل على أن ثقافته الأصلية كانت عربية تقليدية وأن ما قرأه من أفكار أدبية غربية ليس أكثر من نوافذ صغيرة للمقارنة.

وعند منعطف القرن التاسع عشر, على أية حال, ساد مناخ عام للمقارنة, أسهم فيه الشاعر أحمد شوقي, وكتاب مثل خليل ثابت وأسعد داغر ونقولا فياض ويعقوب صروف, وحملت مجلة «المقتطف» آنذاك رسالة الوعي المتفتح.

وإِذا ترك الدارس الأشخاص وانتقل إِلى الأعمال المفردة فإِنه يجد أن الكتاب العربي الأول المكرس للأدب المقارن التطبيقي هو كتاب «تاريخ علم الأدب عند الإِفرنج والعرب وفكتور هوغو» للكاتب المقدسي روحي بن ياسين الخالدي. وقد نُشر الكتاب مقالات متسلسلة في مجلة «الهلال» بين سنتي 1902ـ1903,ثم طبعته دار الهلال سنة 1904 وطبع ثانية سنة 1912, وأعيد طبعه سنة 1985.

وهذا الكتاب مؤلف نوعي في الأدب المقارن التطبيقي لا تنقصه سوى التسمية المقارنية, وتتصدره على الغلاف الفقرة المقارنية التالية:

«وهو يشتمل على مقدمات تاريخية واجتماعية في علم الأدب عند الإِفرنج وما يقابله من ذلك عند العرب إِبان تمدنهم إِلى عصورهم الوسطى, وما اقتبسه الإِفرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة وخصوصاً على يد فكتور هوغو. ويلحق بذلك ترجمة هذا الشاعر الفيلسوف ووصف مناقبه ومواهبه ومؤلفاته ومنظوماته وغير ذلك».

وكتب الخالدي مقدمة للكتاب بالفرنسية تنبئ عن حسه المقارني. وأورد في كتابه مقارنات ومقابلات ودراسات للتبادلات الأدبية بين العرب والفرنجة, وترجمات وتعليقات, تدل كلها على أنه كان شديد الالتصاق بالمنهج المقارني.

وتوالى بعد الخالدي الاهتمام بالدراسات التطبيقية ذات الطابع المقارني, ومن أقدمها سلسلة مقالات نشرها فخري أبو السعود على صفحات «الرسالة» في الأعوام 1935-1937 وقابل فيها بين الأدب العربي والأدب الإِنكليزي من دون اعتناء بناحية التأثر والتبادل. وفي عام 1935 كذلك ظهر الجزء الثالث من كتاب الأديب الحلبي قسطاكي الحمصي المعنون «منهل الورّاد في علم الانتقاد» وتضمن بحثاً مطولاً عن «الموازنة بين الكوميدية الإِلهية ورسالة الغفران», وفي الثلاثينات أيضاً نشر عبد الوهاب عزام دراسات في مجلة «الرسالة» حول العلاقات بين الأدب العربي والأدب الفارسي. وفي الأربعينات ظهر كتاب لإِلياس أبو شبكة بعنوان «روابط الفكر بين العرب والفرنجة» ظهرت الطبعة الثانية من الكتاب عن دار المكشوف في بيروت عام 1945, وهو ذو موضوع مقارني واضح. وبالتدريج انتعش هذا النوع من الدراسات واغتنى وتعددت وجهاته.
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
نبض العصر    كن أول من يقيّم
 

26 Septemper News
أ.د. صبري مسلم
قد لا تخضع بعض الظواهر الأدبية للمنطق الصارم، إذ إن الإنقتاح بين الشعوب في هذه المرحلة من مراحل التطور الانساني يفترض أن يصل الى أقصاه في ظل وسائل الاتصال المتوافرة ووسائط النقل العملاقة والمحطات الفضائية الغزيرة وشبكة المعلومات الدانية، ومعنى هذا أن تزدهر الدراسات الأدبية المقارنة أقصى الازدهار ولا سيما الدراسات الأدبية المقارنة في الوطن العربي، إذ تبدو دراسات الأدب المقارن نادرة ومنبتة عن المشهد الأدبي العالمي، ولسنا بصدد تفسير ذلك بناءً على الظرف السياسي القاهر الذي يعيشه وطننا العربي إذ لابد أن يكون هذا العامل جوهرياً في هذا الانقطاع عن المشهد الأدبي العالمي إلا فيما ندر، ويمكن أيضاً أن نعلل مثل هذه الظاهرة بافتقاد عنصر الدهشة في عصرنا هذا إذ يمكنك أن ترى فيه وبالصورة المتحركة والملونة مصحوبة بنبرات الصوت الحي ما تشاء من معتقدات وطقوس ومفاهيم وأفكار تخص الآخر الذي تفصلك عنه آلاف الكيلومترات بل ربما تكون أنت في جهة من هذه الكرة الأرضية ويحل الآخر في الجهة الأخرى منها، وقد تكون في فجر يومك وهو في أواخر يومه في غضون اللحظة ذاتها.
بيد أن تخصص الأدب المقارن لم يفقد بريقه الأخاذ وسعة صدره ونكهته الخاصة التي لا نجدها في تخصصات الأدب الأخرى فضلاً عن أنه بطريقة وبأخرى يقرب بين الشعوب، ويردم الفجوات السحيقة التي قد تفصل بينها، بل إنه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك وحدة الهم الانساني وأن ما يشغل الإنسان في شرق الأرض يشغله في غربها وشمالها وجنوبها، إنه البحث عن المحور المشترك والبؤرة الأساس التي لفتت أنظار النابهين من أبناء الأجيال المتتالية والباحثين والدارسين والمهتمين الذين من شأنهم رفد هذا التخصص الشيق بالجديد والمبتكر.
ومما يميز تخصص الأدب المقارن أنه لا يمتلك جذوراً عميقة في التراث الأدبي العالمي قياسياً بالأنواع الأدبية العريقة كتاريخ الأدب والنقد الأدبي وسواهما، فقد ظهرت نواة الأدب المقارن وبداياته منذ أقل من قرنين من الزمان وفي هيئة ملاحظات غالباً ما تندرج تحت إطار أنماط أخرى من أنماط الأدب وفنونه، ولم يستقل هذا النمط من التخصص الجديد وأعني به الأدب المقارن إلا في أوائل القرن الميلادي السابق الذي شهدنا خاتمته «القرن العشرين» حيث استقر له كيان مستقل الى حد ما وتبلورت له مفاهيم وخصائص مميزة، ولا سيما في ظل الدراسات الأكاديمية وفي أروقة الجامعات التي شهدت بزوغ المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن.
وتختلف آراء الاوروبيين وتحديداتهم لدائرة اهتمام تخصص الادب المقارن، ففي الوقت الذي يرى فيه «فان تيجم» وهو احد رواد المدرسة الفرنسية للأدب المقارن انه "دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض(1) فان «جويار» الذي ينتمي للمدرسة الفرنسية ذاتها والذي افاد من سلفه «فان تيجم» يعرف الأدب المقارن على انه "تاريخ العلائق الادبية الدولية فالباحث المقارن يقف عند الحدود اللغوية والقومية، ويراقب مبادلات الموضوعات والكتب والعواطف بين ادبين او عدة آداب»(2) وبهذا فان «جويار» يشير الى الجذر التاريخي لهذا النمط من التخصص ولا سيما في اطار المدرسة الفرنسية التي لاتعترف بالمقارنة بين ادبين او ظاهرتين ادبيتين الا بعد وجود مايثبت التأثر والتأثير ولا يتم هذا الا بالاستعانة بكتب التاريخ، بيد ان هذا لايعني التطابق بين الادب المقارن وتاريخ الأدب فلكل من التخصصين مجاله وحدوده ويتأكد لنا انتماء الدكتور محمد غنيمي هلال الى المدرسة الفرنسية من خلال توكيده على الجذر التاريخي للأدب المقارن وعبر تعريفه له بأنه «ذو مدلول تاريخي، ذلك انه يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها او في ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير او تأثر اياً كانت مظاهر ذلك التأثر او التأثير(3) ومساهمة الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه الأدب المقارن اضافة رائدة في ميدان الأدب المقارن العربي، وهي خطوة نادرة في حينها لاسيما ان الدكتور هلال تمثل أدب امته العربية واستوعب اسراره وحين ذهب الى فرنسا دارساً وضع يده على محاور اساسية وفيما يتعلق بهذا التخصص المهم واعنى به الأدب المقارن، وعلى الرغم من مرور اكثر من نصف قرن على مصنفه المهم في «الادب المقارن» فان غزارة ما ورد فيه من موضوعات تصلح مادة للادب المقارن ما تزال ركيزة مهمة للدراسات المقارنة اللاحقة.
وثمة مدرسة اميريكية نشأت بوصفها رد فعل للمدرسة الفرنسية الرائدة، وهذه المدرسة الامريكية ضاقت ذرعاً بما وصفته بضيق المدرسة الفرنسية ومحدودية رؤيتها للأدب المقارن ولذلك فقد رأت ان الادب المقارن هو " البحث والمقارنة بين العلاقات المتشابهة في الآداب المختلفة، وبين الآداب وبقية انماط الفكر البشري كلا متكاملاً ومتداخلاً، ولا يمكن فصل النتاج الادبي عن غيره من انماط النتاج الفكري الأخرى من علوم وفنون (4) ومن الواضح ان توسيع دائرة اهتمام الادب المقارن بمثل هذه الصورة لايخدم هذا التخصص بل يقحمه في صعوبات جمة لا قبل له بها، اذ كيف يتاح لباحث واحد ان يلم بالآداب والعلوم والفنون كي يتسنى له ان يفيد منها جميعاً في دراسة مقارنة، يضاف الى هذا ان اتساع ميدان الأدب المقارن بمثل هذه الصورة سيضيع عليه فرصة ان يكون اكثر دقة ومنهجية حيث ستكون احكامه وفقاً لهذه الرؤية المتسعة نسبياً ابعد عن الدقة والمنهجية، وبهذا تضيع فرصة التوصل الى حقائق ادبية مستجدة مستوحاة من طبيعة هذا التخصص وبوساطة ادواته المنهجية واسلوبه الخاص في التوصل الى تلك الحقائق.
ولانجد مثل هذه الرؤية المتسعة لدى «رينيه ويليك» وان كان من رواد المدرسة الامريكية للادب المقارن، فهو وان اشار الى ان مفهوم «فان تيجم» للادب المقارن ضيق ومحدود لانه يحصر مادته في طرفين اثنين فحسب هما الطرف المؤثر والطرف الآخر المتأثر به فإنه عرف الأدب المقارن بأنه " الدراسة الادبية المستقلة عن الحدود اللغوية والعنصرية والسياسية، ولا يمكن حصر الأدب المقارن بمنهج واحد فالوصف والتشخيص والتفسير والرواية والتقويم عناصر لا تقل اهمية عن المقارنة فيه(5) ويبدو ان المفهوم الواسع للادب المقارن تبلور على يد باحثين امريكيين آخرين، ومنهم «ريماك» الذي عرف الأدب المقارن بانه «دراسة العلاقات بين الآداب من ناحية والمجالات الاخرى للمعرفة والاعتقاد كالفنون (الرسم والنحت والمعمار والموسيقى مثلا)ً والفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم والدين... الخ» من ناحية اخرى(6) ولا يخفى مافي التعريف من شمول وسعة يضيع فيها الباحث الفرد، ولايمكن الالمام بكل هذه العلوم والفنون الا في ظل فريق عمل او مؤسسة تضم بين جوانحها مختصين في كل هذه التخصصات، وفي مثل هذا الكم من المختصين هل يمكن التوصل الى حقائق ادبية جديدة تصب في تخصص الأدب المقارن؟ نحن لسنا في مواجهة مع التخصصات المجاورة، ولكن التداخل مع هذه التخصصات جميعاً قد يضيع هوية الأدب ويطمس خصوصيته.
ولكي نوضح رؤية كل من المدرستين الفرنسية والامريكية على صعيد الميدان التطبيقي فان مقارنة بين انياذة «فرجيل» الروماني والكوميديا الالهية لدانتي اليجيري هي مقارنة معترف بها وفقاً للمدرسة الفرنسية وذلك لان «دانتي اليجيري» اتخذ من «فرجيل» دليلاً له في الكوميديا الالهية وليس ثمة ادنى شك بتأثره به، ومثل ذلك يقال عن تأثير الالياذة والأوديسة في الانياذة «لفرجيل» اذ ان الفضاء المكاني للملاحم الثلاث (الالياذة والاوديسة والانياذة) ينطلق من طروادة، وحدث اجتياح اسوارها بحيلة الحصان الخشبي التاريخية، إذاً لا خلاف على أن «فرجيل» في الإنياذة قد تأثر بالملحمتين الخالدتين (الالياذة والأوديسة) وان كان «فرجيل» في انياذته لم يرتفع الى مستوى هوميروس في ملحمتي الالياذة والاوديسة من وجهة نظر الدكتور محمد غنيمي هلال لا من حيث الوحدة ولا من حيث ترتيب الافعال وتقديم الحدث، وان كان الدكتور هلال يعترف بالاضافة المهمة التي اضافها فرجيل في الانياذة وهي في عجائب العالم الآخر والرحلة اليه مما امتاز بها «فرجيل» اكثر من «هوميروس» فهي اقرب الى عجائب العالم المسيحي الاخروي»(7) ويبدو ان هذه الرحلة الى العالم الآخر هي التي لفتت انظاردانتي اليجبري الى انياذة فرجيل.
ولكن مقارنة بين ملحمة جلجامش السومرية والملاحم التي تلتها كملحمتي الالياذة والأوديسة الإغريقيتين او ملحمة الانياذة اللاتينية أو الشاهنامة الفارسية او المهابهاراتا الهندية أو سواها من الملاحم هي مقارنة غير ممكنة من وجهة نظر المدرسة الفرنسية اذ لم يثبت التأثر او التأثير في حين ان مقارنة كهذه ممكنة في اطار رؤية المدرسة الامريكية للأدب المقارن ذات الطابع المتسع المرن ومن منطلق ان نسق الملاحم في الحضارات القديمة متقارب من حيث المضامين والتقنيات وظروف الانسان آنذاك، وعلى هذا الاساس ذاته يمكننا ان نقارن بين الشاعر الانكليزي «جون كيتس» والشاعر التونسي ابي القاسم الشابي ولكن المدرسة الفرنسية لاتعترف بمثل هذه المقارنة اذ لم يثبت التأثر والتأثير ومثل ذلك يقال عن مقارنة مابين الشاعر الانكليزي «تي اس اليوت» والشاعر العراقي بدر شاكر السياب في حين لا ترى المدرسة الاميريكية باساً في مثل هذه الدراسات المقارنة أو فيما يناظرها من محاور وموضوعات، ولا تختلف المدرستان الفرنسية والامريكية بشأن المقارنة بين الروايات التاريخية التي كتبها «السير ولترسكوت» الذي وصف بأنه أب للقصة التاريخية في اوروبا وبين الروايات التي صاغها جرجي زيدان وفقاً لمنطلقات المدرسة الفرنسية لأن جرجى زيدان اعترف بتأثير «السير وولتر سكوت» عليه مما لا يدع مجالاً للشك في ان رواياته التاريخية خضعت للنسق ذاته الذي ابتدعه «السير وولترسكوت».
ويصعب علينا ان نميز خصوصية او فرادة فيما يدعى بالمدرسة الاشتراكية في الأدب المقارن لأن هذه المدرسة -ان جاز لنا ان نسميها كذلك- قد تقترب من رؤية المدرسة الفرنسية في بعض منطلقاتها وربما اقتربت من المدرسة الامريكية في منطلقات أخرى لها، بيد ان الخط العام لها يتقيد بدراسة "الاسس الاجتماعية والاقتصادية والأسس الطبقية وتاريخ الحضارة لتجعل من ذلك كله اطاراً للظاهرة الادبية التي تدرسها " ولانفاجأ بمنطلقات هذه المدرسة فهي معروفة ولسنا بصدد اختفاء هذه المدرسة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية الاوروبية بيد ان الاستنتاج المهم المستقى من طبيعة هذه الرؤية للأدب المقارن هو ان مفهوم الأدب المقارن يتأثر بالضرورة بالمنطلقات الفكرية والسياسية السائدة، وهو استنتاج قد يقترب من البديهيات والمسلمات.
وكان الأديب الألماني الفذ «جوته» قد تبنى مصطلح الأدب العالمي أو أدب العالم مؤسساً لوجهة النظر الألمانية وجذور الأدب المقارن لديهم "وحين اصبحت الدراسات المقارنة تأخذ طابعاً خاصاً تبنوا مصطلح علم الأدب المقارن وهم يركزون على موضوعات الموروث الشعبي ونظرية الحقب الأدبية وحاولوا التمايز بهذه الدراسات عن المنهج الفرنسي، ونلاحظ انفتاحاً عالمياً المانياً وخاصة على الآداب الشرقية من قبل الكلاسيكيين الألمان تحت تأثير مصطلح جوته(9).
ويبدو ان مصطلح الأدب المقارن منذ نشأته يثير مشاعر متضادة بين المتحمسين له والرافضين له، وممن سجل رفضه البات للأدب المقارن "بينيد يتوكروتشي" ومنذ عام 1903م اذ دافع عن وجهة نظره وفحواها «ان الادب المقارن هو لا موضوع وهكذا وباحتقار شديد رفض فكرة أنه يمكن اعتبار الأدب المقارن دراسة اكاديمية منفصلة، وناقش التعريف القائل بان الادب المقارن بحث في التحولات والتغيرات والتطورات والاختلافات المتبادلة للموضوعات والافكار الادبية عبر الأداب، وانتهى الى انه لا يوجد حقل اكثر اجداباً من مثل تلك الدراسات، فهي على حد قوله يمكن تصنيفها ببساطة واختصار تحت بند الحذلقة العلمية واقترح ان مايجب دراسته بحق هو تاريخ الادب بدلاً من ذلك الذي نطلق عليه الادب المقارن(10) ولكن بعض العلماء والباحثين المتحمسين للأدب المقارن عظموا شأن هذا التخصص بل بالغوا في ذلك ومنهم تشارلس ميلز جيلي وهو احد مؤسسي الأدب المقارن في امريكا الشمالية اذ يذكر ان الأدب المقارن بوصفه وسيلة "متميزة ومتكاملة للفكر وتعبير مشترك ومجمع للانسانية يختلف بل شك حسب الظروف الاجتماعية للفرد وحسب المؤثرات والفرص والقيود العرقية والتاريخية والثقافية واللغوية التي تحكم هذه الظروف ولكنها وبغض النظر عن العمر او الشكل تحثها احتياجات وطموحات انسانية مشتركة(11) ويرفض فرانسوا جوست عام 1974م مفهوم الأدب القومي الذي لايمكن الا ان يكون مداناً بسبب عشوائية منظورة المحدود - كما عبر- في حين ان الأدب المقارن" يمثل ماهو اكثر من دراسة اكاديمية، فهو يقدم نظرة شاملة للأدب ولعالم الكتابة، وهو دراسة للبيئة البشرية ونظرة ادبية للعالم ورؤية شاملة ووافية للكون الثقافي(12).
ونتساءل بعد هذا الاستعراض السريع لمدارس الأدب المقارن، ترى هل يمكننا ان نطمح الى رؤية خاصة للأدب المقارن تنبع من ادبنا العربي الغزير؟ وهل يمكننا على الاقل ان نضفي على بعض الجوانب في الادب المقارن خصوصية لأنها مما يهمنا ويؤكد دورنا الحضاري؟ بعيداً عن المبالغات ولاسيما في هذه المرحلة، ولكي نجيب عن سؤال كهذا ينبغي ان نشير الى ضرورة ان يكون لدينا باحثون يجيدون الاطلاع على الادبين العربي والأدب الآخر وباللغة الأخرى الأصلية، واذا مانشأ لدينا كم من الباحثين في مجال الأدب المقارن واضمامة منتقاة من الدراسات المقارنة التي تحمل طابعنا الخاص فان ذلك يمكن ان يكون نواة للمفهوم الذي نريده(13).
ولعل شعوباً اخرى غير الغرب الأوروبي انتبهت الى تخصص الادب المقارن وسعت الى مانسعى اليه "فبدأت برامج دراسية جديدة في الادب المقارن في الصين وتايوان واليابان وعدة دول آسيوية اخرى وهذه الدراسات لاتركز على اية فكرة كونية او عالمية ولكن على ذلك الجانب من الدراسة الادبية الذي حاول القائمون على المقارنة في الغرب انكاره الا وهو خصوصية الآداب القومية، وكما عبر عن ذلك "سوابان ماجو مدار". بسبب ذلك التفضيل للأدب القومي والذي اثارت منهجيته استياء النقاد الانجليز والأمريكان كان فان جذور الادب المقارن قد تأصلت في امم العالم الثالث وخاصة في الهند، ويذهب "جانيش ديفي" ابعد من ذلك عندما يقول: ان الأدب المقارن في الهند يرتبط ارتباطاً مباشراً بظهور القومية الهندية الحديثة، ويذكر ان الأدب المقارن قد استخدم لتأكيد الهوية الثقافية القومية، ولايوجد احساس هنا بأن هناك تناقضاً بين الأدب القومي والأدب المقارن(14).
ونجد انفسنا مع وجهات النظر التي انصفت الأدب المقارن ورأت فيه منفذاً يقوي الأواصر الثقافية بين الشعوب دون ان تضحى بنكهته المحلية بل بالعكس من ذلك تماماً اذ تكون المحلية لوناً خاصاً يمنح الأدب القومي كما قد يسميه بعض الباحثين فرادة وخصوصية لاسيما ان مجال البحث في الادب المقارن هو مجال فسيح جداً وهو يشرئب الى آفاق الثقافات الأخرى التي من شأنها ان تثري الأدب القومي وان تفيد من عطائه(15).
وبشأن فكرة صراع الحضارات التي شاعت اواخر القرن الماضي واوائل هذا القرن فانها مما غذته الأفكار المتطرفة وصاغتها الأحقاد واحتضنتها الرؤى المستغلة المشحونة بوهم التفوق والغاء الآخر مما يجافي طبيعة هذا التخصص الذي يمكنه تماماً ان يخفف من حدة هذا التضاد الموهوم بين الحضارات والآداب ويمكنه ايضاً ان ينطلق في مساحات انسانية مفعمة بالهموم والطموحات الموحدة لادباء العالم ومفكريه وعلى مر الاجيال لاسيما ان هؤلاء الادباء هم مرايا شعوبهم وليس ادل على ذلك من الفولكلور الذي يحمل سمات متقاربة لدى كل الشعوب وانما في بيئات انسانية متباينة، ويمكن للفولكلور ان يمد الادب المقارن بفيض من الموضوعات والظواهر والرؤى ومنها على سبيل الاستدلال النسق الأسطوري وتقنيات الملاحم وعناصر السيرة الشعبية وبنية الحكايات ومضامين الأمثال وايقاعات الأغاني الشعبية ومفارقات الطرفة الذكية وسوى ذلك كثير.
ان الباحث اذا مادلف الى رحاب تخصص الأدب المقارن فانه ينبغي ان يتطهر من مزلقين متضادين احدهما وهم التفوق المطلق على الآخر وهو ورم سرطاني يحول دون الرؤية الدقيقة والمزلق الآخر هو هذا الاحساس بالنقص ازاء الآخر بمعنى ان المرآة المحدبة او المقعرة لايمكن ان تعكس لك الوجه الحقيقي للأدب المقارن وينطبق هذا تماماً على مظاهر الفكر وحقائق الحياة بوجه عام.
ويظل الباب مفتوحاً لاثراء هذا التخصص بالجديد في هذا الشأن علماً بأن ثمة مجالات وآداباً أخرى يمكن ان تكون مادة لدراسات مقارنة جديدة ومنها تلك التأثيرات المتبادلة بين الأدب العربي والآداب الشرقية التي قد تبدو اكثر اقتراباً من الأدب الغربي كالأدب الهندي والفارسي والتركي والصيني والياباني وسواها من الآداب الشرقية الأخرى.
ان عطاءنا الأدبي يتيح لنا من خلال مادة الادب المقارن رؤية اكثر شمولاً له ويضفى عليه دلالات اغزر وايحاءات ابعد اثراً وبهذا فان دورنا من خلال مجمل نتاجنا الادبي يبدو اوضح واقوى فعلينا اذن ان نهتم بهذا النمط من التخصص على ان لايكون مدعاة للتعبير عن النقص بحيث يكون هدفنا منه مجرد السعي للحصول على الاطراء والمديح لماضينا الأدبي الزاهر وانما ان نساهم في رفد هذا التخصص الجديد نسبياً بما يضيف اليه من مبتكر ومتميز.
<  الهوامش:
(1) فان تيجم، الادب المقارن، ترجمة دار الفكر العربي، القاهرة دون تاريخ، ص62.
(2) ماريوس فرانسوا جويار: الادب المقارن، ترجمة د. محمد غلاب، مطبعة لجنة البيان العربي، بيروت 1956، ص5.
(3) د. محمد غنيمي هلال، الادب المقارن، دار العودة، ط5 بيروت 1981، ص9 (ط1 عام 1953م).
(4) د. محمد عبدالسلام كفافي، في الادب المقارن، بيروت 1972، ص24.
(5) رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة د. محمد عصفور، مطابع الرسالة، الكويت 1987، ص318.
(6) د. عبدالحكيم حسان، الادب المقارن بين المفهومين الفرنسي والامريكي، مجلة فصول، المجلد الثالث، العدد الثالث، القاهرة 1983 ص 15-16.
(7) د. محمد غنيمي هلال، الادب المقارن، ص 149.
(8) عز الدين المناصرة، مقدمة في نظرية المقارنة، دار الكرمل، عمان، 1988، ص 21-22 وينظر كذلك: د. جميل نصيف ود. داود سلوم، الادب المقارن، مطبعة التعليم العالي، بغداد 1989 ص 116.
(9) عز الدين المناصرة، مقدمة في نظرية المقارنة، ص20.
(10) سوزان باسنيت، الادب المقارن، مقدمة نقدية، ترجمة: أميرة حسن نويرة، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة 1999م، ص 6-7.
(11) نفسه، ص7.
(12) نفسه، ص 7-8.
(13) انوه هنا ببعض دراسات الادب المقارن للدكتور. حسام الخطيب والدكتور/ صفاء خلوصي والدكتور/ عدنان محمد وزان ولا سيما في كتابه مطالعات في الادب المقارن، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة 1403ه 1983م، وكتابه الاخر: صورة الاسلام في الادب الانجليزي، دراسة تاريخية نقدية مقارنة، دار اشبيليا، الرياض 1419ه- 1998م. وثمة كتاب مميز للدكتور حيدر غيلان تحت عنوان (الادب المقارن ومتطلبات العصر).
(14) سوزان باسنيت، الادب المقارن، ص 9-10.
(15) د. محمود طرشونة، مدخل الى الادب المقارن وتطبيقه على ألف ليلة وليلة، مؤسسات باباي ط 3 تونس 1997م ص 5 (ط1 عام 1986).
*د يحيى
11 - فبراير - 2008
شكر واجب    كن أول من يقيّم
 
أقدم خالص شكري إلى الجهد الطيب لأخي يحيى الذي يتحفنا بكل تراث طيب، ويعلن عن تنوع معارفه وثقافاته. د/صبري أبوحسين
*صبري أبوحسين
11 - فبراير - 2008
أبرز مدارس الأدب المقارن    كن أول من يقيّم
 
توجد للأدب المقارن ثلاث مدارس بارزة، أهمها:
 *المدرسة الأولى: المدرسة الفرنسية، ومن أشهر أقطابها "فان تيجم"، و"فرنسو جويار"، و"أناساينيا ريفنياس".
 *المدرسة الثانية: المدرسة الأمريكية، وعلى رأسها "رينيه ويليك"، الذي يرى ضرورة أن يدرس الأدب المقارن كله من منظور عالمي، ومن خلال الوعي بوحدة كل التجارب الأدبية والعمليات الخلاقة؛ أي يرى أن الأدب المقارن هو الدراسة الأدبية المستقلة عن الحدود اللغوية العنصرية والسياسية. ثم بين جوهر الاختلاف بين المدرستين الأمريكية والفرنسية، وأعاد جوهر الاختلاف بين المدرستين إلى أن المدرسة الفرنسية تحصر الأدب المقارن في المنهج التاريخي، بينما تتسع الرؤية الأمريكية لتربط بين المنهج التاريخي والمنهج النقدي، باعتبارهما عاملين ضروريين في الدراسة المقارنة.

ويرى "عبد الحكيم حسان" أن أهم ما يتميز به المفهوم الأمريكي للأدب المقارن أنه قد استجاب للمتغيرات الفكرية والمنهجية التي تطورت خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولكنه عاب عليهم طابع الازدواجية، وكذلك القومية التي عابوها على الفرنسيين.
*المدرسة ثالثة: المدرسة الشرقية، التي عكست رد فعلها تجاه المدرستين السابقتين .

*صبري أبوحسين
11 - فبراير - 2008
قيمة دراسة الأدب المقارن    كن أول من يقيّم
 
قيمة دراسة الأدب المقارن
 
 
     يجب على من يدرس الآداب الحديثة أن يقف وقفة خاصة مطولة عند الأدب المقارن؛ ذلك أنه أدب زاخر زاهٍ بين علوم الآداب الأخرى، برز فيه شعراء وأدباء كبار مجيدون، واتضحت عن طريقه مذاهب أدبية مختلفة، واتسع نطاق النثر الفني باستكمال أدواته، وتعدد  مجالاته ، وازدهر النقد الحديث، فهو علم يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة المعقدة، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير وتأثر.
    فليس في مقدور أي مثقف أن ينكر ما لهذا الأدب من أهمية في تغذية شخصيتنا القومية، وتنمية نواحي الأصالة في استعداداتنا، وتوجيهها توجيهًا رشيدًا، وتوضيح مدى امتداد جهودنا الفنية والفكرية من التراث الأدبي العالمي، إلى جانب ذلك تظل للأدب المقارن رسالة إنسانية أخرى، هي الكشف عن أصالة الروح القومية في صلتها بالروح الإنسانية العامة في ماضيها وحاضرها، فلا نستطيع تقويم الأدب القومي حق التقويم، ولا توجيهه خير توجيه إلا بالنظر إليه في نسبته إلى التراث الأدب الإنساني جملةً؛ كي يُتاح له أن يقوم بوظيفة الإنسانية في ثنايا قوالبه الفنية.
 
   وقف شاعر الهند: رابندرانات ناجور عام 1908م، في إحدى الجامعات يتحدث عن الرسالة الإنسانية للأدب المقارن حيث قال:" الأدب ليس مجرد مجموعة أعمال أدبية صاغتها أيدي الكتاب المختلفين، بل علينا أن نجاهد؛ كي ننظر في عمل كل مؤلف بوصفه كلاًّ، وننظر في هذا الكل بوصفه- جزءًا من خلق الإنسان العالمي- وننظر إلى هذا الروح العالمي في مظاهره من خلال الأدب العالمي".
 
    وكذلك يفيد الكتاب والنقاد من نتائج بحوثه ومصطلحاته الفنية دون أن يكونوا من المتخصصين فيه، فالدراسات المقارنة من نوع الدراسات الإنسانية التي من شأنها أن تزدهر في عصور النهضات.
 
 ويمكّننا من دراسة التيارات الأدبية العالمية كـ( الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية، والسريالية...) ، فمحورها دائمًا الأدب القومي في صلته بالآداب العالمية وامتداده بالتأثير بها والغنى بسببها. وأيضًا التعمق في الكشف عن طبيعة التجديد واتجاهاته في الأدب القومي والآداب العالمية. ثم إن الأدب المقارن أساس لا غنى عنه في النقد الحديث، فقواعد النقد الحديث ثمرات لبحوثه العميقة.
 
     هذه كلمة انجر القلم إليها، أردت فيها أن أستحث الأدباء والكتّاب والباحثين، وأثير هممهم، علهم يقبلون على هذا المنجم البكر فيستخرجوا كنوزه، ويعرضوا على الناس جواهره.
  
                               جابر بن سالم بن خميس المصلحي
                                                                                                  
      الفرقة الرابعة من كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
                       مراجعة د/صبري أبوحسين
 
*صبري أبوحسين
11 - فبراير - 2008
 1  2  3