البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ناقدًا أدبيًّا    كن أول من يقيّم
 صبري أبوحسين 
17 - يناير - 2008
تزداد نظرة الإسلام إلى الشعر وضوحًا في موقف الخلفاء الراشدين من الشعر والشعراء.
 وهي نظرة مستمدة من الاتجاه الديني الذي وضع أسسه القرآن الكريم، وطبقه الرسول e في توجيه الشعر وتهذيبه وتقويمه.
 ويعد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-أكثر الخلفاء إسهامًا في هذا الميدان.
 وهذا لا يعني انعدام الموقف التوجيهي للشعر عند أبي بكر وعثمان وعلي y؛ فقد أثرت عنهم بعض المواقف التوجيهية، لكنها مواقف قليلة جدًّا، إذا قيست بمواقف عمر t "فقد ضرب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب eغاية ونهاية كل غاية [في ميدان نقد الشعر] بما اتصف به من وقدة الحس وحرارة العاطفة ورهافة المشاعر وصفاء الطبع"([1])، وقد كان "من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة"([2]) وقد ارتبطت أحكامه النقدية بالمعيار الأخلاقي ارتباطًا وثيقًا فكان يوظف هذا المعيار توظيفًا جليًّا، مع الاعتماد أحيانًا على الاعتبارات الفنية أخرى. ونماذج نقده t كثيرة نعددها في قادم التعاليق. د/صبري أبوحسين


[1] -  في مرآة النقد العربي: 69 0
[2] - العمدة: 1/33 ابن رشيق0
 1  2 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
موضوعية النقد    كن أول من يقيّم
 
من النصوص النقدية العُمَرِيَّة التي فيها موضوعية عميقة في إصدار الحكم النقدي، ما رُوي عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب t: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت:من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير.قلت: ولمَ كان كذلك؟ قال:كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حُوشِيَّه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه"([1]).
 
فواضح مدى موضوعية سيدنا عمر في الحكم على زهير حيث جاء حكمه"مثالا للنقد الإيجابي القائم على التفسير والتعليل"([2]), كما جاء مثالاً لما ينبغي أن يكون عليه الشعر الإسلامي من الحرص على الاستقامة التعبيرية والبيان التصويري, وواقعية المدح, والبعد عن الغلو والإفراط.


[1] - الموشح: 1/98، العمدة: 1/98 ، للوقوف على مفهوم المعاظلة ينظر كتاب  العمدة لابن رشيق القيرواني: 2/264-265 0
[2] - في مرآة النقد العربي:72 ، د/فتحي أبوعيسى، وراجع النقد الأدبي للأستاذ أحمد الشايب: 110 0
*صبري أبوحسين
21 - يناير - 2008
خلود الشعر    كن أول من يقيّم
 
خلود الشعر:
ويتحدث عمر بن الخطاب t عن زهير إلى بعض ولد هرم بن سنان قائلا:أنشدني ما قال فيكم زهير فأنشده فقال:" لقد كان يقول فيكم فيحسن0قال: يا أمير المؤمنين: كذلك كنا نعطيه فنجزل، قال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم"([1]).
فعمر هنا يقرر خلود الشعر وبقاء أثره وفناء أعطيات الأجواد، وتلك حقيقة لا ينكرها اثنان ,والدليل على ذلك أنه روي أن عمر t قال لابن زهير ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر0قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها([2]).


[1] - العقد الفريد: 5/292 العمدة: 1/81 0
[2] - ديوان زهير: 10 شرح ثعلب، ط دار الكتب المصرية، العمدة: 1/81 0
*صبري أبوحسين
22 - يناير - 2008
رؤية كلية للنص    كن أول من يقيّم
 
رؤية كلية للنص:
وقيل إن عمر أنشد أبياتا لزهير وهي:
 دع ذا وعد القول في هرم      خير الكهول وسيد الحضر
لو كنت من شئ سوى بشر       كنت المنور ليلة البدر
ولأنت أوصل من سمعت به    لشوابك الأرحام والصهر
ولنعم حشو الدرع أنت إذا     دعيت نزال ولج في الذعر
 وأراك تفري ما خلقت وبعـ  ض القوم يخلق ثم لا يفري
أثني عليك بما علمت وما      أسلفت في النجدات من ذكر
والستر دون الفاحشات ولا       يلقاك دون الخير من ستر
فقال عمر: ذلك رسول الله e ([1]).
ففي الأبيات مدح بالخيرية والسيادة, وصلة الأرحام, والإغاثة والنجدة, وإمضاء الأمور وتنفيذها ,والعفة والحرص على مكارم الأخلاق وجميل الخلال ولذلك قال عمر هذا القول0
وقد صنع مثل هذا الصنيع حين سمع من ينشد قول عنترة:
 ولقد أبيت على الطوى وأظله      حتى أنال به كريم المأكل
فقال: ذاك رسول الله e ([2]).
وصدق عمر فبيت عنترة فخر خالص بالجلد والعفة, والبعد عن الدنايا. وتلك صفات مقررة إلهيًّا وتاريخيًّا في نبينا الخاتم صلى الله عليه وسلم.


[1] - السابق: 12-13 0
[2] - ديوان عنترة: 87-249،  تح/ محمد سعيد مولوي, ط عالم الكتب, الرياض0
*صبري أبوحسين
22 - يناير - 2008
النابغة الذبياني في الميزان العُمري    كن أول من يقيّم
 
النابغة الذبياني في الميزان العُمري
 وكان عمر بن الخطاب t يعد النابغة أشعر العرب فقد روي عنه t أنه قال: يا معشر غطفان من الذي يقول:
أتيتك عاريًا خلَقًا ثيابي      على خوفٍ تُظَنُّ بيَ الظنونُ

قلنا النابغة0 قال: ذاك أشعر شعرائكم([1]).
 
 وروى الشعبي أن عمرt قال: من أشعر الناس؟ قالوا: أنتم أعلم يا أمير المؤمنين0قال: من الذي يقول:
إلا سليمانَ إذ قال الإله له:      قم في البرية واحددها عن الفند
 
وخيِّسِ الجن إني قد أذنتُ لهمْ    يـبنون تدمرَ بالصفَّاح والعَمَدِ
 
قالوا النابغة0قال: فمن الذي يقول:
 حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً    وليس وراء الله للمرء مذهب
 
لئنْ قد بُلِّغتَ عني وشايةً        لَمُبلِّغُك الواشي أغشُّ وأكـذب
 
ولست بمستبْقٍ أخًا لا تلمُّه     على شَعَثٍ أيُّ الرجال المهذبُ؟!
قالوا النابغة0قال: فهذا أشعر العرب([2])0
 
فعمر-رضي الله عنه- هنا يوضح لنا أشعر العرب في رأيه مدللاً على ذلك بنماذج من الشعر اشتملت على جمال العبارة وقوة المعنى وبراعة التصوير، ولا شك في ذلك فهي أشعار لشاعر مطبوع كريم اللفظ والمعنى, انتقلت سمعتُه بين القبائل واشتهرت في الأسواق, والمواسم وكان حكمه مقبولاً ورأيه سديدًا, وكان شاعرًا رفيع الطبقة حتى عُدَّ من أمراء الشعراء وزعماء القول, وقد قال عنه ابن رشيق في عمدته:"إن شعره كان نظيفًا من العيوب لأنه قاله كبيرًا ومات عن قرب ولم يهتر[3] أي لم يخرف ويضعف عقله], وكان أحسنهم ديباجة شعر وأكثرهم رونق كلام وأذهبهم في فنون الشعر وأكثرهم طويلةً جيدةً ومدحًا وهجاءً وفخرًا وصفةً"[4]0
 
ولا أدل على صدق موقف عمر من النابغة مما روي أن أبا بكرt كان يقدم النابغة ويقول:" هو أحسنهم شعرًا وأعذبهم بحرًا وأبعدهم قعرًا"[5]0



[1] -  ديوان النابغة: ط, 5 دار صادر0بيروت0، وراجع في مرآة النقد العربي القديم 70، 71 0، د/فتحي أبوعيسى
[2] - ديوان النابغة: 5-6 دار صادر، وراجع في مرآة النقد العربي القديم: 70-71 0
[3] - العمدة: 1/99 0
[4] - السابق: 1/99 0
[5] - السابق0
*صبري أبوحسين
23 - يناير - 2008
امرؤ القيس في الميزان العمري    كن أول من يقيّم
 
 
ونجد لسينا عمر- رضي الله عنه- موقفًا نقديًّا في موطن آخر
 
يفضل امرأ القيس؛ فقد رُوِي أنه قال للعباس بن عبد المطلب,
 
وقد سأله عن الشعراء:"امرؤ القيس سابقُهم: خسَفَ لهم عينَ
 
الشعر، فافتقر عن معانٍ عُورٍ أصح بصر"[1]0
 
ويفسر ابن رشيق  مقولة عمر هذه فيقول:" قال عبد الكريم: خسف لهم" من الخسيف وهي البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثير، وجمعها خسف.
وقوله" افتقر" أي: فتح، وهو من الفقير، وهو فم القناة.
وقوله" عن معان عور"يعني أن امرأ القيس من اليمن وأن اليمن ليست لهم فصاحة نزار، فجعل لهم[ معاني] عورًا فتح منها امرؤ القيس أصح بصر"[2]0
                     
وما زال في التراث العُمري كثير من الرؤى النقدية النظرية والتطبيقية التي تحتاج قراءة ومفاتشة ومحاورة. وليرجع في ذلك إلى كتاب نصوص النظرية النقدية للدكتور وليد قصاب. صبري أبوحسين 

 

[1] - العمدة: 1/94 0
[2] - السابق: 5 0
*صبري أبوحسين
23 - يناير - 2008
موازنة    كن أول من يقيّم
 
عمر بن الخطاب :الأديــــــــــــب الناقد

بقلم الدكتور / عبدالله بن محمد الحميِّد
أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك خالد

لقد تحدَّث المؤرِّخون القدماء والمعاصرون عن الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وسيرته العاطرة في الجاهلية والإسلام ، كما كتبوا الأسفار الكثيرة عن خلافته الراشدة ، وسياسته الفذَّة في تحقيق العدل بين رعيته ، وتحقيق النصر للجيوش الفاتحة في عهده . ولكننا لا نجد إلاَّ النـزر اليسير عن عنايته بالأدب والأدباء وموهبته الأدبية ، وذائقته البلاغية في نقد الشعر وتوجيه معانيه وأغراضه .

والحق أنه رضي الله عنه كان واسع المحفوظ من جيِّد الكلام منظومه ومنثوره حتى إن محمد بن سلاَّم الجمحي صاحب طبقات الشعراء ليقول عنه :

"ما عرض لابن الخطاب أمر إلا واستشهد فيه بالشعر "

ولذلك فإن رجلاً مثل عمر رضي الله عنه الذي كان يمتلك تلك الثروة الواسعة من القوافي لجدير بأن يكون ذا معرفة عميقة بالمعاني الجيِّدة والأساليب الرائعة ، ومعنى هذا أنه كان ينظر فيما يسمعه نظرة الباحث الناقد ، ثم يحفظ ما يروقه ويعجبه من أجل أن يستشهد به في موضعه المناسب ، ويثني على قائله بما يستحقه من التقدير .

وممَّا أثر عنه رضي الله عنه في ذلك قوله : " أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته ، يستعطف بها قلب الكريم ، ويستميل فؤاد اللئيم " . وقولـه أيضاً : " الشعر جزل من كلام العرب تسكن به ثائرتهم ، ويطفأ غيظهم ويبلغ به القوم في ناديهم ، ويعطى به السائل ".

وفي هذا ما يكشف لنا عن ولوعه رضـي الله بالشعـر والشعراء حتى إنه كثيراً ما كان يجلس مع عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حيث يتناشدان الأشعار وفي ذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما :

" خرجنا مع ابن الخطاب في سفـر فقال : ألا تزاملون ؟ أنت يا فلان زميل فلان ، وأنت يا فلان زميل فلان ، وأنت يا ابن عباس زميلي ، وكان لي محبَّاً ومقرِّبا حتى كان كثير من الناس ينفسون على مكانتي منه ، فزاملته فأخذ ينشد :           وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحِلِهَا** أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ
ثم قال : يا ابن عباس ألا تنشدني لشاعر الشعراء ؟ قلت ومن شاعر الشعراء ؟ فقال زهير الذي يقول :

                         وَلَوْ أَنَّ حَمْدَاً يُخْلِدُ النَّاسَ أُخْلِدُوا** وَلَكِنَّ حَمْدَ النَّاسِ لَيْسَ بِمُخْلَدِ
قلت : ولم صيَّرتـه كذلك ؟ قال : لأنه كان لا يعاظل بين الكلام ولا يتتبَّع حوشي الشعر ، ولا يمدح الرجل إلاَّ ما فيه".

ومن ذلك نستنتج أن عمر رضي الله عنه يوضِّح في بصيرة الناقد المتقن أسباب تفضيله زهيراً على من سواه من شعراء الجاهليـة بأنه كان لا يعاظل بين الكلام أي لا يتعمَّد إدخال بعض الشعر في بعض ممَّا ليس من جنسه ، ولا يغرب في ألفاظ قصائده ، ولا يبالغ في المديح بحيث يضفي على ممدوحه صفاتٍ ليست فيه . وهذا في تصوري هو التفصيل الواضح والتعليل المقبول الذي يختلف عن نقد من سبقه من رواة الشعر الذين

كانوا إذا نقدوا شعراً قالوا : إنه كالبرود اليمنيَّة التي تطوى وتنشر ، أو قالوا إنه سمط الدهر ، أو أنه مزاد لا يقطر منه شيء إلى آخر تلك التشبيهات المجملة التي لا تفصِّل حكما ولا تعلِّل رأياً
*د يحيى
25 - يناير - 2008
موازنة 2    كن أول من يقيّم
 

وليس بغريب أن يخالف الفاروق رضي الله عنه ما أجمع عليه كثير من أئمة النقد في الأدب فيفضِّل زهيراً على امرئ القيس مثلاً ، ذلك لأن عمر رضي الله عنه كان ذوَّاقة يسبر الشعر بعقله ، فلا يعجبه منه إلاَّ ما جاء متمشياً مع المنطق السليم بأن يكون نبيل الغرض ، رائع الحكمة ، وهذا ما ينطبق على شعر زهير ابن أبي سلمى صاحب القصائد الحوليَّة الذي كان شاعراً حكيماً يزن الشعر بميزان دقيق فلا يفحش في الغزل ، ولا يتعابث في التصابي ، بل يسوق الحكمة تلو الحكمة رائعة ساطعة ، تجذب إليها كل مفكر حصيف ، كما نجد ذلك في معلقته الميمية الشهيرة التي مطلعها :

                   أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ** بِحَوْمَانَةِ الدّرَّاج فَالْمُتَثلَّمِ
وأما امرؤ القيس فمن المحال أن يرضى عن شعره عمر رضي الله عنه ذلك لأن جلَّ ذلك الشعر في مغازلة النساء ، ومعاقرة الخمر والاسترسال مع الصبوة إلى أبعد حدّ . وهذه أغراض هابطة لا يهشُّ لها الحكماء من قادة الرأي وأساطين الفكرة ، وعباقرة الرجال كعمر بن الخطاب رضي الله عنه . ولكنه مع ذلك لم يظلم امرأ القيس فأوضح مكانته الشعرية حينما قال : امرؤ القيس سابق الشعراء لأنه خسف لهم عين الشعر ، فافتقر عن معان عور أصح بصر .سمع رضي الله عنه مرة قول زهير :

                               فَإِنَّ الحقَّ مَقْطَعُهُ ثَــــــــلاَثٌ** يَمِيْنٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَـــــــلاَءُ
فأخذ يحرِّك رأسه ممتعجباً ويقول : إِنَّما أراد أن يبيِّن أن مقاطع الحقوق يمين أو محاكمة أو حجّة كما جاء به الإسلام .
ووفدت ابنة هرم بن سنان على عمر رضي الله عنه فقال لها : ما كان الذي أعطى أبوك زهيراً حتى قابله من المديح بما قد سار فيه ؟ فقالت : قد أعطاه خيلاً تنضى، وإبلاً تتوى ، وثياباً تبلى، فقال عمر رضي الله عنه : لكنَّ ما أعطاكم لا يبليه الدهر ، ولا يفنيه العصر .

ولقد كان النابغة الذبياني يلي زهيراً في المنـزلة الشعرية لدى عمر رضي الله عنه وأقرب منه في المكانة من امرئ القيس ، ذلك بأن النابغة الذبياني كان عميق التفكير ، شريف الغرض بحيث يتفق كثيراً في المنطق والحكمة وسداد الرأي وعمق التجربة مع زهير ابن أبي سلمى .

ومصداق ذلك أن عمر رضي الله عنه جاء إليه وفد من قبيلة غطفان فقال لهم عمر رضي الله عنه ، أيُّ شعرائكم الذي يقول :

          حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رَيْبَةً** وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَـــــــبُ

فقالوا : النابغة ، فقال من القائل :

           فَإِنَّكَ كالَّليْلِ الَّذِي هو مُدْرك ** وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأى عَنْكَ وَاسِعُ

فقالوا النابغة ، قال : فمن القائل :

                       أَتَيْتُكَ عَارِيَاً خَلِقَاً ثِيَابِي ** عَلَى وَجَلٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ
فقالوا : النابغة . قال : ذلك أشعر شعرائكم
*د يحيى
25 - يناير - 2008
موازنة3     كن أول من يقيّم
 
وإذن فزهير عند عمر رضي الله عنه أشعر الشعراء ، وأما النابغة فهو أشعر شعراء غطفان .

وأُنشد عمر رضي الله عنه قصيدةً لعبَدة بن الطبيب حتى وصل إلى قوله :

                                          وَالْمَرءُ سَاعٍ لأِمْرٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ** والْعَيْش شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأْمِيْلُ
فأعجب عمر، رضي الله عنه ،بهذا البيت وبما فيه من جمال التقسيم، وقال مردداً قول عبَدة بن الطبيب : والعيش شحٌ وإسفاف وتأميل ما أحسن ما قسَّم .

وطبيعي أن يكون عمر رضي الله عنه مع ذلك النظر الثاقب في الشعر قادراً على أن يوجههُ حيث يشاء ، وأن يستنبط من فهمه له فهماً دقيقاً غير ما تأوله سواه، ثم يستخرج منه معانيَ أخر، كما تدل على ذلك القصة الآتية التي ذكرها البلاغي الناقد ابن رشيق القيرواني الأزدي المتوفَّى عام 456هـ في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده)، حيث قال :
" كان بنو العجلان يفتخرون بهذا الاسم لقصَّة كانت لصاحبه في تعجيل قِرى الأضياف إلى أن هجاهم النجاشي الشاعر فضجروا منه وسُبُّوا به واستعدَوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنـه ، فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا أبشْع هجاء ، فقال : ماذا قال ، فأنشدوه قوله فيهم :

                           إِذَا اللهُ عَادَى أَهْلَ لُؤْمٍ وَرِقَّـــةٍ ** فَعَادَى بَني الْعَجْلاَنِ رَهْطَ ابنِ مُقْبِلِ

فقال عمر رضي الله عنه : إِنَّما دعا عليكم ولعلَّه لا يجاب ، فقالوا : إنه قال :

                          قُبيِّلَةٌ لاَ يَغْدِرُونَ بِذِمَّــــــــــــةٍ** وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَـــــــــرْدَلِ

فقال عمر رضي الله عنه : ليتني مِن هؤلاء، أو قال : ليت آل الخطاب كذلك فقالوا : إنه قال :

                            وَلاَ يَردُونَ الْمَاءَ إِلاَّ عَشِيَّـــــــةً** إِذَا صَدَرَ الوُرَّادُ مِنْ كُلِّ مَنْهَــــــــــــــلِ
فقال عمر رضي الله عنه ذلك أقلُّ للزِّحام ، فقالوا إنه قال :

                            تَعَافُ الكِلاَبُ الضَّاريَاتُ لَحُومَهُمْ** وَتَأْكُلُ مِن كَعْبِ بِنِ عَوْفِ بِنِ نَهْشَـــلِ

فقال عمر رضي الله عنه : كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه ، قالوا فإنه قال :

                                        وَمَا سُمِّيَ الْعَجْلاَنَ إِلاَّ لِقَوْلِهِـــمْ** خُذْ القَعْبَ واحْلِبْ أَيُّهَا الْعَبْدُ واعْجِلِ
فقال عمر رضي الله عنه : كلنا عبد ، وسيّد القوم خادمهم .
فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا ، فقال : ما أسمع ذلك ، فقالوا : فأسأل حسَّان بن ثابت فسأله ، فقال : ما هجاهم ولكن سلح عليهم .ولذلك فإن الأبيات السابقة سباب صريح ، وكان عمر رضي الله عنه أبصر الناس بما قال النجاشي وأعلمهم بما تضمنته هذه الأبيات من هجاء مقذع، ولكنه كما قال صاحب كتاب العمدة أراد أن يدرأ الحدود بالشبهات .
ولقد كان عمر رضي الله عنه متتبعاً لشعراء عصره، يستطلع أخبارهم ، ويستفسر عن أحوالهم ، وربما ذُكر له الشاعر فلا يزال يسأل عن اسمه وكنيته ولقبه وأوصافه الجسمية والخُلقية ، وكأنه يريد أن يستقريَ شعره من خلال حياته الشخصية والاجتماعية ، ومن ذلك أنه استيقظ ذات يوم ليصلي صلاة الفجر ، فلما دخل مسجد رسـول الله صلى الله عليه وسلم وجد فيه رجلاً قصير القامة ، أعور ، متنكباً قوساً ، وبيده هراوة ، فقال له : أأنت متمِّم ابن نويرة ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين . فقال : هكذا وصفت لي . فأنشدني مراثيك في أخيك مالك ، فأخذ ينشده حتى وصل إلى قوله :

                      وَكُنَّا كَنَدْمَانِي جُذَيْمَةَ حِقْبَةً** مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيْلَ لَنْ نَتَصَدَّعَا
                       فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكَـــــاً **عَلَى طُوْلِ وَصْلٍ لَمْ نِبَتْ لَيْلَةً مَعَا

فقال عمر رضي الله عنه : والله هذا هو التأبين ، ولودِدتُ أني أحسن الشعر ، فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك . فقال متمِّم : " لو أن أخي يا أمير المؤمنين مات على ما مات عليه أخوك من الإيمان ما رثيته . فقال عمر رضي الله عنه : ما عزَّاني أحد عن أخي بمثل ما عزَّاني به متمِّم
*د يحيى
25 - يناير - 2008
موازنة 4    كن أول من يقيّم
 
ولو أننا بحثنا في جلّ مراثي متمِّم هذا ما وجدنا أحسن من البيتين اللذين أعجب بهما الفاروق رضي الله عنه ، وفي ذلك دليل قوي على سلامة ذوقه ، ورهافة حسِّه ، وعمق تفكيره بمعاني الكلام ومقاصده . حتى لقد قيل إنه جاء بعد عمر رضي الله عنه من هام بهذين البيتين من أئمة الأدب فكتبهما على قبر أخيه .
على أن عمر رضي الله عنه كان يغضب غضباً شديداً يظهر أثره في وجهه حينما يسمع شعراً يُقال في هجاء الإسلام ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد أسكت من أنشده شعر أميَّة ابن أبي الصلت في رثاء قتلى بدر .
وكان يربأ بالشعر أن ينحطَّ إلى درجة تجعله يحيد من الحق ، ويميل إلى الباطل ، ولطالما توعَّد من يقول شعراً في هذا الموضوع البغيض ، حتى إن كراهته لأعداء الإسلام من شعراء المشركين ظلت كامنة في قلبه على الرغم من إسلامهم بعد ذلك . وممَّا يروى في ذلك أن أبا شجرة بن الخنساء الشاعر أسلم ثم ارتدَّ وأخذ يقول الشعر في التحريض على المسلمين ، ومن ذلك قوله :

                              فَرَوَّيْتُ رُمْحِي مِنْ كَتِيْبَةِ خَالِدٍ**  وَإِنِّي لأَرْجَو بَعْدَهَا أَنْ أُعَمَّرَا
ولمَّا أخفق في ذلك التحريض ، ورأى كثيراً من المرتدِّين يرجِعون إلى الإسلام رجَع إليه صاغراً ، وقبل منه أبو بكر رضـي الله عنه رجوعه إلى الإسلام ، وعفا عنه في مَن عفا عنهم من القبائل المرتـدَّة . فلمَّا كانت خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وفد إليه وقال : يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة ، فقال له عمر رضي الله عنه: ومن أنت ؟ فقال أبو شجرة ابن الخنساء ،فصاح به عمر رضي الله عنه قائلاً ألست القائل ، وذكر له البيـت السابق  ثم جعل يعلوه بالدرُّة على رأسه ، فهرب من بين يديه ، وارتحل ناقته عائداً إلى قبيلته بني سُلَيم .
وجاء إليه سُحَيم عبد بني الحسحاس فأنشده قوله :

                                 عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيَا** كَفَى الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ لِلْمَرءِ نَاهِيَا

فقال له عمر رضي الله عنه : لو قلت شعرك مثل هذا لأعطيتك عليه فلمّا قال :

                                    فَبَاتَ وَسَادَانَا إِلَى عَلَجَانَـــــــة** وَحِقْفٍ تَهَادَاهُ الرِّيَاحُ تَهَادِيَـــــــا

                                   وَهَبَّتْ شَمَالٌ آخرَ اللَّيْلِ قَــــرَّةً** وَلاَ ثَوْبَ إِلاَّ دِرْعُهَا وَرَدَائِيَــــــــــــا

                                     فَمَا زَالَ بُرْدِي طَيِّبَاً مِنْ ثِيَابِهَا **إِلَى الْحَوْلِ حَتَّى أَنْهَجَ الثَّوْبُ بَالِيَا

فقال له عمر رضي الله عنه : ويلك إنك مقتول ، فكأنما كان عمر رضي الله عنه ينظر إلى الغيب بفراسة المؤمن من ستر رقيق ، فلقد روى المؤرخون أن سحيماً هذا شبَّب بإحدى النساء ، وأفحش فيها القول حتى تربَّص به قومها وهو مخمور ثم قتلوه .
غير أن عمر رضي الله عنه برغم صرامته على شعراء المشركين فلقد كان يعطف على الشعراء الذين أسلموا وحسن إسلامهم ، حتى وإن بدت في أشعارهم بعض المظاهر الجاهلية التي أبطلها الإسلام . ومن ذلك أنه حينما أمر بسجن الحطيئة الشاعر بسبب هجائه للزبرقان بن بدر في أبيات قال له فيها :

                                       دَعِ الْمَكارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا** وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي
فاشتكاه الزبرقان إلى عمر رضي الله عنه وذكر له البيت فقال عمر رضي الله عنه ما أسمع هجاءً ولكنها معاتبة فقال الزبرقان : أو لا تبلغ مروءتي إلاَّ أن آكل أو ألبَس ! والله يا أمير المؤمنين ما هجيت ببيت قطّ أشدَّ عليَّ منه سل ابن الفُريعة ـ يعني حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ، فجـيء به فقال : أتراه هجاه ؟ قال : نعم وسلح عليه ، وكان عمر رضي الله عنه يعلم من ذلك ما يعلمه حسان رضي الله عنه، ولكنه أراد أن يقيم الحجة على الحطيئة ، ثم أمر بحبسه ، فما زال الحطيئة يستعطف عمر رضي الله عنه بالأبيات التي يقول فيها
*د يحيى
25 - يناير - 2008
موازنة 5    كن أول من يقيّم
 
                 مَاذَا تَقُولُ لأِ فْرَاخٍ بِذِي مَـــــرَخٍ ** زُغْبِ الْحَواصِــلِ لاَ مَاءٌ وَلاَ شَجَرُ
                  أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ** فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلاَمُ اللهِ يَا عُمَرُ
وعند ذلك رقَّ له عمر رضي الله عنه وأطلقه من سجنه ومنحه ثلاثة آلاف درهم على أن لا يتعرض لهجاء المسلمين ولقد شاع في الناس في عهده رضي الله عنه حبُّه للشعر الجيّد وتأثره به ، فعمد أصحاب الحاجات إلى عرض مطالبهم عليه في أسلوب شعري فيبادر إلى تلبية حاجاتهم ، ومن ذلك أنه أتى إليه شيخ طاعن في السن ، فأنشده أبياتاً قال فيها :

                     لِمَنْ شَيْخَانِ قَدْ نَشَدَا كِلاَبَاً ** كِتَابَ اللهِ لَوْ قَبِلَ الْكِتَابَـــا
                    أُنَادِيْه فَيُعْرِضُ في إِبَـاءٍ** فَلاَ وَأَبِي كِلاَبٍ مَا أَصَابَـــــا
                     فَإِنَّكَ وَابْتِغَاءُ الأَجْرِ بَعْدِي** كَبَاغِي الْمَاءِ يَتْبَّعُ السَّرَابَا
                    تَرَكْتَ أَبَاكَ مُرْعَشَةً يَـدَاهُ** وَأُمَّكَ لاَ تُطِيْقُ لَهَا شَرَابَـــا
                إِذَا غَنَّتْ حَمَامَةُ بَطْــنِ وُجٍّ **عَلَى بَيْضَاتِهَا ذَكَرَتْ كِلاَبَــا

فقال عمر رضي الله عنه للرجل : ممَّ ذاك يا أخا العرب ؟ فقال : هاجر كلاب إلى الشام في جيش الجهاد ، وترك أبوين كبيرين ولا مِن عائلٍ لهما . فبكى عمر رضي الله عنه حتى ما يتبيَّن كلامه ، ثم كتب إلى قائد جيش المسلمين يزيد بن أبي سفيان في أن يرحِّل كلاباً إليه ، فلما قدم قال له عمر رضي الله عنه : برَّ أبويك قبل أن يموتا .
وكان عمر رضي الله عنه لا يطوف في طريق من طرقات المدينة المنورة ويسمع شعراً إلاَّ وقف يستمع إليه ، فقد سمع ذات يوم أعرابية تقول :

                      فَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِعَذْبٍ مُبَـرَّدٍ** نَقَاخٍ فَتِلْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ قَــرَّتِ
                    وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ** أُجَاجٍ وَلَولاَ خَشْيَةُ اللهِ فَرَّتِ

فعلم رضي الله عنه مرادها ، وأرسل إلى زوجها ، فوجده متغيِّر الفم ، فخيَّره بين خمس مئة درهم أو جارية من الفيء على أن يطلِّق زوجته ، فاختار الدراهم وطلَّقها .

فهذان البيتان لا يدرك مغزاهما إلاَّ من له بصيرة عمر رضي الله عنه وعبقريته ولو سمعهما غيره لظن أنهما شعر يُنشد وكفى ، ولكن عمر رضي الله عنه توصَّل إلى مراد المرأة بذكائه وألمعيته المتوقدة
*د يحيى
25 - يناير - 2008
 1  2